السيدة سهير الصنديد

إنّ فقهنا التونسي، مثل “الفقه الفرنسي أو المصري لم يعن بدراسة الأحكام العناية الجديرة بها، فلم يبحثها لذاتها، من ضوء قانون المرافعات، باستخلاص مبادئ وأسس تهيمن عليها أيّا كانت مادّة الخصومة أو القاعدة الموضوعيّة الواجبة التطبيق”،([1]) ودون التعرّض لدراسة مضمون العمل القضائي، أي ذات موضوع القرار الصادر من المحكمة.

ودراسة الأحكام، من زاوية قانون المرافعات، مع عدم الخلط بين قواعد المرافعات والقواعد الموضوعيّة أمر لازم حتّى تتّضح وتبرز معالم الأحكام وما يهيمن عليها من مبادئ عامّة أساسيّة، فتيسّر دراستها وفق نظريّة منضبطة محدّدة الأركان ترشد الباحث وتيسّر عمله، وترشد المشرّع إلى الأسس السليمة عند وضع التشريع، وتكشف أمر المشوب منها.([2])

ويهتمّ قانون المرافعات بدراسة الأحكام، لأنّ الوظيفة القضائية للمحاكم تباشر عادة في صورة أحكام، كما لا يمنع من أن تباشر في صورة أوامر كالأوامر الولائيّة أو الأذون على العرائض.

وبعبارة أخرى فالحكم هو الإطار الخارجي للعمل القضائي بالمعنى الخاص، وهو أيضا الشكل العام له، والأمر هو الإطار الخارجي للعمل الولائي، أي هو الشكل الخارجي له.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الحكم يؤثّر بطريق مباشر أو غير مباشر في مضمون العمل القضائي، أي في ذات موضوع القرار الصادر من المحكمة.

وبالرّغم من أهميّة الأحكام الصادرة عن المحكمة فلم يعرّفها المشرّع بصفة واضحة ولم يبيّن أركانها كما لم يرتّب الآثار الناتجة عنها.

ولم يفرّق بصفة جليّة بين مختلف الأحكام التي تصدرها المحاكم أثناء سير الدعوى لتحضير القضيّة وبين ما هو ملزم لها، فلا يمكنها العدول عنها لأنّها بتّت في شيء من أصل الحقّ المتنازع بشأنه وبين ما هو غير ملزم لها فيمكنها العدول عنه.

الشيء الذي فسح المجال لفقه القضاء للتأويل والاختلاف في مقصد المشرّع من التفرقة مثلا بين الأحكام التحضيريّة والأحكام التمهيديّة وهل يمكن التمييز بينهما لمعرفة ما هي التي تبتّ في شقّ من النّزاع فلا يمكن للمحكمة العدول عنها وبالتالي يمكن الطعن فيها استقلالا قبل الفصل في موضوع الدعوى تأثّرا بالقانون الفرنسي الذي أخذ منه المشرّع التونسي الشيء الكثير ممّا يدعونا إلى معرفة الأسباب التاريخيّة لذلك.

ولا يخفى أنّ الدعوى تنتهي عادة بحكم في موضوعها، ولكن كثيرا ما يسبق الحكم في الموضوع صدور أحكام متعدّدة بقصد السير نحو الفصل فيها أو بقصد إثباتها، وما يدخل من أحكام في مدلول “الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع” يختلف باختلاف كلّ تشريع.

ويبدو أنّ الرّجوع إلى الأصل التاريخي للتمييز بين الأحكام هو الذي يوضّح حقيقة المقصود من مدلول الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع حتّى يزول كلّ لبس أو غموض في التعرّف على الأحكام المختلفة.

وقد ميّز القانون الروماني بين الأحكام القطعية sententiae definitivae التي تفصل في موضوع الدعوى، وبين الأحكام التمهيدية interlocutiones التي تفصل في المسائل الفرعية([3]) أو تنظّم سير الإجراءات، ولم يجز استئناف هذه الأحكام إلاّ بعد صدور الحكم في الموضوع ومعه، حتّى ولو كانت قد فصلت في مسائل فرعيّة، بحيث يتبيّن منها ما ستحكم به المحكمة في موضوع النّزاع. ([4])

وكذلك لم يجعل القانون الروماني للأحكام التمهيديّة حجيّة الشيء المحكوم به، بل جعل للقاضي الحقّ في أن يرجع عنها.([5])

وفي عهد القانون الفرنسي القديم، كان القضاء يفرّق بين الأحكام القطعية والأحكام المتعلّقة بالتحقيق، فيعتبر للأولى حجيّة الشيء المحكوم به ويجيز الطعن فيها قبل الحكم في الموضوع، أمّا الأحكام المتعلّقة بالتحقيق فكان القضاء يفرّق أيضا بين الأحكام التي تسبّب ضررا، ([6]) والتي لا تسبّب ضررا، ويجيز استئناف الأولى على استقلال وقبل صدور الحكم في الموضوع، ولا يجيز استئناف الثانية إلاّ مع استئناف الحكم في الموضوع. وكان تقدير كفاية الضرر الذي يبرّر الاستئناف المباشر أمرا دقيقا خلق كثيرا من الصعوبات.([7])

ولم يوجد في نصوص القانون المصري القديم ذلك التمييز الذي نعرفه الآن بين الحكم التمهيدي والحكم التحضيري، كما لم تشر إليه أحكام المحاكم، ويبدو أنّهما كانا شيئا واحدا يعبّر عنه بكلمتين مترادفتين. ([8])

أمّا بالنسبة للقانون التونسي فيبدو أنّ فقه قضائنا القديم خاصّة فرّق بين الأحكام الباتّة والأحكام الغير الباتّة، وبين الحكم التحضيري والحكم التمهيدي. واعتبر هذه الأحكام الأخيرة هي من قبيل الأحكام الباتّة في النّزاع ويمكن الطعن فيه استقلالا مثلما سنرى، الشيء الذي أدّى إلى تطويل نشر القضيّة وتفكيك أوصالها إلى أن تدخل المشرّع بالقانون عدد 130 لسنة 1959 المتعلّق بإدراج م.م.م.ت بالفصل 41 منه لوضع حدّ لذلك الاختلاف والتأويل الذي دام ردحا من الزّمن، ليقرّ بأنّه “لا يمكن استئناف الأحكام التي تصدر أثناء النشر تحضيريّة وتمهيديّة وكذلك الأحكام الصادرة بصحّة القيام أو الصادرة برفض التمسّك بمقتضيات الفصول 13 و14 و15 و18 إلاّ مع الحكم الصادر في الأصل”. وكذلك الشأن بالنسبة للميدان الجزائي فقد أوجب الفصل 209 من م.ا.ج، الصادرة سنة 1968 بأنّه : “لا يمكن استئناف ما عدا ذلك من الأحكام إلاّ مع الأحكام الصادرة في الأصل”.

ثمّ إنّ المشرّع التونسي لم يعرّف لنا الحكم الصادر في الأصل ولم يطلق عليه مصطلحا واحدا واضحا على غرار بقيّة التشريعات لنتجنّب التأويلات المختلفة التي وقع فيها فقه القضاء. فالحكم الذي بتّ في أصل النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة يطلق عليه بالحكم “القطعي”.

ولكن بالنسبة لقانوننا التونسي وخاصّة بالرّجوع إلى مجلّتي المرافعات المدنيّة والجزائية القديمتين وفقه القضاء المعاصر لهما، نجد بأنّ الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة هو “الحكم الباتّ” إضافة وأنّ الحكم البات ليس الذي بتّ في أصل النّزاع فقط بل أنّه يطلق كذلك “الحكم البات” على الحكم الذي بتّ في مسألة شكليّة كالحكم بالتخلّي لعدم الاختصاص أو ببطلان عمل إجرائي.

في حين أنّ مصطلح “الحكم البات” هذا الذي بتّ في أصل النّزاع ويكتسب الحجيّة منذ صدوره لا يتطابق مع المصطلح المستعمل في غالبيّة الدول العربيّة إذ يعتبرونه من نوع الأحكام القابلة للتنفيذ “أحكام باتّة” irrévocable وهي الأحكام التي لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن العاديّة أو غير العاديّة.

ممّا فسح المجال للتأويل في اعتبار الحكم البات هو الحكم الذي بتّ في النّزاع تارّة ويفيد الحجيّة وتارة أخرى يفيد القابليّة للتنفيذ.

وممّا زاد هذا التأويل ترسّخا هو أنّ المشرّع التونسي وخاصّة بمجلّة الإجراءات الجزائيّة استعمل عبارة “بات” أو “الحكم البات” مثلما سنرى في أكثر من موضع فهي تارة تفيد الحجيّة وتارة أخرى تفيد القابليّة للتنفيذ.

وقد يكون ذلك تأثّرا بالقانون الفرنسي الذي استعمل عبارة jugement définitif للدلالة على الحكم الذي بتّ في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة وللدلالة على الحكم القابل للتنفيذ.([9])

ويضاف إلى ذلك ما تضمّنه الفصل 481 من م.ا.ع من عبارات غير مألوفة بالنسبة للفقه المقارن وكانت منطلقا للتأويلات التي رسّخت عدم التفرقة بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ وفق ما ذكرنا. فقد تضمّن الفصل المذكور ما يلي : “ما أناطه القانون من النفوذ بأحكام المجالس التي لا رجوع فيها”. فعبارة “لا رجوع فيها” تفيد الحجيّة أو تفيد القابليّة للتنفيذ. وبعبارة أخرى فهل أنّ تلك العبارة تفيد بأنّ المجلس لا يمكنه الرجوع في الحكم الصادر في أصل النّزاع مثلما يمكنه أن يرجع في الأحكام التحضيريّة أم أنّها تفيد الحكم الذي لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن ؟

وبالرّجوع إلى الترجمة الرسمية باللّغة الفرنسية “لما أناطه القانون من النفوذ لأحكام المجالس التي لا رجوع فيها” نجد ما يلي :

L’autorité de la chose jugée ne s’attache qu’au dispositif du jugement…

أي أنّ تلك العبارة تفيد حجيّة الأمر المقضي في اعتقادنا لأنّ الفصل الموالي 482 تضمّن بأنّ : الأحكام الآتي بيانها لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها وهي : ثالثا : الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها.

إذا فالحكم الذي تضمّن البتّ في أصل الحقّ المتنازع فيه يعتبر حكما لا رجوع فيه لأنّه أنهى تعهّد المحكمة ومن آثاره حجيّة الأمر المقضي و”القاعدة التي ينبغي اعتمادها في هذا الصدد هو معرفة ما إذا كان الحكم قد فصل بصورة باتّة في جزء من أصل الحقوق المتنازع فيها بحيث أنّه يقيّد المحكمة فيما قضت فيه أوّلا حسبما يستفاد ذلك من الفقرة الثالثة من الفصل 482 من المجلّة المدنيّة الذي بيّن ما لا يعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها ونصّ بتلك الفقرة : (ثالثا : الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها”.([10])

ولا شكّ في أنّ ذلك كان له تأثير على صعيد العمل القضائي فهل أنّ الفصل المذكور جاء بحجيّة الأمر المقضي أو بقوّة الأمر المقضي أو ما يعبّر عليه فقه القضاء “باتّصال القضاء” أم “بقوّة اتّصال القضاء” ؟ في حين أنّ عبارة اتّصال القضاء لم ترد بمجلّة الالتزامات والعقود وإنّما وردت بالفصل الرابع من م.ا.ج عند حديثه عن “انقضاء الدعوى العموميّة… خامسا.. باتّصال القضاء” وهي تفيد في هذا المعنى القابليّة للتنفيذ. في حين أنّ ما جاء بالفصل 481 من م.ا.ع لا يفيد في اعتقادنا القابليّة للتنفيذ وإنّما يفيد الحجيّة أي حجيّة الأمر المقضي أو حجيّة الشيء المحكوم فيه وفق ما اصطلح عليه الفقهاء مثلما سنرى.

ويبدو لي أنّ عبارة “لا رجوع فيه” الواردة بالفصل 481 من م.ا.ع علاوة على أنّها تفيد الحجيّة autorité de la chose jugée فهي في نفس المعنى الكلمة الفرنسيّة définitif أي “حكم نهائي” كما عبّر على ذلك الأستاذ السّنهوري بمعنى أنّه لا يمكن للمحكمة أن تتراجع عن حكمها “النهائي” الذي أنهى النّزاع وأنهى تعهّدها. وما عبّر عليه فقه قضائنا “بالحكم الباتّ”.

ويبدو لنا أنّه لذلك وقع فقه قضائنا في الخلط الذي وقع فيه فقه القضاء الفرنسي في استعماله لكلمة définitif في المعنى الذي يفيد الحجيّة وفي المعنى الذي يفيد القابليّة للتنفيذ “إذ ليس بالضّرورة أن يكون للحكم حجيّة الأمر المقضي أن يكون غير قابل للطعن فالمصطلح المستعمل جعل فقه القضاء يقع في الخطأ”.([11])

Pour avoir autorité de la chose jugée, il n’est pas nécessaire que le jugement soit irrévocable, c.à.d qu’il ne soit plus susceptible de faire l’objet d’une voie de recours. Cette précision est d’autant plus utile qu’il règne en la matière une terminologie trompeuse au point que la jurisprudence s’y méprend parfois.

وإن كان الحكم الباتّ بمعانيه المختلفة لم يثر إشكالا يذكر في الميدان المدني البحت إلاّ أنّه كان له انعكاس سلبي كلّما كانت الدعوى المدنيّة لها ارتباط بالدعوى الجزائية.

وخاصّة فيما يتعلّق بقاعدة إيقاف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة وفق ما نصّ على ذلك الفصل 7 من م.ا.ج. إذ وقع تأويل كلمة “بات” الواردة بهذا الفصل بمعنى القابليّة للتنفيذ لا بمعنى الحجيّة الشيء الذي عرقل الدعوى المدنيّة وجعلها مهدّدة بالانقراض خصوصا إذا ما كان الحكم المحتجّ به حكما غيابيّا والاعتراض عليه يمكن أن يطوّل أمده إلى عشرين سنة، لأنّ أجل الاعتراض في الجنايات مفتوح إلى انقضاء أجل سقوط العقاب إذا لم يعلم المتّهم شخصيا بالحكم…! ممّا يجعل المتضرّر من جريمة حظّه أسوأ من متضرّر من جنحة مدنية لم تتولدّ عنها دعوى عمومية.

إنّ أغلب فقه القضاء يرى بأنّ الحكم الغيابي ليس بحكم باتّ أي بمعنى أنّه ليس بحكم بتّ في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة لأنّه مازال قابلا للطعن، وفي ذلك خلط بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ خصوصا وقد أجمع الفقهاء وبعض من فقه قضائنا على أنّ الحكم الغيابي هو حكم قطعي ” أي حكم باتّ ” يحوز الحجيّة ويمكن الاحتجاج به لوضع حدّ لتعطيل النظر في القضية المدنية حسنا لسير القضاء وحفاظا على حقوق المتضرّرين.

ولذا سنحاول في هذا البحث (وفي الجزء الأوّل منه) بيان مختلف الأعمال القضائية الصادرة عن محاكم الحقّ العام والتفرقة بين العمل الولائي والعمل القضائي للتوصّل إلى تحديد مفهوم الحكم الباتّ بمعنى الحكم الذي بتّ في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة من خلال تشريعنا وفقه قضائنا التونسي بصفة خاصة نظرا لاختلاف ذلك المفهوم مع القوانين المقارنة خصوصا فيما يتعلّق بالمصطلحات المستعملة إذ يطلق عليه “الحكم القطعي”.

والحكم القطعي أو الحكم الباتّ في أصل النزاع مدنيا كان أو جزئيا ينتج آثارا قانونية سنتناولها بالدرس في (الجزء الثاني) من هذه الرسالة.

الجزء الأوّل

الأعمال القضائية وأنواعها

كانت الوظيفة الولائية في العهود القديمة هي الأصل. لقد كانت المحاكم تأمر وفق قرارات أو أوامر وقد تكون شفاهية، وباتة بجميع ما تحمله هذه العبارة من معاني وتأويلات وفق ما سنرى عند حديثنا عن مفهوم الحكم البات، رغم أنّه ليس لها الصبغة القضائية التي نعرفها في العصر الحاضر أي دون أن تكون هناك قضيّة منشورة لديها وفق قواعد وإجراءات معيّنة ومكتوبة.

وبتطوّر المجتمعات نشأت سلطة الحكم أي الوظيفة القضائية للمحاكم التي أصبحت هي الأصل لضمان تحقيق العدل والمساواة وفصل الخصومات بين المتقاضين وفق قانون سابق الوضع.

ولقد أثيرت في فرنسا مسألة التمييز بين العمل القضائي والتصرّف الولائي، وقيل بأنّ العبرة بطبيعة الإجراءات التي تتّبع لاستصداره، فإذا كان العمل قد اتّخذ في مواجهة الخصوم بعد سماع أقوال المدّعى عليه أو بعد استدعائه كما يجب قانونا ولم يحضر كان العمل قضائيا. ويكون العمل ولائيا إذا تمّ بناء على طلب أحد الخصوم دون أن يستدعي الطرف الآخر للحضور لإبداء أوجه دفاعه في هذا الطلب.([12])

ولقد انتقد كثير من الشرّاح هذا المعيار لأنّه شكلي بحت فليست إجراءات المرافعات هي التي تبيّن طبيعة وظيفة القاضي ولكن العمل نفسه هو الذي يبيّن ذلك بغضّ النظر عن الإجراءات التي تتّبع للقيام به.

وإلى جانب هذه الأعمال الولائية فقد نصّ القانون الفرنسي على أعمال الإدارة القضائيّة mesure d’administration judiciaire كإجراء ضمّ دعويين أو الفصل بينهما أو إجراء شطب الدعوى لتخلف طرفيها من الحضور في الجلسة (الفصلان 467 و382 من مجلّة الإجراءات). وهذه الأعمال غير قابلة للطعن (الفصل 537 من نفس المجلّة).

وهذه الأعمال الإدارية البحتة وإن لم ينصّ عليها المشرّع التونسي فقد جرى العمل القضائي على اتّباعها مثل قرن القضايا لبعضها أو العمل على ضمّ القضايا لبعضها إذا ما تمّ نشر قضيّتين مثلا في نفس الموضوع وبين نفس الأطراف بأن يقع البتّ فيهما بحكم واحد حسنا لسير القضاء.

ولا يخفي أنّ محاكم القضاء أصبحت في العصر الحاضر تصدر أنواعا عديدة من الأعمال القضائيّة يترتّب على طبيعتها ووصفها آثار قانونيّة، ولا يمكننا تحديد الحكم الباتّ في القانون وفقه القضاء التونسي والمقارن إلاّ بعد تحديد مفهوم العمل القضائي بصفة عامّة والعمل الولائي وتحديد التفرقة بينهما، وهذا موضوع (الفصل الأوّل) ثمّ التعرّض إلى أنواع الأحكام القضائيّة وهذا موضوع بحثنا في (الفصل الثاني).

الفصل الأوّل – الأعمال الولائيّة والأعمال القضائيّة

يبدو أنّه من المهمّ في هذه الدراسة تحديد مفهوم العمل الولائي وخاصياته ضرورة أنّ بعض الفقهاء حينما يريدون أن يبيّنوا الطبيعة القانونيّة لعمل ما، يبحثون عمّا إذا كان هذا العمل قضائيا أم لا، فتحديد الطبيعة الولائيّة للعمل ينفي عنه الطبيعة القضائية فالعمل الصادر من هيئة غير قضائية لا يعدّ حكما ولو كان من بين أعضائها أحد القضاة، والعمل الصادر من المحكمة بما لها من سلطة ولائية لا يعدّ حكما.

ويلاحظ أنّه علاوة على أنّ الوظيفة الأساسية للمحاكم هي الفصل في النّزاعات أو الخصومات طبق القانون وهي تتضمّن حتما الإلزام والأمر وهي تباشر عادّة في صورة أحكام ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك كما هو الشأن بالنّسبة للأذون على العرائض أو الأذون على المطالب.

وإلى جانب هذه الوظيفة القضائية Jurisdictio – la juridiction contentieuse للمحاكم يخوّل لها المشرّع سلطة إصدار أذونا أو أوامر لخصومة مستقبلة أو أثناء نزاع قائم أو لحفظ حقّ من التلاشي وهي الوظيفة هي أقرب إلى الإدارة منها إلى القضاء وجرى تسميتها بالوظيفة الولائيّة Imperium – la juridiction gracieuse.

ولكن لمّا كان القضاة تتوافر فيهم ضمانات خاصّة منها الحياد والمعرفة بالقانون والخبرة في تطبيقه فقد أنيطت بعهدتهم القيام بهذه الأعمال الولائيّة التي تخرج من وظيفة القضاء مثل إصلاح رسم من رسوم الحالة المدنيّة أو استخراج حجّة وفاة…

فيتبيّن ممّا سبق ذكره أنّ أنشطة القاضي تتّسم بالتنوّع فهو لا ينتصب لفضّ النّزاعات فقط وإن كان ذلك هو نشاطه الأصلي، فهو يقوم في كثير من الأحيان بأعمال تساهم في حفظ الحقوق قبل نشر النّزاع في شأنها كما يقوم بعمل “إداري” بحت أو بعمل مكتبي لا علاقة له بالعمل القضائي وإنّما لما يميّز القاضي من حياد ونزاهة.

ولذا فمن الواجب التمييز بين الأعمال التي بمقتضاها يفضّ القاضي النّزاعات بين الخصوم والأعمال التي يأذن فيها بإجراء معيّن أو يصادق فيها على عمل ما كالمصادقة على الصّلح أو الحكم بالترشيد مثلا.([13])

فالنوع الأوّل من الأعمال تعتبر أحكاما باتّة وتحوز الحجيّة في حين أنّ الثانية لا تعتبر أحكام باتّة ولا تحوز الحجيّة.

وحتّى لا نقع في لبس وجب علينا قدر الإمكان تحديد مختلف الأعمال الصادرة عن القضاء وإنّ محاولة حصر الأعمال الولائيّة له أهميّة كبرى للتوصّل لمعرفة مدلول العمل القضائي الذي يعنينا في هذا البحث لذلك رأينا أنّه من المستحسن الحديث عن الأعمال الولائيّة في (مبحث أوّل) حتّى يمكننا فيما بعد التوصّل لتحديد مدلول العمل القضائي في (مبحث ثان).

المبحث الأوّل – الأعمال الولائيّة

لا يزال تحديد معيار الأعمال الولائيّة من المسائل التي تثير الكثير من الجدل بين رجال القانون وممّا يزيد الأمر صعوبة بالنّسبة للقانون التونسي هو أنّ المشرّع لازم الصّمت إزاء هذا المشكل على عكس بعض المشرّعين في البلدان الأجنبيّة الأخرى،([14]) وأنّ فقه القضاء لم يتعرّض إليه إلاّ بصفة عرضيّة جدّا.

وصعوبة البحث عن معيار العمل الولائي جعل بعض الفقهاء يقول بأنّ وصف عمل ما بالولائي أو بالقضائي يرجع إلى الإحساس القانوني أكثر منه إلى الاستدلال الصارم([15]) لكن تلك الصعوبة لم تمنع من استعمال بعض المعايير لتحديد مفهوم أو طبيعة العمل الولائي ومميّزاته (الفقرة الأولى) حتّى نتوصّل فيما بعد إلى التفرقة بين العمل الولائي والعمل القضائي موضوع (الفقرة الثانية) من هذا المبحث.

الفقرة الأولى – مفهوم العمل الولائي ومميّزاته

سنتولّى في هذه الفقرة تحديد مفهوم العمل الولائي ومميّزاته من خلال مختلف المعايير التي توصّل إليها الفقهاء ثمّ محاولة تحديد أو حصر أهمّ تلك الأعمال مع بيان أمثلة لها.

أ – المعايير المقترحة :

1- المعيار المنبني على شكل العمل :

يمكن القول أنّ العمل الولائي هو ذلك الذي تفتتح فيه الإجراءات بعريضة، أي أنّ الطرف الذي له مصلحة، يتّجه مباشرة إلى القاضي لطلب إجراء معيّن على خلاف العمل القضائي الذي يفتتح فيه الدّعوى باستدعاء موجّه إلى الخصم. إلاّ إذا كان التقاضي لدى محكمة الناحية فيمكن للطالب أن يتوجّه بالعريضة مباشرة إلى القاضي الذي يأذن باستدعاء المدّعى عليه، كذلك الشأن بالنّسبة للقضايا العرفيّة.

لكن هذا الرّأي غير وجيه لأنّ المشكل يبقى مطروحا حول ما إذا كانت الأعمال التي يقوم بها القاضي بناء على العريضة التي يقدّمها المعني بالأمر هي أعمال قضائيّة أو ولائيّة.

2- المعيار المستمدّ من الإجراءات :

هل يمكن القول بأنّ العمل الولائي هو الذي يتّخذ بالمكتب ودون حضور المطلوب ودون ترافع وأنّ العمل القضائي هو ما كانت فيه المرافعة علنيّة ؟

لا يبدو ذلك لأنّه حتّى بالنسبة للأعمال القضائية تكون المرافعات في بعض الأحيان سرية، فلقد نصّ الفصل 117 من م.م.م.ت على أنّ المرافعات تكون علنيّة : “إلاّ إذا رأت المحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب النيابة العمومية أو أحد الخصوم إجراءها سرّا محافظة على النّظام أو مراعاة للآداب أو لحرمة الأسرة”.

3- المعيار المستمدّ من دور القاضي وسلطاته :

يمكن القول بأنّ سلطة القاضي في إصدار الأعمال الولائيّة تختلف عن سلطته في إصدار الأعمال القضائيّة لأنّ القاضي يكون له دور مزدوج حين إصداره للأعمال الولائيّة فهو إضافة لدوره الولائي له دور إداري.

لكن دور القاضي لا يصلح أن يكون معيارا للعمل الولائي، لأنّ طبيعة العمل هي التي تحدّد دور القاضي لا العكس.

وإضافة لذلك، فإنّه وإن كانت للقاضي سلطات واسعة في إصدار الأعمال الولائيّة. فإنّ هذه السلطات ليست مطلقة إذ يجب عليه التثبّت من الوضعيّة الواقعيّة والقانونيّة التي يدّعيها الطالب قبل إصدار إذنه، وفي بعض الأحيان يلعب القاضي في الأعمال القضائية دورا شبيها بدوره في الأعمال الولائية مثل القرارات الفوريّة.

ويتّضح ممّا سبق ذكره أنّ هذه المعايير الثلاثة غير كافية، لأنّها معايير تهتمّ بنتيجة العمل الولائي وليست معايير محدّدة لمفهومه، بتعبير أدقّ فهذه المعايير هي في الحقيقية نتيجة للمعيار الحقيقي للعمل الولائي وهو عدم وجود نزاع.

4- المعيار المستمدّ من عدم وجود نزاع :

اتّفق جلّ الفقهاء على أنّ ما يميّز العمل الولائي هو انعدام النّزاع، فالقاضي يقوم بإجراء ما بناء على طلب شخص معيّن دون أن يكون هناك نزاع أو منازعة من طرف أي كان، فالقاضي لا يتدخّل هنا لفضّ النّزاع ولكن لضمان صحّة أو حقيقة عمل ما أو لمراقبة ذلك العمل.

وهذا المعيار تبّناه المشرّع الفرنسي منذ 15 جويلية 1944 تاريخ إصدار القانون المتعلّق بغرفة المداولة وتبنّاه أيضا في الفصل 25 من مجلّة الإجراءات الجديدة.([16])

فإذا لم يكن هناك نزاع إذن فإنّنا أمام عمل ولائي وبالتالي فإنّه يمكن للشخص الذي رفض طلبه أن يعيد ذلك الطلب مرّة ثانية أمام نفس القاضي، ويمكن لهذا الأخير أيضا أن يعود في الحكم الذي أصدره وذلك إذا تغيّرت الظروف التي أصدره فيها فلا يعارض بحجيّة الأمر المقضي مثلما هو الشأن في الحكم البات في النّزاع مثلما سنرى.

ب – تحديد الأعمال الولائيّة :

للأعمال الولائية أنواع يطول التبسّط فيها في هذا المقام لأنّ الذي يهمّنا أكثر هو أنواع الأحكام القضائية التي تصدرها محاكم الحقّ العام لأنّها هي التي تهمّنا في المقام الأوّل في هذه الرسالة للتعرّف من خلالها خاصة عن مفهوم الحكم البات في القانون التونسي.

فليس المقصود إذن من تحديد الأعمال الولائية ذكرها جميعا فذلك يخرج عن الحصر، إنّما المراد هو إجمال أنواع الأعمال الولائية وتحديد مجالاتها وفي ذلك اختلف الفقهاء.

* فهناك من قسّم الأعمال الولائيّة إلى ثلاثة أقسام، فنجد في القسم الأوّل أعمال التوثيق والأعمال التي ترمي إلى إكساء بعض الأعمال صبغة رسمية كالتصديق على الصلح وإثبات إقرار أو ترسيم وفاة أو ولادة. فيما يحتوي القسم الثاني على أعمال تعيين وتنظيم كتعيين مصفّ أو خبير أو مقدّم ومراقبتهم. أمّا القسم الثالث والأخير فيتضمّن الإذن أو الإجازة كالإذن للوصيّ بالتصرّف.([17])

* وهناك من قسّمها إلى أربعة أنواع وهي كالآتي :

1 – إثبات التصرّفات والعقود التي تتم بمجلس القضاء والتصديق عليها كإمضاء الصّلح والبيوعات العقارية.

2- والأعمال التي تقوم بها المحاكم لحفظ أموال القصّر والمحجور عليهم كتعيين المقدّمين.

3 – الإجراءات والأذون الوقتيّة لحفظ الحقوق وفي غير مساس بأصل الحقّ.

4 – الأعمال التي تتحقّق فيها المحكمة من الحالة الشخصيّة أو المدنية للشخص كترسيم الوفاة أو الولادة وحجج الوفاة.([18])

ويتبيّن ممّا سبق أنّ الأعمال الولائيّة لا يخلو حالها من أمرين : إمّا أن تكون تمهيدا لخصومة سوف تثار أمام القضاء وإمّا أن تكون فرعا من خصومة قائمة أو امتدادا لها ولكن ذلك لا يمنع من القول أنّ العمل القضائي والعمل الولائي رغم أنّهما يصدران عن نفس الجهة إلاّ أنّ فروقا كبيرة تميّز بينها.

ولذا فمن الواجب التفرقة بين العمل الولائي والعمل القضائي وهذا موضوع الفقرة الثانية من هذا المبحث.

الفقرة الثانية – التفرقة بين العمل القضائي والعمل الولائي

يطلق المشرّع التونسي على العمل الولائي بالإذن على المطلب وفق ما جاء بالباب الثاني من الجزء الخامس لمجلّة المرافعات المدنية والتجارية وقد تضمّن الفصلان 213 و214 منها على أنّه “يمكن أن تقدّم لرؤساء المحاكم الابتدائية أو لحكّام النّواحي مطالب التحصيل على إذن على المطلب في جميع الحالات التي نصّ عليها القانون وفي غير تلك الحالات وبشرط وجود خطر ملمّ أن يصدروا أذونا على المطالب في اتّخاذ جميع الوسائل لحفظ الحقوق والمصالح التي لا يمكن أن تبقى بدون حماية وذلك حسب القواعد الاعتياديّة لمرجع النظر إلاّ إذا كانت المطالب متعلّقة بنازلة منشورة فإنّها تقدّم لرئيس المحكمة المتعهّدة بها”.

ويرى أحد لفقهاء بأنّ الأمر الولائي هو ما تصدره المحكمة بناء على طلب طرف دون أن تستدعي الطرف الآخر لسماع أقواله. أمّا إذا كان التصرّف قد اتّخذ في مواجهة الخصوم أي بعد استدعاء المدّعي عليه وبعد سماع أقواله أو استدعائه ولم يحضر كان العمل قضائيّا.

ويكون التصرّف ولائي إذا تمّ بناء على طلب أحد الخصوم دون أن يستدعي الطرف الآخر للحضور بالجلسة لإبداء أقواله في خصوص هذا المطلب.

وقد انتقد العديد من الشرّاح هذا المعيار في التمييز لأنّه معيار شكلي واعتبروا أنّ إجراءات المرافعات ليست هي التي تحدّد وتبيّن طبيعة وظيفة القاضي وإنّما العمل نفسه هو الذي يبيّن ذلك بصرف النظر عن الإجراءات التي تتّبع للقيام به. ولهذا قيل أنّ العمل يعدّ قضائيا إذا تعلّق بنزاع ويكفي أن يكون هذا النّزاع محتملا litige éventuel. أمّا إذا صدر التصرّف دون نزاع ودون أن يحتمل أن يثير أيّة منازعة اعتبر ولائيا وقد أخذ بهذا الاتّجاه فقه القضاء الفرنسي والمصري.([19])

أمّا المشرّع التونسي فإنّه لم يحدّد معيارا لماهيّة العمل الولائي أو الإذن على المطلب وترك الأمر لاجتهاد الفقه وفقه القضاء مثلما سنرى. خلافا لبعض المشرّعين كالمشرّع البولوني الذي أصدر مجلّة خاصّة بالأحكام الولائيّة تسمّى مجلّة المرافعات في المسائل غير المتنازع فيها Code de procédure dans les affaires non litigieuses.

