تعريف وأركان جريمة القتل العمد

القتل العمد :

أن يقصد الجاني وينوي من يعلمُهُ آدميّاً معصوماً – سبب العصمة الإسلام أوالأمان – فيقتله بما يغلب على الظن موته به ، وهنا إشارة إلى أداة القتل التي يشترط فيها عند جمهور الفقهاء أن تكون مما يقتل غالباً .

وبعبارة أخرى ، القتل العمد : هو ما اقترن فيه الفعل المزهق للروح بنية قتل المجني عليه ، فلا بدّ في القتل العمد من أن يقترن الفعل المزهق للروح – المميت – مع قصد القتل لدى الجاني .

حكم القتل العمد

القتل العمد فعلٌ محّرم يأثم فاعله ، فهو من أكبر الكبائر « الكبيرة : ما أتبعت بلعنة ، أو غضب ، أو عقوبة ، أو حد ، ونحو ذلك » ومن أعظم الجرائم ، وقد قرن الله تعالى القتل العمد – بغير حق – بالشرك به حيث قال تعالى :

[ سورة الفرقان آية 68 ]

دليل تحريم القتل العمد
تحريم القتل العمد ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع .

من الكتاب :

[ سورة الإسراء آية 33 ]

[ سورة النساء آية 93 ]

[ سورة الأنعام آية 151 ]

من السنة :

قوله : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله ، وما هنّ ؟ ، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات [ رواه البخاري ومسلم ] . الموبقات : المهلكات .

وقوله : من حلف على ملّة غير الإسلام فهو كما قال ، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك ، ومن قتل نفسه بشئ في الدنيا عذّب به يوم القيامة [ رواه البخاري ] .

وعن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله : والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا [ رواه النسائي ] .

أركان جريمة القتل العمد

أركان جريمة القتل العمد في الشريعة الإسلامية هي :

أن يكون المجني عليه آدمياً حياً .

أن يكون القتل نتيجة لفعل الجاني .

أن يقصد الجاني القتل وإحداث الوفاة .

الركن الأول : أن يكون المجني عليه آدمياً حياً
فلتحقق وقوع جريمة القتل يجب أن يكون المجني عليه آدمياً ، وأن يكون على قيد الحياة وقت ارتكاب جريمة القتل ، فمن أطلق مقذوفاً نارياً على حيوان حي فقتله فإنّه لا يعتبر قاتلاً عمداً وإنما يعتبر متلفاً للحيوان ، ومن شق بطن إنسان ميّت ، أو فصل رأسه من جسمه بقصد قتله وهو لا يعلم أنه ميّت ، فإنه لا يعد قاتلاً له لأن الموت لم ينشأ عن فعله ، ولأن الفعل كان بعد أن فارق الميت الحياة ، فلا يعاقب الفاعل على جريمة القتل العمد ، ولكنه يعاقب لأنه استحلَّ حرمة الميّت .

أحكام منثورة

من المتفق عليه أن الميت هو من خرج فعلاً عن الحياة ، فإذا قتل شخص مريضاً في حالة النزاع ، فالجاني قاتل له عمداً ؛ لأنه أخرجه بفعله عن الحياة .

إذا جنى شخصان على ثالث ، وكان فعل الشخص الأول يفضي إلى الموت لا محالة ، إلاّ أنه لا يخرج به من حكم الحياة ، وتبقى معه الحياة المستقرة مثل : شق البطن ومزق الأمعاء ، فإذا قطع الشخص الثاني رقبة المجني عليه ، فالقاتل العمد هو الشخص الثاني ؛ لأنه فوت حياة مستقرة ، أو ما هو في حكم الحياة .

الجنين في بطن أمه لا يعتبر آدمياً حياً من كل وجه ، ويعبر عنه في الشريعة بأنه نفس من وجه دون وجه ، فمن يعدم الجنين لا يعتبر قاتلاً له عمداً ، وإنما يعتبر مرتكباً لجريمة قتل من نوع خاص ، ويعاقب على فعله بعقوبة خاصة .

ليس لجنسية المجني عليه ، أو دينه ، أو لونه ، أو سنّه ، أو نوعه ، أو ضعفه ، أو صحته ، أي أثر على اعتباره مقتولاً عمداً ، فيستوي أن يكون القتيل أجنبياً ، أو من رعايا دولة الجاني ، ويستوي أن يكون أبيض أو أسود ، عربياً أو أعجمياً ، ويستوي أن يكون مرضه بسيطاً أو عضالاً – المرض الشديد المُعيي – ، يتوقع له الموت ، أو يرجى له الشفاء ، فمن يقتل إنساناً أيًّا كان فهو قاتل متعمّد ، ولو كان طبيباً قصد أن يخلّص القتيل من آلام مرضه المستعصي .

يشترط لاعتبار الفعل قتلاً عمداً أن يكون المجني عليه معصوماً « أي غير مهدر الدم بالإسلام أو الأمان » .

أساس العصمة
الإسلام .

الأمان ، ويدخل تحت الأمان عقد الجزية ، والموادعة « الموادعة : المصالحة وترك الحرب » ، والهدنة « الهدنة : الاتفاق على وقف القتال بين المتحاربين مدة معينة بعوض أو غيره ، مع استمرار حالة الحرب » ، وعلى هذا يعتبر معصوماً المسلم ، والذمي ، ومن بينه وبين المسلمين عهد « عهد جمعه عهود ، وهو اليمين والوعد الموثق والأمان » ، أو هدنة ، ومن دخل أرض الدولة بأمان ولو كان منتمياً لدولة محاربة ما دام الأمان قائماً ، ويعتبر الإذن بالدخول أماناً حتى تنتهي مدّة الإذن ، فهؤلاء جميعاً معصومون ، أي لا تباح دماؤهم ولا أموالهم ، وإذا قُتل أحدهم ، كان قاتله مسؤولاً عن قتله عمداً ، إن تعمد قتله .

زوال العصمة
تزول العصمة بزوال أساسها – الإسلام والأمان- الذي قامت عليه ، فالمسلم يصبح مهدر الدم بردته وخروجه عن الإسلام ، والمستأمن والمعاهد يصبح مهدر الدم بانتهاء أمانه ونقضه عهده .

كما تزول العصمة بارتكاب بعض الجرائم ، وهي على وجه الحصر : الزنا من محصن « المحصن : هو من سبق له الزواج ، ذكراً أو أنثى » ، قطع الطريق ، والقتل العمد ، والبغي « البغي : هي الخروج على أنظمة الدولة ، وقوانينها ، والثورة على القائمين » ويسمّى الثائرون بغاة – وزوال العصمة عن البغاة على مذهب الإمام أبي حنيفة – .

ما يترتب على زوال العصمة
يترتب على زوال العصمة أن يصبح الشخص مهدر الدم – أي مباحٌ قتله – ، فإذا قتله آخر لا يعتبر قاتلاً ؛ لأن قتل المهدر لا يعتبر جريمة من حيث فعل القتل ، إذ الفعل مباح ، ولكن لما كان قتل المهدرين من شؤون السلطات العامة في الدولة أو الولاية وموكولاً إليها ، فإن قتل الأفراد لمهدري الدماء يعتبر اعتداء على السلطات العامة ، ويعاقب قاتل المهدر باعتباره مرتكباً لجريمة التجاوز على السلطات العامة لا باعتباره قاتلاً .

وقت العصمة
لمعرفة وقت العصمة أهمية كبرى ، لأن تحديد مسؤولية الجاني يتوقف على معرفة حال المجني عليه ، فإن كان المجني عليه معصوماً فالجاني مسؤول عن قتله ، وإن كان مهدراً فلا مسؤولية ، وقد اخْتلف في تحديد وقت العصمة على آراء منها :

وقت العصمة هو وقت الفعل لا غير ، فإن كان المجني عليه معصوماً وقت الفعل ، فالجاني مسؤول عن فعله ، وإلاّ فلا ، فإذا جرح الجاني مسلماً يقصد قتله ، ثم ارتدَّ المجروح – غير دينه وخرج عن الإسلام – بعد الجرح ومات وهو مرتد ، فإن الجارح لا يسأل عن القتل ، وإنما يسأل فقط عن الجرح الذي أحدثه في معصوم .