والمشرّع الألماني الذي نظّم الإجراءات الولائيّة بقانون خاص صدر في 17 ماي 1898.

أمّا محكمة التعقيب التونسيّة فيبدو أنّها اهتدت إلى تعريف العمل الولائي وتحديدا فيما يتعلّق بالإذن على المطلب أو بالإذن على عريضة وفرّقت بينه وبين العمل القضائي في قراراها عدد 21152 بتاريخ 28 جوان 1989([20]) الذي جاء في مبدئه ما يلي : “الإذن على العريضة باعتباره وسيلة وقتيّة وضعها المشرّع لحفظ حقوق ومصالح مهدّدة بالتلاشي فإنّه لا يتعلّق بفصل خصومة إذ أنّه صادر بموجب سلطة ولائيّة وبناء على طلب من طرف واحد ودون أن يستدعي الطرف الآخر وبالتّالي فإنّه لا يجوز اعتماده للطعن في القرار المنتقد بدعوى أنّه تولّى البتّ في موضوع اتّصل به القضاء إذ لا اتّصال للقضاء إلاّ فيما تتولّى فيه المحاكم النظر من نزاعات”.

وجاء في القرار المذكور كذلك : “أنّ الإذن على العريضة المحتجّ به لم يتناول أصل النّزاع القائم بين الطرفين…”.

ومن خلال هذا القرار نستطيع أن نقول بأنّ محكمة التعقيب عرّفت العمل الولائي وفرّقت بينه وبين العمل القضائي فالعمل الولائي هو وسيلة وقتيّة لحفظ الحقوق لا يفصل خصومة خلافا للعمل القضائي أو الحكم القضائي الذي يبتّ في النزاع ويفصل فيه.

ويصدر الحكم الولائي ولو دون استدعاء المطلوب خلافا للحكم الذي يتميّز باستدعاء المطلوب كما يجب قانونا ليصدر في مواجهته. وتبعا لذلك فإنّ العمل الولائي لا يتمتّع بحجيّة الأمر المقضي أو ما عبّر عليها المشرّع بقرينة النفوذ التي للأحكام وتبعا لذلك يجوز استصدار أمر ولائي ثان بعد رفض الأوّل مثلا ولو في نفس الموضوع والسبب دون إمكانية التمسّك باتّصال القضاء. إذ لا اتّصال للقضاء إلاّ فيما تتولّى المحاكم النظر من نزاعات وفق ما جاء بالقرار التعقيبي المذكور.

والعمل الولائي لا يحتاج إلى تعليل وذكر المستندات الواقعيّة والقانونية مثلما يوجب ذلك الفصل 123 من م.م.م.ت فيما يتعلّق بالأحكام ولا يصدر العمل الولائي بجلسة علنيّة وإنّما يقع إصداره بالمكتب وفي حالات التأكّد القصوى يمكن إصداره ولو بمنزل القاضي.

على أنّه في صورة طلب الرّجوع في الإذن يجب على الحاكم أن يستمع إلى الخصوم والحكم الصادر بهذه المناسبة يجب تعليله وفق ما اقتضى ذلك الفصل 219 من م.م.م.ت.

أمّا بالنسبة للأمر بالدفع فيرى الدكتور أحمد أبو الوفاء أنّ الأمر بالدفع يصدر بنصّ القانون في غفلة من المدين ولا يصدر في مواجهته في خصومة تعلن ضدّه.

وقد اعتبر المشرّع المصري الأمر بالدفع متضمّنا قضاءا قطعيا بحتا إذا لم يحصل التظلّم منه بعد إعلامه أي (الطعن فيه بالاستئناف) فإنّه يعتبر بمثابة حكم حضوري صادر من محكمة الدرجة الأولى وله آثاره، وإذا طعن في الأمر بالاستئناف عومل معاملة استئناف الأحكام الصادرة من المحكمة بما لها من سلطة قضائية.

ويتبيّن ممّا تقدّم بسطه أنّه إذا صدر الأمر، فإنّه يعتبر متضمّنا قضاءا قطعيا ملزما أو يعتبر بمثابة حكم وتكون له آثار الحكم من حيث الحجيّة المترتّبة عليه ومن حيث قابليّته للتنفيذ.([21])

ويبدو أنّ الأمر بالدفع في القانون التونسي يتوافق مع ما هو معمول به في القانون المصري أوّله ولائي وآخره قضائي وهو ولئن كان يظهر وكأنّه عمل ولائي إلاّ أنّنا نعتبره عملا يدخل في نطاق العمل القضائي ينظر في أصل الحقّ، هدفه استخلاص دين ثابت ومعيّن المقدار فهو ليس مجرّد إجراء وقتي يهدف إلى حفظ الحقوق من التلاشي.

ولأنّه وإن يصدر الأمر بالدفع في الطور الابتدائي في غياب المطلوب أي دون وجوب استدعائه فقد أجاز الفصل 66 الطعن فيه بالاستئناف لمناقشة المؤيّد المدلى بها وفق ما هو معمول به في سائر الأحكام القضائية.

وأوجب الفصل 65 من م.م.م.ت (المنقّح بالقانون عدد 87 لسنة 1986 المؤرّخ في 1 سبتمبر 1986) أنّه يقع إعلام المطلوب بالأمر بالدفع وتنفيذه وفق الأحكام المقرّرة بوسائل التنفيذ المنصوص عليها بالفصل 285 وما بعده.

وبالرّجوع إلى هذا الجزء الثامن من المجلّة نجده يتعلّق بتنفيذ الأحكام بصفة عامّة إذ نصّ الفصل 286 على أنّه : “تنفّذ بعد التحلية بالصيغة التنفيذيّة :

الأحكام التي أحرزت على قوّة اتّصال القضاء وهي التي لم تكن أو لم تعد قابلة للطعن بإحدى الوسائل المعطّلة للتنفيذ.
الأحكام التي أذن بتنفيذها الوقتي ولو لم تحرز على قوّة اتّصال القضاء”.
– حوصلة التفرقة بين العمل الولائي والعمل القضائي :

ويمكن حوصلة أهمّ الفروق بين العمل الولائي والعمل القضائي فيما يلي:

الحكم يمكن أن يحوز حجيّة الشيء المحكوم فيه، في حين أنّ الأعمال الولائية لا تتمتّع بهذه الحجيّة.([22])

يسقط العمل بالحكم بعد مضيّ 20 عاما من صدوره حسب الفصل 257 من م.م.م.ت، أمّا الإذن على العريضة فيسقط إن لم يقدّم للتنفيذ في ظرف عشرة أيّام من تاريخ صدوره ويفقد مفعوله حسب الفصل 221 م.م.م.ت.
الطعن في الإذن على العريضة لا يكون حسب الطرق المقرّرة للطعن في الأحكام القضائية.

الأوامر الولائية كالإذن على العريضة لا تخضع للقواعد الإجرائية العامة كالمواجهة بين الخصوم وعلانية الجلسات.
يمكن اتّخاذ إذنا على المطلب بناء على طلب شخص لم يكن طرفا أصليا في النّزاع وذلك في صورة تعلّق الإذن بموضوع ناشئ أو متفرّع عن الدعوى الأصلية كتعديل أجرة اختبار أو مؤتمن عدلي أو حتّى أجرة محام.([23])

القاضي عندما يبتّ في النّزاع فهو “يحكم” أمّا إذا أصدر إذنا على عريضة فهو “يأمر” ولكن هذا لا يعني أنّ القاضي عندما ينظر في الإذن على المطلب فأذنه بما عرضه صاحبه أو يرفض الإذن له بما طلب.

وهذا لا يعني أنّ القاضي لا يراعي القانون، فهو ملزم بالتحقّق من تلقاء نفسه من توفّر كلّ الشروط الواجب توفّرها في المطلب، وهو ملزم بالتثبّت من اختصاصه في إصدار مثل ذلك الإذن على أنّه معفى من تعليل إذنه خلافا للأحكام التي يتوجّب تعليلها قانونا وأن يكون تعليلا مستساغا مؤدّ للنتيجة التي توصّلت إليها وفق ما توجب ذلك محكمة التعقيب وعلى سبيل المثال في قرارها([24]) “الذي اعتبر أنّ تعليل الأحكام شرط لازم لصحّة الحكم”.

ويمكن أن نتساءل عن مسألة سقوط الخصومة بعد تعطيلها وفق الفصل 241 من م.م.م.ت الذي جاء تحت عنوان في معطّلات النّوازل، فقد نصّ الفصل 244 على أنّه “إذا مضت على تعطيل القضيّة ثلاثة أعوام بدون أن يقع طلب استئناف النظر فيها سقطت الخصومة ولكلّ ذي مصلحة من الخصوم أن يطلب الحكم بسقوطها”.

ويتبيّن من هذا الفصل أنّه حتّى إذا لم يطلب من له مصلحة في سقوط الخصومة فإنّها ستسقط بمفعول القانون. وجرى العمل على أنّ المحكمة أو القاضي هو الذي يتّخذ الإذن بسقوطها بعد التنبّه إليها من كتابة المحكمة.

فهذا الإذن بسقوط الخصومة هل هو عمل قضائي أم عمل ولائي أم عمل إداري ؟ مع العلم أنّه وإن سقطت الخصومة بإلغاء جميع الإجراءات بما في ذلك عريضة الدعوى لكنّه لا يسقط الحقّ في أصل الدعوى.([25])

وبعد محاولة حصرنا للأعمال الولائيّة ومحاولة التفرقة بينها وبين العمل القضائي سنحاول الآن تحديد مدلول الأعمال القضائية وهذا موضوع المبحث الثاني من هذا الفصل الأوّل من هذه الرّسالة.

المبحث الثّاني – الأعمال القضائيّة

استعمل الفقهاء عدّة معايير لتحديد العمل القضائي، ومن تلك المعايير ما هو شكلي ومنها ما هو مادي.

الفقرة الأولى – المعايير الشكليّة

ما هو الشكل المحدّد للعمل القضائي ؟ هل هو الجهاز الذي يصدره ؟ أو إجراءات صدوره أو فاعليّته ؟

أ – المعيار العضوي :

إنّ ما يميّز العمل القضائي حسب الفقهاء الذين تبنّوا هذا المعيار([26]) صدوره من المحكمة أو هيئة مؤسّسة على شكل المحكمة توفّر الضمانات القانونيّة التي توفّرها المحكمة من استقلاليّة وحياد.

لكن هذا المعيار لا يحلّ المشكل، بعد أن كان السّؤال المطروح ما هو العمل القضائي ؟ أصبح الآن ما الذي يميّز هيئة ما حتّى يمكن أن يقال عنها محكمة، وزيادة على ذلك، وحتّى ولو بقينا في إطار المحاكم العدلية فإنّه من الخطأ القول بأنّ كلّ ما تصدره تلك المحاكم يعتبر عملا قضائيّا مثلما رأينا.

ب – المعيار الإجرائي :

ذهب بعض الفقهاء([27]) إلى القول بأنّ ما يميّز العمل القضائي هو إجراءات إصداره فعلانيّة الجلسات، واتّباع شكليّات معيّنة، ووجوب التعليل، ومبدأ المواجهة بين الخصوم كلّها إجراءات لا نجدها في غير الأعمال القضائيّة.

لكن هذا الرّأي لا يكون صحيحا إلاّ إذا توفّرت هذه الإجراءات في العمل القضائي ولم تتوفّر في غيره، وهذا غير صحيح، إذ أنّ هذه الإجراءات أو على الأقلّ بعضها يوجد في بعض الأعمال الإدارية.

ج – المعيار المأخوذ من فاعليّة العمل :

هناك من الفقهاء من يرى أنّ الأعمال القضائيّة هي تلك التي منحها المشرّع “قوّة الحقيقة القانونيّة” بعبارة أخرى هي التي يتّصل بها القضاء.([28])

لكن هذا الرّأي غير مقبول، لأنّه من غير المنطقي أن نحدّد عملا ما من خلال آثاره، لأنّ العمل هو الذي يحدّد الآثار لا العكس. فنحن نبحث عمّا هو العمل القضائي لكي نعرف فيما بعد ما ينتجه من آثار وإضافة إلى ذلك فهناك من الأعمال القضائية ما لا يتّصل به القضاء مثل الحكم بعدم سماع الدعوى الآن،([29]) أو الحكم بالرّفض لأنّه لا يبتّ في أصل النّزاع مثلما سنرى.

إذن فكلّ هذه المعايير الشكليّة غير كافية لتحديد مدلول العمل القضائي، فما هو الشأن بالنسبة للمعايير المادية ؟

الفقرة الثانية – المعايير المادية

يرى أحد الفقهاء أنّ العمل القضائي يحدّد بهيكله، ومنهم من رأى أنّ العمل القضائي مرتبط بوجود نزاع.

أ – المعيار المستمدّ من هيكل العمل :

يرى أحد الفقهاء أنّ معيار العمل القضائي هو المعاينة القضائيّة : يواجه القاضي قبل إصداره الحكم سلطة تقديريّة بين الواقع والقانون ويعاين إن كان هناك خرق للقواعد القانونيّة قبل البتّ في العمل القضائي.

لكن هل أنّ المعاينة القضائيّة تكفي وحدها كمعيار للعمل القضائي ؟

اختلف الفقهاء حول الإجابة عن هذا السّؤال، فالبعض([30]) يرى أنّ العمل القضائي لا يتمثّل في المعاينة أو الملاحظة التي يجريها القاضي فقط بل وكذلك في العمل الذي يتّخذه القاضي تبعا لتلك المعاينة.

لكن يمكن الردّ على هذا الرأي بالقول بأنّ هذين العنصرين (المعاينة والقرار الناتج عنها) لا يخصّان العمل القضائي فقط، بل يوجد في الكثير من الأعمال الإدارية والقرارات التي تتّخذها السّلط التأديبيّة.

وهناك من الفقهاء من يرى أنّ العمل القضائي يتحدّد فقط بالمعاينة التي يجريها القاضي مع الملاحظة أنّ هاته المعاينة قد تهمّ الوقائع كما قد تهمّ القانون، وهي تتّسم بقوّة الحقيقة القانونيّة التي منحها إيّاها المشرّع، فبالنسبة لأصحاب هاته النظريّة يبقى القرار الذي يتّخذه القاضي على هامش العمل القضائي.

لكن هذه النظريّة مردودة هي الأخرى، لأنّها لا ترتكز إلاّ على العمل الذهني أو الوجداني للقاضي عند إصدار الحكم، وهي زيادة على ذلك تفرّق بلا موجب بين الملاحظة أو المعاينة القضائية والقرار الناتج عنها وهي بذلك تفكّك الوحدة العضويّة للعمل القضائي بلا موجب.

ب – المعيار المستمدّ من وجود منازعة أو نزاع :

« Litige » – « Contestation »

حاول فقهاء القانون الخاص أن يبتعدوا عن النظريّات المجرّدة والتفكير النظري البحت فاستنبطوا معيارا تطبيقيّا للعمل القضائي.

فاستعمل أولئك الفقهاء أوّلا معيار المنازعة بين الخصوم، وكلمة المنازعة تقتضي هنا الخصومة الفعلية المادية أي الظهور الفعلي للخصم وإبداء معارضته للمدّعي، فالمنازعة تقتضي موقفا إيجابيا من الخصم. لكن يمكن للمنازعة أن تكون خفيّة وضمنيّة، فليس من الضروري أن يظهر الخصم على ركح الخصومة، بل يكفيه أن يتّخذ موقفا سلبيا من شأنه أن يضرّ بحقوق صاحب الزّعم أي المدّعي.

لذلك التجأ الفقه الحديث إلى معيار النّزاع وهو معيار أشمل من المنازعة. فليس إذا من الضّروري أن يتّخذ الخصم موقفا إيجابيّا، بل يعتبر هناك نزاع ولو اتّخذ موقفا سلبيا بحتا، كعدم حضوره بالجلسات أو كأن “يفوّض الأمر للمحكمة”.

لكن يظهر أنّه حتّى معيار النّزاع غير كاف، لأنّ هناك من الأعمال الإدارية ما يكون هو الآخر قائما على نزاع.

يتّضح إذا أنّ كلّ معيار على حدّة يظلّ قاصرا على أن يكون معيارا محدّدا للعمل القضائي لأنّ بعض الفقهاء اعتمد على كلّ تلك المعايير مجتمعة محاولا التوفيق بينها.

فالفقيه فيزيوز « VIZIOZ » ([31]) يرى أنّ العمل القضائي هو ذلك الذي يكون صادرا عن قاض عام (المعيار العضوي) طبقا لإجراءات قضائيّة (المعيار الشكلي) والذي يكون موضوعه حسم النّزاع أو مسألة متنازع فيها (المعيار المادي).

أمّا الفقيهان “سوليس” و”بيرو” Solus et Perrot([32]) فإنّهما يريان أنّه منذ أن يكون هناك نزاع واضح لا يمكن للعمل الذي يفصله أن يكون عملا قضائيّا يتّصل به القضاء إلاّ إذا كان صادرا عن جهاز له كلّ صفات المحكمة الحقيقيّة طبقا للقانون وتبعا لإجراءات تحمي مصالح الأطراف.

وبتحديدنا هكذا لمدلول العمل القضائي يمكننا التوصّل لتحديد مفهوم الحكم القضائي في القانون التونسي ومفهومه من خلال القانون المقارن، وهذا موضوع (الفقرة الثالثة) من هذا المبحث الثاني.

الفقرة الثالثة – مفهوم الحكم القضائي في القانون التونسي والقوانين المقارنة

إنّ صدور الحكم في دعوى مدنيّة كانت أم جزائيّة هي الغاية التي يرمي إليها الخصوم من وراء رفعها أمام القضاء فيقدّم كلّ طرف طلباته أو دفوعه سواء بنفسه أو عن طريق محام لتدعيم دعواه أو بطلب من المحكمة في إطار تهيئة القضيّة للفصل وكلّ ذلك يهدف إلى تمكين المحكمة من إصدار حكم في الدعوى يتّفق مع ما ورد من مؤيّدات في الملفّ فتقضي بتأييد ما هو محقّ وترفض ما هو باطل.

ويمكن القول بأنّ الحكم هو عبارة عمّا توصّل إليه وجدان المحكمة من خلال الوقائع المعروضة عليها إذا تعلّق نظرها في دعوى جزائيّة والنتيجة التي انتهت إليها سواء كانت بإدانة مرتكب الأفعال المجرّمة أو بتبرئة ساحته. وهو كذلك يعبّر عن اجتهاد المحكمة وسلطتها التقديريّة للأدلّة المعروضة عليها من خلال ملحوظات الطرفين والنقاط القانونيّة التي تبنّتها إذا تعلّق نظرها في البتّ في قضيّة مدنيّة.

ويبدو أنّ تحديد مفهوم الحكم القضائي أمر يسير ولا خلاف فيه إلاّ أنّه بالتعمّق في البحث حول آراء الفقهاء في هذا المضمار نلاحظ الاختلاف في تحديد وتعريف الحكم القضائي وهو اختلاف يرجع إلى الاختلاف في المعايير المعتمدة كما سبق بيانه.

فما هو إذن مفهوم الحكم القضائي ؟

تطلق لفظة حكم على كلّ القرارات الصادرة عن السلطة القضائية([33]) (juridiction de jugement) في علاقتها مع المتقاضين ولا تفرّق بين تلك القرارات التي تضع حدّا لسير الدعوى العامّة أو لسير القضيّة المدنيّة وكذلك عن القرارات الصادرة أثناء سير الدعوى ولو كانت تلك القرارات ليست لها الصبغة القضائيّة.

وتطلق عادّة كلمة “حكم” على الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائيّة وفيما عدا ذلك تطلق عبارة قرار خاصّة بالنّسبة للقانون الفرنسي، أمّا بالنسبة للقانون التونسي فقد جرى العمل القضائي على إطلاق كلمة “حكم” كذلك على الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الثانية ومحاكم الاستئناف. وتخصيص كلمة قرار للقرارات الصادرة عن محكمة التعقيب وعن المحاكم الاستعجالية.

كما تطلق كلمة قرار عن التدابير العاجلة التي تتّخذها دائرة الأحوال الشخصيّة فتسمّى بالقرارات الفوريّة، وكذلك التدابير التي يتّخذها قاضي الأطفال.

ويطلق في فرنسا لفظ “الحكم” Le jugement على أحكام المحاكم المدنيّة والتجاريّة، ولفظ « Sentence » على أحكام قضاة الصلح وأحكام المحكّمين ولفظ « arrêt » على قرارات محاكم الاستئناف ومحكمة التعقيب ولفظ ordonnance على قرارات قاضي الأمور المستعجلة وقرارات رئيس المحكمة وقرارات قاضي التحضير والقرارات الصادرة على العرائض أو الأذون على المطالب أو بما يعرف بالأعمال الولائيّة.

ولذا فمن الواجب تحديد وتعريف الحكم القضائي الصادر من محاكم الحقّ العام لأنّه هو الذي يعنينا من خلال هذه الرّسالة.

وقد يبدو من السّهل تحديد وتعريف الحكم القضائي، لكن اتّضح أنّ هناك اختلافا في الفقه حول تعريف الحكم القضائي.

فما هو مفهوم الحكم ؟ للجواب عن هذا السّؤال سنحاول أوّلا محاولة تعريف الحكم ثمّ التعرّف على خاصيّاته.

أ – تعريف الحكم القضائي :

إنّ فقهاء الشريعة الإسلاميّة يعرّفون الحكم القضائي بأنّه محصّلة تطبيق الحكم الشرعي على الوقائع التي يدّعيها الخصوم وتكشف عنها البيانات فالحكم القضائي عند فقهاء الشريعة الإسلامية هو فصل الخصومة بقول أو فعل يصدر عن القاضي على سبيل الإلزام([34])

ومؤدّى ذلك فصل الخصومة هو الحلّ الذي يقع في نفس القاضي من أجل النّزاع المعروض عليه بناءا على تطبيق الأحكام الشرعيّة على الواقع، ويعبّر عنه بقول أو فعل يتضمّن إلزام كلا الخصمين بالأوضاع الحقوقيّة التي يراها القاضي في ذلك الحلّ.

فثمرة الحكم القضائي تتمثّل في خروج كلّ من طرفي الخصومة بمراكز شرعيّة جديدة تختلف عن تلك التي كانوا عليها قبل صدور الحكم إمّا زيادة وإمّا نقصانا وقد تكون الزيادة مجرّد تقوية للأوضاع السابقة.

والحكم القضائي في شريعة الإسلام لا ينتج تلك الثّمرة إلاّ بشروط فصّلها فقهاؤها. من أهمّها : أن يتقدّم الحكم خصومة ودعوى صحيحة، وأن يصدر الحكم بصيغة تدلّ على الإلزام، وأن يكون في حضرة الخصوم، وأن يصدر عن قاض صحيح التولية.([35])

والأحكام تتّصل بكلّ من القوانين المقرّرة للحقوق والقوانين الإجرائيّة لأنّها تصدر بشكل معيّن في خصومة رفعت وفق قواعد المرافعات.

والحكم هو الإطار الخارجي للعمل القضائي بالمعنى الخاصّ أي هو الشّكل الخارجي له وهو أيضا الشّكل العام له ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك، والأمر هو الإطار الخارجي للعمل الولائي للمحاكم أي هو الشكل الخارجي له وشكله العام ما لم ينصّ القانون على غير ذلك.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الحكم على المعنى المتقدّم، يؤثّر بطريق مباشر أو غير مباشر في مضمون العمل القضائي، أي في ذات موضوع العمل الصادر عن المحكمة، أيّا كان فحواه.([36])

ومن القواعد الأساسيّة في استخلاص القضاء من الحكم ألاّ يعتدّ بما يرد فيه على سبيل غير سبيل القضاء وألاّ يعتدّ بتكييف المحكمة للحكم، فلا تملك المحكمة وصف القضاء الصادر منها فتعتبره قطعيا أو غير قطعي “أو بات أو غير بات” أو تعتبره وقتيا أو نهائيّا، أو تعتبر حكمها حضوريا أو غيابيا أو معتبرا حكما حضوريا أو تعتبره حكما “لا رجوع فيه” أو حكما تحضيريا أو حكما مختلطا بمعنى أنّه بتّ في فرع من أصل الحقوق المتنازع بشأنها، لأنّ العبرة في جميع هذه الأحوال بتكييف الحكم وفق المعيار القانوني الذي قرّره المشرّع.

أمّا بالنّسبة للقانون الوضعي فيمكن القول بأنّ الحكم هو كلّ قرار تتّخذه هيئة قضائيّة إثر بتّها في نزاع بين خصمين([37]) وفي قضيّة رفعت إليها طبقا لقواعد الإجراءات. فهناك من الفقهاء من استند إلى المعيار الشكلي في تحديد مفهوم الحكم اعتمادا إلى الجهة التي تصدره فيكون “حكما” كلّ عمل صادر عن الجهة القضائيّة سواء كان فاصلا في الخصومة أم لا مثلما رأينا.

والحكم في مذهب الفقه المقارن “هو القرار الصادر عن محكمة مشكّلة تشكيلا صحيحا، ومختصّة، في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات وهو يتّصل بكلّ من القانون العام والقانون الخاصّ فهو يتّصل بالقانون العام لأنّه يصدر عن إحدى السلطات العامّة بمقتضى قواعد القانون العام وباسم الدولة أو الشعب وهو يتّصل كذلك بالقانون الخاصّ لأنّه يحسم في منازعات بين أشخاص عاديّين، وينصبّ أثره على حقوقهم وأموالهم([38]) وحريّاتهم.

أمّا المشرّع التونسي فلم يعرّف الحكم القضائي صراحة وإنّما أوجب جملة من العناصر الإلزامية التي يجب أن يتضمّنها، وقد أوردها في الباب السادس من مجلّة المرافعات المدنيّة والتجاريّة تحت عنوان “في جلسة المرافعة والحكم” بالفصل 123 الذي نصّ على أنّه “يجب أن يضمّن بكلّ حكم : بيان المحكمة التي أصدرته وأسماء وصفات ومقرّات الخصوم وملخّص مقالاتهم وموضوع الدعوى والمستندات الواقعيّة والقانونيّة ونصّ الحكم وتاريخ صدوره وبيان درجته واسم القاضي أو القضاة الذين أصدروه”.

كما أوجب بالفصل 162 من مجلّة الإجراءات الجزائيّة الذي جاء بالقسم الرابع من المجلّة تحت عنوان “في الحكم” أنّه تصدر الأحكام بأغلبيّة الأصوات…” ونصّ بالفصل 164 على أنّه “تصرّح المحكمة بالحكم عقب المفاوضة طبق القانون”. وأوجب بالفصل 166 من نفس المجلّة على أنّه “إذا وقع التصريح بالحكم وجب تحرير نسخة أصليّة للحكم طبق موجبات الفصل 168”.([39])

وقد اعتبر المشرّع الحكم من الحجج الرسميّة إذ تضمّنت الفقرة الأولى من الفصل 443 من م.ا.ع “أنّ ما يحرّره القضاة رسميّا بمحلّهم طبقا للشرع يعتبر من الحجج الرسمية”.

كما اعتبره قرينة قانونيّة رتّب عليها نفوذا وفق الفصلين 480 و481 من نفس المجلة، أي حجيّة الشيء المحكوم به L’autorité que la loi attribue à la chose jugée.

ومفاد ذلك أنّ الحكم الصادر على النحو المقرّر له يكون صحيحا من حيث الشكل وعلى حقّ من ناحية الموضوع، ولا يجوز إعادة النظر فيه من طرف المحكمة التي أصدرته أو من طرف محكمة أخرى إلاّ في الصّور التي نصّ عليها القانون.

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([40]) “بأنّ الأحكام هي وثيقة رسميّة ولا يسوغ الطعن فيما تثبته إلاّ بطريق الزّور وذلك وفقا للفصل 443 من م.ا.ع القاضي : “بأنّ من الحجج الرسميّة ما يحرّره القضاة رسميّا بمجلس قضائهم ووفقا للأصول القانونيّة”.

وجاء في خاتمة هذا القرار ما يلي “وحيث أنّ الحكم المطعون فيه حائز لشكله القانوني وأنّ المحكمة التي أصدرته مشكّلة بصفة قانونيّة وأنّ العقوبة التي قضت بها كانت في حدود النّصوص القانونيّة التي طبّقتها وعلى ذلك فهو لا يشوبه خلل يوجب نقضه”.

ومن خلال تعريف الحكم القضائي بوجه عام نلاحظ أنّه يتميّز بخاصيات كالآتي :

ب – خاصيّات الحكم :

1) صدور الحكم من جهة قضائيّة وطنيّة :

وهو من أهمّ عناصر الحكم أن يكون صادرا من محكمة وطنيّة مشكّلة تشكيلا قضائيّا صحيحا وفق ما أشارت إلى ذلك محكمة التعقيب ومختصّة بالنظر حكميّا وبصرف النظر عن جنسيّة المتقاضين أو نوع الخصومات التي يتمّ تناولها من طرف المحاكم سواء كانت مدنيّة أو جزائيّة.

ولو أنّ المشرّع التونسي اعتبر بالفصل 443 المذكور بفقرته الثانية أيضا من الحجج الرسميّة “الأحكام الصادرة من المجالس القضائيّة التونسيّة والأجنبيّة على معنى أنّ ما ثبت لدى هاته المجالس يعوّل عليه ولو قبل اكتسابه صفة التّنفيذ”.

إلاّ أنّنا سنقتصر في بحثنا هذا عن الحكم الصادر من محاكم الحقّ العام الوطنيّة في تحدينا لمفهوم الحكم بصفة عامّة والحكم الباتّ بصفة خاصّة.

ويستخلص من هذه الخاصيّة أنّ القرار الصادر عن هيئة غير قضائيّة لا يعدّ حكما ولو كان من بين أعضائها أحد القضاة.

2) أن يصدر الحكم في خصومة منعقدة :

أي في دعوى مرفوعة طبق القانون سواء كانت مدنيّة أو جزائيّة وأن يكون الحكم مكتوبا في الشّكل المقرّر له طبق قانون المرافعات مثلما أشرنا إلى ذلك باعتبار أنّ الحكم يتّصف بالشكليّة solennité وبالرسميّة authenticité.

3) أن يصدر الحكم وفق ما للمحكمة من سلطة قضائيّة :

لأنّ من أهمّ مميّزات الحكم هو للدلالة على أنّ الأعمال القضائية Les actes juridictionnels هي التي يطلق عليها تلك العبارة والتي تفيد الجواب قانونا عن دعوى أو في شقّ أو مسألة متفرّعة عنها وهي تتضمّن حتما الإلزام بعد أو روعي فيها جميع الضمانات المتعلّقة بالأطراف.

ولمعرفة ما إذا كان الحكم صادرا بموجب السلطة القضائيّة للمحكمة يمكن القول بوجه عام بأنّ العبرة بطبيعة الموضوع الذي يصدر فيه أمر القاضي وطبيعة ما يجريه القاضي في إصداره، فإن كان الأمر يتعلّق بخصومة بين طرفين فصل فيها فهو قضاء، وإلاّ فهو أمر ولائي مثلما رأينا.

4) ومن مميّزات الحكم أن يكون منشئا للحقّ أي الحكم الذي يقرّر حقّا إراديّا أي سلطة إحداث أثر قانوني بإرادة صاحبه ويكون إمّا بنشأة حقّ جديد أو مركز قانوني جديد أو تعديل مركز قائم أو إنهائه، ومن مميّزات الحكم أن ينهي تعهّد المحكمة بالنظر في القضيّة بعد التصريح به علنا بالجلسة.

ولئن لم يعرّف المشرّع التونسي الحكم بالمعنى الذي عرّفه الفقهاء مثلما رأينا فيبدو أنّ محكمة التعقيب في إحدى قراراتها حاولت تعريفه. بل وذهبت إلى إقرار قاعدة أصوليّة في شأنه مفادها أنّ “الحكم هو الذي يحسم النّزاع بين الطرفين المتخاصمين إيجابا أو سلبا وما زاد على ذلك من الفروع مثل حفظ الحقّ أو من كانت له دعوى فله القيام بها لدى محكمة كذا فإنّ تلك الزّيادة تعتبر من باب الرّأي والفتوى غير واجب اتّباعه خصوصا إذا كانت تلك الزيادة تتنافى مع نصّ تشريعي”.([41])

ولكن المحكمة قبل أن تبتّ في النّزاع المعروض عليها قد تصدر أحكاما أثناء نشر القضيّة ويكون من الواجب التعرّف عليها ومعرفة طبيعتها حتّى يمكننا تحديد مفهوم الحكم الباتّ، وهكذا نصل إلى الفصل الثاني من هذه الرّسالة والذي سنتحدّث فيه عن أنواع الأحكام.