حجة أصحاب هذا الرأي :

حجّتهم أن مسؤولية الجاني عن القتل لا تجب بفعل الجاني ، وإنما تجب بحدوث القتل فعلاً ، وفعل الجاني لا يصبح قتلاً إلاّ بفوات حياة المقتول ، وقد فاتت حياة المقتول – في المثال السابق – في وقت لم يكن فيه معصوماً ، فكان المقتول مهدور الدم .

يرى بعضهم أن وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعاً .

حجة أصحاب هذا الرأي :

حجّتهم أن للفعل تعلقاً بالقاتل والمقتول ، لأن فعل القاتل وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة ، فلا بد من اعتبار العصمة في الوقتين معاً .

يرى آخرون أن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير .

الركن الثاني : أن يكون القتل نتيجة لفعل الجاني
يشترط لتحقق هذا الركن أن يحدث وينتج القتل – والوفاة – بفعل الجاني الذي قصد القتل وإزهاق روح المجني عليه ، وأن يكون من شأن هذا الفعل إحداث الموت ، ويتحقق ذلك باستخدام الجاني في فعله الوسيلة التي تقتل غالباً ، فإذا كان القتل نتيجة لفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني ، أو لم يكن فعل الجاني مما يحدث الوفاة ، أو لم يستخدم الجاني وسيلة تقتل غالباً ، فلا يمكن اعتبار الجاني قاتلاً عمداً .

نوع الفعل في القتل
لا يشترط أن يكون الفعل من نوع معين لاعتباره قتلاً ، فيصح أن يكون ضرباً ، أو ذبحاً ، أو حرقاً ، أو خنقاً ، أو غرقاً ، أو تسميماً ، أو غير ذلك .

ويصح أن يقع الفعل من الجاني مرة واحدة ، كما يصح أن يقع على التوالي طالت المدة ، أو قصرت .

أداة الفعل ووسيلته
في العُرف خُصّص لكل آلة استعمالٌٌ ، ولكل فعل من الأفعال القاتلة أداة أو وسيلة تحدثه أو يحدث بها ، ولا يمكن أن يحدث الفعل القاتل بغيرها ، لذلك يشترط – عند أكثر الفقهاء – أن تكون أداةُ القتل ووسيلته مما يقتل غالباً ، ولو كانت الأداة مثقلاً « المثقل : ما ليس له حدّ يجرح ولا سن يطعن كالحجر الكبير » لا يجرح ، فإن لم تكن الأداة قاتلة غالباً ، فإن القتل – في هذه الحالة – ليس قتلاً عمداً ، وإنما قتل شبه العمد .

أدوات القتل على ثلاثة أنواع :

نوع يقتل غالباً بطبيعته ، كالسيف ، والسكين ، والرمح ، والإبرة المسمّمه ، والبندقية ، والمسدس ونحو ذلك .

نوع يقتل كثيراً بطبيعته ولا يقتل غالباً ، كالسوط ، والعصا ، …. ألخ .

نوع يقتل نادراً بطبيعته كالإبرة غير المسممة ، واللطمة ، والوكزة ونحوها .

وما يقتل كثيراً أو نادراً بطبيعته قد يقتل غالباً في بعض الظروف ، كمرض المجني عليه ، أو صغره ، أو لوقوع الإصابة في مقتل كالدماغ مثلاً .

لمعرفة ما إذا كانت الأداة تقتل غالباً أو لا ، يجب أن لا ننظر إلى الأداة وحدها مجردة عن كل ظرف آخر ، بل علينا أن ننظر إلى الأداة وينظر معها إلى صورة الفعل وظروفه ، وإلى حال المجني عليه ، وموقع الفعل من جسمه ، وأثر الفعل فيه .

– فإذا كانت الأداة تقتل غالباً مع إدخال أحد هذه العناصر – كصورة الفعل وظروفه ، وحالة المجني عليه …. ألخ – أو كلها بعين الاعتبار فالفعل قتل عمد .