الفصل الثاني – أنواع الأحكام

إنّ إصدار الحكم في موضوع النّزاع هو الخاتمة الطبيعيّة لكلّ نازلة فالغرض من رفع الدعوى إلى القضاء أو من تحريكها وتتبّعها وإثباتها هو الوصول إلى حكم يتّفق مع حقيقة مراكز الخصوم فيها ويبيّن حقوق كلّ منهم، ولكن قبل بتّ المحكمة في أصل موضوع الدّعوى قد تصدر المحكمة أحكاما بغية تهيئة القضيّة للفصل يطلق عليها بالأحكام التحضيريّة أو التمهيديّة أو أوامر وأحكام وقتيّة… ولذا فمن الواجب التعرّف على طبيعة هذه الأحكام وعلى مفهومها لأنّ ذلك له تأثير كبير لمعرفة ما هو الحكم الذي يلزم المحكمة ولا يمكنها الرّجوع فيه ؟ وما هو الحكم الذي لا يقيّد المحكمة ويمكنها الرّجوع فيه ؟ وما هو الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع أو في فرع منه ؟

وما هي الأحكام الغير الباتّة في أصل النّزاع ومدى قابليّة الطعن في مثل هذه الأحكام ؟ لأنّه كثيرا ما تصدر المحكمة أحكاما أثناء سير الدّعوى تهيئة للفصل في موضوعها فما هي هذه الأحكام التي يطلق عليها بالأحكام الغير الباتّة في أصل النّزاع ؟ وهذا موضوع المبحث الأوّل من الفصل الثاني من هذه الرّسالة.

المبحث الأوّل – الأحكام الغير الباتّة في أصل النّزاع

لقد رأينا أنّه من المفيد في هذا البحث أن نتناول بالبحث الأحكام الغير الباتّة في أصل النّزاع أوّلا مع الرّجوع إلى جذورها التاريخيّة علّه تتجلّى لنا المعالم عن مفهوم الحكم الباتّ، خصوصا وأنّ من بين هذه الأحكام التي تصدر قبل البتّ في أصل الموضوع والتي يطلق عليها بالأحكام التمهيديّة كانت تعتبر أحكاما باتّة ويمكن استئنافها استقلالا قبل الفصل في موضوع الدعوى. ولقد أشار إلى هذه الأحكام الصادرة أثناء المرافعة الفصل 482 من م.ا.ع الذي تضمّن بأنّ : “الأحكام الآتي بيانها لا تعبر من الأحكام التي لا رجوع فيها وهي :

ثالثا : الأوامر والأحكام الوقتّية أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها”.

وسنتناول بالدرس في هذا المبحث الأحكام التي تصدر أثناء سير الدعوى في (فقرة أولى) ثمّ في (فقرة ثانية) سنتحدّث عن الأحكام الوقتيّة.

الفقرة الأولى – الأحكام التي تصدر أثناء سير الدعوى

إنّ هذه الأحكام تصدر قبل الفصل في الموضوع، وتجمعها فكرة واحدة وهي أنّها تصدر أثناء نظر الدعوى (أي متعلّقة بإثباتها أو بسير إجراءاتها أو اتّخاذ إجراء وقتي فيها) وقبل الحكم في موضوعها وبالتّالي فليس لها مبدئيّا كيان مستقلّ بذاتها باعتبار أنّها لا تحسم النّزاع أو لا تحسم المنازعة على أصل الحقّ فلا تنتهي بها ولاية القاضي بل هي إجراء أوّلي سابق لفضّ النّزاع دون المساس بجوهر الموضوع.

وقد تنتهي بها في بعض الأحوال الخصومة أمام المحكمة دون أن تنهي النّزاع على أصل الحقّ.([42]) لذلك يمكن اعتبار هذه الأحكام بمثابة أحكام إجرائيّة لأنّها تتعلّق بإجراءات إثبات الدعوى أو إجراءات السّير فيها وقد تمّت تسميتها بأحكام فرعيّة لأنّها تتّصل بما يتفرّع عن الخصومة من منازعات. وهذه الأحكام لا يجوز الطعن فيها فور صدورها مبدئيّا، وإنّما يطعن فيها بعد صدور الحكم في الموضوع لأنّ الفرع يتبع الأصل.

على أنّه يبدو أنّ هناك من الأحكام الفرعيّة ما كان يجوز استئنافها فور صدورها.

حسب ما يستشفّ من الفقرة الثالثة من الفصل 482 من م.ا.ع التي تعتبر الأحكام التمهيديّة التي تبتّ في شيء من أصل الحقّ المتنازع فيه تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها أي تعتبرها تبتّ في شيء أو في فرع من أصل الحقّ المتنازع فيه وبالتالي فهي قابلة للطعن مثلما أقرّت ذلك محكمة التعقيب([43]) بأنّ “الأحكام التي تعتبر قانونا تمهيديّة والقابلة حينئذ للاستئناف هي الأحكام التي تفصل بصفة باتّة في جزء من أصل الحقوق المتنازع عليها بحيث أنّها تقيّد الحاكم الذي أصدرها فيما قضى به ولا يمكن له الرّجوع في ذلك…”.

في حين أنّ الأحكام التحضيريّة لا تعتبرها محكمة التعقيب من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها إذ أقرّت([44]) بأنّه : “اقتضت أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 482 من القانون المدني أنّ الأحكام التحضيرية لا تعتبر من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها، وعلى هذا الأساس يسوغ لمحكمة الموضوع العدول عن تنفيذها أو الاكتفاء بتنفيذها جزئيا متى اقتنعت بما قام من الإجراءات وعلّلت اقتناعها بتعليل لا يشوبه شيء من القصور أو التناقض”.

وهذا ما يدفعني إلى معرفة التفرقة بين الحكم التحضيري والحكم التمهيدي، وهذا لا يمكن أن يحصل إلاّ من خلال لمحة تاريخيّة سريعة لوضع المسألة في إطارها الزّمني والقانوني. ثمّ كيف أنّه تمّ العدول عن تلك التفرقة.

أ- لمحة تاريخيّة حول التفرقة بين الحكم التحضيري والحكم التمهيدي :

يبدو أنّ القانون التونسي ومحكمة التعقيب التونسية قد تأثّرا بالقانون الفرنسي، مثلما سنرى، الذي كان يفرّق بين الأحكام الباتّة في الأصل والأحكام المتعلّقة بالتحقيق أي الصادرة قبل الفصل في الموضوع فهذه الأحكام الأخيرة كان يجيز استئنافها على استقلال وقبل صدور الحكم في الموضوع متى تسبّبت في ضرر un grief أمّا التي لا تسبّب ضررا فلا يجيز استئنافها إلاّ مع استئناف الحكم في الموضوع.

وتطلق عبارة الأحكام التحضيرية بصفة عامّة على الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع سواء أكانت تمهيديّة أو تحضيريّة أو وقتيّة…

ثمّ ضبطت مجلّة الإجراءات الفرنسيّة معيار التفرقة بين الحكم التمهيدي والحكم التحضيري والتي عرّفت لأوّل مرّة الحكم التمهيدي وجعلت فارقا للتمييز بينه وبين الحكم التحضيري، وأوضحت بأنّ الحكم التمهيدي هو الذي يستشفّ منه اتّجاه رأي المحكمة في الموضوع وبالتالي فيجوز استئنافه أمّا الحكم التحضيري فلا يجوز استئنافه.

ثمّ وفي 23 ماي 1942 نقّح المشرّع الفرنسي الفصل 451 وما بعده وذكر “الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع” وأخضعها جميعا لقواعد تخالف القواعد العامّة فأجاز استئنافها قبل الحكم في الموضوع وحدّد لها مواعيد قصيرة لسرعة الفصل فيها، كما أجاز استئنافها مع استئناف الحكم في الموضوع.

وفي 28 أوت 1972 ألغى المشرّع ما قرّر سابقا وأجاز الطعن بالاستئناف مباشرة في الأحكام التي تحسم شقّا من الموضوع وتأمر باتّخاذ إجراء من إجراءات الإثبات أو إجراء وقتي، وفي الأحكام التي تنهي الخصومة دون أن تحسم موضوع النّزاع. واقتضى الفصل 88 “أنّ سائر الأحكام الأخرى لا تقبل الاستئناف مستقلّة عن الأحكام الصادرة في الموضوع، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، وقد استعمل المشرّع الفرنسي اصطلاح “الأحكام التي تنهي الخصومة”.

أمّا في تونس فإنّ المشرّع لم يتعرّض لهذه المسألة وإنّما أثارته محكمة التعقيب، فما موقف محكمة التعقيب التونسيّة من مسألة إمكانيّة استئناف الأحكام التحضيريّة ؟

لقد قام جدل في البداية حول إمكانية استئناف الأحكام التحضيريّة مع التمييز بينها وبين الأحكام التمهيديّة وهذا الجدل يلخّصه القرار التعقيبي الصادر سنة 1927([45]) الذي جاء مبدؤه مطوّلا لشرح وجهة نظر المحكمة آنذاك ويبدو أنّ هذا أطول مبدأ تمّ نشره سواء في نشريّة محكمة التعقيب أو في القضاء والتشريع، وهو ينمّ عن مدى تأثّر فقه القضاء التونسي بالتشريع الفرنسي ويوضّح لنا منشأ ما يسمّى بالحكم البات.

على أنّ هذه الأحكام التي يطلق عليها بالأحكام التمهيديّة وإن كانت قابلة للاستئناف فإنّ الإعلام بها غير واجب لأنّ محكمة التعقيب تعتبرها أحكاما ليست باتّة بمعنى أنّها لا تنهي تعهّد المحكمة إذ أقرّت بأنّه “لا يوجد بالقانون التونسي نصّ يوجب على المتقاضين إعلام خصومهم بالأحكام الغير الباتّة”.([46])

وفي قرار آخر صدر بعد حوالي عشرين سنة أصبحت المسألة من المبادئ القانونيّة الثابتة إذ أكّدت محكمة التعقيب([47]) : “أنّه من المبادئ القانونيّة الثابتة أنّ الأحكام التحضيريّة هي التي تأذن بإجراء تحقيقات أو معاينات للبحث عن الحقيقة وهي لا تشعر بوجه الفصل في النّازلة بخلاف الأحكام التمهيديّة فهي تشعر بوجه البتّ في الأصل وبتلك الصفة فهي قابلة للطعن بطريق الاستئناف فالحكم الصادر بإجراء اختبار لا يشعر بوجه البتّ في الأصل وإنّما يبحث على أمور توصّل للحقيقة الأمر الذي يحقّق بلا خلاف أنّه حكم تحضيري لا تمهيدي ولا يفهم منه أنّه ألغى المعارضة وهو غير قابل للطعن بطريقة الاستئناف وكذلك التعقيب”.

ب – العدول عن التفرقة بين الحكم التحضيري والحكم التمهيدي :

لأنّه يكاد يكون من المستحيل وضع معيار صحيح للتمييز بين الحكم التحضيري والحكم التمهيدي ولأنّه من الصعب إدراك تلك التفرقة لغموضها ودقّتها إضافة وأنّ السماح بالطعن في بعض الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع مباشرة نتج عنه إطالة إجراءات التقاضي، لذلك اتّجهت التشريعات الحديثة إلى تعديل هذه القواعد بإبطال التفرقة بين الحكم التمهيدي والتحضيري وانتهجت أحد السبيلين :

أحدهما يبيح الطعن مباشرة في جميع الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع.

والثاني يمنع الطعن فيها مباشرة وإجازته مع الطعن في الحكم في الموضوع.([48])
وبعد التطوّر التشريعي أصبحت القاعدة في القانون المصري هي عدم جواز الطعن المباشر في الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع. بل وكقاعدة في الأحكام التي تصدر أثناء سير الدعوى ولو كانت موضوعيّة، وذلك منعا من تمزيق الدعوى وتشتيتها بين محاكم مختلفة، وعلى تقدير أنّ صدور الحكم في الموضوع قد يغني عن الطعن المباشر في تلك الأحكام التي تصدر قبله.

وكذلك الشأن بالنّسبة للقانون الفرنسي الذي لم يعد يجيز استئناف الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع والتي أصبح يطلق عليها مصطلح الأحكام الصادرة قبل قول القانون « Les jugements avant dire droit » لأنّها لا تنهي تعهّد القاضي وفق الفصل 483 من م.إ.م.ف.، على أنّه يبقى المشكل قائما بالنسبة للأحكام المختلطة مثلما سنرى.

وقد ذهبت محكمة التعقيب التونسيّة كذلك في هذا المنحى لتعارض الاتّجاه السابق الذي يخوّل استئناف الأحكام التمهيديّة وأكّدت بأنّه : “قسم الفصل 4 من قانون المرافعات المدنيّة من حيث إمكانيّة عرضها على مجلس الوزارة (مجلس الاستئناف) إلى أحكام ابتدائية بإدخال التي توصف غلطا بنهائية وأحكام لم توصف بتاتا وجميع هاته الأحكام قابلة للاستئناف،

وإلى أحكام تحضيريّة ونصّ الفصل 4 المذكور على أنّه هاته الأحكام لا يمكن استئنافها واستثنى منها الأحكام المتعلّقة بمرجع النظر لا غير ويظهر أنّ المشرّع التونسي تعمّد عدم ذكر الأحكام التمهيديّة واقتصر على ذكر اسم الجنس الذي يشمل جميع الأحكام الغير الباتّة على اختلاف أنواعها وهي الأحكام التحضيريّة وقرّر أنّها غير قابلة للاستئناف ويظهر من الواضح أنّ المشرّع الذي كان مشبعا بروح القانون الفرنسي أراد مخالفة هاته الجزئيّة وذلك بقصد التقليل من سوائل تطوير النّوازل وتعطيل سير القضاء ومادامت الأحكام التحضيريّة قابلة للطعن مع الأصل فلا يحصل منها أي ضرر لمن تصدر ضدّه إذ يمكنه استئناف الحكم الأصلي وإعادة المناقشة في الحكم التحضيري لدى مجلس الاستئناف وأنّ ما جرى عليه عمل بعض المحاكم لحدّ الآن من قبول استئناف الأحكام التمهيديّة كان منشؤه التأثّر بالإجراءات المتّبعة لدى المحاكم الفرنسيّة الوارد بها نصّ صريح لم ير المقّنن التونسي اقتباسه،

وقد أثبتت التجربة العمليّة أنّ فتح هذا الباب لا يترتّب عليه إلاّ تشويش سير القضايا المدنيّة ويتّجه نظرا لمصلحة الخصوم أنفسهم ولسرعة القضاء عدم الحياد عمّا هو مسطّر بالفصل 4 الآنف الذكر وذلك باعتبار أنّ جميع الأحكام التحضيريّة غير قابلة للاستئناف عدى ما يتعلّق منها بمرجع النظر أو بموضوع آخر نصّ عليه المشرّع كموضوع الفصل 125”.([49])

كما أكّدت محكمة التعقيب بأنّه : “لا يوجد في القانون التونسي تمييز في الأحكام التحضيريّة بين ما يقبل منها الاستئناف وبين ما لا يقبل حسب الطريقة التي اتّجه أخيرا إليها عمل المجلس، وأنّ الفصل 4 من قانون المرافعات المدنيّة صريح في عدم قبول الأحكام التحضيريّة للاستئناف فيما عدا ما يتعلّق منها بمرجع النظر أو عند تتبّع دعوى الزّور”.([50])

وفي هذا السّياق أقرّت([51]) بأنّ : “إرجاع النّازلة للحاكم المكلّف بها من طرف المجلس للبحث في نقط معيّنة عبارة عن الإذن بوسيلة بحث لإظهار الحقيقة ولا يستفاد منه وجه الفصل في القضيّة وحينئذ فهو غير قابل للطعن إلاّ مع الأصل بعد إتمام القضيّة بالحكم الباتّ“.

ثمّ وكأنّ محكمة التعقيب اتّخذت موقفا نهائيّا من هذه المسألة بقولها([52]) “الأحكام التحضيريّة غير قابلة للاستئناف إلاّ مع الأصل حسب الفقرة الثانية من الفصل 4 من قانون المرافعات المدنيّة إلاّ ما استثني بنصّ خاصّ ومن الأحكام التحضيريّة الإذن بإجراء اختبار الذي هو وسيلة تحقيق لا يؤثّر على مجرى القضيّة”.

كما أكّدت في العديد من المناسبات منها([53]) “بأنّ الأحكام التحضيريّة هي عبارة عن وسيلة بحث يمكن الاستغناء عنها إذا ظهر أنّ ما يقصد هو حاصل أو لا فائدة منه لفصل القضيّة وللمحكمة الحريّة المطلقة في تنفيذها أو الرّجوع فيها مع بيان ذلك ولا يوجد نصّ قانوني يوجب عليها تنفيذ الأحكام التحضيريّة وأنّ عدم التعرّض للعدول عن تنفيذ الحكم التحضيري بعد بيان الأسباب المؤدّية إلى ذلك في المستندات هو رفض ضمني للمطلب القاضي بوجوب تنفيذه”.

ومثله([54]) (الأحكام التحضيريّة لا تقيّد المحكمة ويمكنها الرّجوع فيها إذا وضحت لها الحقيقة وتبيّن لها وجه الفصل بوسائل أخرى لكن بشرط التعليل).

وتتشدّد محكمة التعقيب([55]) إذا ما تعلّق الأمر بالميدان الجزائي في صورة ما إذا وقع الرّجوع في الحكم التحضيري بدون تعليل وجاء بالمطعن الوحيد (حيث اتّضح أنّ الطاعن كان لاحظ بأنّ البنك لم يقم بإعلامه بخلوّ حسابه من الرّصيد كما اتّضح أنّ محكمة الحكم المنتقد قد قرّرت بناء على ذلك تأخير القضيّة لمكاتبة البنك في الموضوع… وتبيّن كذلك أنّ المحكمة قد أصدرت بعد ذلك حكمها في القضيّة بإدانة الطاعن دون أن تنتظر جواب البنك في الموضوع ودون أن تبيّن بحكمها ما دعاها إلى الرّجوع فيما كانت قرّرته وأصدرت في شأنه حكما تحضيريّا مع أنّ ما كانت قرّرته يتعلّق بشيء هامّ يمسّ بالنظام العام وبمصلحة المتّهم الشرعيّة ويتوقّف عليه الحكم بإدانة أو براءة الطاعن).

ولا يفوتنا أن نشير بأنّ الفقرة الثّالثة من الفصل 482 من م.ا.ع لم تشر إلى الأحكام التمهيديّة وإنّما تضمّنت الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة، ويبدو أنّ ذلك راجع إلى خطأ في التّرجمة إذ ورد بالفقرة المذكورة باللّغة الفرنسيّة Aux ordonnances et jugements interlocutoires ou préparatoires rendus au cours de l’instance.. وعوض ترجمة الأحكام التمهيديّة ترجمت الأحكام الوقتيّة.

وأنّ مجلّة المرافعات المدنيّة التونسيّة الصادرة سنة 1959 هي التي أشارت إلى الأحكام التمهيديّة وكأنّها تريد بذلك وضع حدّ للنزاع والجدل الذي كان قائما حول إمكانيّة استئنافها.

ولكن العدول عن التمييز بين الأحكام التحضيريّة والأحكام التمهيديّة لا يحول دون إصدار أحكام أثناء نشر الدّعوى قد تبتّ في جزء من أصل الحقّ المتنازع فيه وهذه الأحكام يطلق عليها بالأحكام المختلطة.

ج – الأحكام المختلطة :

لقد أشار المشرّع التونسي إلى هذا النّوع من الأحكام بالفقرة الثالثة من الفصل 482 من م.ا.ع المشار إليها آنفا.

إذ اعتبر بأنّه إذا تضمّنت الأحكام التحضيريّة شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها فهي تعتبر أحكاما بتّت في شقّ من أصل النّزاع مثلما أكّدت ذلك محكمة التعقيب في القرار الذي كنّا أشرنا إليه عدد 10652 الذي جاء فيه بأنّ “الأحكام التي تعتبر قانونا تمهيديّة والقابلة حينئذ للاستئناف هي الأحكام التي تفصل بصفة باتة في جزء من أصل الحقوق المتنازع عليها بحيث أنّها تقيّد الحاكم الذي أصدرها فيما قضى به ولا يمكن له الرّجوع في ذلك”.

كما لاحظت في قرار آخر([56]) “بأنّ الحكم التحضيري الصادر بتكليف خبير للبحث عن مداخيل الهالكين لا يشير من قريب ولا من بعيد إلى وجهة الفصل في ثبوت الإدانة من عدمها ولذا فلا تتقيّد به المحكمة…”.

ويمكن القول بأنّه إذا كان ذلك الحكم التحضيري يشير إلى وجهة نظر المحكمة في الفصل فهو يقيّدها بل وأنّ محكمة الاستئناف بتونس قد ذهبت إلى أبعد من ذلك معتبرة بأنّ الحكم يكون مختلطا حتّى ولو لم يقع البتّ في المسألة المتنازع فيها إلاّ بصفة ضمنيّة.([57])

وبمناسبة تربّصي بالمحكمة الابتدائية بتونس بالدائرة الخامسة أشير إلى القضيّة عدد 24198 الصادر فيها الحكم بتاريخ 31 جانفي 2003 أنّه بجلسة يوم 26 أكتوبر 2001 أصدرت المحكمة حكما تحضيريّا بعرض المدّعيتين المتضرّرتين على الفحص الطبّي لتقدير نسبة العجز النهائيّة الحاصلة لهما ورفض مطلب إدخال المكلّف العام.

فهذا الحكم التحضيري ألا يفهم منه أنّه بتّ في مسؤوليّة الحادث واعتبر أنّ المدّعيتين على حقّ في طلب التعويض إلاّ أنّ مبلغه سيكون بعد التقدير النهائي للعجز إثر الفحص الطبّي ؟

وبقطع النظر عن ذلك فإنّ الحكم برفض طلب إدخال المكلّف العام، ألا يعتبر حكما بتّ في فرع من الدعوى ؟

وعلى فرض أنّ ما استنتجناه صحيح فهل يجوز الطعن في ذلك الحكم استقلالا من طرف المكلّف العام أو من غيره ؟

ويبدو أنّ الجواب عن ذلك جاء صريحا في الفقرة الثالثة من الفصل 41 من م.م.م.ت الذي تضمّن بأنّه تختصّ المحاكم الاستئنافيّة بالنظر في “استئناف الأحكام المتعلّقة بمرجع النظر ولا يمكن استئناف الأحكام التي تصدر أثناء النشر تحضيريّة وتمهيديّة وكذلك الأحكام الصادرة بصحّة القيام أو الصادرة برفض التمسّك بمقتضيات الفصول 13 و14 و15 و18 إلاّ مع الحكم الصادر في الأصل”.

وهكذا وضع المشرّع التونسي حدّا للجدل الذي كان قائما في هذا المجال حول إمكانيّة استئناف الأحكام والتي يطلق عليها بالأحكام التمهيديّة أو الأحكام التحضيريّة أو المختلطة، واستثنت مجلّة المرافعات من الأحكام الصادرة في الموضوع الحكم الصادر في دفع شكلي إذ نصّ الفصل 149 على أنّه : “إذا كان الحكم المستأنف صادرا في شأن دفع شكلي ورأت محكمة الاستئناف عدم صحّة ذلك الحكم فلها أن تقتصر على نقضه وإرجاع القضيّة إلى محكمة الدرجة الأولى للنظر في الموضوع كما لها إن كان الموضوع قابلا للفصل أن تبتّ فيه”.

كما نصّ الفصل 209 من م.ا.ج المنقّح بالقانون عدد 43 لسنة 2000 المؤرّخ في 17 أفريل 2000 على أنّه “لا تقبل الاستئناف إلاّ الأحكام الصادرة ابتدائيا عن قاضي الناحية أو المحكمة الابتدائية في مادة مرجع النظر أو الأحكام الصادرة في الأصل في المادة الجناحية وكذلك الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية في الجنايات.

ولا يمكن استئناف ما عدا ذلك من الأحكام إلاّ مع الأحكام الصادرة في الأصل”.

ويبدو من هذه الفقرة الأخيرة من الفصل أنّ المقصود بـ”ما عدا ذلك من الأحكام” هي الأحكام التحضيريّة ومثلما أسلفنا فهذه الأحكام يمكن الرّجوع فيها من طرف المحكمة لأنّها لا تبتّ في شيء من أصل النّزاع، أمّا بالنّسبة للأحكام المختلطة أي التي بتّت في فرع من فروع الدعوى فيمكن تفرّدها عن الأحكام التحضيريّة من حيث كونها تتميّز عنها بكونها قطعيّة فيما تفصل فيه أي باتّة فيما فصلت فيه، وبهذه الصفة فهي في اعتقادي لا تنضوي ضمن الأحكام التحضيريّة لأنّ مثل هذه الأحكام قد تنهي الخصومة في بعض الأحيان أمام المحكمة المعروض عليها النّزاع، كالحكم بعدم الاختصاص.

ويبدو أنّه لذلك السبب ميّز المشرّع أو فرّق بالفصل 209 المذكور بين الأحكام الصادرة في مرجع النظر وبين الأحكام الصادرة في الأصل وكذلك الشأن بالنسبة للحكم ببطلان الإجراءات وفقا للفصل 199 من م.ا.ج. وإنّ نفس ما سبق ذكره ينطبق على الفصل 41 من م.م.م.ت السابق ذكره ونذكر على سبيل المثال الحكم ببطلان العريضة وفق الفصلين 70 و71 من م.م.م.ت.

فهي أحكام باتّة لأنّها تنهي تعهّد المحكمة ولو أنّها لم تنظر في الأصل بل تنظر فقط في مسألة شكليّة فلا تبتّ في أصل النّزاع بل تبتّ في جزء منه ولكن مع ذلك يمكن أن نصفها بالأحكام الباتّة لماذا ؟

الجواب : لأنّها تنهي تعهّد المحكمة في القضيّة فلا يمكنها بالتالي الرّجوع فيها ولأنّها قابلة للطعن بصفة مباشرة خلافا للأحكام التمهيديّة التي تبتّ في جزء من أصل الحقّ ولا تنهي تعهّد المحكمة فهي ولئن كانت أحكام باتّة فإنّه لا يمكن الطعن فيها استقلالا إلاّ بعد صدور الحكم في النّزاع.

ومن الأحكام الغير باتّة في أصل النّزاع هي الأحكام التي يطلق عليها بالأحكام الوقتيّة وهذا موضوع الفقرة الثانية من هذا المبحث.

الفقرة الثانية – الأحكام الوقتيّة

يمكن أن يكون الطابع الوقتي للحكم متأتّيا من الطبيعة الوقتيّة للحكم ذاته أو من الطبيعة الوقتيّة للإجراء المتّخذ.

وليس في نصوص القانون ضابط للتمييز بين الحكم الباتّ أو الحكم القطعي وبين الحكم الغير الباتّ بمعنى الحكم الوقتي وإنّما طبيعة الحكم الوقتي هي التي تمنحه صفته، فالضابط بينهما هو ضابط موضوعي عملي بحت، وبفحص ظروف الخصومة وطبيعة الطلبات يمكن التمييز بين القضاء القطعي والقضاء الوقتي.([58])

ولذا سنحاول في هذه الفقرة محاولة تحديد أو تعريف الحكم الوقتي (أ) ثمّ في مرحلة ثانية سرد بعض الأمثلة القضائيّة التطبيقيّة (ب).

أ – تعريف الحكم الوقتي :

بما أنّ القانون لم يعرف الحكم الوقتي، يرى الشرّاح بأنّه هو الحكم الذي يصدر في طلب وقتي ويكون الغرض منه اتّخاذ إجراء تحفّظي أو تحديد مركز الخصوم بالنسبة لموضوع النّزاع تحديدا مؤقّتا إلى أن يتمّ الفصل في الخصومة بحكم يصدر في موضوعها.

وتطلق الأوامر ordonnance على قرارات قاضي الأمور المستعجلة وقرارات رئيس المحكمة وقرارات القاضي المقرّر.

فحسب ما يقتضي الفصل 32 من مجلّة الأحوال الشخصية في فقراته الثانية والثالثة والرابعة “على الرئيس عند عدم الوصول إلى الصّلح أن يتّخذ ولو بدون طلب جميع الوسائل المتأكّدة الخاصّة بسكنى الزّوجين والنفقة والحضانة وزيارة المحضون إلاّ إذا اتّفق الطرفان صراحة على تركها كلاّ أو بعضا، ويقدّر الرئيس النفقة بناء على ما يجمع لديه من عناصر عند محاولة الصّلح، ويصدر في جميع الوسائل المتأكّدة قرار ينفّذ على المسودّة، ويكون هذا القرار غير قابل للاستئناف أو التعقيب، لكنّه قابل للمراجعة ما لم يصدر الحكم في الأصل”.

ويمكن في اعتقادي تأسيسا على ما ذكر اعتبار الأحكام الصادرة في الأصل عن قاضي الأطفال وفق ما نصّت على ذلك الفقرة الثانية من الفصل 103 من مجلّة حقوق الطفل، فهي وإن نصّ الفصل المذكور على أنّها أحكام صادرة في الأصل فهي من قبيل الأحكام الوقتيّة لأنّها أحكام مؤقّتة ومتغيّرة وقابلة للمراجعة في كلّ حين حفاظا على مصلحة الطفل، وحتّى في صورة الحكم بإيداع الطفل بأحد المراكز المختصّة، فإنّه يمكن إعادة النظر في ذلك الحكم بعد مضيّ ستّة أشهر من تاريخ الإيداع.

ومن مميّزات الأحكام الوقتيّة أنّها قابلة للمراجعة عند تغيّر الأسباب التي انبنت عليها.

ولقد تبنّى المشرّع الفرنسي هذا الحلّ في بعض الحالات صراحة إذ نصّ الفصل 1118 من مجلّة الإجراءات المدنيّة الجديدة بأنّه يمكن للقاضي أن يعدّل أو يكمّل الوسائل الوقتيّة التي كان اتّخذها عند تغيّر الأسباب :

« En cas de survenance d’un fait nouveau, le juge peut supprimer, modifier ou compléter les mesures qu’il a prescrits ».

ولا يمكن للقاضي أن يعدّل الأحكام الوقتّية أو يرجع فيها إلاّ إذا تغيّرت الظروف التي صدر فيها. فالنفقة مثلا تقدّر بقدر وسع المنفق، وحال المنفق عليه، وحال الوقت والأسعار وبالتالي فإنّ الحكم بالنفقة لا يمكن تعديله إلاّ إذا تغيّرت الظروف الاقتصادية التي صدر فيها الحكم.

ومن الأحكام الوقتيّة في المادّة الجزائيّة “هي الأحكام التي تقضي باتّخاذ أحد الإجراءات الوقتيّة، كالحكم بتخلية السبيل مؤقّتا أو اتّخاذ أي إجراء تحفّظي لحماية مصلحة أحد الخصوم، أو الحكم الصادر بحبس المتّهم احتياطيّا، وهذه إجراءات لا تمسّ موضوع النّزاع الذي تجرى المخاصمة عليه”.([59])

ب – أمثلة قضائية تطبيقيّة :

عادة ما يكون القاضي مدعوّا إلى اتّخاذ بعض الإجراءات الوقتيّة أثناء سير الخصومة حفاظا على الحقوق وضمانا لحسن سير الدعوى، ولعلّ من أبرز تلك الإجراءات أو تلك الوسائل ما عبّر عنه القانون التونسي بالوسائل المتأكّدة التي يتّخذها القاضي أثناء سير دعوى الطلاق.

وكذلك الشأن بالنسبة للحكم الاستعجالي فهو “حكم وقتي لأنّ هدفه هو اتّخاذ وسائل وقتيّة لحفظ الحقوق دون مساس بأصل النزاع”.([60])

فالأحكام الوقتيّة هي “أحكام الغرض منها اتّخاذ إجراء تحفّظي أو وقتي لحماية مصالح الأطراف حتّى يتمّ الفصل في موضوع النّزاع كتعيين حارس قضائي. فالحكم الصادر بالائتمان استعجاليّا إنّما هو من قبيل الأحكام الوقتيّة”.([61])

وقد أقرّت كذلك محكمة التعقيب بأنّ حكم النفقة يعتبر من الأحكام الوقتيّة وليس له طابع الأحكام القطعيّة وهي تستعمل في هذا القرار مصطلح الحكم الغير القطعي للدلالة على الحكم الغير البات أو الحكم الغير الفاصل في أصل النزاع : “يكتسي حكم النفقة طابع الأحكام الغير قطعيّة فهي تفصل لمدّة مؤقّتة في طلبات قائمة على ظروف متغيّرة فهي تحوز حجيّة مؤقّتة فإذا تغيّر مركز الخصوم أو تغيّرت الظروف القائم عليها الحكم الوقتي أمكن تعديله وفق الظروف الجديدة”.([62])

كما اعتبرت([63]) “بأنّ الفصل 40 من قانون المالية لعام 1976 يتعلّق بالبتّ في أصل الخصومة وليس بالوسائل الوقتيّة التي تتّخذ لحفظ الحقوق خشية تلاشيها وإنّ الحراسة القضائيّة المطلوب وضعها على محلاّت التداعي هي من هذا القبيل”.

ويرى الأستاذ روجي بيرو([64]) بأنّ “القانون يعتبر الحكم الاستعجالي بمثابة حكم بالانتظار، حكم مؤقّت يمكن دائما للقاضي المتعهّد بأصل النّزاع الرّجوع فيه”.

ويمكن القول بأنّه خلافا للأحكام الباتّة في النّزاع والتي لا يمكن للمحكمة الرّجوع فيها فإنّ الأحكام الاستعجاليّة بوصفها أحكام وقتيّة يمكن الرّجوع فيها من طرف القاضي الاستعجالي نفسه بين الخصوم أنفسهم عند تغيرّ الأسباب مادامت تلك الأحكام بطبيعتها أحكام وقتيّة تهدف لحفظ الحقوق بدون مساس بالأصل.([65])

وتختلف الأحكام الوقتيّة عن الأحكام الباتّة من حيث أنّها لا تنهي تعهّد المحكمة وهي قابلة للمراجعة من طرف نفس المحكمة التي أصدرتها كما تختلف عن الأحكام التحضيريّة من حيث كونها قابلة للطعن.

إلاّ أنّ محكمة التعقيب وإن اعتبرت الحكم بعدم سماع الدعوى الآن الذي كان معمولا به هو من قبيل الأحكام الوقتيّة([66]) إلاّ أنّها لم تجز الطعن فيه بالاستئناف : “أنّ الحكم بعدم سماع الدعوى الآن ليس بحكم بات حتّى يمكن استئنافه وقد أتى الفصل 4 من قانون الإجراءات المدنية بأنّ الأحكام التي تقبل الاستئناف إنّما هي الأحكام الباتّة والأحكام التي تتعلّق بمرجع النظر وللمدّعي إعادة القيام لدى محكمة الدرجة الأولى متى زالت الموانع السابقة فإذا قضت محكمة الاستئناف في الموضوع والحال أنّ محكمة الدرجة الأولى لم تنظر فيه تكون قد فوّتت على المتقاضين درجة من درجات الحكم واستحقّ حكمها النقض”.([67])

ويمكن لنا القول بأنّ الحكم الوقتي هو الحكم الصادر في طلبات قائمة على ظروف مؤقّتة ومتغيّرة، وترفع مثل هذه الدعاوى أمام القاضي الاستعجالي وقاضي النفقات وقاضي الأسرة على سبيل المثال.

هذه إجمالا الأحكام الوقتيّة ونكون بذلك قد أتممنا هذا المبحث الذي يخصّ الأحكام الغير الباتّة في النّزاع لنتطرّق للأحكام الباتّة في النّزاع وهي موضوع المبحث الثاني.

المبحث الثاني – الأحكام الباتّة في النّزاع

لم يعرّف المشرّع التونسي الحكم الباتّ في النّزاع أو الحكم الباتّ في أصل النّزاع بنصّ قانوني صريح، وسنحاول من خلال بحثنا التعرّف عليه بتمحيص بعض النّصوص القانونيّة استئناسا بما فعلته محكمة التعقيب خاصّة في قراراتها القديمة، علّنا نساهم بقدر في حلّ الإشكال القائم حول تحديد ومفهوم الحكم الباتّ وآثاره.

وعلاوة على عدم وجود تعريف للحكم الذي بتّ في النّزاع فليس في قانوننا التونسي مصطلحا لا لبس فيه يطلق على مثل هذا الحكم مثلما هو الشأن في القانون المقارن.

لذا أرى بأنّه يكون من المتّجه تحديد مصطلح الحكم الباتّ الذي بتّ في النّزاع في (فقرة أولى) ثمّ الحديث عن مفهوم الحكم البات في القانون التونسي والقانون المقارن في (فقرة ثانية) ثمّ سنتعرّض في (فقرة ثالثة) إلى تقسيم الأحكام من حيث قابليّتها للطعن.

الفقرة الأولى – تحديد مصطلح الحكم البات

جاء في نهج البلاغة للإمام علي من كتاب له عليه السلام إلى جرير بن عبد الله البحلي لمّا أرسله إلى معاوية (أمّا بعد، فإذا أَتَاكَ كِتَابِي فاحْمِل معاوية على الفَصْلِ، وَخُذْهُ بِالأَمْرِ الجَزْمِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ، أَوْ سِلَمٍ مُخْزِيَةٍ…) وتفسير كلمة الفصل هو الحكم القطعي، لذلك اتّفق فقهاء وتشريع الشرق العربي على إطلاق مصطلح الحكم القطعي الذي بتّ في أصل الموضوع ونخصّ بالذكر الفقيهين الأستاذين عبد الرزّاق السّنهوري([68]) وأحمد أبو الوفاء.([69]) وقد أخذ بذلك المصطلح أغلب الفقهاء، وقد تأثّر بذلك من كتب في هذا الموضوع من الحقوقيّين التونسيّين([70]) وقد استعملت هذا المصطلح بعض الأحكام التونسيّة التي أمكن العثور عليها.([71])

أمّا بالنسبة للقانون الفرنسي فقد استعمل عبارة définitif وقد ترجمها الأستاذ السّنهوري بالقطعي أو النهائي. فكلّ حكم بتّ في أصل النّزاع وفق ما وقع تحديده فهو حكم نهائي لا يمكن للمحكمة الرّجوع فيه مثلما يمكنها أن تفصل بالحكم التحضيري.

Tout jugement qui se prononce sur le fond du droit est un jugement définitif.

الفصل 480 من المجلّة الجديدة للإجراءات المدنيّة.

وفي التفسير القانوني لكلمة définitif هو ضدّ التحضيري

Par opp. à préparatoire, conclu, décidé, arrêté. Ex. accord définitif. V. préliminaire – par opp. à provisoire, qui est jugé au fond ; s’oppose ainsi à avant dire droit on a décidé en référé ou sur requête. ([72])

أي أنّه يفيد الحكم الذي بتّ في الأصل أي ضدّ الحكم التحضيري أو الاستعجالي…

وجاء في المنهل([73]) ما يلي : قطعي، باتّ، جازم. = définitif .

وجاء في معجم المصطلحات القانونيّة فرنسي عربي([74]) :

نهائي، قطعي، بات = définitif .

وجاء في المنجد في اللّغة والإعلام([75]) – بَتَّ : بتّ وأبتّ إبتاتا. هُ : قطعه، والأمر أمضاه. الباتّ هو القاطع يقال “بيع بات” أي لا خيار ولا عود فيه. يقال : “لا أفعله البتّة” أي لا أفعله مطلقا. ومعناه أنّي قطعت هذا القول قطعة واحدة لا رجعة فيها ولا تردّد.

لقد التجأت إلى هذا التفسير لأنّ القانون التونسي بمجلّة الإجراءات الجزائيّة في ترجمته الرّسميّة لكلمة “بات” استعمل نفس الكلمة التي استعملها المشرّع الفرنسي « définitif » سواء في مجلّة الإجراءات الجديدة أو في المجلّة القديمة، ولأنّه من جهة أخرى فإنّ محكمة التعقيب التونسيّة استعملت مصطلح “الحكم البات” بدل الحكم القطعي للدلالة على الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع وفق ما أقرّه المشرّع الفرنسي مثلما سنرى ثمّ إنّ القاعدة العامّة تقتضي بأنّ نصّ القانون لا يحتمل إلاّ المعنى الذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون.

علاوة على أنّ المشرّع التونسي استعمل مصطلحا آخر للدلالة على الحكم الباتّ في أصل الحقّ المتنازع في شأنه ألا وهو الحكم الذي “لا رجوع فيه” بالفصل 482 من م.ا.ع مثلما سنرى ذلك في الفقرة الثانية من هذا المبحث.

ولذلك سنحاول في هذه الفقرة تحديد مصطلح الحكم البات من خلال فقه قضاء محكمة التعقيب وذلك من حيث مفهوم الحكم المدني الباتّ في النّزاع (أ) ثمّ تحديد مفهوم الحكم الجزائي الذي بتّ في النّزاع (ب).

أ – من حيث مفهوم الحكم المدني الباتّ في النّزاع :

جاء في مبدأ القرار المدني الصادر عن محكمة التعقيب([76]) بأنّ : “الأحكام التي تعتبر قانونا تمهيديّة والقابلة حينئذ للاستئناف هي الأحكام التي تفصل بصفة باتّة في جزء من أصل الحقوق المتنازع عليها بحيث أنّها تقيّد الحاكم الذي أصدرها فيما قضى به ولا يمكن له الرّجوع في ذلك”.

إنّ ملخّص هذه القضيّة تفيد بأنّ المدّعي طلب كفّ شغب خصمه عمّا كان في تصرّفه وجوزه قبل عام 1953 متمسّكا في ذلك بقرينة الحوز القانوني، كما اتّضح من جواب المطلوب أنّه كان يعارض حوز المدّعي فقرّرت المحكمة إجراء بحث حوزي على العين بحكمها المؤرّخ في 18 أكتوبر 1954 وهذا الحكم هو الذي استأنفه الطاعن فقضت المحكمة برفضه لكون الأحكام التحضيريّة غير قابلة للاستئناف فطعن فيه المطلوب محاولا اعتباره حكما تمهيديّا قابلا للطعن.

وممّا جاء في قرار محكمة التعقيب ما يلي :

وحيث نصّ الفصل 4 من قانون المرافعات المدنيّة على أنواع الأحكام التي يمكن استئنافها وهي الأحكام الباتّة الابتدائية أو التي وصفت بالنهائية غلطا أو التي لم توصف لا بالصفة النهائية أو الابتدائية أو الأحكام المتعلّقة بمرجع النظر ونصّ بالخصوص على عدم استئناف الأحكام التحضيريّة.

وحيث أنّ هذا الفصل لم يتعرّض للأحكام التمهيديّة وكانت هذه التسمية مستمدّة ممّا جرى به عمل المحاكم من أنّ الأحكام التي تشير إلى وجه الفصل في الموضوع تعتبر تمهيديّة ويمكن استئنافها.

وحيث أنّ القاعدة التي ينبغي اعتمادها في هذا الصّدد هي معرفة ما إذا كان الحكم قد فصل بصورة باتّة في جزء من أصل الحقوق المتنازع فيها بحيث أنّه يقيّد المحكمة فيما حكمت فيه أوّلا حسبما يستفاد ذلك من الفقرة الثالثة من الفصل 482 من المجلّة المدنيّة الذي بيّن ما لا يعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها ونصّ بتلك الفقرة ثالثا : “الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها”.

وأضافت بأنّ : “الحكم بإجراء البحث الحوزي لا يتضمّن فصل شيء من أصل الحقوق المدّعى فيها وإنّما هو وسيلة لتحرير الحقيقة في القضيّة ولا يقيّد المحكمة التي أصدرته ولذلك فإنّ اعتباره حكما تحضيريّا ورفضت المحكمة الاستئناف شكلا لا تعتبر مخطئة قانونا”.

ب – من حيث مفهوم الحكم الجزائي الباتّ في النّزاع :

لقد جاء في مبدأ القرار الجزائي([77]) أنّ “الأحكام الصادرة بشرح أو إصلاح الحكم الباتّ في أصل الدعوى هي من قبيل الأحكام الباتّة الصادرة في جوهر الموضوع بدليل أنّها هي التي تكون قابلة للتنفيذ على المحكوم عليه وتبعا لذلك تكون خاضعة لطرق الطعن وإجراءاته وقواعده القانونية”.

وجاء فيه عن المطعن الأوّل المأخوذ من خرق الفصل 147 من القانون القديم للمرافعات الجنائية المنطبق على إجراءات القضيّة.([78])

“وحيث اقتضى هذا النصّ “أنّ الاستئناف لا يقبل إلاّ في الأحكام الصادرة ابتدائيا من المحاكم الابتدائية بصفة باتّة في أصل النازلة…”.

وحيث أنّ الأحكام الصادرة بشرح أو إصلاح الحكم الباتّ في أصل الدعوى هي من قبيل الأحكام الباتّة الصادرة في جوهر الموضوع”.

ولكن لا يذهب في الاعتقاد بأنّ استعمال محكمة التعقيب لمصطلح الحكم الباتّ للدلالة على الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع (والذي يطلقون عليه الفقهاء بالحكم القطعي) كان مقتصرا على مجلّتي المرافعات القديمتين سواء المدنيّة أو الجزائيّة، فبعد القانون عدد 130 لسنة 1959 المؤرّخ في 2 ربيع الثاني 1379 الموافق لـ 5 أكتوبر 1959 المتعلّق بإدراج مجلّة المرافعات المدنية والتجارية، استعملت كذلك ذلك المصطلح، وعلى سبيل المثال نشير إلى قرار تعقيبي مدني([79]) جاء في مبدئه ما يلي : “الحكم بالطرح مثله مثل سائر الأحكام الباتّة يكون قابلا للاستئناف إذا كان موضوع الدعوى ممّا يحكم فيه ابتدائيا وبذلك فإنّ الحكم بقبول الاستئناف ضدّ حكم بالطرح يكون في طرقه ويكون فيه الطعن مرفوضا”.

وقد تعقّب الطاعن الحكم الاستئنافي القاضي بنقض حكم الطرح وإلزامه بالأداء ناعيا عليه خرق الفصلين 123 و147 من م.م.م.ت.

كما أقرّت([80]) “بأنّ المحكمة تستنفذ سلطتها في النّزاع المطروح لديها بمجرّد الفصل فيه بصفة باتّة ولا يجوز لها إعادة النّظر“.

وقد جاء في مستند هذا القرار ما يلي : “حيث أنّه من المبادئ المتّفق عليها أنّ المحكمة تستنفذ سلطتها في النّزاع المرفوع لديها بمجرّد الفصل فيه بصفة باتّة، وتأسيسا على ذلك فإنّ الأحكام التي تصدر عنها في هذا الصدد سواء بقبول الدعوى أو رفضها بسبب عدم الاختصاص تعتبر من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها“.

هذا علاوة على أنّ القرار الأوّل في الذكر عدد 6724 استند في تحديده لمفهوم الحكم الباتّ على أحكام الفصل 482 الفقرة الثالثة منه وهذا الفصل من م.ا.ع كان ولازال ساري المفعول إلى يومنا هذا وسيقع التعرّض إليه فيما بعد.

فالحكم الباتّ إذا وفق ما أقرّته محكمة التعقيب هو الحكم الذي تستنفذ به المحكمة سلطتها في النّزاع بالفصل فيه بصفة باتّة لا رجوع فيه وهو المصطلح المستعمل من طرف المشرّع التونسي بالفصلين 481 و482 من م.ا.ع.

وهكذا نصل إلى تحديد مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي والقانون المقارن موضوع الفقرة الثانية من هذا المبحث الثاني.

الفقرة الثانية – مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي والقانون المقارن

سنحاول في هذه الفقرة تحديد مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي (أ) ثمّ في القانون المقارن (ب).

أ – مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي :

هل يمكن القول بأنّ المشرّع التونسي لم يعرّف صراحة الحكم الباتّ أو الحكم القطعي ؟

إن كان ذلك صحيحا فإنّ محكمة التعقيب بصفتها محكمة قانون اهتدت إلى تعريف الحكم الباتّ استنادا على نصّ قانوني ألا وهو الفصل 482 من م.ا.ع الذي جاء فيه بأنّ “الأحكام الآتي بيانها لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها وهي : ثالثا – الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها”.

فيبدو أنّ هذا النصّ القانوني واضح وصريح وفقما اهتدت إليه محكمة التعقيب في أنّ الحكم الذي بتّ في أصل الحقوق المتنازع فيها يعتبر حكما “لا رجوع فيه”. يعني الحكم الذي بتّ في النّزاع واستنفذت به المحكمة سلطتها فلا يمكنها بالتّالي الرّجوع فيه خلافا للأوامر والأحكام التحضيريّة التي يمكنها الرّجوع فيها.

ولكن المشكل أنّ جانبا من فقه القضاء وخلافا لما كنّا رأيناه أوّل معنى الحكم الذي “لا رجوع فيه” تأويلا مغايرا خصوصا عندما يتعلّق الأمر مثلما سنرى بالحجيّة أو باتّصال القضاء وفهم تارّة معنى “الحكم الذي لا رجوع فيه” هو الحكم النهائي والذي لا يمكن الطعن فيه بطرق الطعن العاديّة وتارّة أخرى تمّ تأويله بمعنى الحكم الباتّ الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن عاديّة كانت أم غير عاديّة.

ونتيجة لذلك أصبح مفهوم الحكم الباتّ له معاني مختلفة، وعلى سبيل المثال ما جاء بالقرار التعقيبي المدني([81]) ما يلي : “حكم التبتيت هو حكم باتّ لا يمكن الطعن فيه بأيّ وجه من الوجوه ولو بالتعقيب”.

وما جاء بقرار آخر([82]) ما يلي : “من المسلّم به فقها وقضاءا وأنّ ما أناطه القانون من النفوذ للأحكام لا يتوفّر إلاّ في الأحكام النهائيّة التي أصبحت لا رجوع فيها…”.

ولا يخفي أنّ مجلّة الالتزامات والعقود صدرت بالأمر المؤرّخ في 15 ديسمبر 1906 أي في عهد الحماية الفرنسية فلم تكن بعض المصطلحات واضحة ومتّفقة مع ما أجمع عليه الفقهاء في البلدان العربيّة الأخرى. وأنّ استعمال المشرّع لعبارة الحكم الذي “لا رجوع فيه” بالفصلين 481 و482 من المجلّة كان سببا في تأويلات مختلفة، ويبدو أنّ تلك العبارة هي ترجمة لمصطلح définitif الذي يستعمله المشرّع الفرنسي في تحديده لمفهوم الحكم الذي بتّ في أصل النزاع، وهو مرادف كذلك للحكم “النهائي” بمعنى الحكم الذي أنهى تعهّد المحكمة بالنّزاع المعروض عليها فلا يمكنّها بالتّالي الرّجوع فيه.

وما يعاضد هذا التأويل هو أنّ الترجمة الرسميّة لعبارة الحكم الذي لا رجوع فيه هو autorité de la chose jugée أي حجيّة الأمر المقضيّ. ولم يستعمل المشرّع عبارة force أي قوّة الأمر المقضي مثلما سنرى في حديثنا عن الحجيّة.

وفي هذا الخصوص أقرّت محكمة التعقيب([83]) بأنّ : “الاستئناف له تأثير على الماضي في مسألة الأحكام الباتّة التي تقضي في الأصل وفي هذه الصورة يجب على حاكم الدرجة الثانية أن يقضي في أصل النّزاع كما لو كان حاكما من الدرجة الأولى وله أن يفعل ما كان على الحاكم الأوّل فعله”.

ويمكننا القول بأنّ الحكم الباتّ هو الحكم الذي بتّ في المسألة القانونيّة المعروضة على المحكمة سواء في جوهر الموضوع أو من الناحية الإجرائيّة الشكليّة.

ومن هذا المنطلق فالأحكام الصادرة بشرح أو إصلاح الحكم الباتّ في أصل الدعوى وأحكام الطرح هل تعتبر أحكاما باتّة في جوهر الموضوع ؟

لقد أجابت محكمة التعقيب([84]) بقولها : “وحيث أنّ الأحكام الصادرة بشرح أو إصلاح الحكم الباتّ في أصل الدعوى هي من قبيل الأحكام الباتّة الصادرة في جوهر الموضوع بدليل أنّها هي التي تكون قابلة للتنفيذ على المحكوم عليه وتبعا لذلك تكون خاضعة لطرق الطعن وإجراءاته وقواعده القانونيّة”.

“ولأنّ أحكام الطرح التي تصدرها المحاكم الابتدائية تعتبر حاسمة للنزاع وبذلك فهي قابلة للطعن بالاستئناف”.([85])

وفي هذا الصدد أقرّت محكمة التعقيب([86]) بأنّه “بمقتضى قواعد الإجراءات العامّة أن يحسم الحكم النّزاع بصفة باتّة وأنّ المجلس لا يمكن له أن يكلّف خبراء لحسم فصل من فصول الدعوى من غير أن يبقى له حقّ مراقبة أعمال الخبراء وذلك كالحكم بإبقاء حوز قطعة أرض بيد الطرفين بعد أن يتسلّم المدّعى عليه ما صرفه من المال حسبما يراه أهل الخبرة وأنّ المجلس لمّا فوّض الأمر عند الحكم في القضيّة إلى المنفذ فيما يخصّ قيمة المصاريف قد خرق القاعدة المذكورة…”.

كما أقرّت([87]) بأنّ “محكمة الموضوع ملزمة بأن تبتّ في الخصومة المعروضة عليها بحكم حاسم للنزاع يضع حدّا له إيجابا أو سلبا وتأسيسا على ذلك فإنّ القضاء بإرجاء النظر في بعض فروع النّزاع يكون مخالفا للقاعدة المقرّرة آنفا”.

وفي قرار آخر([88]) اعتبرت كذلك بأنّ “الحكم بالطرح مثله مثل سائر الأحكام الباتّة في الأصل يكون قابلا للاستئناف وأنّ عموم الفقرة الأولى من الفصل 41 من م.م.م.ت وعدم التنصيص على أحكام الطرح بالفقرة الأخيرة منه الواردة ببيان الأحكام غير القابلة للاستئناف إلاّ مع الأصل وعدم تنصيص الفصلين 75 و77 منها الواردين بصور الطرح على عدم قابليّتها للاستئناف يستخلص من مجموع ذلك قابليّة أحكام الطرح للاستئناف”.

وفي قرار([89]) آخر رأت “بأنّ حكم الطرح وإن لم يقض في الأصل غير أنّه لا يخرج عن نطاق الحكم وهو لذلك قابل للطعن وهو لا يمنع من إعادة القيام بالدعوى من جديد”. وكأنّها أرادت أن تقول بأنّ حكم الطرح وإن لم يقض في الأصل فقد أنهى تعهّد المحكمة وليس له حجيّة الأمر المقضى. ونحن نعلم أنّه من آثار الحكم البات أو القطعي هو استنفاذ ولاية المحكمة وحجيّة الأمر المقضي مثلما سنرى في الجزاء الثاني من هذه الرسالة.

ويستخلص ممّا سبق بأنّ المشرّع التونسي بالفصل 482 من م.ا.ج. حدّد إجمالا مفهوم الحكم الباتّ ولم يتوسّع في بيان أنواعه وهذا طبيعي لأنّ الفصل المذكور في تعريفه للحكم الباتّ في النّزاع يقصد من ورائه حجّية الحكم autorité du jugement لأنّه جاء تحت باب القرائن القانونيّة، وقد رأينا أنّ المشرّع التونسي يعتبر الحكم قرينة قانونيّة وكذلك الشأن فيما يتعلّق بحجيّته.

إضافة وأنّ تحديد أنواع ومفهوم الحكم الباتّ هو من مشمولات القانون الإجرائي ولذا وجب الرّجوع إلى مجلّة المرافعات المدنيّة والتجاريّة علّنا نجد فيها تحديد الأنواع والأحكام الباتّة في النّزاع. وقد اهتدينا إلى الفصل 41 منها([90]) الذي تضمّن ما يلي : “تختصّ المحاكم الاستئنافيّة بالنظر فيما يلي : … ثالثا : في استئناف الأحكام المتعلّقة بمرجع النظر والأحكام الصادرة بصحّة القيام أو الصادرة برفض التمسّك بمقتضيات الفصل 13 و14 و15 و18 إلاّ مع الحكم لصادر في الأصل”.

ولا يخفى أنّ الرّجوع إلى مرجع نظر المحاكم الاستئنافيّة هام لمعرفة ماهيّة وأنواع الأحكام الباتّة التي تنهي تعهّد المحكمة ويمكن الطعن فيها.

هذا ما أمكن لنا استنتاجه من مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي. ولنرى الآن هل أنّ ذلك يتّفق مع ما أجمع عليه الفقهاء ؟ يبدو أنّ الجواب سيكون بالإيجاب مثلما سنرى عن تحديد ذلك المفهوم في القانون المقارن.

ب – مفهوم الحكم الباتّ في القانون المقارن

جاء في الوسيط([91]) الحكم القطعي أو الحكم النهائي jugement définitif هو الحكم الصادر في الموضوع بالبتّ فيه ولو كان حكما ابتدائيا غيابيا قابلا للطعن فيه بالمعارضة وبالاستئناف.

والحكم القطعي définitif هو الحكم الذي يحسم النّزاع في موضوع الدعوى أو في شقّ منه أو في مسألة متفرّعة عنه سواء تعلّقت هذه المسألة بالقانون أو بالوقائع([92]).

ومثاله الحكم الصادر باختصاص المحكمة أو بعدم قبول الدعوى أو الحكم بسقوط الخصومة.

فالحكم القطعي أو الحكم البات هو الذي يضع حدّا لنزاع في جملته أو في جزء منه أو في مسألة متفرّعة عنه بفصل حاسم لا رجوع فيه من المحكمة المصدرة له ولو كان باطلا أو مؤسّسا على إجراءات مختلّة وتعتبر أحكاما باتّة الأحكام الفاصلة في موضوع الدعوى وبعض الأحكام الإجرائيّة مثل الأحكام الصادرة في اختصاص المحكمة، وطالما حسمت المحكمة النّزاع في المسألة المعروضة عليها

فإنّ سلطتها بشأنها تنقضي ولا تبقي لها أيّة ولاية في إعادة البحث أو تعديل ما قضى به ولو باتّفاق الخصوم.

ويقول الأستاذ محمد حامد فهمي في كتابه المرافعات (فقرة 614) : “الحكم القطعي هو الذي يفصل في جملة النزاع أو في جزء منه أو في مسألة متفرّعة عنه فصلا حاسما لا رجوع فيه([93]) من جانب المحكمة التي أصدرته، كالحكم للمدّعي بطلباته أو الحكم عليه برفضها، والحكم في الدفع بعدم الاختصاص أو الدفع بانقضاء الحقّ بالتقادم أو بسقوط الدعوى أو بعدم جواز الإثبات بالبيّنة والحكم في طلب ردّ القضاة أو طلب دخول خصم ثالث أو طلب وقف الدعوى انتظارا للفصل في كلّ من هذه الأحكام يجسّم النّزاع في موضوع الدعوى أو في بعض منه، أو يقطع – في مسألة فرعيّة – نزاعا يعتبر في هذا الصّدد مستقلاّ وقائما بذاته”.

وفي قرار لمحكمة التمييز الأردنيّة عدد 1911/2000 بتاريخ 3 نوفمبر 2000([94]) ما يلي : (أحكام : غير منهية للخصومة، طعن، عدم جواز).

المبدأ القانوني : “بما أنّ المستقرّ عليه قضاء وفي ضوء أحكام المادة 170 من قانون الأصول المدنيّة، أنّ القرارات الإعداديّة التي ليس من شأنها إنهاء النّزاع أو رفع يد المحكمة عن الدعوى لا تقبل الطعن استئنافا إلاّ مع الحكم النهائي المنهي للنزاع، فإنّ ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف من ردّ الاستئناف شكلا يتّفق وأحكام القانون”.

وقد كانت محكمة التعقيب مثلما رأينا تفسّر الحكم الباتّ الذي لا رجوع فيه بالحكم الباتّ في الأصل بصورة لا لبس فيها ونعتذر عن إعادة إحدى قراراتها لأنّ في الإعادة إفادة (اقتضت أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 482 من القانون المدني أنّ الأحكام التحضيريّة لا تعتبر من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها. وعلى هذا الأساس يسوغ لمحكمة الموضوع العدول عن تنفيذها أو الاكتفاء بتنفيذها جزئيا…).

والملاحظ أنّ هذا القرار يتّفق مع القرار الأدرني السّابق الذكر.

أمّا بالنسبة للفقه الفرنسي ([95]) يكون الحكم باتا un jugement est définitif لمّا يحسم النّزاع المعروض على المحكمة بصورة تجعلها تستنفذ ولايتها من كلّ سلطة قضائيّة تتعلّق بذلك النّزاع.

والحكم الباتّ définitif يمكن أن يصدر في أصل النّزاع لما تحسمه المحكمة وفق ما حدّد من أطراف القضيّة لذلك يمكن تسميته بالحكم في الأصل jugement sur le fond.

كما يمكن أن يصدر الحكم ببطلان عمل إجرائي أو بعدم الاختصاص وهذا الحكم هو أيضا حكم باتّ jugement définitif لأنّه في هذه الصّورة أيضا تستنفذ المحكمة ولايتها، وفي كلتا الحالتين طالما أنّ المسألة المتنازع بشأنها سواء أكانت تهمّ الأصل أم تتعلّق بفرع من الدعوى تمّ البتّ فيها فإنّ الحكم يكون باتّا في المسألة التي حسمت فيها المحكمة. وهذا لا يعني أنّ الحكم لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن irrévocable، لمّا يصدر الحكم الباتّ يمكن الطعن فيه ويحوز قوّة الأمر المقضي لمّا لم يعد قابلا للطعن فيه بأوجه الطعن العادية ويصبح باتّا بمعنى irrévocable لمّا لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن عاديّة وغير عاديّة.

وفي هذا المعنى نصّ الفصل 480 من م.م.م.الفرنسيّة الجديدة على أنّ الحكم القطعي أو الحكم الباتّ le jugement définitif هو الذي يفصل كامل النّزاع المعروض على المحكمة أو بعضه مثل مسألة الاختصاص بالنظر وحتّى بالنسبة للأحكام التي تبتّ في صحّة أو بطلان عملا إجرائيا. (الفصل 544، الفقرة الثانية) من نفس المجلّة.

ويتّجه قبل درسنا في (الجزء الثاني) لآثار الأحكام الباتّة في النّزاع والتي من أهمّها حجيّة الأمر المقضي مثلما سنرى، أن نتعرّض في (فقرة ثالثة) إلى تقسيم الأحكام من حيث قابليّتها للطعن أو للتنفيذ حتّى يتجلّى لنا الفرق بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ.

الفقرة الثالثة – تقسيم الأحكام من حيث قابليّتها للطعن

تنقسم الأحكام من حيث قابليّتها للطعن فيها إلى أحكام ابتدائية، وانتهائيّة، وحائزة لقوّة الشيء المحكوم به، وباتّة.

ومن حيث صدورها في مواجهة المحكوم عليه أو في غيبته إلى حضوريّة وغيابيّة.

ومن حيث صدورها في مسألة موضوعيّة، أو مسألة فرعيّة، إلى أحكام في الموضوع وأحكام قبل الفصل في الموضوع وأحكام بعد الفصل في الموضوع.

– ومن حيث الحجيّة المترتّبة عليها إلى قطعيّة وغير قطعيّة ووقتيّة.

– ومن حيث قابليّتها للطعن المباشر إلى أحكام يجوز الطعن فيها فور صدورها، وأحكم لا يجوز الطعن فيها إلاّ مع الطعن في الحكم في الموضوع.

1) أحكام ابتدائية en premier ressort : وهي الأحكام التي تصدر من محكمة الدرجة الأولى وتقبل الطعن فيها بالاستئناف.

وهي أحكام غير قابلة للتنفيذ إلاّ إذا صدرت مشمولة بالنفاذ العاجل أو بالتنفيذ الوقتي.

وهي قابلة للاستئناف إمّا فور صدورها أو بعد الإعلام بها طبق القانون إذا كانت أحكام مدنيّة.

أمّا إذا كانت أحكاما جزائيّة فيختلف أجل الطعن فيها حسب وصف الحكم المستمدّ من القانون.

فإذا كان الحكم حضوريّا فيمكن الطعن فيه فور صدوره. وإن كان حضوريّا بالاعتبار فالطعن فيه بعد الإعلام به أو قبل ذلك إن حصل العلم للمحكوم عليه.

أمّا إذا كان الحكم غيابيّا فالطعن يكون بالاعتراض عليه، وآجال الاعتراض حدّدها القانون، وهي مبدئيّا عشرة أيّام من تاريخ إعلام المتّهم شخصيّا بالحكم.

وإذا لم يتبيّن من أعمال التنفيذ أنّه حصل له العلم فأجل الاعتراض يبقى مفتوحا إلى انقضاء سقوط العقاب الذي قد يصل إلى عشرين سنة في الجنايات.([96])

وإنّ الغلط في وصف الحكم في الميدان الجزائي قد يترتّب عليه حرمان المحكوم عليه من مباشرة حقّه في الاعتراض التي هي وسيلة اعتياديّة من وسائل الطعن. ولذلك فقد أقرّت محكمة التعقيب([97]) : “بأنّ وصف الحكم الاستئنافي الذي لم يحضر فيه المتّهم ولم يبلغ الاستدعاء لشخصه بحكم حضوري اعتباري فيه خرق لأحكام الفصل 175 من م.ا.ج يوجب النقض لمساسه بالنظام العام”.

2) أحكام انتهائيّة : en dernier ressort

وهي الأحكام التي لا تقبل الطعن فيها بالاستئناف سواء أكانت صادرة من محكمة الدرجة الأولى باعتبارها محكمة استئناف للمحاكم الموجودة بدائرتها الترابيّة أو صادرة من محكمة الدرجة الثانية.

ويعتبر الحكم انتهائيا مادام الطعن فيه بالاستئناف غير جائز ولو كان غيابيا قابلا للطعن فيه بالاعتراض.

وقد استعمل مشرّع الالتزامات والعقود مصطلح الحكم الانتهائي بالفصل 394 الذي جاء فيه بأنّه : “لا محلّ لسقوط الدعوى بمرور الزّمن في الحقوق الناشئة عن حكم انتهائي”.