– وإذا كانت الأداة لا تقتل غالباً مع النظر إلى أي عنصر من هذه العناصر فالفعل قتل شبه عمد ، فمثلاً السوط والعصا الخفيفة من أدوات العدوان والاعتداء ، لكن الضرب بأيّهما لا يقتل غالباً ، وإن قتل كثيراً ، ولكن تعدد الضربات وموالاتها يقتل غالباً ، والضرب بأيهما في الحرّ الشديد والبرد الشديد يقتل غالباً ، وضرب الصغير والعجوز والمريض والضعيف بالسوط والعصا الخفيفة يقتل غالباً ، والضرب بهما – السوط والعصا الخفيفة – في مقتل كالبطن والدماغ يقتل غالباً ، وكذلك الضرب في غير مقتل إذا أدى إلى الموت في الحال ، أو ترك آثاراً وآلاماً انتهت بالموت . وإذا كانت أداة القتل لا تقتل إلاّ نادراً كالإبرة غير المسممة ، فإنها تعتبر مما يقتل غالباً إذا بولغ في إدخالها في غير مقتل ، أو إذا غرزت في مقتل كالحلق ، والخاصرة ، والمثانة ، أو في مكان حساس ، أو إذا أدى غرزها إلى الموت في الحال أو ترك آلاماً وآثاراً انتهت بالموت ، والموت في الحال مختلف فيه ، فيرى البعض أنه قتل عمد ويراه البعض أنه شبه عمد ، لأن المفروض أن الآلة لا تقتل غالباً ،وما دامت الإصابة في غير مقتل ، وليس في ظروف الفعل أو صورته ، أو حال المجني عليه ما يجعل الفعل قتلاً في الغالب ، والفاعل قاتلاً .

كيفية ثبوت قصد القاتل
قصد القتل يثبت من وجهين :

أولاً : عن طريق الآلة المستعملة في الجريمة .

ثانياً : عن طريق الأدلة العادية كالاعتراف والإقرار ، وشهادة الشهود .

لكن لا يمكن أن يعتبر القصد ثابتاً بأي حال ما لم يثبت قصد القتل عن طريق الآلة المستعملة في الجريمة ؛ لأن كل إثبات يجئ عن طريق الأدلة العادية – كالاعتراف وشهادة الشهود – يعتبر مشكوكاً فيه ، حتى يزول الشك بثبوت القصد عن طريق الآلة أو الوسيلة المستعملة في القتل .

واعتبار القصد الجنائي ثابتاً باستعمال آلة أو أداة قاتلة لا يعد قرينة قاطعة ، ولا دليلاً غير قابل للنفي ، فيجوز للجاني أن يثبت أنه لم يستعمل الآلة القاتلة بقصد القتل ، فإذا استطاع إثبات دفاعه ، انتفى وجود قصد القتل ، واعتبر الفعل قتلاً شبه عمد .

القتل بفعل غير مادي
يتفق الفقهاء على جواز حصول القتل بوسيلة معنوية لا مادية ، كمن شهر سيفاً في وجه إنسان فمات رعباً ، ومن تغفل إنساناً وصاح به قاصداً قتله فمات مذعوراً ، أو سقط لفزعه من مرتفع ومات من سقطته ، ومن ألقى على إنسان حية فمات رعباً ، ونحو ذلك ، لكن الفقهاء اختلفوا في نوع هذا القتل على آراء منها :

رأى البعض أن القتل في هذه الأحوال قتل عمد ، ما دام الجاني قد تعمد الفعل على وجه وصفة العدوان والاعتداء ، ولم يقصد منه اللعب أو المزاح ، فإن قصد اللعب أو المزاح فالقتل خطأ – المشهور من مذهب الإمام مالك – .
ويرى الإمام أحمد والإمام أبو حنيفة أن القتل في هذه الأحوال شبه عمد ؛ لأن الوسيلة لا تقتل غالباً .
وفي مذهب الإمام الشافعي يفرقون بين من يُميز وبين من لا يُميز كالصبي ، والمعتوه ، والمجنون ، والنائم ، والمُوسوس « وهو من تعتريه الوساوس من حديث النفس ، ووساوس الشيطان » ، والمصعوق « وهو من غشي عليه وذهب عقله من صوت يسمعه » والمذعور « وهو الخائف المفزوع » ويرون أن القتل شبه العمد في حالة من يميز ؛ لأن الوسيلة لا تقتل غالباً ، وأنه قتل عمد في حالة من لا يميز ؛ لأن الوسيلة تقتل غالباً في حالة من لا يميز .