La prescription n’a pas lieu à l’égard des droits résultant d’un jugement passé en force de chose jugée.

وربّما يقصد المشرّع النوع الآتي من الأحكام وهي الحائزة لقوّة الشيء المحكوم به.

3) أحكام حائزة لقوّة الشيء المحكوم به passé en force de la chose jugée

وهي الأحكام التي لا تقبل الطعن فيها بطرق الطعن العاديّة، وهي الاعتراض والاستئناف، ولو كان الحكم قابلا للطعن فيه بطرق الطعن غير العاديّة، وهي التماس إعادة النظر والطعن بالتعقيب بل ولو طعن فيها بالفعل بأحد هذين الطريقين.

كما يطلق الفقهاء على هذه الأحكام بالأحكام النهائيّة “وهي الأحكام التي تصدر من محاكم الدرجة الثانية والتي لا تقبل الطعن بالطرق العادية (المعارضة والاستئناف)، كالأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف ومحكمة الجنايات الكبرى، إلاّ أنّها قابلة للطعن أمام محكمة التمييز خلال المدّة المحدّدة للطعن.

وكذلك الأحكام الصادرة من محكمة الدرجة الأولى والتي أصبحت غير قابلة للطعن بالاستئناف نتيجة لفوات ميعاد الطعن وعدم استعماله، ومتى كان الحكم غير جائز استئنافه فإنّه يصبح نهائيا كالحكم الصادر غيابيا من محكمة الدرجة الثانية أو الحكم الصادر من محكمة الدرجة الأولى في غيبة المحكوم عليه متى كان لا يقبل الطعن بالاستئناف. إلاّ أنّ الأحكام الغيابيّة تقبل الطعن بالمعارضة، وإنّ قبول الحكم بالطعن بالمعارضة لا ينفي عنه صفة الحكم النهائي.([98])

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([99]) “بأنّ القاعدة العامّة تقتضي أنّ الأحكام النهائية لها صفة ما اتّصل به القضاء ولو في صورة ما إذا وقع القيام بالتعقيب في شأنها ما دامت دائرة التمييز لم تقرّر إبطال العمل بها وللمجلس الحقّ في الاستناد إليها”.

بينما القانون اللّبناني يطلق على هذا النوع من الأحكام التي تكتسب الصفة القطعيّة.

إذ جاء في قرار محكمة التمييز([100]) ما يلي : “يكتسب الحكم الصفة القطعيّة عندما لا يكون قابلا للطعن بطرق الطعن العاديّة”.

كما أنّ الأحكام التي استنفذ في شأنها طريق الطعن بالتمييز لا يمكن إلغاؤها، لأنّها أحكام غير قابلة للطعن لفوات الميعاد وتسمّى بالأحكام المبرمة أو الباتّة”.([101])

وهذه الأحكام هي التي عناها الفصل 286 من م.م.م.ت الذي نصّ على أنّه “تنفّذ بعد التحلية بالصيغة التنفيذية.

1) الأحكام التي أحرزت على قوّة اتّصال القضاء وهي التي لم تكن أو لم تعد قابلة للطعن بإحدى الوسائل المعطّلة للتنفيذ”.

إلاّ أنّ المشرّع بمجلّة الإجراءات الجزائية لم يستعمل تلك العبارة التي استعملها بمجلّة المرافعات المدنية إذ نصّ بالفصل 338 من م.ا.ج على أنّه “ينفّذ الحكم إذا أصبح باتا”.

وهكذا جاء مصطلح “الحكم البات” للدلالة على الحكم القابل للتنفيذ ! بعد أن كنّا رأينا أنّه يدلّ عن الحكم البات في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة.

وفي تعرّضه لسقوط العقوبات بالفصل 349 من م.ا.ج نصّ المشرّع على أنّه “ويجري أجل السقوط من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتا…”.

وفي تعليق الأستاذ جان دوبلا([102]) عن الفصل 176 من المجلّة القديمة الذي جاء تحت الباب السادس تحت عنوان في التنفيذ وفي سقوط العقوبات.

لاحظ بأنّه “إذا كانت المحاكمة حضوريّة أو معتبرة حضوريّة يبتدئ الأجل سيره من التاريخ الذي أصبح فيه الحكم باتا أي من تاريخ اكتسابه قوّة ما اتّصل به القضاء.

وإذا كانت المحاكمة ابتدائيّة لا تعدّ باتّة أثناء أجل الاستئناف وفي مدّة النشر لدى الدائرة الاستئنافية بل إنّ مدّة السقوط لا يبتدئ سيرها إلاّ من التاريخ الذي أصبح الحكم فيه محرزا على قوّة ما اتّصل به القضاء.

وإذا كانت المحاكمة نهائيّة يجري أجل السقوط من يوم التصريح بالحكم الحضوري وطلب النقض ونشر النازلة لدى دائرة النقض لا يوقفان التنفيذ على مقتضى القانون التونسي.

إلاّ إذا كان الحكم بالإعدام والمحاكمة في هذه الصورة ليست باتّة ما لم ينقض أجل القيام بطلب النقض”.

ولا خلاف في أنّ هذا النوع من الأحكام التي لا تقبل الطعن فيها بطرق الطعن العادية هي الأحكام الحائزة لقوّة الشيء المحكوم به وفق ما اهتدى إلى ذلك الأستاذ دوبلا إلاّ أنّه بالرجوع إلى النص المذكور نجده لم يستعمل عبارة الأحكام الحائزة لقوّة الشيء المحكوم به وفق ما استعملها مشرّع المرافعات المدنيّة وإنّما استعمال مصطلح irrévocable.

Le délai de prescription court de la date à laquelle la condamnation est devenue irrévocable.

في حين أنّ هذا المصطلح يدلّ على نوع آخر من الأحكام مثلما سنرى :

4) ويطلق عليها الفقهاء بالأحكام “الباتة” irrévocable. وهي الأحكام التي لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن العادية وغير العادية.

ويستعمل الفقهاء في مصر خاصّة مصطلح “الحكم البات” للدلالة على الحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن العادية أو غير العادية. بينما يطلق عليه القانون اللبناني بالحكم النهائي المبرم.

أمّا المشرّع التونسي لمجلّة الإجراءات الجزائية الجديدة لسنة 1968 فقد استعمل الحكم البات للدلالة على معاني مختلفة ومنها بالخصوص للدلالة على الحكم الذي أحرز على قوّة الأمر المقضي أي للدلالة على قابليّته للتنفيذ. إذ نصّ الفصل 338 من م.ا.ج على أنّه “ينفّذ الحكم إذا أصبح باتا”.

كما يبدو أنّه استعمله للدلالة على الحكم البات بمفهوم الفقه المصري أي irrévocable.

ومن ذلك لنأخذ المثال الذي ضربه الأستاذ دوبلا([103]) في سياق حديثه عن سقوط العقوبة إذ يقول : “إلاّ إذا كان الحكم بالإعدام والمحاكمة في هذه الصورة ليست باتة ما لم ينقض أجل القيام بطلب النقض”. وهو ما يتوافق مع الفصل 342 من م.ا.ج الجديدة الذي ينصّ على أنّه : “إذا صدر حكم بالإعدام فإنّ الوكيل العام للجمهوريّة يعلم به بمجرّد صيرورته باتا كاتب الدولة للعدل الذي يعرضه على رئيس الجمهورية لممارسة حقّه في العفو ولا يمكن تنفيذ الحكم إلاّ إذا لم يمنح العفو”.

فمصطلح الحكم البات الوارد بهذا النصّ يفيد الحكم الذي لم يعد قابلا للطعن فيه بالطرق العاديّة والغير العاديّة.

والتفرقة بين الأحكام التي أحرزت على قوّة الشيء المحكوم فيه والذي يطلق عليها بالأحكام النهائية وبين “الحكم البات” بمعنى الحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن هي كما أوردها بعض الفقهاء([104]) كما يلي :

“إنّ الأحكام النهائية لا تأخذ قوّة الشيء المحكوم فيه أو قوّة القضيّة المقضية، ما لم تستنفذ طرق الطعن المقرّرة بالقانون، أو فوات مواعيد الطعن وعدم استعمالها، أمّا الأحكام الباتّة فهي التي تأخذ قوّة الشيء المحكوم فيه لأنّها تكون غير قابلة للطعن، وأهميّة التفرقة تبدو فيما يلي :

1 – الأحكام الباتّة هي الأحكام التي تعتبر سابقة في العود.

2 – لا تنقضي الدعوى العامة إلاّ بصدور الحكم النهائي البات.

3 – الحكم النهائي البات هو الذي يكتسب الحجيّة أمام المحاكم الجزائية والمدنية على السواء.

4 – قوّة القضيّة المقضية لا تلحق إلاّ بالأحكام الباتّة.

5 – حكم الإعدام لا ينفّذ إلاّ بالحكم البات.

وتجدر الملاحظة بأنّ ما جاء بالمرجع السابق الذكر من أنّ الحكم النهائي البات هو الذي يكتسب الحجيّة أمام المحاكم الجزائية والمدنيّة على السواء، يقصد به الحكم الذي استنفذ جميع طرق الطعن وأصبح له حجيّته على كافة المحاكم أو ما عبّر عنه الفقهاء بحجيّة الحكم الجنائي على الجنائي وبحجيّة الجنائي على المدني.

وهو الحكم الذي عناه الفصل 4 من م.ا.ج الذي نصّ على انقضاء الدعوى العامة باتّصال القضاء.

وفي اعتقادي فهذا النوع من الحكم ليس هو الذي يعنيه الفصل 7 من م.ا.ج الذي جاء بقاعدة إيقاف النظر إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة مثلما سنرى لأنّ هذا الحكم البات في النزاع يفيد حجيّة الشيء المحكوم به بينما الحكم السابق الإشارة إليه يهمّ التنفيذ.

وتجدر الإشارة بأنّ القانون المصري أوجب لانقضاء الدعوى الجنائية أن يكون الحكم نهائيا. المادة 454 والمادة 455.([105])

كما أوجب بالمادة 265 أنّه إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنيّة يجب وقف الفصل فيها حتّى يحكم نهائيا في الدعوى الجنائية المقامة قبل رفعها أو في أثناء سيرها.

ومع ذلك فقد فرّق الفقهاء مثلما سنرى بين مبدأ حجيّة الحكم الجنائي على المدني وبين قاعدة إيقاف النظر مثلما سنرى في المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذه الرّسالة.

ولا يفوتنا التذكير بأنّ بعض الفقهاء أطلقوا مصطلحات مختلفة على الأحكام الفاصلة في الموضوع في الميدان الجزائي :

“فهي عبارة عن الأحكام النهائية الفاصلة في موضوع الدعوى بحكم بات بإقرار البراءة أو الإدانة وانتهاء النّزاع والخصومة أمام القضاء.

فالأحكام الفاصلة في موضوع الدعوى هي الأحكام التي تقطع في موضوع التهمة بالإدانة أو البراءة، أمّا الأحكام الفاصلة في المسائل المتفرّعة من النزاع فصلا قاطعا كالحكم في الدفع بعدم الاختصاص أو الحكم بعدم قبول الدعوى لانعدام صفة رافعها هي أحكام قطعية في المسائل الفرعية، وهي التي تحسم النزاع في شقّ من موضوع الدعوى أو في مسألة متفرّعة عنه سواء تعلّقت هذه المسألة بالقانون أو بالوقائع.([106])

إنّ الأحكام التي تكتسب الدرجة القطعية والفاصلة في الخصومة الجنائية هي الأحكام القطعية الفاصلة في موضوع الدعوى وتنقضي الدعوى الجزائية بالنسبة للشخص المرفوعة عليه والوقائع المسندة فيها إليه بصدور حكم نهائي بالبراءة أو عدم المسؤولية أو الإسقاط أو بالإدانة، وإذا صدر حكم في موضوع الدعوى الجزائية فلا يجوز إعادة نظرها إلاّ بالطعن في هذا الحكم بالطرق المقرّرة في القانون ما لم يرد نصّ على خلاف ذلك (المادة 331 أصول).

تبدو أهميّة التمييز بين الأحكام الفاصلة في موضوع الدعوى والأحكام السابقة على الفصل فيها بقدر ما يكون لها من حجيّة الشيء المحكوم فيه، وفي قابليّتها للطعن بكافة طرق الطعن المختلفة.

فالأحكام القطعية الصادرة في موضوع النزاع والأحكام القطعية الصادرة في المسائل المتفرّعة عن النزاع، هي أحكام قطعية تتمتع بالحجيّة بالنسبة للمحكمة التي أصدرته والتي لا يجوز لها الرّجوع فيها”.([107])

أمّا بالنسبة للقانون التونسي وبالأخصّ لفقه القضاء الصادر قبل العمل القضائي لمجلّة الإجراءات الجزائية لسنة 1968، فيبدو أنّه متّفق على مصطلح “الحكم البات” للدلالة على الحكم البات في النزاع وأنهى تعهّد المحكمة وفق ما رأينا.

وهذا الحكم البات في النّزاع أو البات في أصل النزاع له آثار هامّة وهكذا نصل إلى الجزء الثاني من هذه الرّسالة لنتناول بالدرس آثار الحكم البات.

الجزء الثاني

آثار الحكم البات

إنّ من آثار الحكم البات بعد النطق به بالجلسة العموميّة استنفاذ ولاية القاضي، أي أنّه لم يعد بإمكانه تعديل حكمه أو الرّجوع فيه. واستنفاذ الولاية لا يهمّ الأحكام التحضيريّة الصادرة أثناء نشر الدعوى، وإنّما يخصّ الحكم البات فقط الذي ينهي تعهّد المحكمة بالنظر في النّزاع المعروض عليها مدنيا كان أم جزائيا، على أنّه في صورة الطعن بالاعتراض أو التماس إعادة النظر فقد أجاز المشرّع لنفس المحكمة التي أصدرت الحكم أن تعيد النظر فيه، وهذا استثناء من القاعدة.

وكأثر موضوعي كذلك لأحكام القضاء حتّى تحقّق فاعليّتها لاستقرار الحقوق والمراكز القانونيّة تولّدت قاعدة الحجيّة وهي قاعدة قانونيّة موضوعيّة فرضتها الوظيفة القضائيّة واعترفت بها أغلب الأنظمة.

وقد عرّفها جانب من فقهاء قانون القضاء المدني([108]) بأنّها فكرة قانونيّة مفادها أنّ الحكم القضائي حين يطبّق إرادة القانون في الحالة المعيّنة، فإنّه يحوز الاحترام سواء أمام المحكمة التي أصدرته أو أمام المحاكم الأخرى، بمعنى أنّ بمجرّد صدور الحكم البات عن المحكمة له حجيّة فيما قضى به سواء كان الحكم مدنيا أو جزائيا، فلا يجوز تبعا لذلك إعادة النظر في الدعوى من جديد لوضع حدّ لتكرّر النّزاعات واحتراما لهيبة القضاء، ولذلك فالمشرّع التونسي مثلما رأينا اعتبر الحكم من الحجج الرّسميّة (الفصل 443 من م.ا.ع) كما اعتبره قرينة قانونيّة ورتّب عليه أثرا أطلق عليه مصطلح “النفوذ” Autorité وفق الفصل 481 من نفس المحكمة، بمعنى الحجيّة، حجيّة الشيء المحكوم به أو حجيّة الأمر المقضي والتي يطلق عليها فقه القضاء مصطلح “اتّصال القضاء”.

وإن كانت هذه القاعدة تتعلّق بحجيّة الأحكام المدنيّة فيما بينها، فقد وقع سحبها على الأحكام الجزائيّة لحسن سير القضاء بل وصارت الأحكام الجزائيّة لها علويّة وتفوّق على الأحكام المدنية لأنّها تصدر باسم المجتمع وتهمّ المصلحة العامّة. وتمّ الاستناد إضافة إلى الفصل 481 المذكور على الفصل 7 من م.ا.ج الذي جاء بمبدأ إيقاف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضي في الدعوى الجزائية عند ارتباط الدعوى المدنيّة بالدعوى العموميّة وسبق القيام بهذه الدعوى الأخيرة قبل الأولى. ففي هذه الصورة يتوقّف النظر فيها إلى أن يقضى بوجه “بات” في الدعوى العموميّة التي وقعت إثارتها.

وهذا يبدو منسجما مع القاعدة العامّة على وجوب احترام الأحكام الصادرة من المحاكم حتّى لا تتناقض الأحكام فيما بينها لأنّه مثلما رأينا فصدور حكم بات سواء من المحكمة المدنية أو من المحكمة الجزائية له حجيّة ولذا فمن الواجب احترام تلك الحجيّة وعدم القضاء بخلافها لما تتوفّر شروطها. وتبعا لذلك فلا يجوز للقاضي المدني أن يعارض ما بتّ فيه القاضي الجزائي ضرورة في نفس الموضوع.

وعلاوة على ذلك وعملا بقاعدة اتّصال القضاء ولمّا تستنفذ طرق الطعن (اعتراض، استئناف، تعقيب) فإنّ الحكم الجزائي يكتسب قوّة التنفيذ ويطلق عليه “بالحكم البات” ويصبح عنوانا للحقيقة نتيجة قرينة قانونيّة قاطعة. فلا يمكن تبعا لذلك تتبّع شخص من أجل أفعال إجراميّة تمّت محاكمته في شأنها لانقضاء الدعوى العموميّة باتّصال القضاء وفق ما نصّ على ذلك الفصل 4 من م.ا.ج. وهذا الحكم يسمّى “حكما باتا” لأنّه لم يعد قابلا بأي وجه من أوجه الطعن irrévocable إضافة لما نصّ عليه الفصل 338 من نفس المجلّة على أنّه “ينفذ الحكم إذا أصبح “باتا” بمعنى الحكم الذي له قوّة الأمر المقضي ولم يعد قابلا لطرق الطعن العادية. علاوة على أنّ الحكم الذي بتّ في النّزاع المعروض على المحكمة أطلق عليه فقه القضاء مثلما رأينا “الحكم البات” jugement définitif. ولذا فيكون من الواجب التفرقة بين الحكم البات الذي يفيد حجيّة الأمر المقضي وبين الحكم البات الذي يفيد التنفيذ وأنّ عدم التمييز بين النوعين المذكورين من الأحكام كان سببا في عدم استقرار فقه القضاء ممّا جعل الحكم البات يثير عدّة إشكالات حتّى أنّه يبدو من خلال فقه القضاء أنّ الحكم الجزائي لا يمكن الاحتجاج به لدى القاضي المدني إلاّ إذا كان “باتا” بمعنى قابلا للتنفيذ، وكأنّ ليست له حجيّة الأمر المقضي نتيجة المغالاة في تأويل الحكم البات إذا ما تعلّق الأمر بالحكم الجزائي خلافا للأحكام المدنيّة التي يمكن الاحتجاج بها ولو لم تكتسب قوّة الأمر المقضي وخصوصا إذا كان الحكم الجزائي غيابيا. ممّا انعكس سلبا على القضيّة المدنيّة المنشورة في تعويض الأضرار الناتجة عن الجرم المحكوم فيه جزائيا. فهل يعتبر الحكم الغيابي حكما باتا (أو قطعي) ولو أنّه غير قابل للتنفيذ ؟

وهل يسترجع القاضي المدني حريّته بعد صدور الحكم الجزائي البات في الدعوى أم أنّه إيقافه النظر يبقى إلى أن يصبح الحكم الغيابي “باتا” بمعنى غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن أو قابلا للتنفيذ ؟

ويبدو أنّ مردّ كلّ ذلك يعود إلى عدم التمييز بين أنواع الأحكام وخصوصا منه ما يتعلّق بالحجيّة وما يتعلّق بالتنفيذ.

وقد رأينا تبعا لما سبق التلميح إليه أن نتناول بالبحث في هذا الجزء الثاني من الرّسالة إلى آثار الحكم الباتّ في (الفصل الأوّل) سواء أكان الحكم مدنيّا أو جزائيّا لاتّفاقهما في هذه الآثار ثمّ سنخصّص (الفصل الثاني) إلى آثار الحكم الجزائي الباتّ نظرا لخصوصيّته.

الفصل الأوّل – آثار الحكم المدني والجزائي البات

إنّ من آثار الحكم الباتّ أنّ المحكمة تستنفذ اختصاصها بالنسبة للنزاع الذي صدر على إثره الحكم فلا يجوز لها العدول عمّا قضت به كما لا يجوز لها تعديل ذلك القضاء أو إحداث إضافة إليه وهذا ما يسمّى باستنفاذ الولاية، وعلاوة على أنّ المحكمة التي حسمت النّزاع المعروض عليها بحكم باتّ ليس لها أن ترجع فيه فإنّه يمنع على سائر المحاكم إعادة النظر فيما قضي به إلاّ في الصّور التي حدّدها القانون.

ومن أهمّ آثار الحكم الباتّ أنّه يعتبر قرينة لا تقبل إثبات العكس على أنّه صدر صحيحا شكلا وموضوعا وهذا ما يسمّى بالحجيّة. أي أنّ الحكم الباتّ له حجيّة الأمر المقضي أو ما عبّر عنه المشرّع التونسي “بالنفوذ” Autorité. وتبعا لذلك فمن الواجب احترامه وعدم الرّجوع فيه لا من طرف المحكمة التي أصدرته ولا من طرف محكمة أخرى متّحدة الدرجة.

وسنستعرض هذين الأثرين الهامّين للحكم الباتّ في (مبحث أوّل) استنفاذ ولاية المحكمة. وفي (مبحث ثان) الحجيّة القضائيّة.

المبحث الأوّل – استنفاذ ولاية المحكمة

تنهي المحكمة تعهّدها بالدعوى بعد حسم النّزاع القانوني المعروض عليها والتصريح بالحكم، فبعد بتّها في الدعوى تستنفذ المحكمة اختصاصها أو سلطتها في ذلك النّزاع. ومن نتيجة ذلك أنّه يمنع على المحكمة التي أصدرت ذلك الحكم العدول عمّا قضت به أو “الرّجوع فيه” وفق المصطلح المستعمل من طرف المشرّع التونسي بالفصل 482 من م.ا.ع. كما يمنع عليها تعديل ذلك الحكم أو إحداث إضافة عليه، كما يمنع على سائر المحاكم الأخرى والتي تكون من نفس الدرجة إعادة النظر فيما فصلت فيه محكمة أخرى إلاّ إذا طرح النّزاع أمامها بشكل آخر.

وفي غياب نصّ قانوني صريح فقد أقرّ فقه القضاء التونسي مثلما سنرى على أنّ سلطة القاضي تنتهي بصدور حكمه، على أنّ لهذا المبدأ استثناءات حدّدها المشرّع وهي تتعلّق خاصّة بالخطأ أو الغلط المادي في الحكم أو في صورة غموض الحكم ممّا يستدعي شرحه وتفسيره.

ولذا سنتحدّث في (فقرة أولى) عن مبدأ استنفاذ الولاية وفي (فقرة ثانية) عن الاستثناءات من مبدأ استنفاذ الولاية.

الفقرة الأولى – مبدأ استنفاذ ولاية المحكمة

Lata sententia judese disissit esse gudess

إنّ هدف الدعوى القضائيّة هو الحصول على حماية وعلى حكم حاسم للنزاع دون تأخير وليتسنّى ذلك تمّ إقرار مبدأ يتمثّل في أنّ المحكمة التي فصلت في نزاع معروض عليها انقضت سلطتها فخرج ذلك النّزاع عن ولايتها.([109])

فبصدور الحكم يمتنع كما أشرنا على المحكمة الرّجوع فيه أو تعديله وفي هذا المعنى ينصّ الفصل 481 من قانون المرافعات الفرنسي على أنّه “بالنطق بالحكم يخرج النّزاع عن ولاية القاضي الذي أصدره”.

وتنطبق قاعدة استنفاذ الولاية على سائر الأحكام الباتّة (أي الأحكام القطعيّة) موضوعيّة كانت أو فرعيّة أنهت الخصومة أو لم تنهيها.

وإن لم ينصّ المشرّع التونسي صراحة على هذا المبدأ مثل المشرّع الفرنسي إلاّ أنّ فقه القضاء قد أقرّ بأنّ “سلطة القاضي تنتهي بصدور حكمه في الدعوى. فلا يجوز له بعد ذلك أن يدخل بطريق الإصلاح أيّ تغيير عليه إلاّ في خصوص الغلطات الماديّة التي أنزلقت في الحكم. وإذا ترتّب عن ذلك الإصلاح إعادة النظر في أي موضوع يمسّ بالدعوى نفسها كان إصلاحه هذا باطلا”.([110])

ويعمل بهذه القاعدة بالنسبة للحكم الصادر بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى أو باختصاصها بنظرها فيمنعها الحكم الأوّل من الفصل في الدعوى ويوجب عليها الثاني أن تفصل في موضوع الدعوى.

وفي هذا الصدد جاء في قرار محكمة التعقيب([111]) في ردّها عن المستند ما يلي : (حيث أنّه من المبادئ المتّفق عليها أنّ المحكمة تستنفذ سلطتها في النّزاع المرفوع لديها بمجرّد الفصل فيه بصفة باتّة. وتأسيسا على ذلك فإنّ الأحكام التي تصدر عنها في هذا الصدد سواء بقبول الدعوى أو بعدم قبولها أو رفضها بسبب عدم الاختصاص تعتبر من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها…).

ومبدأ استنفاذ الولاية ينسحب على الأحكام القطعيّة التي لا يجوز العدول عنها ولو كانت باطلة أو مؤسّسة على إجراء باطل ومعنى ذلك أنّ الأحكام القطعيّة لها حصانة تحول دون المساس بها من طرف المحكمة نفسها أو بناء على طلب الخصوم لأنّ قواعد الولاية تهمّ النظام العام.([112])

وهذه القاعدة تتعلّق بالنظام العام، اعتبارا بأنّ القاضي قد استنفذ جهده فيما قضى فيه بأحكام قطعيّة وبالتّالي فإذا أعيدت أمامه دعوى سبق أن فصل فيها بحكم استنفذ ولايته بصددها وجب عليه الحكم بعدم قبولها.([113])

وإذا كان القاضي يملك نظر ما سبق له الفصل فيه فإنّما يكون ذلك على سبيل الاستثناء وفي حالات حصريّة نصّ عليها القانون ولا يجوز القياس عليها. وتتّصل باعتبارات خاصّة هي التي حدت بالمشرّع للسماح لذات القاضي بنظرها دون غيره وهذه القاعدة هي أيضا من النظام العام كحالات تفسير الحكم وتصحيحه وحالات الطعن فيه بالتماس إعادة النظر والاعتراض إذا كان جائزا بنصّ خاصّ.([114])

أ – شروط إعمال قاعدة استنفاذ الولاية :

إنّ ماهية الولاية التي تستنفذ بمقتضاها المحكمة اختصاصها تتمثّل في استنفاذ المحكمة ولايتها الأصليّة المتعلّقة بالحكم في الطلبات الأصليّة المرفوعة بها الدعوى والطلبات العارضة التي تقدّم بمناسبتها كما تتمثّل في استنفاذ المحكمة ولايتها التبعيّة المتعلّقة بالفصل في مسائل تتبع ما تقضى به بمقتضى سلطتها الأصليّة كالحكم في مصاريف الدعوى والحكم بالنفاذ العاجل أو الحكم بتنفيذ الحكم على المسوّدة.

والأصل أنّ المحكمة تستنفذ ولايتها الأصليّة والتبعيّة بما تصدره من أحكام ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك.

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([115]) بأنّ “محكمة الموضوع ملزمة بأن تبتّ في الخصومة المعروضة عليها بحكم حاسم للنزاع يضع حدّا له إيجابا أو سلبا وتأسيسا على ذلك فإنّ القضاء بإرجاء النظر في بعض فروع النّزاع يكون مخالفا للقاعدة المقرّرة آنفا”.

ب – شروط خروج النّزاع من ولاية المحكمة :

يشترط لخروج النّزاع من ولاية المحكمة أن تصدر فيه حكما وأن يكون هذا الحكم قطعيّا، وألاّ يطرح النّزاع من جديد على المحكمة على شكل تظلّم من حكمها الأوّل.

وحتّى يخرج النّزاع من ولاية المحكمة يتعيّن أن تكون قد فصلت فيه صراحة أو ضمنا ويستوي أن يكون حكمها صحيحا أو باطلا أو مبنيّا على إجراء باطل. كما يتعيّن أن تكون المحكمة قد فصلت فيه بحكم قطعي، بمعنى أنّه إذا أصدرت حكما غير قطعي متعلّق بسير الدعوى أو بإثباتها جاز الرّجوع فيه أو تعديله. كما أنّ المحكمة التي تصدر حكما وقتيّا تملك العدول عنه أو تعديله إذا تغيّرت الظروف القائم عليها الحكم.([116])

وفي هذا المعنى ترى محكمة التعقيب([117]) بأنّ : “الأحكام الاستعجالية يمكن الرّجوع فيها من طرف الحاكم الاستعجالي نفسه بين الخصوم أنفسهم عند تغيير الأسباب مادامت بطبيعتها أحكاما وقتيّة تهدف لحفظ الحقوق بدون مساس بالأصل”.

والقاعدة أنّ المحكمة التي أصدرت الحكم تملك إعادة النظر في حكمها إذا طعن فيه بطريق الاعتراض، إذا كانت جائزة بنصّ خاصّ أو طعن فيه بالتماس إعادة النظر.

وفي هذا المعنى نصّ الفصل 170 من م.م.م.ت على أنّه : “يرفع الاعتراض للمحكمة التي أصدرت الحكم المعترض عليه بنفس الطرق المعتادة لرفع الدعوى لديها…” ونصّ الفصل 173 منها على أنّه “ويترتّب على الاعتراض إعادة نشر القضيّة من جديد”.

كما نصّ الفصل 156 من نفس المجلّة على أنّ “التماس إعادة النظر يقع لدى المحكمة المطعون في حكمها ويجوز أن تكون مؤلّفة من نفس الحكام الذي أصدروا الحكم فيه”.

وتضمّن الفصل 175 من م.ا.ج. أنّ “الاعتراض على الحكم الغيابي يقدّمه لكتابة المحكمة التي أصدرته المعترض نفسه أو نائبه…”.

كما نصّ الفصل 189 من م.ا.ج. على أنّ “المحكمة التي نظرت في القضيّة تظلّ ذات نظر للإذن بترجيع الأشياء الموضوعة تحت يد العدالة إن لم يقع أي طعن في الحكم الصادر في الأصل”.

الفقرة الثانية – الاستثناءات من مبدأ استنفاذ الولاية

إنّ الحالات التي يجوز فيها عرض النّزاع على القاضي بعد استنفاذ ولايته وردت على سبيل الحصر فلا يجوز القياس عليها ولا يجوز التوسّع في تأويلها وهي حالات الطعن فيه بالاعتراض أو بالتماس إعادة النظر مثلما أشرنا إلى ذلك وحالات تفسير الحكم وتصحيح الخطأ أو الغلط المادي.

أ – تصحيح الغلط المادي :

يمكن للمحكمة إذا ما ثبت حصول غلط في الحكم الصادر عنها أن تتولّى إصلاحه من تلقاء نفسها أو بطلب من أحد الخصوم أو بطلب من النيابة العموميّة وسواء أكان الحكم الصادر في نزاع مدني أو في دعوى جزائيّة عملا بأحكام الفصل 256 من م.م.م.ت الذي ينصّ على أنّ “الغلط في الرّسم والغلطات الماديّة في الاسم أو الحساب وغير ذلك من الاختلالات المبيّنة من نوع ما ذكر يجب على المحكمة دائما إصلاحها ولو من تلقاء نفسها ويحكم في إصلاح الغلط والإخلال بدون سبق مرافعة شفهيّة ويجب أن ينصّ بطرّة أصل الحكم وبالنسخ المعطاة منه على الحكم الصادر بالإصلاح”.

ويستخلص من الفصل المذكور أنّه لإجراء الإصلاح يجب أن تكون الأغلاط المراد إصلاحها ماديّة بحتة والقصد من ذلك الغلط في التقدير([118]) أي الغلط في الأسماء والأرقام والغلط المادي يكون حسابيّا أو كتابيّا، فالغلط الحسابي هو غلط في إجراء عمليّة حسابيّة كالخطأ في الجمع أو في الطرح عند احتساب المبالغ الماليّة أو الغرامات المحكوم بها.

أمّا الأخطاء الكتابيّة فهي تشمل أخطاء السهو كالخطأ في الاسم أو في الرقم كرقم حكم ومحضر عدل تنفيذ أو الغلط في تاريخ الحكم. والغلط المادي يمكن أن يحصل في منطوق الحكم أو في جزء آخر من الحكم وأنّ إصلاح الأغلاط الماديّة لا يمثّل مساسا بالحكم بل أنّه دليل على احترام مقصد المحكمة طالما يوجد ما يؤكّد كلّ هذا المقصد، إلاّ أنّه لا يمكن للمحكمة أن تتجاوز حدود مجرّد الإصلاح لتعديل مضمون الحكم، وإلاّ جاز الطعن في قرار الإصلاح بنفس الطرق المتاحة بالنسبة للحكم موضوع الإصلاح.([119])

وفي هذا المضمار وضّحت محكمة التعقيب([120]) “بأنّ إصلاح الأحكام التي أجازها الفصل 140 من قانون المرافعات المدنيّة إنّما يتعلّق بالغلطات الماديّة في الاسم والحساب وغير ذلك من الاختلالات التي هي من نوع ما ذكر لا تغيير اسم المحكوم له تغييرا تامّا وتعويضه بشخص آخر”.