الركن الثالث : أن يقصد الجاني إحداث الوفاة
يشترط لاعتبار القتل عمداً أن يقصد الجاني قتل المجني عليه ، فإن لم يتوفر هذا القصد ، فلا يعتبر الفعل قتلاً عمداً ، ولو قصد الجاني الاعتداء على المجني عليه ؛ لأن نية العدوان المجردة عن قصد القتل لا تكفي لجعل الفعل قتلاً عمداً .
ولقصد القتل أهمية خاصة ؛ لأنه هو الذي يميز القتل العمد عن القتل شبه العمد وعن الخطأ ، إذ الفعل الواحد يصلح أن يكون قتلاً عمداً ، أو شبه عمد ، أو خطأ ، والذي يميز هذه الأنواع الثلاثة من القتل أحدها عن الآخر هو قصد الجاني ، فإن تعمد الجاني الفعل بقصد قتل المجني عليه فهو قتل عمد ، وإن تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل فهو شبه العمد ، وإن تعمد الفعل دون قصد عدواني ، أو دون أن يقصد نتيجته ، أو دون أن يقصد الفعل فهو قتل خطأ .

نية القتل ركن أساسي في القتل العمد ، ولما كانت هذه النية أمراً باطناً متصلاً بالجاني ، كامناً في نفسه ، ومن الصعب الوقوف عليها ، لذلك يُستدل على نية الجاني بمقياس ثابت يتصل بالجاني ويدل غالباً على نيته ونفسيته ، ذلك المقياس هو الآلة أو الوسيلة أو الأداة التي يستعملها – الجاني – في القتل ، حيث أن الجاني في الغالب يختار الآلة المناسبة لتنفيذ قصده من الفعل ، فإن قصد الجاني القتل اختار الآلة أو الأداة الملائمة للفعل والتي تستعمل غالباً لذلك كالسيف والبندقية ، وإن قصد الضرب دون القتل اختار الآلة أو الأداة الملائمة لقصده كالضرب بالعصا الخفيفة ، فاستعمال الأداة أو الوسيلة القاتلة غالباً هو المظهر الخارجي لنية الجاني ، وهو الدليل المادي الذي لا يكذب في الغالب ؛ لأنه من صنع الجاني لا من صنع غيره ، ومن ثم اشترط أن تكون الأداة أو الآلة المستخدمة قاتلة غالباً ؛ لأن توفر هذه الصفة فيها شرط دال على قصد القتل ، فقام الدليل مقام المدلول ، فلم يعُد بعد هذا ما يدعو لاشتراط قصد القتل.

القصد المحدود وغير المحدود
لا يفرق بعض الفقهاء بين القصد المحدود وغير المحدود ، سواء في تعريف أنواع القتل ، أو في الأمثلة التي يضربونها لمختلف وسائل القتل ، لذلك يمكن القول بأنه يستوي عندهم – أصحاب هذا الرأي – أن يكون القصد عند الجاني متجهاً إلى قتل إنسان بعينه ، أو إلى قتل إنسان غير معين ، فالجاني مسؤول عن القتل العمد في الحالتين ما دام قد أتى الفعل بقصد القتل ، فمن أطلق عياراً نارياً على شخص معين ، ومن ألقى قنبلة على جماعة بقصد القتل ، دون أن يقصد شخصاً معيناً من الجماعة ، ففي الصورتين – إطلاق العيار الناري على شخص ، والقنبلة على الجماعة – يعد قتلاً عمداً عند أهل هذا الرأي .

ومن الفقهاء من يفرق بين ما إذا قصد الجاني معيناً ، أو غير معين ، فإذا قصد معيناً فالفعل قتل عمد ، وإن قصد غير معين فالفعل شبه عمد ، ويعتبر المجني عليه معيناً ولو قصد الجاني أن يصيب أي شخص من جماعته ؛ لأن الجماعة تصبح كلها مقصودة ، فتصير معينة أفراداً وجماعة .

ومنهم الإمام مالك – من يفرق بين قصد شخص معين ، وبين قصد شخص غير معين ، فإن قصد الجاني شخصاً معيناً فالفعل قتل عمد ، وإن قصد غير معين أياً كان فلا يعتبر القتل عمداً ، وإنما يعتبر خطأ .

صور من القتل العمد
للقتل العمد صور كثيرة منها :

غرز المجني عليه بإبرة في مقتل كالدماغ ، أو العين ، أو الخاصرة ، أو المثانة ، أو غرز المجني عليه بإبرة مسممّه ، فموت المجني عليه – في هاتين الحالتين – يعد قتلاً عمداً .

خنق الجاني المجني عليه بحبل ، أو سد فمه ، أو سد فمه وأنفه حتى موته من انقطاع النفس .

إلقاء شخص من جبل شاهق ، أو مكان عالٍ ، وموته نتيجة ذلك يعد قتلاً عمدا .

قتل شخص بآلة حادة تنفذ في البدن مثل السكين والمسدس ، أو ضربه بمثقل كبير يقتل غالباً ، سواء كان من حديد كمطرقة ، أم كان من غير حديد كالحجر الكبير ، فهذه الأفعال تعد قتل عمد .

دليل ذلك :

ما رواه أنس : « أن جارية وُجد رأسهُا قد رضّ بين حجرين ، فسألوها : من صنع بك هذا ، فلان فلان ؟ حتى ذكروا يهودياً ، فأومأت برأسها ، فأُخذ اليهودي فأقرّ ، فأمر رسول الله أن يرضّ رأسه بين حجرين » [ رواه البخاري ] . رض رأسُها : دُقَّ رأسها . الرضُّ : دقّ الشئ بين حجرين وما جرى مجراهما . فأومات برأسها : أشارت به .

أن يُسقى المجني عليه سُماً ، أو يدسُّ له في طعامه ، فيموت من أثر السم.

ضرب الجاني المجني عليه بعصاً خفيفة ، أو رميه بحجارة صغيرة ، والاستمرار والموالاة بين الضرب أو الرمي حتى موته يعد قتلاً عمداً .

وهناك صور أخرى وكثيرة للقتل العمد .

ما يترتب على القتل العمد من حقوق
يترتب على القتل العمد ثلاثة حقوق :

حق الله تعالى : وهذا الحق هو حق الجماعة نُسب لله تعالى لخطورته ، بإرتكاب القاتل هذه الكبيرة – قتل العمد بغير حق – غير مكترث بنهي الله تعالى وتحريمه ، وعقوبته الشديدة التي رتّبها على فاعل هذه الجريمة ، ولا يسقط حق الله تعالى إلاّ بتوبة القاتل توبة صادقة .

حق لأولياء الدم : وهم الذين لهم أن يقتصوا ، أو يعفوا ، وهم ورثة المقتول جميعاً من الرجال والنساء ، صغاراً كانوا أم كباراً ، وأولياء المقتول مخيرون بين أمور ثلاثة هي :

المطالبة بالقصاص ، بأن يُفعل بالجاني مثل ما فَعل بالمجني عليه .

أخذ الدية المغلظة ، وهي مئة من الإبل ، أو قيمتها .

العفو مجاناً وبدون مقابل .

حق للقتيل : حق القتيل – المجني عليه – على قاتله لا يسقط في الآخرة ، سواء أعفا أولياء المقتول ، أم أخذوا الدية ، وكذا لو اقتصّوا من القاتل ، فللمقتول حق الأخذ من حسنات قاتله بقدر ما يستحقه عليه ، وإن شاء الله تبارك وتعالى أرضى المقتول من عنده سبحانه ، بأن يعطيه حتى يرضى تكرماً منه وفضلاً ، إذا علم الله تعالى صدق توبة التائب .

عقوبة القتل العمد
للقتل العمد عقوبتان إحداهما : حكم قضائي « عقوبة في الدنيا » ، والأخرى عقوبة في الآخرة ، وتفصيل ذلك ما يلي :

العقوبة في الدنيا : أمّا الحكم القضائي الدنيوي ، فهو القصاص ، ويسمى القود ، وسمي القصاص قوداً ؛ لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل ونحوه إلى موضع قتله والقصاص منه .