كما أقرّت بأنّ “الفصل 256 من م.م.م.ت خوّل للمحكمة إصلاح حكمها في خصوص الغلط المادي في الاسم والحساب وغير ذلك من الإخلالات التي من هذا القبيل ولم يبح الفصل المذكور إضافة شيء جديد لم يشمله الحاكم المصلح”.([121])

ولذا يتعيّن أن يكون تصحيح الحكم من واقع العناصر الثابتة فيه فلا يجوز أثناء نظر طلب التصحيح التمسّك مثلا بوقف الدّعوى لوجود حالة تنازع اختصاص أو للفصل في مسألة أوّليّة.

ولا يفوتنا التذكير بمقتضيات الفصل 257 الذي ينصّ على أنّه “يبطل العمل بالحكم بمضيّ عشرين سنة مسيحيّة من تاريخ يوم صدوره”.

ولذا فإنّ إصلاح الحكم بعد مضيّ تلك المدّة يعتبر باطلا ولا يعمل به وهذا ما أقرّته محكمة التعقيب : “حيث أنّه بصرف النظر عمّا أثارته الطاعنة من أخطاء تمسّ جوهر قرار الإصلاح المطعون فيه فبالتأمّل من هذا القرار يتّضح أنّ صدوره بتاريخ يوم 30 أفريل 1987 بينما الحكم الواقع إصلاحه قد صدر منذ يوم 3 مارس 1962 أي أنّه مضى عليه أكثر من عشرين سنة…

وحيث أنّه طالما تسلّط ذلك الإصلاح على حكم بطل العمل به بفوات المدّة القانونية المذكورة وأنّ المبني على الباطل باطل لذلك فإنّ القرار القاضي بهذا الإصلاح في غير طريقه ومستهدف للنقض…”.

وتنظر المحكمة في طلب الإصلاح في غرفة الشّورى بغير مرافعة أي دون سماع أي طرف من الخصوم وتأذن بإجراء هذا الإصلاح على نسخة الحكم الأصليّة ويمضي القاضي أو القضاة على ذلك القرار الذي يمكن الطعن فيه بمفرده حتّى وإنّ انقضى ميعاد الطعن بالنسبة للحكم.

وتجدر الملاحظة بأنّ الحكم الصادر بالتصحيح تكون له نفس طبيعة الحكم الأصلي فإن كان الحكم الأصلي باتا أو قطعيّا أو وقتيّا أو غير قطعي أو موضوعيا أو فرعيّا، فإنّ الحكم الصادر في التصحيح تكون له نفس طبيعة الأوّل. على أنّ القرار الصادر بالتصحيح يعتبر بمثابة حكم موضوعي على الرغم من أنّه قد يصدر من تلقاء نفس المحكمة أو بناء على طلب يقدّمه لها من له مصلحة دون مرافعة ودون مواجهة بين الخصوم.([122])

كما لا تستنفذ المحكمة ولايتها إذا ما ثبت حصول لبس أو غموض يحوّلان دون تنفيذ حكمها، وفي هذه الصورة كذلك يجوز لها أن تقوم بتفسيره وشرحه.

ب – تفسير الحكم :

وغالبا ما يتسلّط هذا التفسير على منطوق الحكم حتّى يتسنّى تنفيذه بعد توضيح ما غمض منه لكن دون زيادة أو نقصان في منطوقه إذا طلب منها أحد الخصوم أو النيابة العامة وذلك عملا بالفصل 124 من م.م.م.ت. ([123])

ويشترط لقبول تفسير الحكم :

أ) أن يكون الحكم باتا أي (قطعيا) إذ لا فائدة من تفسير حكم تحضيري يمكن الرّجوع فيه ولم يبت في شيء من أصل الحقّ المتنازع بشأنه.

ب) ويشترط أن يكون المطلوب تفسيره هو منطوق الحكم أو الأسباب المكمّلة له.([124])

أي أن يكون الحكم في منطوقه مشوبا بغموض أو إبهام أو يعتريه شكّ في تفسيره أو يحتمل أكثر من معنى.

ج) ويتّجه الرأي الرّاجع في فرنسا إلى اشتراط تقديم طلب تفسير الحكم قبل أن يرفع استئناف عنه باعتبار أنّ الاستئناف ينقل النّزاع بأكمله إلى محكمة الدرجة الثانية في حدود ما تسلّط عليه الاستئناف ولم يعد بإمكان محكمة الدرجة الأولى تفسير حكمها لأنّ هذا الحكم أصبح محلّ نظر محكمة الدرجة الثانية وقد تنقضه أو تعدّله ولذا فلا مصلحة ولا فائدة ترجى من تفسيره.

وإنّ تفسير الحكم لا يكون ضروريّا إلاّ إذا اعتراه غموض أو إبهام في منطوقه ممّا يصعب معه التنفيذ وقد يكون سبب الغموض استعمال القاضي لعبارات لا تدلّ بدقّة على مضمون الحكم ولذا فطلب التفسير يقصد منه تحديد مضمون الحكم بدقّة ووضوح.

وإن كان قرار التفسير يتّخذ من طرف المحكمة التي أصدرت الحكم فليس من الضروري أن يقوم بالتفسير القضاة الذين أصدروا الحكم ضرورة أنّ الأمر لا يتعلّق بالبحث عن إرادتهم وإنّما يتعلّق بتفسير موضوعي حسب ما ورد بالأسباب الواقعيّة والقانونيّة.([125])

وكما يتبيّن من الفصل 124 من م.م.م.ت المذكور آنفا فإنّ طلب التفسير يقدّم إلى المحكمة التي أصدرت الحكم وتنظره بحجرة الشورى دون سماع الخصوم وبدون مرافعة وتصدر قرارا قطعيا (أي باتا) تفصل فيه المحكمة المسألة المطروحة عليها وذلك بالنفي أو بالإيجاب. ويترتّب على ذلك استنفاذ سلطة المحكمة وبالتّالي إذا نقضته محكمة الاستئناف فإنّها تفصل في مسألة التفسير التي انتقلت إليها نتيجة الطعن في الحكم.

والقرار التفسيري يرتبط ارتباطا وثيقا بالحكم الذي يفسّره فهو إمتداد له وجزء لا يتجزّأ منه وبالتالي إذا انقضى الحكم فإنّ القرار التفسيري يلقى نفس المصير مثلما تعرّضنا إلى ذلك عند الحديث عن الحكم بإصلاح الغلط المادي ويمكن الطعن في القرار التفسيري بنفس إجراءات الطعن في الأحكام.

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([126]) بأنّ : “الأحكام الصادرة بشرح أو إصلاح الحكم البات في أصل الدعوى هي من قبيل الأحكام الباتّة الصادرة في جوهر الموضوع بدليل أنّها هي التي تكون قابلة للتنفيذ على المحكوم عليه وتبعا لذلك تكون خاضعة لطرق الطعن وإجراءاته وقواعده القانونيّة.

وحيث يترتّب على ذلك أنّ محكمة الاستئناف لمّا قضت برفض الطعن في الحكم القاضي بالإصلاح كان قرارها هذا مشوبا بالخطأ في تطبيق القانون”.

كما أقرّت([127]) بأنّ “شرح الحكم يعتبر متمّما له وجزءا لا يتجزّأ منه فالحكم وشرحه وتفسيره يعدّ وحدة واحدة لا انفصال بينهما باعتبار أنّ التفسير هو تحديد ما يتضمّنه الحكم من تقدير قانوني أو واقعي بمعنى أن يكون التفسير مستمدّا من ذات العناصر القانونيّة التي تكوّن منطوق الحكم”.

والمحكمة التي أصدرت الحكم سواء أكانت محكمة ناحية أو محكمة ابتدائية أو محكمة استئناف وسواء أكانت فصلت في الدعوى باعتبارها من محاكم الدرجة الأولى أو الثانية فهي تختصّ بطلب تفسير حكمها اختصاصا موضوعيّا واختصاصا ترابيّا وهي تختصّ وحدها به دون أيّة محكمة أخرى أعلى درجة منها أو أدنى من درجتها وهذه القاعدة من النظام العام وعلى المحكمة أن تتمسّك بها من تلقاء نفسها.([128])

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب بأنّ “شرح الأحكام العدليّة منوط بعهدة المحكمة التي أصدرتها وحدها دون غيرها عملا بالفصل 70 من قانون المرافعات المدنيّة”.([129])

ولا يجوز للمحكمة عند تفسير حكمها تعديل قضائها أو الرّجوع فيه أو الإضافة إليه وإلاّ كان حكمها قابلا للطعن بالطريق المناسب وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([130]) بأنّه : “إذا طلب شرح حكم من المحكمة التي أصدرته فقرّرت إعطاء الصيغة التنفيذيّة فيما لم يشمله الحكم المشروح من مال فقد قضت بالزيادة عمّا يقتضيه نصّه وترتّب على ذلك نقض الحكم”.

وبالرّجوع إلى وقائع هذه القضيّة يتبيّن أنّ المدّعية استصدرت حكما من المحكمة التجاريّة بمرسيليا وطلبت إكسائه بالصيغة التنفيذيّة من محكمة البداية بصفاقس فقضت محكمة البداية بعدم سماع الدعوى لوقوع تنفيذه فاستأنفته المدّعية ملاحظة بأنّه فعلا فقد استخلصت جزءا من الدّين طالبة تنفيذ الحكم فيما تبقّى من الدّين فقضت محكمة الاستئناف لصالحها في 28 نوفمبر 1972 وفي 12 مارس 1977، تمّ شرح الحكم باعتبار أنّ عبارة الدين الواردة بنصّه تشمل باقي الدّين مع الفوائض.

ويعتبر الحكم بالتفسير حكما موضوعيّا صادرا بعد الحكم في الموضوع بينما يعتبر الحكم برفض التفسير حكما فرعيا صادرا بعد الفصل في الموضوع.([131])

ويجب أن يصدر حكم التفسير عن المحكمة بنفس تشكيلتها فإن كانت تشكيلتها ثلاثيّة فلا يجوز لرئيس الدائرة وحده اتّخاذ قرار التفسير.

وفي هذا المعنى أوضحت محكمة التعقيب([132]) بأنّ : “شرح الحكم إنّما يرمي إلى إزالة ما غمض في نصّه لا إلى الزيادة فيه بالإخراج والإرجاع وأنّ الشرح لا يكون إلاّ من المجلس لا من رئيسه وحده حسب الفصل 70 من قانون المرافعات المدنيّة”.

وهناك من الفقهاء من يرى بأنّ استنفاذ ولاية المحكمة هو وجه من وجوه حجيّة الأمر المقضي.([133])

وهكذا نصل إلى الأثر الثاني من الحكم البات وهو الحجيّة القضائية الذي سنتناوله في المبحث الثاني.

المبحث الثاني – الحجيّة القضائيّة

حجيّة الشيء المحكوم به

أنّ مفهوم حجيّة الحكم القضائي قد تحدّد عند فقهاء الشريعة الإسلامية بأنّ الظاهر من كلّ حكم صدر وفق الشروط الشرعية، هو كون الحكم صحيحا ومحقّقا للعدالة وبالتالي يستحقّ التنفيذ. وعليه إذا كان هناك طلب مبنى على مجرّد احتمال ولم يقترن بدليل مقبول بحيث يقتضي ويتطلّب فائدة من الإعادة، فإنّه – بناء على ذلك الظاهر – لا يلي هذا الطلب بإعادة النظر في القضيّة ولا بتأجيل تنفيذ الحكم أو نقضه.([134]) وقد صرّح بهذا المعنى بعض الشافعية كالماوردي وابن أبي الدم وبعض المالكية كابن فرحون، ومن عبارتهم في ذلك قول الماوردي : “الظاهر من أحكام القاضي نفوذها على الصحّة”([135]) ويقترب من هذا القول ما قاله ابن أبي الدم.([136]) أمّا صاحب التبصرة ابن فرحون فيقول : “يحمل القضاء على الصحّة ما لم يثبت الجور”.

والحجيّة ليست مجرّد حيلة قانونيّة Fiction juridique بمقتضاها يعتبر ما تضمّنه الحكم هو الحقّ عدالة، ولو كان الحكم قد أنشأ حقّا غير موجود أو ألغى حقّا موجود أو غيّر من مضمونه إنّما هي قرينة قانونيّة لا تقبل إثبات العكس على أنّ ما تضمّنه([137]) الحكم هو الحقّ عدالة أي “حقيقي وعادل”، لا سيّما مع قول الفقيه الرّوماني البيان أنّ “الأمر المقضي ينبغي الأخذ به كحقيقة” أو أنّ “الأمر المقضي يعتبر أنّه الحقّ” « res. Judicata pro veeritate accipictur ».

ويرى بعض الفقهاء أنّ “الحجيّة نوع من الحرمة يتمتّع بها الحكم بمقتضاها يعتبر الحكم متضمّنا قرينة لا تقبل إثبات العكس على أنّه صدر صحيحا من حيث إجراءاته وأنّ ما قضى به هو الحقّ بعينه من حيث الموضوع. فالحجيّة قرينة ذات شطرين يسمّى أحدهما قرينة الصحّة والآخر قرينة الحقيقة ويعبّر عن هذا الشّطر الأخير بأنّ الحكم هو عنوان الحقيقة”.([138])

وقد تبنّى التقنين المدني الفرنسي هذا التأصيل، فأورد الحجيّة ضمن القرائن القانونيّة في الإثبات (الفصل 145) ونقل ذلك عنه التقنين المدني المصري القديم الأهلي (المادة 242) والمختلط (المادة 297) ثمّ قانون الإثبات الحالي في (المادة 401) ومختلف التقنينات المدنيّة الحديثة.

وتقول المذكّرة الإيضاحيّة للمشروع التمهيدي تبرير الوضع حجيّة الأمر المقضي في التقنين المدني المصري ما يأتي : “تتّصل حجيّة الشيء المقضى به كآثار الأحكام، ويدخل تنظيمها في هذا الوجه في قانون المرافعات، بيد أنّ تقنين المرافعات المصري قد أغفل هذا التنظيم، في حين عرض له التقنين المدني ولم تقتصر هذه المادة على إقامة قرينة الحجيّة دون جواز قبول أي دليل بنقضها بل تناولت أيضا موضوع هذه الحجيّة وشروطها”.([139])

وهذا هو منحى القانون التونسي والفرنسي والتقنين الإيطالي والتقنين الهولندي والإسباني والكندي والمغربي على أنّ التقنين البرتغالي لا يدرج حجيّة الشيء المقضى به في عداد القرائن بل يدخلها في نطاق الأدلّة الثابتة.([140])

لذلك سنتناول بالدرس في هذا المبحث تعريف الحجيّة من خلال القانون المقارن (الفقرة الأولى) والحجيّة واتّصال القضاء من خلال القانون التونسي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى – تعريف الحجيّة من خلال القانون المقارن

تعدّ قاعدة الحجيّة – وفقا للقانون الوضعي وعند شرّاحه – نوعا من الحرمة يتمتّع بها الحكم القضائي، وبموجبها يعتبر هذا الحكم متضمّنا قرينة قانونيّة قاطعة، على أنّه قد صدر صحيحا من حيث إجراءاته وأنّ ما قضى به هو الحقّ الذي لا ريب فيه من حيث الموضوع.([141])

وقد عرّفها جانب من فقه قانون القضاء المدني بأنّها فكرة قانونيّة مفادها أنّ الحكم القضائي حين يطبّق إرادة القانون في الحالة المعيّنة، فإنّه يحوز الاحترام سواء أمام المحكمة التي أصدرته أم أمام المحاكم الأخرى. بحيث إذا رفع أحد الخصوم نفس الدعوى التي فصل فيها الحكم مرّة أخرى تعيّن عدم قبولها، وإذا ما أثير ما قضى به الحكم أمام القضاء وجب التسليم به دون بحث مجدّد. حيث يمتنع الخصوم في الدعوى التي صدر فيها الحكم الحائز لحجيّته من العودة إلى مناقشة المسألة التي فصل فيها في أيّ دعوى تالية ولو بأدلّة قانونيّة أو واقعيّة لم يسبق إثارتها في الدعوى الأولى.([142])

ذلك أنّ الأحكام التي يصدرها القضاء تكون حجّة فيما فصلت فيه لأنّه إذا صدر حكم في قضيّة، فإنّ القانون يعتبر ذلك الحكم عنوانا للحقيقة ولا يجوز للخصوم إعادة الأمر بينهم من جديد فالحجيّة يقصد بها حسم النّزاع والحيلولة دون تناقض الأحكام.([143])

ولم يعرّف المشرّع المصري الحجيّة مثل نظيره التونسي وإنّما تعرّض فقط لشروط إعمالها، وتتعلّق حجيّة الأحكام في المنازعات الجنائيّة بالنظام العام لأنّ قواعد قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائيّة تتّصل باعتبارات النظام العام، وتقوم الحجيّة في المنازعات المدنيّة بناء على ما يفرضه القانون من كون الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، وحرصا على حسن سير العدالة وتجنّب تأبيد المنازعات أمام القضاء.([144])

ويعرّف الدكتور أحمد أبو الوفاء([145]) حجيّة الشيء المحكوم به بأنّها “قرينة قانونيّة لا تقبل إثبات العكس مؤدّاها أنّ الحكم صدر صحيحا من ناحية الشكل وعلى حقّ من ناحية الموضوع فهو حجّة على ما قضى به”.

ويقرّر القانون المدني المصري أنّ للحكم حجيّة الشيء المحكوم به وحجيّة فيما فصل فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه القرينة (المادة 405 من القانون المدني). ولا تكون للأحكام حجيّة إلاّ في نزاع قام بين الخصوم أنفسهم، دون أن تتغيّر
صفاتهم، وتعلّق بذات الحقّ محلاّ وسببا، وقوام حجيّة الحكم هو ما يفرضه القانون من صحّة مطلقة في حكم القاضي وقد أطلق المشرّع قرينة الصحّة في حكم القاضي من حيث الإجراءات التي أدّت إليه وموضوع الحكم، رعاية لحسن سير العدالة واتّقاء تأبيد الخصومات.([146])

أمّا في الفقه والقانون الفرنسي فإنّ الحجيّة هي الخاصيّة الأساسية للحكم القضائي الذي له قيمة شرعيّة une valeur légale فهو قرينة على الحقيقة. وهذه الحجيّة قد أقرّها القانون الفرنسي بالفصل 1351 من المجلّة المدنية.

La principale caractéristique de l’acte juridictionnel, c’est de posséder une autorité qui n’est point accordée aux actes émanant d’un administrateur ordinaire. Cette autorité, reconnue par l’article 1351 du Code civil au titre de la preuve, est très importante, car elle donne à l’acte sa portée([147]) ; le jugement a une valeur légale ; une présomption de vérité est attachée à lui.

ويستثني القانون الفرنسي الأعمال التي ليست لها الصبغة القضائيّة كالأعمال الإدارية، والأعمال الولائية والأحكام التحضيريّة. ويؤكّد الفقهاء على أنّ الأحكام الباتّة jugements définitifs هي وحدها التي تحوز الحجيّة. وفق ما عرّفها الفصل 480 من مجلّة الإجراءات المدنية الفرنسية الجديدة والذي كنّا تعرّضنا إليه في الفقرة الثانية من المبحث الثاني من الفصل الثاني من الجزء الأوّل من هذه الرّسالة تحت عنوان مفهوم الحكم الباتّ في القانون المقارن.([148])

وكذلك الشأن بالنسبة لحجيّة الأمر المقضي في حكم جزائي على حكم جزائي أو في حكم مدني على حكم مدني أو في حكم جزائي على حكم مدني.

والقاعدة المتّفق عليها أنّه لا يمكن تتبّع شخص مرّتين من أجل نفس الفعل الذي اقترفه وصدر في شأنه حكم في الأصل من طرف محكمة القضاء.

On ne peut poursuivre une deuxième fois à raison du même fait la personne qui a fait l’objet d’une décision sur le fond d’une juridiction de jugement. ([149])

وهذه القاعدة تهمّ النظام العام، على أنّه لاستحالة التتبّع من جديد فمن الواجب أن تتوفّر بين التتبّع الثاني والتتبّع الأوّل ثلاثة شروط وهي وحدة الموضوع أي العقوبة ووحدة الأطراف (أي نفس الشخص أو الأشخاص) ووحدة السبب أي الفعل الإجرامي الذي علّل التتبّع le fait délictueux qui a motivé la poursuite.

وتكون للحكم حجيّة ولو كان قابلا للطعن فيه بإحدى طرق الطعن بمعنى أنّ عدم صيرورة “الحكم([150]) باتّا” لا يمنع من التمسّك بالدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسابقية الحكم فيها، إنّما هذه الحجيّة تكون مؤقّتة تزول إذا ألغي الحكم وتثبت إذا ما أصبح باتّا.([151])

والصّورة العمليّة لإعمال قاعدة حجيّة الأمر المقضي والتي غالبا ما يلجأ إليها هي صورة الدفع بهذه الحجيّة، فيدفع بحجيّة الأمر المقضي بقصد عدم قبول الدعوى أو عدم سماعها لسبق الفصل فيها، وكما يجوز الدفع بحجيّة الأمر المقضي يجوز أيضا التمسّك بهذه الحجيّة عند طريق دعوى.([152])

أ – الدفع بحجيّة الأمر المقضي والتمسّك بحجيّة الأمر المقضي :

فللحكم حجيّة على أطراف النّزاع تمنع من طرحه بينهم من جديد فمتى صدر الحكم ولو كان حكما ابتدائيا غيابيا وجب على الخصوم احترامه، فلا يجوز لأحد منهم أن يجدّد النّزاع بدعوى مبتدأة، فإذا رفعت هذه الدعوى لا يمكن قبولها بل تدفع بحجيّة الأمر المقضي أي يطلب الحكم بعدم جواز سماعها لسبق الفصل فيها ولكن حجيّة الأمر المقضي لا تمنع من الطعن في الحكم بالطرق المخوّلة له قانونا سواء كانت طرق الطعن العادية أو غير العادية، وعند ذلك يطرح النّزاع من جديد أمام قضاء المحكمة المصدّرة للحكم أو لدى محكمة أعلى فتؤيّد الحكم أو تلغيه دون أن تكون قد أصدرت حكما قائما إلى جانب الحكم الأوّل.

وقد ميّز الفقه في خصوص حجيّة الأمر المقضي بين الدفع بهذه الحجيّة وبين التمسّك بها واعتبرها شيئا منفصلا، فالأوّل هو دفع موضوعي يهدف إلى عدم قبول الدعوى الجديدة والمدّعى عليه أو المطلوب هو من يدفع بقاعدة حجيّة الشيء المحكوم به.

أمّا الثاني فليس من قبيل الدفع بل أنّ المدعي يتمسّك بحجيّة الأمر المقضي في دعوى يرفعها هو، ومثال ذلك فقد يكون المدّعي متضرّرا في جريمة وصدر حكم جنائي بإدانة المتّهم، فيتمسّك المتضرّر في دعوى التعويض المدنيّة التي يرفعها ضدّ المحكوم عليه بحجيّة الحكم الجنائي فيما يتعلّق بالوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضروريا.

وقد قيل إمعانا في التمييز بين التمسّك بحجيّة الأمر المقضي والدفع بهذه الحجيّة أنّ لكلّ منهما شروطا تتميّز عن شروط الآخر.

فالشروط الواجب توافرها في الحكم لتثبت له الحجيّة هي شروط التمسّك بحجيّة الأمر المقضي.
أمّا شروط الدفع فهي الشروط الواجب توافرها في الخصوم والمحلّ والسبب.

ويرى الفقيه عبد الرزّاق السّنهوري أنّه “لا فائدة في الإغراق في التمييز ما بين الدفع بحجيّة الأمر المقضي والتمسّك بهذه الحجيّة، فهما وجهان متقابلان لشيء واحد فحجيّة الأمر المقضي قد يتمسّك بها المدّعي وقد يتمسّك بها المدّعى عليه كدفع يطلب فيه عدم جواز سماع الدعوى لسبق الفصل فيها. وهذا ما يقع في الغالب وفي الحالتين تبقى حجيّة الأمر المقضي شيئا واحدا لها شروطا واحدة دفعا كان أو غير دفع”.

1 – الاعتبارات التي تقوم عليها حجيّة الأمر المقضي :

تقوم حجيّة الأمر المقضي، دفعا كانت أو غير دفع كما صوّرها المشرّع في التقنين المدني المصري ومختلف التشريعات المقارنة وحتّى المشرّع التونسي على أساس قرينة قانونية قاطعة.

فقد جاء نصّ المشرّع المصري صريحا في هذا المعنى إذ يقرّر أنّ “الأحكام التي حازت قوّة الأمر المقضي تكون حجّة بما فصلت فيه من الحقوق ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه القرينة”، ويلاحظ أنّ المشرّع المصري في هذا النصّ (المادة 101 من قانون الإثبات) قد خلط بين حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي ولا جدال أنّ المقصود هو حجيّة الأمر المقضي نظرا للاختلاف بينهما مثلما سوف نرى لاحقا في هذه الدراسة.

فالتشريعات المقارنة تفرض فرضا غير قابل لإثبات العكس أنّ الحكم هو عنوان الحقيقة وأنّ الحقيقة القضائيّة قرينة قاطعة على الحقيقة الواقعة، ووجب أن تكون هذه القرينة قاطعة لا يجوز دحضها.

وذلك لاعتبارين أساسين :

الاعتبار الأوّل : أنّ الحكم متى فصل في خصومة قائمة فإنّه لابدّ من الوقوف عنده بمعنى أنّ الوقائع التي طرحت على القضاء وصدر في شأنها حكم لا يمكن إعادة عرضها من جديد على القضاء إلاّ بطريق الطعن إذا كان ممكنا والغاية من ذلك هو وضع حدّ لتجدّد الخصومات والمنازعات من جهة وحتّى لا تطول النّزاعات وتتعطّل المعاملات بين الناس من جهة أخرى.
فالحجيّة تقوم على فكرة ضرورة حسم النّزاع ووضع حدّ تنتهي عنده الخصومات فما دام قد صدر في النّزاع حكم قضائي قطعي فإنّه يحوز حجيّة الأمر المقضي في منطوقه لا في أسبابه.([153])

الاعتبار الثاني : أنّه إذا سمح القانون بتجديد النّزاع بدعاوى مبتدأة فإنّه في هذه الحالة يمكن لكلّ من الخصمين أن يحصل على حكم يتعارض مع الحكم الذي حصل عليه الخصم الآخر فتقوم أحكام متعارضة في ذات النّزاع وبين نفس الخصوم ممّا يستحيل معه تنفيذ الأحكام القضائية. إذ لا يعرف على وجه اليقين من الخصمين صاحب الحقّ المتنازع بشأنه كما أنّ التعارض ما بين الأحكام من شأنه أن يمسّ من كرامة القضاء وأن يفقده احترامه في النّفوس.([154])
فمن الضّروري إذا ضمانا لكلّ هذه الاعتبارات الحيلولة دون التناقض في الأحكام القضائيّة لكن مع مراعاة النسبيّة في الحقيقة القضائية.

ويبدو أنّ الأثر الأساسي للحجيّة هو عدم جواز إعادة النظر في الدعوى وأن لا تنظر نفس الدعوى مرّتين بدليل أنّ المشرّع التونسي خوّل التمسّك بسبق النشر عملا بأحكام الفصل 15 من م.م.م.ت.

وإلى جانب هذا الأثر يوجد أثر آخر يتمثّل في احترام مضمون الحكم القضائي في أي مسألة تثور فيها المسألة التي فصل فيها الحكم ولأي من الأطراف أن يدفع بسبق النظر في المسألة([155]).

وعلاوة على ذلك فقد أقرّ المشرّع التونسي قاعدة حجيّة الأمر المقضي بالفصل 481 من م.ا.ع وما يمكن ملاحظته أنّ حجيّة الأمر المقضي تختلف عن قوّة الأمر المقضي.

2 – حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي :

يجب التمييز بين حجيّة الأمر المقضي L’autorité de la chose jugée وقوّة الأمر المقضي La force de la chose jugée.

فحجيّة الأمر المقضي معناها أنّ للحكم حجيّة فيما بين الخصوم وبالنسبة إلى ذات الحقّ محلاّ وسببا فيكون حجّة في هذه الحدود، حجّة لا تقبل الدحض ولا تتزحزح إلاّ بطريق من طرق الطعن في الحكم، وتثبت هذه الحجيّة لكلّ حكم قطعي، أي لكلّ حكم موضوعي يفصل في خصومة، سواء كان هذا الحكم نهائيّا أو ابتدائيّا، حضوريا أو غيابيا وتبقي للحكم حجيّته إلى أن يزول بإحدى طرق الطعن فإذا كان غيابيا حتّى يزول بإلغائه بالمعارضة، (الاعتراض) وإذا كان ابتدائيا حتّى يزول بإلغائه بالاستئناف وإذا كان نهائيا حتّى يزول بنقضه أو بقبول التماس إعادة النظر.

ولحجيّة الأمر المقضي معنى آخر في القانون الفرنسي هو قابليّة الحكم للتنفيذ إلى أن يطعن فيه، ذلك أنّ الأحكام في القانون الفرنسي تكون قابلة للتنفيذ إلى أن يطعن فيها، فالذي يوقف تنفيذها ليس هو ميعاد الطعن بل هو الطعن ذاته.

ويذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار أنّ الحكم القابل للطعن فيه تكون له حجيّة الأمر المقضي بالمعنين، فهو حجّة على الخصوم وقابل للتنفيذ، فإذا ما طعن فيه فعلا، زال المعنى الثاني – القابليّة للتنفيذ – وبقي المعنى الأوّل إذ يكون حجّة على الخصوم إلى أن يؤدّي الطعن إلى إلغائه.

أمّا قوّة الأمر المقضي فهي مرتّبة يصل إليها الحكم إذا أصبح نهائيا غير قابل لا للاعتراض ولا للاستئناف أي غير قابل للطعن فيه بطريق من طرق الطعن العادية حتّى وإن ظلّ قابلا للطعن فيه بطريق غير اعتيادي.

ويجب التمييز بعناية بين حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي فكثيرا ما يقع الخلط بينهما في الفقه والقضاء والتشريع، ومن أسباب هذا الخلط ما يرجع إلى لغة القانون الفرنسي فالحكم القطعي définitif يجوز الحجيّة autorité والحكم النهائي définitif يحوز القوّة Force.

فوقع الخلط في استعمال لفظ définitif بمعنى القطعي والنهائي في آن واحد، وذلك على خلاف الاستعمال في اللغة العربية إذ يسهل التمييز بين الحكم القطعي الذي يحوز الحجيّة دون القوّة والحكم النهائي الذي يحوز الحجيّة والقوّة معا.

فالحكم القطعي نهائيا كان أو ابتدائيا، حضوريا أو غيابيا تثبت له حجيّة الأمر المقضي لأنّه حكم قضائي فصل في خصومة، ولكن هذا الحكم لا يحوز قوّة الأمر المقضي إلاّ إذا أصبح نهائيا أي غير قابل لطرق الطعن العادية ولو كان قابلا للطعن بطريق غير اعتيادي.([156])

أمّا إذا كان الحكم قابلا للاعتراض أو الاستئناف فإنّه لا يحوز قوّة الأمر المقضي ولكن تكون له حجيّة الأمر المقضي وتبقى هذه الحجيّة قائمة مادام الحكم قائما ولمّا يطعن فيه بالاعتراض أو الاستئناف فتعلّق الحجيّة فإذا ألغي نتيجة الطعن زال وزالت معه حجيّته. أمّا إذا تأيّد ولم يعد قابلا لا للاعتراض ولا للاستئناف بقيت له حجيّة الأمر المقضي وتنضاف لها قوّة الأمر المقضي.

ومن ثمّ يتبيّن أنّ كلّ حكم قضائي يحوز قوّة الأمر المقضي يكون حتما حائزا لحجيّة الأمر المقضي والعكس غير صحيح.

ب – حجيّة الأمر المقضي والنظام العام :

يبدو للوهلة الأولى أنّ حجيّة الشيء المحكوم به تتعلّق بالنظام العام وذلك بالرّجوع إلى الاعتبارين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما الحجيّة، فوضع حدّ لتجديد الخصومات وعدم جواز قيام أحكام متعارضة ممّا يفقد القضاء هيبته ويزعزع ثقة الناس فيه كلّ هذه اعتبارات تتعلّق بالمصلحة العامة.

لكن هناك مسألة انعقد عليها الإجماع لدى جمهور الفقهاء أنّ حجيّة الأمر المقضي تعتبر من النظام العام في المسائل الجنائيّة.

فالحكم الذي يصدر في جريمة بالإدانة أو بالبراءة يعني النظام العام في المقام الأوّل ولا يجوز أن يترك أمر هذا الحكم للخصوم يتصرّفون فيه كما يشاؤون فمتى صدر الحكم الجنائي وجب أن تكون له حجيّة مطلقة بالنسبة للخصوم وفي حقّ الكافة erga omnes([157]) وهو حجيّة على المحاكم المدنيّة والمحاكم الجنائية بل هو حجّة على الناس جميعا، ومن ثمّة كان للقاضي في الدعوى الجنائيّة أن يثير من تلقاء نفسه حجيّة الأمر المقضي ولو لم تتمسّك بها الخصوم.

أمّا في الدعوى المدنيّة فيكاد الإجماع حاصلا بأنّ حجيّة الأمر المقضي ليس من النظام العام.

ج – شروط قيام حجيّة الأمر المقضي :

من أهمّ هذه الشروط هي الشروط المتعلّقة بالحكم ولذا سنرى ما هي هذه الشروط الواجب توافرها في الحكم.

لا تقوم حجيّة الأمر المقضي إلاّ إذا توافر في الحكم شروط ثلاثة وهي :

1 – حكم صادر من جهة قضائية :

يجب للتمسّك بحجيّة الأمر المقضي أن يكون هناك حكم صادر من جهة قضائيّة.

ولا يكون لقرارات الحفظ الصادرة من النيابة العمومية أو قاضي التحقيق أو دائرة الاتّهام حجيّة الأمر المقضي.

فلا بدّ إذن أن يصدر الحكم من جهة قضائيّة ويستوي في ذلك أن تكون جهة القضاء مدنيّة أو تجاريّة… كما يستوي أن تكون جهة قضاء عادية أو جهة قضاء استثنائيّة – فتثبت حجيّة الأمر المقضي للأحكام الصادرة من المحاكم العسكريّة.([158])

أمّا الحكم الصادر من محكمة أجنبيّة، ففي فرنسا يحوز حجيّة الأمر المقضي إذا ذيل بالصيغة التنفيذية. وفي مصر يميل القضاء إلى تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل.([159])

وفي تونس لا بدّ من إكساء الأحكام الأجنبية بالصيغة التنفيذية حتّى تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها أي تحوز الحجيّة أو نفوذ اتّصال القضاء وفق الفصل 481 من م.ا.ع.

ويحوز الحكم حجيّة الأمر المقضي حتّى ولو كان مشوبا بعيب في الشكل، أو صادرا ضدّ خصم غير أهل للتقاضي، أو اشتمل على خطأ في تطبيق القانون وحتّى لو كان البطلان بسبب مخالفة النظام العام ما لم يكن الحكم مشوبا بالغشّ أو كان نتيجة تواطؤ بين الخصمين.([160])

وللتمسّك بحجيّة الشيء المحكوم به فإنّه لا بدّ أن تكون جهة القضاء التي أصدرت الحكم لها الاختصاص في إصداره فإذا كانت المحكمة ليست صاحبة الاختصاص لم يكن لحكمها حجيّة ويكون للحكم حجيّة إذا صدر من محكمة لها الولاية في إصداره حتّى لو كانت هذه المحكمة غير مختصّة سواء من حيث عدم الاختصاص الموضوعي أو عدم لاختصاص الترابي.

ومثال ذلك الحكم الصادر من محكمة مدنيّة تكون له حجيّة الأمر المقضي ولو كان المختصّ هو القضاء التجاري.

كما أنّ المحكمة ذات الاختصاص يجب أن تكون قد أصدرت الحكم بموجب سلطتها القضائيّة لا بموجب سلطتها الولائيّة كما سبق أن شرحنا.

2 – حكم قطعي :

تترتّب الحجيّة على الأحكام القطعية وعلى كلّ الأحكام القطعيّة وهو الرّأي السّائد في الفقه الفرنسي والمصري والإيطالي.([161])

إلاّ أنّ الفقه الفرنسي والمصري بوجه عام، يرتّبان هذه الحجيّة على الأحكام القطعية بلا تمييز بين الأحكام الموضوعية والأحكام الإجرائيّة من حيث الحجيّة.

فالحكم الذي تكون له حجيّة يجب أن يكون حكما قطعيّا أي يكون مثلا فاصلا في موضوع الدعوى أو في جزء منه أو في دفع من الدفوع الشكلية أو الموضوعية.([162])

كما جاء في مؤلّف الأستاذ عبد الرزّاق السّنهوري([163]) “ويعتبر حكما قطعيا، فتثبت له الحجيّة الحكم الذي يبتّ في دفع سواء كان الدفع موضوعيا أو شكليا كالحكم بعدم الاختصاص… والحكم بعدم قبول الدعوى أو بعدم جواز سماعها… والحكم ببطلان صحيفة الدعوى والحكم بقبول الاستئناف شكلا… ويعتبر حكما قطعيا كذلك فتثبت له الحجيّة، الحكم الذي يبتّ في نزاع يتّصل بإجراءات الخصومة، كالحكم بسقوط الخصومة وبانقضائها بمضيّ المدّة وبتركها وباعتبار الدعوى كأن لم تكن”.

بينما الفقه الإيطالي يميّز بين الأمر المقضي الموضوعي Cosa judicata sostanziale الذي يتعلّق بالمركز الموضوعي وبين الأمر المقضي الشكلي Casa judicata formale الذي لا يتعلّق بالمركز الموضوعي إنّما يتعلّق بمسألة إجرائيّة.([164])

أمّا الاتّجاه الذي يقصر الحجيّة على الأحكام الموضوعية وحدها، فمبناه أنّ الأحكام الإجرائيّة ليست أعمالا قضائيّة أي تنتفي عنها صفة العمل القضائي بالمعنى الدقيق لأنّها تصدر في مسألة إجرائيّة ولا تصدر بإجابة أو رفض طلبات المدعي أو بالأحرى هي لا تتعلّق بالحقّ.([165])

والواقع أنّ التفرقة بين الأحكام الموضوعيّة والأحكام الإجرائيّة من حيث الحجيّة هي تفرقة نظريّة بحتة وغير ذات موضوع باعتبار أنّ وظيفة القضاء هي الحماية القضائيّة للقانون سواء كان هذا القانون قانونا موضوعيا أو قانونا إجرائيّا، ممّا يعني أنّ الأحكام الإجرائيّة تؤدّي دورا رئيسيا في الوظيفة القضائية وهي من ثمّ صورة من صور الحماية القضائيّة للقانون، وبالتّالي فلا مبرّر لإنكار حجيّة هذه الأحكام، بل ولا مبرّر هناك لاختلاف هذه الحجيّة عن حجيّة الأحكام الموضوعيّة.([166])

وخلاصة القول أنّ حجيّة الأمر المقضي لا تكون إلا لحكم قطعي أي للحكم البات وهو الحكم الصادر في الموضوع بالبتّ فيه ولو كان حكما ابتدائيا، غيابيا قابلا للطعن فيه بالاعتراض وبالاستئناف، فلا ضرورة حتّى يكون للحكم حجيّة الشيء المحكوم به أن يصبح الحكم القطعي حكما نهائيا Jugement passé en force de chose jugée باستنفاذه لطرق الطعن العادية من اعتراض واستئناف.

وهناك أحكام قطعيّة لا تبتّ في الخصومة على وجه حاسم، فهذه الأحكام لا تحوز حجيّة الأمر المقضي مثال ذلك الأحكام التهديدية Jugement comminatoires، فالحكم بغرامة تهديدية astreintes لا يحوز حجيّة الأمر المقضي إذ أنّ الغرامة التهديدية تجوز إعادة النظر فيها بالزيادة أو الإنقاص أو الإلغاء.

الحكم برفض الدعوى بالحالة التي هي عليها، فإنّه لا يحوز الحجيّة إذ أنّه لم ينه النّزاع على وجه حاسم وإذا كانت له حجيّة فهي حجيّة مقصورة على الحالة التي كانت عليها الدعوى حين رفعها لأوّل مرّة، فيجوز رفع الدعوى من جديد بعد تصحيحها أو تغييرها ومثال ذلك، رفع الدعوى من غير ذي صفة، فيحكم بعدم قبولها وتقبل بعد ذلك إذا رفعت من ذي الصفة.([167])

وفي مقابل ذلك فإنّ الأحكام غير القطعية فإنّها لا تحوز الحجيّة وهي الأحكام الصادرة قبل الفصل في الموضوع كما سبق الإشارة إليها.

أمّا الأحكام الوقتيّة سواء كانت قرارات استعجالية أو أذون على المطالب فيرى بعض الشرّاح أنّها ليست لها حجيّة الشيء المحكوم به لا أمام القاضي الذي أصدرها ولا أمام أيّة محكمة أخرى([168]) لأنّه من الممكن تعديلها تبعا لتغيّر الظروف وأن تكن ملزمة للخصوم وواجبة التنفيذ.

ومع ذلك، يرى البعض الآخر أنّه من الخطأ القول بأنّ الأحكام الوقتيّة ليست لها حجيّة الشيء المحكوم به، فلهذه الأحكام حجيّة شأنها شأن الأحكام القطعية، بل أنّها قطعية فيما تفصل فيه وهي ملزمة للخصوم باعتبار قابليّتها للتنفيذ مباشرة وبصورة متأكّدة بعد استصدارها، هذا بالرّغم من أنّها تفصل لمدّة مؤقّتة نظرا لأنّ طلبات الخصوم تقوم على ظروف متغيّرة.

واتّفق الفقهاء على اعتبار القضاء الوقتيّ لا يجوز الرّجوع فيه إلاّ إذا تغيّرت الظروف، أمّا إذا لم تتغيّر الظروف يكون للحكم حجيّة الأمر المقضي مثله في ذلك مثل الحكم القطعي.

3 – أن يكون التمسّك بالحجيّة في منطوق الحكم لا في أسبابه :

لا تثبت الحجيّة في الأصل إلاّ لمنطوق الحكم Dispositif دون أسبابه Motifs والمنطوق هو الجزء من الحكم الذي يفصل في نقط النّزاع([169]) أو الجزء النهائي من الحكم الذي تحسم فيه المحكمة النّزاع وتؤكّد به حقوق الخصوم.([170])

ويعتبر الدكتور عبد الرزاق السنهوري أنّه : “قد يفصل المنطوق في بعض نقط النّزاع، لا على وجه صريح بل بصفة ضمنيّة Implicitement، فتثبت الحجيّة لهذا المنطوق الضمني مادام هو النتيجة الحتمية للمنطوق الصريح Suite nécessaire d’une disposition expresse.

أمّا الأستاذ عبد الحميد الشورابي فله رأي مخالف في هذا الخصوص إذ يعتبر أنّ ما يسمّى بالمنطوق الضمني ليست له أيّة حجيّة لأنّ موضوعه يمكن أن يكون محلّ قضيّة منفصلة.

ويبدو أنّه من الأرجح اعتبار منطوق الحكم يحوز الحجيّة.

فالحكم الذي يقضي بصحّة الإجراءات التي اتّخذت لتنفيذ سند تكون له حجيّة الأمر المقضي في صحّة هذا السند ونفاذه، لأنّه مادام قد حكم بصحّة الإجراءات التي اتّخذت لتنفيذ سند فإنّ هذا يقتضي ضرورة صحّة هذا السند وقابليّته للتنفيذ.([171])

كما يشتمل المنطوق الذي تثبت له الحجيّة ما قضى به في الدعوى الأصليّة وفي الدعاوى والدفوع التبعيّة، فإذا دفع المدّعى عليه الدعوى بدفع، أو قام بدعوى معارضة، أو أثيرت مسألة أوّلية من أي الخصمين وقضى الحكم في كلّ هذه الأمور فإنّ المنطوق الصادر في جميع هذه المسائل الفرعية تكون له حجيّة الأمر المقضي كالمنطوق الصادر في الدعوى الأصليّة.

فمنطوق أي حكم قطعي يحوز حجيّة الأمر المقضي باعتبار أنّه فصل في نزاع كان محلّ مناقشة بين طرفي الدعوى وتقدّم فيه كلّ منهما بدفوعه وطلباته. أمّا ما يرد في المنطوق من عبارات عارضة لم تكن محلّ مناقشة لا يمكن أن تكتسب الحجيّة.

وإذا كان المبدأ أنّ منطوق الحكم هو الذي يحوز الحجيّة فماذا عن أسباب ووقائع الحكم ؟ والمبدأ أنّ أسباب الحكم لا تحوز حجيّة الأمر المقضي فيما عرضت له من المسائل. على أنّ هناك من الأسباب ما تكون له الحجيّة وهي الأسباب التي ترتبط ارتباطا وثيقا بمنطوق الحكم تحدّد معناه أو تكمله، بحيث لا يقوم المنطوق بدون هذه الأسباب حيث إذا عزل عنها صار مبهما أو ناقصا.

وفي هذا الاتّجاه جاء بإحدى قرارات محكمة التعقيب([172]) الحديثة “إنّ حجيّة الحكم لا تثبت لمنطوقه فقط بل تثبت أيضا للأسباب التي اعتمدها والتي لا يقوم بدونها”.

وهذه الأسباب المرتبطة بالمنطوق قد يتمسّك بها الخصوم أنفسهم في دعوى أخرى تالية وتكون من بين أدلّة الإثبات التي يتقدّمون بها، فيقدّر القاضي في هذه الحالة دلالتها كما يقدّر أي دليل آخر.

والمبدأ أنّ وقائع الدعوى لا حجيّة لها في دعوى أخرى وإنّما هي حجّة بما جاء فيها في نفس الدعوى، فإذا طعن في الحكم بالتعقيب، فإنّ محكمة التعقيب تتقيّد بما أثبتته محكمة الموضوع من الوقائع ولا تحيد عنها، ولا تبسط رقابتها إلاّ في مسائل تتعلّق بالقانون ولكن قد تستثنى من هذا المبدأ بعض الوقائع التي تكمّل منطوق الحكم بحيث يكون المنطوق ناقصا بدونها، فتكون للوقائع في هذه الحالة حجيّة الأمر المقضى به فيما تكمّل فيه المنطوق.

وحجيّة الأمر المقضي لا تمنع من تفسير الحكم ولا من تصحيحه وفقا للأوضاع المقرّرة في التشريع، ولا من الفصل فيما عسى أن تكون المحكمة قد أغفلت الفصل فيه من بعض الطلبات الموضوعية، ولا من تصحيح ما عسى أن تكون قد وقع في الحكم من أخطاء مادية بحتة، كتابية كانت أو حسابية، بشرط ألاّ يتّخذ التصحيح ذريعة لإعادة النظر في موضوع الحكم. مثلما بيّنا ذلك تفصيلا في المبحث السابق المتعلّق باستنفاذ الولاية.

الفقرة الثانية – الحجيّة و “اتّصال القضاء” في القانون التونسي

لقد أفردنا الحديث عن الحجيّة و”اتّصل القضاء” في القانون التونسي في فقرة مستقلّة، نظرا لما لهذه المسألة من انعكاس مباشر عن مفهوم الحكم الباتّ في القانون التونسي، بل قل عن ازدواجيّة مفهوم الحكم الباتّ كلّما تعلّق الأمر “باتّصال القضاء” مثلما سنرى عند حديثنا عن فقه القضاء، خصوصا وأنّ المشرّع التونسي لم يعرّف لنا حجيّة الأمر المقضي و”اتّصال القضاء” بصفة صريحة لا في مجلّة الالتزامات والعقود ولا في مجلّة الإجراءات الجزائيّة.

ولذلك رأينا أن نقسّم هذه الفقرة إلى ثلاث أقسام سنتحدّث في القسم الأوّل منها عن الحجيّة من خلال التشريع (أ) وفي قسم ثان عن الحجيّة في فقه القضاء (ب) وثالثا : نسبيّة الحجيّة ومدى تعلّقها بالنظام العام (ج).

أ – الحجيّة من خلال التشريع :

إنّه من المتّفق عليه بأنّ الفصل 481 من م.ا.ع هو الذي جاء بقاعدة الحجيّة أو “اتّصال القضاء” وقد نصّ الفصل المذكور على ما يلي : “ما أناطه القانون من النفوذ بأحكام المجالس التي لا رجوع فيها لا يتعلّق إلاّ بما قضى به المجلس ولا يتمسّك به إلاّ في خصوص موضوعه أو ما كان نتيجة ضروريّة منه ولا يكون ذلك إلاّ بالشروط الآتية:

أوّلها : أن يكون موضوع الطلب واحدا. ثانيهما : أن يكون سبب الدعوى واحدا. ثالثها : أن تكون الدعوى بين نفس الخصوم الصادر بينهم الحكم وبعين الصفة السابقة في الطالب والمطلوب والورثة ومن انجرّ له حقّ من الخصوم يعتبرون كالخصوم أنفسهم إلاّ إذا كان هناك تدليس أو تواطؤ”.

ويتبيّن من هذا الفصل أنّ مشرّع الالتزامات والعقود لم يستعمل مصطلح “اتّصال القضاء” وإنّما استعمل العبارات التالية : “ما أناطه القانون من النفوذ بأحكام المجالس التي لا رجوع فيها“.

وقد تولّد المشكل مثلما سبق أن ذكرنا في تأويل الفصل المذكور من طرف الفقه وفقه القضاء وبالخصوص فيما يتعلّق بمفهوم “الحكم الذي لا رجوع فيه” إذ وقع تأويله مثلما سنرى باعتباره “الحكم البات” irrévocable أي الحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن العاديّة أو الغير العاديّة أو الحكم القابل للتنفيذ ولو أنّه مازال قابلا للطعن بالطرق الغير العاديّة.

وهذا يتعارض مع مفهوم “الحكم البات” الذي كنّا تعرّضنا إليه بالجزء الأوّل من هذه الرّسالة باعتباره الحكم الذي بتّ في النّزاع المعروض على المحكمة وأنهى تعهّدها بحيث لا يمكنها الرّجوع فيه، أي الحكم القطعي وهو المصطلح المستعمل من طرف أغلب التشريعات والفقهاء.

ويبدو لي أنّ مصدر الإشكال يعود إلى سببين : السبب الأوّل يتعلّق بالترجمة إذ لا يخفى أنّ م.ا.ع صدرت في عهد الحماية الفرنسيّة. وبالرّجوع إلى النصّ الرسمي باللّغة الفرنسيّة نجد أنّ عبارة “أحكام المجالس التي لا رجوع فيها” يقابلها باللّغة الفرنسيّة L’autorité de la chose jugée أي حجيّة الشيء المحكوم فيه وقد وقع ترجمة عبارة autorité بالنّفوذ وعبارة la chose jugée بالحكم الذي لا رجوع فيه.

والسبب الثاني يعود في اعتقادي إلى عدم إيلاء الفصل الموالي أي الفصل 482 من نفس المجلّة العناية الكافية لأنّه يبدو لي بأنّه جاء صريحا في تعريف مفهوم الحكم “الذي لا رجوع فيه” فقد نصّ على أنّ : “الأحكام الآتي بيانها لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيه وهي :

أوّلا : أحكام المجالس المطلوب استئنافها عند اقتضاء حالها.

ثانيا : أحكام مجالس البلاد الأجنبيّة حتّى يصدر الحكم بتنفيذها من المجالس التونسيّة.

ثالثا : الأوامر والأحكام الوقتيّة أو التحضيريّة التي تصدر أثناء المرافعة إذا لم تتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها”.

وقد جاء بالترجمة الرّسميّة لما به الحاجة من ذلك الفصل باللّغة الفرنسيّة :

« L’autorité de la chose jugée ne s’attache pas :

1-2-3. aux ordonnances et jugements interlocutoires rendus au cours de l’instance lorsqu’ils ne renferment aucune disposition sur le fond des droits au litige ».

وبما أنّ الحديث بأواخره فإنّ في الفصل 482 المذكور جوابا شافيا عن مفهوم الحكم الذي “لا رجوع فيه” ألا وهو الحكم الذي يتضمّن شيئا من الحكم في أصل الحقوق المتنازع فيها، أي الحكم البات في النّزاع وفق ما سبق التعرّض إليه في الجزء الأوّل من هذه الرّسالة. فهذا الحكم الذي لا يمكن للمحكمة الرّجوع فيه هو الذي يحوز الحجيّة خلافا للأحكام الوقتّية أو الأحكام التحضيريّة التي يمكن للمحكمة الرّجوع فيها ولا تحوز الحجيّة.

والخلاصة ممّا سبق ذكره أنّ مشرّع الالتزامات والعقود جاء بحجيّة الشيء المحكوم به الذي هو أثر من آثار الحكم الباتّ في النّزاع. ولم يتعرّض لقوّة الأمر المقضي La force de la chose jugée والاحكام التي أحرزت على قوّة اتّصال القضاء وهي التي لم تكن أو لم تعد قابلة للطعن بإحدى الوسائل المعطّلة للتنفيذ وفق ما نصّ على ذلك الفصل 286 من م.م.م.ت.

ويبدو أنّ عبارة “الحكم الذي لا رجوع فيه” علاوة على أنّها تفيد حجيّة الأمر المقضي autorité de la chose jugée وفق الفصل 481 المذكور فإنّ تلك العبارة يقابلها باللّغة الفرنسيّة مصطلح jugement définitif أي الحكم الذي بتّ في النّزاع فلا يمكن للمحكمة الرّجوع فيه وهذا يتّفق مع ما ذهب إليه الفقيهان عبد الرزاق السنهوري وأحمد أبو الوفاء مثلما أشرنا إلى ذلك. وقد وقع فقه القضاء الفرنسي بدوره في الخلط بين الحكم الباتّ أي الحكم القطعي définitif وبين الحكم النهائي définitif أو الذي اكتسب قوّة الأمر المقضي وكان لذلك انعكاس على فقه القضاء التونسي الذي كان متأثّرا بالقانون الفرنسي مثلما رأينا.

فلإكتساب حجيّة الأمر المقضي ليس ضروريّا أن يكون الحكم لا رجوع فيه بمعنى irrévocable أي غير قابل لأي وسيلة من وسائل الطعن définitif ne veut pas dire irrévocable وإنّ حكما قضائيا له حجيّة الأمر المقضي من اليوم الذي صدر فيه إلى أن يقع الطعن فيه بوسيلة طعن عاديّة.([173])

« Pour avoir autorité de la chose jugée, il n’est pas nécessaire que le jugement soit irrévocable, c’est-à-dire, qu’il ne soit plus susceptibles de faire l’objet d’une voie de recours, cette précision est d’autant plus utile qu’il règne en la matière une terminologie trompeuse au point que la jurisprudence s’y méprend parfois ».([174])

وأنّ هذا الخلط في مفهوم الحكم القطعي définitif والنهائي définitif كان سببا في الاعتقاد بأنّ الأحكام النهائيّة أو التي لم تعد قابلة لأيّ وسيلة من وسائل الطعن irrévocable هي التي تحرز على قوّة الأمر المقضي فقط واعتقد أنّ سبب هذا الخطأ في فقه القضاء الفرنسي مردّه إلى عدم التمييز بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ أو للطعن.

والملاحظ إذا بأنّ مشرّع م.ا.ع لم يستعمل مصطلح “اتّصال القضاء” وإنّما وردت تلك العبارة صراحة بالفصل الرّابع من م.ا.ج عند حديثه عن انقضاء الدعوى العموميّة وهو يفيد الحكم القابل للتنفيذ والذي لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن irrévocable بما أنّه يمحي الدعوى العامّة مثل بقيّة الصّور الأخرى التي عدّدها الفصل المذكور. فلا يمكن تبعا لذلك إعادة تتبّع شخص من أجل أفعال عوقب عنها بحكم لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن.

وبما أنّ مشرّع الالتزامات والعقود مثلما أشرنا لم يستعمل عبارة اتّصال القضاء وبالتالي فهو لم يفسّر فحواها فقد حاولنا العثور على تفسير تلك العبارة من طرف المشرّع نفسه فاهتدينا إلى قانون الحالة المدنيّة([175]) وهو إن كان قانونا استثنائيّا فعلّه يساعدنا على مفهوم ومقصد المشرّع من عبارة اتّصال القضاء من الناحية المدنية وهل تتوافق مع نفس تلك العبارة الواردة بمجلّة الإجراءات الجزائيّة ؟

فقد نصّ الفصل 41 من ذلك القانون([176]) على أنّه : (يتمّ الترسيم المشار إليه بالفصل السابق بسعي من كاتب المحكمة التي أصدرت الحكم الأخير في النّزاع بعد استنفاذ طرق الطعن ولهذا الغرض يوجّه كاتب المحكمة نصّ الحكم أو القرار إلى ضابط الحالة المدنيّة المعني بالأمر في ظرف عشرة أيّام من تاريخ اتّصال القضاء بهما وإلاّ يعاقب الكاتب بخطيّة…”.

أمّا بالتمعّن من الفصل 481 من م.ا.ع وما يليه فإنّ مشرّع الالتزامات والعقود لم يأت بقاعدة اتّصال القضاء على النحو المذكور وإنّما جاء بحجيّة الأمر المقضي مثلما تفيده عبارة الحكم الذي “لا رجوع فيه” مثلما بيّنا عند حديثنا عن الحكم الباتّ، خلافا لما ذهب إليه شقّ من فقه القضاء في هذا الموضوع مثلما سنرى في القسم الثاني من هذه الفقرة.

ب – الحجيّة من خلال فقه القضاء :

يمكن تقسيم فقه القضاء التونسي في تحديد مفهومه لحجيّة الأمر المقضي أو “لاتّصال القضاء” إلى قسمين : قسم أوّل الفصلين 481 و482 تأويلا يتماشى مع ما كنّا بيّناه في القسم الأوّل من هذه الفقرة والذي يتّفق مع فقه القضاء السابق أو القديم الذي كنّا تعرّضنا إليه عند حديثنا عن الحكم الباتّ في النّزاع ولا يمكن الرّجوع فيه خلافا للأحكام التحضيريّة التي يمكن الرّجوع فيها مثلما بيّنا ذلك في الجزء الأوّل، وتبعا لذلك يكون لذلك الحكم حجيّة الأمر المقضي أو حجيّة الشيء المحكوم فيه.

وقسم ثان لم يكن واضحا في تحديد مفهوم الفصل 481 المذكور فلم يفرّق بين حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي وبين اتّصال القضاء بمعنى الحكم الذي لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن أي أنّه لم يفرّق بين حجيّة الحكم الباتّ وبين الحكم الباتّ القابل للتنفيذ إضافة إلى عدم الاستقرار في استعمال المصطلحات الدّالة على حجيّة الحكم.

1 – القسم الأوّل من فقه القضاء :

إنّ هذا القسم من فقه القضاء التونسي ذهب في تأويل الفصل 481 من م.ا.ع المتعلّق بالحجيّة تأويلا يتماشى مع النّصوص القانونيّة كما يتماشى مع ما استقرّ عليه رأي الفقهاء في هذا الموضوع.

وفي هذا المعنى يبدو أنّ محكمة التعقيب([177]) قد اهتدت إلى التعريف الذي أجمع عليه الفقهاء فيما يتعلّق بحجيّة الأمر المقضي بقولها أنّ : “حجيّة الشيء المحكوم به قرينة قانونيّة لا تقبل الدليل المعاكس ومؤدّاها أنّ الحكم صدر صحيحا من ناحية الشكل وعلى حقّ من ناحية الموضوع والغرض من هذا المبدأ القانوني وضع حدّ للنزاع حتّى لا يتكرّر ولا تتناقض الأحكام في الخصومة الواحدة”.

واعتبرت([178]) أنّ اتّصال القضاء هو قرينة قانونيّة قاطعة تغني من قامت لفائدته عن كلّ بيّنة أخرى ولا تقبل بيّنة لمعارضتها إذا توفّرت شروطها الثلاثة وحدة الموضوع والسّبب والأطراف”.

وأنّ “الأحكام قرينة قانونيّة على صحّة ما جاء بها مادام لم يصدر ما يخالفها أو الإذن بتوقيف نفاذها”.([179])

كما فرّقت محكمة التعقيب بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ وإن كان ذلك لم يكن استنادا على الفصل 481 من م.ا.ع. إذ أقرّت بأنّ : “للمحكمة المدنيّة عند النظر في تعويض ناشئ عن ضرر من جنحة صدر فيها حكم غيابي أن تعتمد هذا الحكم الغيابي في قضائها عملا بالفقرة الثانية من الفصل 443 من م.ا.ع القاضي بأنّ الأحكام الصادرة من المجالس التونسيّة يعوّل عليها ولو قبل اكتسابها صفة التنفيذ”.

إلاّ أنّها مثلما أشرنا لم تقل صراحة بأنّ الحكم الغيابي هو حكم بات بمعنى بتّ في النّزاع المعروض على المحكمة وأنهى تعهّدها فله حجيّة الأمر المقضي.

ويبدو أنّ محكمة الاستئناف بتونس([180]) قد اهتدت إلى التفرقة بين حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي بقولها “يتّصف الحكم عند صدوره بحكم اتّصل به القضاء أمّا إذا استنفذ طرق الطعن فإنّه يكتسب قوّة ما اتّصل به القضاء ونتائج قوّة ما اتّصل به القضاء تحسب من يوم استنفاذ طرق الطعن”.

وأقرّت محكمة التعقيب([181]) بأنّه “اقتضى الفصلان 481 و482 من م.ا.ع أنّ الأحكام التي لم يقع طلب استئنافها تعتبر قرينة على صدق مضمونها أعمّ من كونها وقع الإعلام بها أوّلا إذ أنّ الإعلام بها من طرف المنفّذ أمر لا يهمّ إلاّ من ناحية التنفيذ وطرق الطعن في الحكم وكان على الخصم إذا كان غير مسلّم بصحّة الحكم المحتجّ به إلاّ أن يطعن فيه بالطرق القانونيّة ومادام لم يقم بأي طعن فيه رغم الاحتجاج به عليه فإنّه يعتبر قرينة قائمة ضدّه”.

كما أقرّت محكمة التعقيب بكلّ وضوح مفهوم الفصل 481 من م.ا.ع أي مفهوم حجيّة الأمر المقضي للحكم الباتّ في الدعوى في قرار([182]) آخر جاء فيه بأنّ : “الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية بصفة باتّة تكتسب حجيّة يمكن الاعتماد عليها بشرط أن تكون غير مطعون فيها ولو أنّ آجال الطعن فيها لم تنقض”.

وجاء في مستندات هذا القرار ما يلي : (وحيث أنّه من المبادئ القانونيّة المسلّم بها أنّ الأحكام تكتسب الحجيّة القانونيّة منذ صدورها طالما كانت باتّة ولم يقع الطعن فيها بالطرق القانونيّة).

ولكن هذا الرّأي سرعان ما سيتغيّر إذا ما تعلّق الأمر بحجيّة حكم جزائي لدى القاضي المدني، مثلما هو الشّأن في مسألة إيقاف النظر مثلما سنرى في الفصل الثاني إذ يوجب فقه القضاء على أن يكون الحكم الجزائي باتّا لا بمعنى حكما باتّا في أصل النّزاع بل بمعنى حكم باتّا قابلا للتنفيذ وفي ذلك خلط بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ.

وفي قرار([183]) آخر حديث جاء عن محكمة التعقيب قولها : “إنّ اعتماد محكمة الموضوع في قضائها على الحكم الابتدائي المحتجّ به رغم عدم اتّصال القضاء به لإلزام شركة التأمين بالتعويض في طريقه لأنّ ما يثبت لدى المجالس القضائيّة يعوّل عليه ولو قبل اكتساب الأحكام صفة التنفيذ”. وكأنّ محكمة التعقيب تقول بأنّ الحكم الابتدائي له حجيّة الأمر المقضي ولو أنّه ليست له قوّة الأمر المقضي أو مثلما عبّرت عن ذلك رغم عدم اتّصال القضاء به.

إلاّ أنّها لم تقل صراحة بأنّه لمّا يصدر الحكم عن المحكمة تكون له حجيّة الأمر المقضي ولمّا يطعن فيه بالاستئناف تعلّق تلك الحجيّة، فإن تقرّر ذلك الحكم أصبح له قوّة الأمر المقضي ولو طعن فيه بالتعقيب.

وهذا تطبيقا لما نصّت عليه الفقرة الأولى من الفصل 482 من م.ا.ع التي نصّت على أنّه “لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها أحكام المجالس المطلوب استئنافها عند اقتضاء حالها”.

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([184]) في قرارها الصادر في 2 ديسمبر 1947 بأنّ : “عدم الإعلام بالحكم لا يؤثّر شيئا على قوّته القانونيّة إذ أنّ الأحكام النهائيّة تعتبر أحكاما باتّة من تاريخ صدورها لأنّ طرق الطعن فيها طرق غير اعتياديّة وعلى فرض وقوع الطعن فيها بطريق التعقيب فإنّ ذلك لا يوقف مفعولها إلاّ بإذن خاص وإنّ مسألة الإعلام بالحكم لا تهمّ في الغالب إلاّ إجراءات التنفيذ وليس لها تأثير على قوّة الحكم إلاّ بالنسبة للأحكام الابتدائية حسب الفصل 482 من المجلّة المدنيّة”.

كما أقرّت([185]) في هذا السياق بأنّه : “اقتضت الفقرة الأولى من الفصل 482 من م.اع. بأنّ أحكام المجالس المطلوب استئنافها (أي المستأنفة بالفعل) عند اقتضاء حالها لا تعتبر من الأحكام التي لا رجوع فيها”.

هذا فيما يتعلّق بالقسم الأوّل من فقه القضاء.