العقوبة في الآخرة : القتل العمد بغير حق إثم عظيم يلي درجة الكفر ، ويترتب عليه عقوبة شديدة في الآخرة – نظراً لعظم الفعل – إن لم يلجأ ذلك القاتل إلى التوبة ولم تتداركه عناية الله بالعفو والرحمة ، فله العذاب الأليم في نار جهنّم – والعياذ بالله – .

عقوبة القتل في القرآن الكريم والسنة النبوية

في القرآن الكريم :

[ سورة النساء آية 93 ]
تشير الآية الكريمة إلى عقوبة القاتل العمد بغير حق في الآخرة ، بالعذاب الأليم الشديد في نار جهنم .

[ سورة البقرة الآيتان 178 – 179 ]
كتب : فرض . القصاص : الجزاء على الذنب ، وهو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فعل ، وسمي قصاصاً ؛ لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها . عفي له من أخيه : ترك القصاص منه ، وفي ذكر « أخيه » تعطف داعْ إلى العفو . فاتباع بالمعروف : مطالبة القاتل بالدية من غير عنف . وأداء إليه بإحسان : على القاتل أداء الدية إلى الوارث بلا مطل ولا بخس . ذلك تخفيف : العفو عن القصاص إلى الدية تيسير من الله تعالى ، ورحمة منه بعباده ، حيث لم يضيّق عليهم بتشريع حكم واحد وهو القصاص . فمن اعتدى بعد ذلك : أي ظلم القاتل ، واعتدى عليه بالقتل بعد العفو ، فله عذاب أليم في الآخرة بالنار ، أو في الدنيا بالقتل .

فقد أشارت الآية الكريمة إلى الحكم الأصلي المترتب على القتل العمد .

وحكم القصاص كتب على من قبلنا من الأمم ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم دليل على نسخه ،

[ سورة المائدة آية 45 ]

في السنة النبوية :

رُوى عن رسول الله : أنه وجد في قائم سيفه كتاب « إن أعدى الناس على الله القاتل غير قاتله ، والضارب غير ضاربه ، ومن تولى غير مواليه ، فقد كفر بما أنزل الله على محمد » [ رواه البيهقي والإمام الشافعي في مسنده ] .

وقال رسول الله : العمد قود إلاّ أن يعفو ولي المقتول [ رواه الدارقطني ] . العمد : القتل العمد . قود : القصاص ، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل جزاء على ذنبه .

وعن أبي هريرة قال : لمّا فتحت مكة ، قام رسول الله فقال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إمّا أن يؤدي ، أو يقاد [ رواه أبو داود ]

وأجمعت الأمة على ثبوت القصاص « أن يفعل بالجاني مثل ما فعل » في القتل العمد .

العقوبات البدلية للقتل العمد

القصاص هو الحكم الأصلي المترتب على القتل العمد، وهو حق أولياء القتيل، فإن شاؤوا استوفوه، وعلى القاضي مساعدتهم، وتمكينهم من نيل حقهم،

[ سورة الإسراء آية 33 ]

منصوراً : أي معاوناً من قبل القضاء ، وإن شاؤوا عفوا عن القصاص .

عقوبات القتل العمد البدلية هي :

الدَّية .

التعزير .

الدَّية والتعزير بدل من القصاص .

أولاً : الدَّية
الدَّية :

اسم للمال الواجب دفعه بسبب جناية على النفس أو ما دونها ، وبعبارة أخرى هي : المال الواجب في إتلاف نفس الإنسان أو عضو كامل من أعضائه .

الدَّية في القتل العمد
الدَّية في القتل العمد مقسمة على ثلاثة أنواع :

ثلاثون حقة من الإبل ، والحقة : ما لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة .

وثلاثون جذعة : وهي ما لها أربع سنوات من الإبل وطعنت في الخامسة .

أربعون خلفة : أي حوامل .

فإن لم تكن هناك إبل ، وجب أن تدفع قيمتها بالغة ما بلغت .

على من تجب الدَّية في القتل العمد
إذا عفى أولياء القتيل عن القصاص إلى الدَّية ، وجبت الدَّية في مال القاتل فلا يحملها غيره عنه ، وهذا يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية العامة التي تقضي بأن بدل التلف يجب على المتلف ، والواقع أن الجناية هي أثر فعل الجاني ، فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها .

ويحمل ديَّة القتيل إذا كان القاتل صغيراً أو مجنوناً العاقلة « العاقلة : هو ذكور عصبة الجاني ، الذين يرثون بلا مقادير محددة ، فلا يدخل الزوج ، ولا الإخوة لأم ، ولا الإناث » ولو تعمدا – الصغير والمجنون القتل – لأن عمد الصغير والمجنون يعتبر خطأ لا عمداً ، إذ لا يمكن أن يكون لهما – الصغير والمجنون – قصد صحيح ، فألحق عمدهما بالخطأ .

وقت الدَّية في القتل العمد
الدَّية في القتل العمد تجب حالّة غير مؤجلة ، ذلك أن الدية في القتل العمد بدل القصاص وهو حال ، فتكون الدية مثله ، كما أن في التأجيل معنى التخفيف ، والعامد لا يستحق التخفيف .

تغليظ الدَّية في القتل العمد
تغليظ الدَّية يكون من ثلاثة أوجه هي :

كون الدَّية على ثلاثة أنواع من الإبل من حيث أسنانها « ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة » .

كون الدَّية حالّة غير مؤجلة .

كون الدَّية من مال الجاني وحده ، فلا تجب على أحد من أوليائه .

دليل تغليظ الدِّية في القتل العمد :

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي قال : من قتل متعمداً دُفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاؤوا قتلوه ، وإن شاؤوا أخذوا الدَّية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صالحوا عليه فهو لهم ، وذلك لتشديد العقل [ رواه الترمذي ] .

حقه : الحقة من الإبل ما استكملت ثلاث سنين ، ودخلت في الرابعة ، سميت بذلك ، لأنها استحقت أن تركب ويُحمل عليها . جذعة : ما استكملت أربع سنين ، ودخلت في الخامسة ، سميت بذلك لأنها أجذعت مقدَّم أسنانها ، أي أسقطته . خلفه : الحوامل التي تكون أولادها في بطونها .

عن ابن عباس : عن النبي قال : لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحاً ….. [ رواه البيهقي ] .

وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال : « مضت السنةُ أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد إلاّ أن يشاؤوا » .

العفو عن الدَّية
لولي المقتول أن يعفو عن القصاص ، وينتقل إلى الدَّية ، وكذلك له أن يعفو عن الدَّية ، أو يعفو عن بعضها ، فإذا عفا عنها ، أو عن بعضها سقط المعفوّ عنه من الدَّية ؛ لأن الله تعالى شرع الدَّية حقاً للعبد ، وتسوية للعلاقات الإنسانية حتى لا يتهدّدها الخطر والضغائن والأحقاد ، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه كان ذلك له ، بل هو الأفضل والأنفع له .

ثانياً : التعزير
يعتبر التعزير عقوبة بدلية في القتل العمد، فيعاقب القاتل العمد تعزيراً « التعزير : إذا امتنع القصاص عن الجاني، أو سقط عنه لسبب من الأسباب، عدا سقوط القصاص بموت الجاني، وسواء بقيت الدَّية أم سقطت هي الأخرى.

والتعزير للقاتل العمد بعد سقوط القصاص هو حق الله تعالى ، أي حق للجماعة ، وفيه تأديب للقاتل ، يرجع نفعه للناس كافة .

نقل ابن رشد عن أبي ثور : « أن القاتل العمد إذا كان معروفاً بالشر ، وسقط القصاص عنه بسبب عفو ولي الدّم ، فإن الإمام يؤدبه على قدر ما يرى » .

لا تجب عقوبة معينة على القاتل العمد إذا سقط القصاص ، أو عفي عنه ، ولكن ليس ما يمنع من عقوبة القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذي يراه الإمام أو القاضي صالحاً لتأديبه ، وزجر غيره .