2 – أمّا القسم الثاني من فقه القضاء : فيبدو أنّه لم يتوصّل إلى تحديد مفهوم “الحكم الذي لا رجوع فيه” الوارد بالفصل 481 من م.ا.ع. كما لم يتوصّل إلى وضع مصطلح واضح للحكم الباتّ الذي يفيد حجيّة الأمر المقضي أو لمفهوم “اتّصال القضاء” أو نفوذ الحكم.

من ذلك ما جاء بمبدأ في قرار محكمة التعقيب([186]) ما يلي : “قرينة اتّصال القضاء التي أناطها القانون بالحكم الذي لا رجوع فيه على معنى الفصل 481 من م.ا.ع تقتضي أن يكون الحكم باتّا حتّى يعتبر محرزا على نفوذ اتّصال القضاء”.

وقد تمسّك الطاعن في هذا القرار بقوله : (بأنّ ما أجابت به محكمة الحكم المطعون فيه على الدفع المتعلّق باتّصال القضاء بكون الحكم المحتجّ به ليس نهائيّا في غير طريقه ضرورة أنّ سبق التعهّد من محكمة الموضوع والفصل في نفس النّزاع يجبر المدّعي في الأصل على عدم القيام بالدعوى من جديد وهو المعنى المقصود من اتّصال القضاء…).

وردّا عن هذا المطعن أجابت محكمة التعقيب بما جاء بالمبدأ مضيفة (بأنّه لا جدال في كون الحكم عدد 76249 المتمسّك به لم يصبح باتّا وأنّه مادام الأمر كذلك فإنّه لا جدوى من مناقشة ما قيل من طرف محكمة الحكم المطعون فيه بشأن اختلاف الطلبات بين قضيّة الحكم السابق وقضيّة الحالّ…).

لذا يتبيّن من هذا القرار أنّ محكمة التعقيب لا تعترف بحجيّة الحكم طالما لم يصبح نهائيّا وفق ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه وأنّ قرينة اتّصال القضاء الواردة بالفصل 481 لا تفيد حجيّة الحكم الصادر عن المحاكم الابتدائية وإنّما يجب أن يكون ذلك الحكم باتا أي نهائيّا مثلما ذهب إلى ذلك الحكم المطعون فيه أو “باتّا” مثلما ذهبت إلى ذلك محكمة التعقيب بمعنى إمّا حكما نهائيّا أي له قوّة الأمر المقضي أو حكما باتّا بمعنى لم يعد قابلا لأيّ وسيلة من وسائل الطعن ولو غير العاديّة. وفي ذلك خلط بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ من جهة وعدم التمييز بين حجيّة الأمر المقضي وقوّة الأمر المقضي إضافة وأنّ مصطلح اتّصال القضاء الذي تستعمله محكمة التعقيب يحتمل أكثر من معنى ثمّ أنّ ما ذهبت إليه لا يتّفق مع منطوق الفصل 481 من م.ا.ع مثلما رأينا.

وفي نفس هذا المعنى تقريبا أقرّت محكمة التعقيب([187]) صراحة بأنّ : “حكم التبتيت هو حكم بات لا يمكن الطعن فيه بأي وجه من الوجوه ولو بالتعقيب”.

كما اعتبرت([188]) بأنّه : “من المسلّم به فقها وقضاءا وأنّ ما أناطه القانون من النفوذ للأحكام لا يتوفّر إلاّ في الأحكام النهائيّة التي أصبحت لا رجوع فيها”.

وفي قرار([189]) آخر جاء فيه بأنّ : “سبق الحكم في موضوع الدعوى لا يخوّل التنازع من جديد في بعضه لاتّصال القضاء به بموجب حكم أحرز على حجيّة الشيء المحكوم به لأنّ القضاء في الكلّ هو حكم في الجزء مادام أنّ المسألة واحدة”.

والملاحظ في هذا القرار أنّ محكمة التعقيب استعملت عبارة “أحرز على حجيّة الشيء المحكوم به بدل قوّة الشيء المحكوم فيه للدلالة على الحكم الذي اتّصل به القضاء.

كما جاء في مبدأ القرار التعقيبي المدني([190]) : “بأنّ الحكم الذي لا رجوع فيه يكتسي قوّة النفوذ القانوني إذا توافرت شروط ثلاث : وحدة الموضوع والسبب وأطراف الخصومة مع نفس الصفة في الطالب والمطلوب”.

وجاء في حيثيّات القرار ما يلي : (… وبعد التتبّع قضت تلك المحكمة بفقدان المدّعي حقّ الالتجاء للمحكمة وتقرّر هذا الحكم بالاستئناف وأصبح لا رجوع فيه وتوفّرت بذلك الشروط التي أوجبها القانون لأن يصبح للحكم النّفاذ القانوني فيما قضى به).

ويبرز من هذا القرار التأويل المزدوج لعبارة “الحكم الذي لا رجوع فيه” فبعد أن رأينا أنّها تفيد الحكم الذي بتّ في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة ومن أثاره “النفاذ القانوني” أي حجيّة الأمر المقضي، أصبحت تلك العبارة تفيد الحكم الذي له قوّة الأمر المقضي أي الذي لم يعد قابلا للطعن بأوجه الطعن العاديّة. علاوة على أنّ استعمال محكمة التعقيب لعبارة “النفاذ القانوني التي نصّ عليها الفصل 481 من م.ا.ع لا تفيد قوّة الأمر المقضي بل تفيد حجيّة الأمر المقضي لأنّها ترجمة لما جاء بذلك النصّ باللّغة الفرنسيّة autorité de la chose jugée.

وجاء في مبدأ قرار آخر([191]) ما يلي : “إنّ قرينة اتّصال القضاء لا تتعلّق إلاّ بالأحكام التي بتّت في أصل النّزاع بين الطرفين أمّا الأحكام الصادرة بالرفض فليس لها قوّة النفاذ المسندة للأحكام الحاسمة للنزاع”.

وملخّص وقائع القضيّة قيام الطاعن لدى محكمة ناحية قرمبالية في طلب إبطال كتب هبة. فتمسّك خصمه بأنّه سبق للمدّعي القيام بقضيّة في نفس الموضوع رسّمت تحت عدد 5642 انتهت بالحكم نهائيّا برفض الدعوى بتاريخ 9/06/1981. وبعد استيفاء الإجراءات قضت المحكمة نهائيا برفض الدعوى لسبق البتّ فيها عملا بالفصل 481 من م.ا.ع.

وبعد تضمين ما جاء بالفصل 481 من طرف محكمة التعقيب جاء في ردّها ما يلي: (وحيث يؤخذ من هذا النصّ أنّ قوّة اتّصال القضاء لا تتعلّق إلاّ بالأحكام التي بتّت في أصل النّزاع بين الطرفين وعلى هذا الأساس فإنّ الأحكام الصادرة بالرفض ليس لها قوّة النفاذ المسندة للأحكام الحاسمة للخلاف…

وبعد أن تعرّضت لتعليل الحكم المنتقد… واصلت محكمة التعقيب ردّها بقولها : (وحيث أنّ هذا التعليل يتجافى وما اقتضاه القانون بالفصل 481 وبعده لاتّصال القضاء بالحكم الذي لا رجوع فيه طالما كان الحكم السابق المعارض به باتّصال القضاء قضى برفض الدعوى ولم يبتّ في أصل النّزاع وحينئذ فإنّ حجيّة اتّصال القضاء به غير متوفّرة وقد أساء الحكم المطعون فيه تطبيق الفصل 481 من مجلّة الالتزامات والعقود).

ويبدو لي أنّ عبارة الحكم الذي لا رجوع فيه الواردة بالفصل 481 من م.ا.ع مثلما أسلفنا تفيد حجيّة الأمر المقضي ولا تفيد قوّة الأمر المقضي، وهذا ينمّ عن عدم وجود اتّفاق ودقّة في المصطلحات المستعملة…

وهكذا نصل إلى القسم الثالث من هذه الفقرة لنتحدّث فيه عن نسبيّة الحجيّة وعلى مدى تعلّقها بالنظام العام.

ج – نسبيّة الحجيّة ومدى تعلّقها بالنظام العام :

لا يختلف فقه القضاء التونسي في هذا الخصوص مع ما كنّا تعرّضنا إليه في الفقرة السابقة عند الحديث عن نسبيّة الحجيّة ومدى تعلّقها بالنظام العام في القانون المقارن ولكن مع ذلك وتعميما للفائدة أردنا أن نتعرّض بإيجاز لموقف فقه القضاء التونسي في هذا الشّأن ولما له من تأثير على حجيّة الحكم المدني على الجزائي بصفة عامّة مثلما سنرى ذلك في الفصل الثاني ولزيادة التعرّف عن المصطلحات المستعملة بالنسبة للحجيّة.

1 – نسبيّة الحجيّة :

“إنّ حجيّة الأحكام المدنيّة خلافا للأحكام الجزائيّة لا تكون حجّة ولا يتمسّك باتّصال القضاء بها إلاّ على من شملته من الخصوم”. ([192]) “وإنّ حجيّة الأحكام الجزائية وإن كانت لها قوّة أشمل وأعمّ لما يحيط الشارع بتلك الأحكام من ضمانات خاصّة حتّى تصبح حجّة على الكافّة”([193]) فإنّها مع ذلك له نسبيّة فيما يتعلّق بتقيّد القاضي المدني بها أي فيما بتّ فيه القاضي الجزائي ضرورة وأنّ ما يرد في الحكم الجزائي مثلا من مساهمة المتضرّر في الخطأ لا يقيّد القاضي المدني مثلما سنرى.

وإنّ حجيّة الشيء المحكوم فيه في المادة الاستعجالية إنّما هو نسبي وفي هذا المعنى جاء في إحدى قرارات محكمة التعقيب([194]) أنّ : ”

– الأحكام الاستعجالية يمكن الرّجوع فيها من طرف الحاكم الاستعجالي نفسه بين الخصوم أنفسهم عند تغيير الأسباب مادامت بطبيعتها أحكام وقتيّة تهدف لحفظ الحقوق بدون مساس بالأصل.

– اتّصال القضاء في المادة الاستعجالية إنّما هو نسبي يقوم مع دوام سببه ويزول لانتفائه”.

كما جاء في قرار آخر أنّ “الأحكام الاستعجالية لها صبغة وقتيّة لحفظ الحقوق بدون أن تمسّ بالأصل وتفريعا على ذلك فإنّ الأذون الاستعجالية لا تحرز على قوّة اتّصال القضاء، لكن لا يسوغ لقاضي الأمور المستعجلة أن يعيد النظر فيما كان قرّره، إلاّ إذا حصل تغيير في الأسباب أو في مركز الخصوم من الوجهة القانونيّة”.([195])

2 – مدى تعلّق الحجيّة بالنظام العام

لقد اعتبر المشرّع التونسي حجيّة الأحكام في المادة المدنيّة تهمّ مصلحة الخصوم وعليهم التمسّك بذلك وأقرّ بأنّ “مطلب التخلّص من القضيّة بدعوى سابقيّة نشرها بمحكمة أخرى أو بدعوى ارتباطها يجب أن يكون دفعة واحدة وقبل كلّ جواب في الأصل” ومعنى ذلك أنّه يقرّ إمكانيّة صدور حكمين في نفس الموضوع وبين نفس الأطراف إلاّ أنّه اهتدى لحلّ ذلك بأن قرّر صلب الفصل 189 من م.م.م.ت أنّه “تختصّ محكمة التعقيب بالنظر في مطالب التعديل بين المحاكم وذلك إذا حكمت محاكم متعدّدة متّحدة الدرجة في قضيّة واحدة بكونها من نظرها وذلك بأحكام لها قوّة ما اتّصل به القضاء”.([196])

“اتّصال القضاء وسقوط الدعوى بمضيّ المدّة كلاهما لا يهمّ الحقّ العام وإنّما يهمّ مصلحة الخصوم فقط وبذلك لا يثار لأوّل مرّة لدى التعقيب ولا تثيره المحكمة من عندها”.([197])

إلاّ أنّها مع ذلك اعتبرت بأنّ : “اتّصال القضاء من الدفوع الجوهريّة الواجب على القاضي تحقيقها حتّى لا تتضارب الأحكام في نزاع واحد وبين نفس الخصوم في ذلك النّزاع ولسبب متّحد”.([198])

أمّا في الميدان الجزائي فقد اعتبرت محكمة التعقيب بأنّ اتّصال القضاء يهمّ النظام العام وعلى المحكمة إثارته ولو من تلقاء نفسها.

وفي هذا المعنى أقرّت([199]) بأنّه : “لا يعاقب الشخص مرّتين من أجل فعلة واحدة. إنّ مبدأ اتّصال القضاء يهمّ النظام العام ويتوجّب على محكمة التعقيب بوصفها محكمة قانون مراقبة حسن تطبيقه وإثارته ولو من تلقاء نفسها ومن باب أولى وأحرى إذا وقعت إثارته من قبل من له مصلحة في ذلك”.

والملاحظ أنّ استعمال فقه القضاء لمصطلح اتّصال القضاء فتارة يفيد حجيّة الحكم وتارة يفيد قابليّته للتنفيذ في غياب تعريف واضح لحجيّة الأحكام مثلما هو الشأن في القانون المقارن. علاوة على أنّ مشرّع الالتزامات والعقود لم ينصّ بالفصل 481 من م.ا.ع على “مصطلح اتّصال القضاء” الذي كان وليد فقه القضاء في الميدان الجزائي لأنّ مثلما سنرى فقد نصّ مشرّع مجلّة الإجراءات الجزائيّة على مصطلح اتّصال القضاء بالفصل الرابع منها عند حديثه عن انقضاء الدعوى العامّة… خامسا : باتّصال القضاء. وفق ما عبّرت على ذلك محكمة التعقيب بوصفها دائرة جزائية بالقرار عدد 101771 المشار إليه.

ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى القرار التعقيبي المدني عدد 8414 المؤرّخ في 4 أفريل 1983([200]) الذي وإن نصّ بالمبدأ على : “اتّصال القضاء وسقوط الدعوى بمضيّ المدّة كلاهما لا يهمّ الحقّ العامّ…”.

فإنّه بالرّجوع إلى الردّ عن المطاعن لم تستعمل المحكمة عبارة “اتّصال القضاء” وإنّما وردت بمستندات الطعن (ثانيا : خرق أحكام الفصلين 480 و481 بمقولة أنّ الطاعن كان تمسّك باتّصال القضاء…).

وقد جاء ردّ محكمة التعقيب عن هذا المطعن بقولها :

(حيث أنّ حجيّة الأمر المقضي الثابتة للأحكام تعتبر قاعدة موضوعيّة لا تهمّ إلاّ مصالح الأفراد ولا يجوز للقاضي إثارتها من تلقاء نفسه…).

ويتبيّن من ذلك أنّ المصطلح المستعمل من طرف محكمة التعقيب فيما يتعلّق بحجيّة الحكم “حجيّة الأمر المقضي” هو المصطلح المستعمل من طرف الفقه والقانون وفقه القضاء المصري خاصّة.

هذا فيما يتعلّق بآثار الحكام البات التي تتمثّل خاصّة في استنفاذ ولاية المحكمة وحجيّة الحكم الصادر عنها.

وإن كان تحديد مفهوم الحكم الباتّ شكّل صعوبة لعدم وجود تعريف تشريعي صريح فإنّ هاته الصعوبة في الميدان المدني لم يكن لها تأثير جوهري على حسن سير القضاء خلافا لمفهوم الحكم الباتّ من الناحية الجزائيّة الذي أثار عدّة إشكالات بالنظر لخصوصيّة الحكم الجزائي الباتّ وهذا موضوع الفصل الثاني من هذا الجزء الثاني من هذه الرّسالة.

الفصل الثاني – خصوصيّة الحكم الجزائي الباتّ

تتمثّل خصوصيّة الحكم الجزائي البات في صعوبة تحديد مفهومه، وذلك متأتّ من طبيعة المعاني المختلفة للحكم البات. فهو يفيد الحكم البات في أصل النزاع والحكم الذي أنهى تعهّد المحكمة والحكم القابل للتنفيذ والحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن.

وقد لاحظ أحد الفقهاء الفرنسيّين عدم الدقّة في استعمال مصطلح الحكم الباتّ jugement définitif لأنّه يفيد في آن واحد الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع وفي آن واحد الحكم الذي لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن.

هذا بالنسبة للقانون الفرنسي، أمّا بالنسبة للقانون التونسي فيضاف إليه الحكم البات القابل للتنفيذ وفق ما نصّ على ذلك الفصل 338 من م.ا.ج “ينفّذ الحكم إذا أصبح باتّا”. أي الحكم الذي أحرز على قوّة الأمر المقضي بمعنى القابل للتنفيذ لا بمعنى الحجيّة.

ويمكن القول بمعنى آخر بأنّ الحكم يكون باتّا لأنّه يحسم بصفة باتّة الدعوى العموميّة بالنسبة للمحكمة التي أصدرته أو لأنّه يحسم النّزاع بالنسبة لكافة المحاكم.

ويتعقّد مفهوم الحكم البات لمّا تصدر المحكمة أحكاما قبل حسم النّزاع في الدعوى وتكون قد بتّت في جزء أو في فرع من الدعوى دون أن تبتّ في أصل النّزاع مثلما أشرنا إلى ذلك بالجزء الأوّل من هذه الرّسالة.

ومن هذا المنظار يتبيّن أنّ الحكم الباتّ يفيد الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع. ولكن بالتمعنّ نلاحظ بأنّ القاضي يكون مضطرّا لفصل بعض المسائل القانونيّة التي تبرز بصفة عرضيّة عن المسألة الأصليّة والتي لا تتطلّب حكما باتّا قبل الحكم في أصل الحقّ مثل البتّ في مسألة الاختصاص أو في بطلان إجراء، فهذا الحكم ولو أنّه لم يبتّ في أصل الحقّ فإنّه يوصف بحكم بات بالنسبة للمسألة التي فصل فيها.

لذا فمفهوم الحكم البات يحتمل عدّة تأويلات. ويكون من الواجب فهم المعنى الذي يهدف إليه في كلّ حالة من الحالات التي تعترضنا، لأنّ ذلك له أهميّة كبرى بالنسبة للانعكاسات التي يطرحها الحكم البات.

فالحكم الباتّ قابل للتنفيذ الفصل 338 من م.ا.ج : “ينفّذ الحكم إذا أصبح باتا”. إلاّ أنّ أجل الاستئناف المخوّل للوكيل العام للجمهوريّة وللمدعين العموميّين لدى محاكم الاستئناف طبق الفصل 213 لا يحول دون تنفيذ العقاب.

« L’exécution a lieu lorsque la décision est devenue définitive ».

والحكم الباتّ يكون منطلق لحساب أجل سقوط العقاب الفصل 349 من م.ا.ج “ويجري أجل السقوط من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتّا”.

« Le délai de la prescription court de la date à laquelle la condamnation est devenue définitive ».

في حين أنّه لو رجعنا إلى مجلّة الإجراءات الجزائية السابقة الصادرة سنة 1922، وبالتحديد إلى الفصل 176 منها الموافق للفصل 349 المذكور المتعلّق بسقوط العقوبات والتنفيذ نجده ينصّ على أنّ أجل سقوط العقاب يبتدأ من التاريخ الذي يصبح فيه الحكم باتا ولكن الترجمة الفرنسيّة كانت واضحة في معنى هذا الحكم الباتّ أي الحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن.

« Le délai de prescription court de la date à laquelle la condamnation est devenue irrévocable ». ([201])

والحكم الباتّ تنقضي به الدعوى العموميّة، فلا يجوز تتبّع شخص مرّتين من أجل نفس الفعل الذي سبق الحكم فيه بحكم باتّ. وهذا ما يطلق عليه الفقهاء بحجيّة الحكم الجنائي على الجنائي.

« Autorité de la chose jugée du criminel sur le criminel ».

علاوة على أنّ الحكم الجزائي الباتّ له حجيّة على القاضي المدني لنفس الأسباب ولأنّ الحكم الجزائي الذي لم يعد قابلا لأي وجه من وجوه الطعن يصبح عنوانا للحقيقة وله علويّة على القضاء المدني. وهذا ما سنتعرّض إليه في (المبحث الأوّل) تحت عنوان حجيّة الحكم الجزائي الباتّ.

والحكم الباتّ أيضا ينهي تعهّد المحكمة، الفصل 7 من م.ا.ج “يقضي في الدعوى العموميّة بوجه بات” « Statue définitivement sur l’action publique » .

لأنّه مثلما رأينا أنّ هناك أحكام تصدر قبل القضاء في الدعوى ولكن لا تحسم الدعوى بوجه بات.

والفصل 7 المذكور هو الذي جاء بمبدأ إيقاف النظر في الدعوى المدنيّة إلى أن يقضي بوجه باتّ في الدعوى العموميّة حتّى لا تتعارض الأحكام في القضيّة الواحدة ومثلما رأينا فالحكم البات في النزاع وأنهى تعهّد المحكمة هو حكم بات ولكن نظرا لخصوصيّة الحكم الجزائي البات فلم يقع التفرقة بين الحكم البات أي الحكم القطعي مثلما رأينا في الجزء الأوّل وبين الحكم الباتّ الذي لم يعد قابلا للطعن. وكان لهذا الموقف أثر سلبي خاصّة بالنسبة للمتضرّرين من حوادث الطرقات خصوصا عند صدور حكم غيابي جزائي على المتسبّب في الضرر فيتعطّل النظر في المطالبة بالتعويض مدنيّا إلى أن يصبح الحكم الجزائي قابلا للتنفيذ أي إلى أن يعترض عليه وآجال الاعتراض تمتدّ إلى آجال سقوط العقاب لأنّ فقه القضاء لا يعتبر الحكم الغيابي حكما باتّا بمعنى بتّ في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة وله حجيّة الأمر المقضي مثله مثل سائر الأحكام المدنيّة مثلما رأينا عند حديثنا عن الحجيّة.

فخصوصيّة الحكم الجزائي الباتّ جعل فقه القضاء يخلط بين حجيّة الحكم وقابليّته للتنفيذ. وهذا ما سنتعرّض إليه في (المبحث الثاني) من هذا الفصل.

المبحث الأوّل – حجيّة الحكم الجزائي الباتّ

سنتعرّض إلى مفهوم حجيّة الحكم الجزائي الباتّ من خلال الفصل الرّابع من م.ا.ج. الذي جاء بقاعدة اتّصال القضاء أو مثلما عبّر عليها الفقهاء بحجيّة الحكم الجزائي على الجزائي في (فقرة أولى) ثمّ سنتعرّض في (فقرة ثانية) إلى حجيّة الحكم الجزائي الباتّ على القاضي المدني.

الفقرة الأولى – حجيّة الحكم الجزائي الباتّ على الجزائي

سنتناول بالدّرس مدلول الحكم الباتّ الذي يتّصل به القضاء ليكون حجّة على المحكمة التي أصدرته وعلى كافّة المحاكم من خلال القانون وفقه القضاء التونسي ثمّ من خلال القانون المقارن.

أ – حجيّة الحكم الجزائي الباتّ في القانون التونسي :

إنّ مفهوم حجيّة الحكم الجزائي البات الذي يكون حجّة على المحكمة التي أصدرته وعلى كافة المحاكم الأخرى هو الحكم الذي “اتّصل به القضاء” ولكن ليس بالمعنى الذي كنّا رأيناه والذي تستعمله محكمة التعقيب للدلالة تارة على حجيّة الأمر المقضي “قرينة اتّصال القضاء” أو للدلالة على قوّة الأمر المقضي “قوّة اتّصال القضاء” سواء فيما يتعلّق بالأحكام المدنيّة أو بالأحكام الجزائيّة.

رغم أنّ المجلّة المدنيّة م.ا.ع لم يرد بها مصطلح اتّصال القضاء وإنّما ورد هذا المصطلح بالفصل الرّابع من م.ا.ج. الذي تضمّن على أنّه : “تنقضي الدعوى العموميّة… خامسا : باتّصال القضاء“. بمعنى أنّه لو عرضت قضيّة على المحاكم وتبيّن أنّ المتّهم فيها كان حوكم من أجل نفس التهمة فلا يقاضى مرّة ثانية لأنّ الدعوى تنقضي في هذه الصورة لاتّصال القضاء بها.

وهذا من المبادئ الأساسيّة في القانون فلا يعاقب الشخص مرّتين من أجل فعلة واحدة واعتبر فقه القضاء هذا المبدأ أو هذه القاعدة تهمّ النظام العام. وهذا يستلزم طبعا أن يكون الحكم السابق باتّا بمعنى لم يعد قابلا لأي وجه من وجوه الطعن حتّى لا نقع في تعارض بين الأحكام. أي أن يكون حكما قابلا للتنفيذ بمعنى أنّه نفّذ فعلا على المحكوم عليه أو تعطّل تنفيذه بموجب القانون.

وقد أقرّت محكمة التعقيب هذا المبدأ بقولها : “إنّ مبدأ اتّصال القضاء يهمّ النظام العام ويتوجّب على محكمة التعقيب إثارته ولو من تلقاء نفسها”.

وجاء في حيثيّات هذا القرار([202]) ما يلي : (وحيث أنّ المعقّب قد نفّذ عليه العقاب المحكوم به عليه في القضيتين الابتدائيتين عدد 869 وعدد 870 الواقع استئنافهما تحت عدد 1049 و1048 حسبما تشهد بذلك شهادة الخروج من السجن الصادرة عن إدارة السجن المدني بتونس بتاريخ 3/05/1995 تحت عدد 3349/84145 وبذلك فإنّ مؤاخذته ثانية بموجب القرار الاستئنافي الغيابي عدد 88333 يعدّ من قبيل الخرق الفاحش للقاعدة القانونيّة القاضية بأنّ الشخص لا يعاقب مرّتين من أجل فعلة واحدة عملا بصريح الفصل 4 فقرة خامسة من مجلّة الإجراءات الجزائية…).

ولكن المشرّع التونسي لم يعرّف مفهوم الحكم الذي يتّصل به القضاء هل هو الحكم الباتّ القابل للتنفيذ الذي عناه الفصل 338 من م.ا.ج أم هو الحكم الباتّ الذي استنفذ طرق الطعن، لأنّ الحكم القابل للتنفيذ مازال قابلا لطرق الطعن الغير العاديّة وخاصّة منها الطعن بالتعقيب وفي صورة نقضه فإنّه يعاد النظر في القضيّة من جديد وقد يصدر من جديد حكم مخالفا للحكم السابق… لذا يبدو أنّه من الواجب لاتّصال القضاء أن يصبح الحكم غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن ليبرّر عدم التتبّع من جديد من أجل نفس الأفعال التي تمّت المحاكمة في شأنها. خصوصا وأنّ هناك ارتباطا وثيقا بين انقضاء الدعوى العموميّة واتّصال القضاء وفق ما نصّ على ذلك الفصل 4 من م.ا.ج.

وقد أقرّت هذا الرّأي محكمة التعقيب([203]) المبدأ : “تنتفي الدعوى العموميّة باتّصال القضاء وتبطل كلّ الأعمال والأحكام المنافية للنصوص المتعلّقة بالنظام العام أو القواعد الإجرائيّة الأساسيّة في مصلحة المتّهم الشرعيّة”.

وجاء في قرار محكمة التعقيب ما يلي : (… وقد اتّضح أنّه سبق للمحكمة أن قضت بعدم سماع الدعوى في حقّ المتّهم غير أنّه أحيل باسم شهرته الهادي في القضيّة الأولى وباسمه الحقيقي عبد الحميد في الثانية حسب دلالة بطاقة سوابقه المضافة غير أنّ المحكمة أهملت ذلك وقضت بإدانته وقد فاتت آجال الطعن بالتعقيب ولم يبق إلاّ الحلّ الوارد بالفصل 276 وهو التعقيب لصالح القانون…. وصدر ضدّ المتّهم حكمان من أجل نفس التهمة وقد اقتضى الفصل الرّابع خامسا من مجلّة الإجراءات الجزائية أنّه تنتفي الدعوى العموميّة باتّصال القضاء الأمر الذي يتّجه معه إبطال مفعول أحد الحكمين بتاريخ 7 جانفي 1993 عن ابتدائيّة قفصة الذي أحرز على قوّة اتّصال القضاء).

والملاحظ أنّ محكمة التعقيب استعملت مصطلح الحكم الذي أحرز على قوّة اتّصال القضاء للدلالة على الحكم البات الذي لم يعد قابلا بأيّ طريق من طرق الطعن العادية أو غير العادية irrévocable. في حين أنّ عبارة اتّصال القضاء وفقما جاءت بالفصل الراّبع من م.ا.ج كافية للدلالة على الحكم الذي لم يعد قابلا لأيّ وجه من أوجه الطعن، ثمّ إنّ الحكم الذي أحرز على قوّة الشيء المحكوم به هو الحكم الذي لا يقبل الطعن فيه بطرق الطعن العادية وهي الاعتراض والاستئناف ولو كان الحكم قابلا للطعن فيه بطرق الطعن غير العاديّة بل ولو طعن فيه بالفعل، (مثلما رأينا عند حديثنا عن تقسيم الأحكام من حيث قابليّتها للتنفيذ أو للطعن في الفقرة الثالثة من المبحث الثاني في الجزء الأوّل).

هذا فيما يتعلّق بمفهوم الحكم الباتّ الذي يتّصل به القضاء ولكن ما هي الشروط الواجب توفّرها للتمسّك به ؟

وإن لم ينصّ المشرّع صراحة على شروط اتّصال القضاء في المادّة الجزائيّة فقد استندت محكمة التعقيب بدائرتها الجزائية على نفس الشروط التي نصّ عليها الفصل 481 من م.ا.ع فيما يتعلّق بحجيّة الأحكام المدنيّة إذ جاء في قرارها([204]) ما يلي : (حيث نصّ الفصل الرابع من م.ا.ج صراحة على أنّ الدعوى العموميّة تنقضي باتّصال القضاء. وحيث أنّ قوّة اتّصال القضاء لا تتعلّق إلاّ بما قضى فيه المجلس بناء على شروط حدّدها الفصل 481 من المجلّة المدنية وهي أن يكون موضوع الطلب واحدا وأن يكون السبب واحدا وأن تكون الدعوى بين نفس الخصوم الصادر بينهم الحكم). وجاء مبدؤها ناصّا على ما يلي : “إنّ الدعوى العموميّة تنقضي باتّصال القضاء ويتطلّب اتّصال القضاء أن يكون موضوع الطلب واحدا وأن يكون السبب واحدا وأن تكون الدعوى بين نفس الخصوم الصادر بينهم الحكم وتبعا لذلك فإنّ الاحتجاج بقرار جنائي بتّ في نفس الفعل ولم يشمل المتّهمين المحالين لدى محكمة القرار المنتقد لا يتوفّر معه اتّصال القضاء”.

واتّصال القضاء هذا في المادة الجزائية يعبّر عليه الفقهاء بحجيّة الحكم الجزائي على الجزائي ونستطيع القول بأنّ هذه القاعدة قانونيّة لأنّ القانون هو الذي أقرّها صراحة بخلاف حجيّة الحكم الجزائي على المدني مثلما سنرى في الفقرة الثانية فهي قاعدة فقه قضائيّة أو فقهيّة لأنّ فقه القضاء هو الذي أقرّها قياسا على حجيّة الحكم الجزائي على الجزائي.

هذا فيما يتعلّق بحجيّة الحكم الجزائي الباتّ على القاضي الجزائي ومفهوم الحكم البات الذي يتّصل به القضاء في القانون الجزائي التونسي، ويبدو أنّ نفس هذا المبدأ قد أقرّه كذلك القانون المقارن.

ب – حجيّة الحكم الجزائي الباتّ في القانون المقارن :

لقد أقرّ المشرّع المصري بقانون الإجراءات الجنائيّة بالباب الخامس منه تحت عنوان في قوّة الأحكام النهائيّة في المادّة 454 ما يلي : “تنقضي الدعوى الجنائيّة بالنسبة للمتّهم المرفوعة عليه والوقائع المسندة فيها إليه بصدور حكم نهائي فيها بالبراءة أو بالإدانة…”.

وكذلك الشأن بالنسبة للقانون الفرنسي : “فبالنظر لاتّصال القضاء يعتبر الحكم الجزائي عنوانا للحقيقة استنادا لقرينة قانونية قاطعة. ونتيجة لذلك فلا يمكن تتبّع شخص مرّة ثانية من أجل نفس الفعلة التي سبق أن حوكم من أجلها لأنّ الدعوى العموميّة تنقضي باتّصال القضاء وفق الفصل 6 من م.ا.ج.ف.” ([205]).

“ويبدو أنّ القانون اللّبناني أيضا يقرّ هذا المبدأ ويتّفق مع القانون التونسي في أنّ الدعوى العموميّة تنقضي بمرور الزّمن… وبصدور حكم بات (مبرم) فيها. وبذلك يمتنع إثارة هذه الدعوى ورفعها من جديد لسبق الفصل فيها. ويشترط أن يكون الحكم باتا بمعنى مبرما مثلما سنرى ولا يجوز التمسّك بانقضاء الدعوى لسبق الفصل فيها إلاّ إذا كان هذا الفصل قد تمّ بمقتضى حكم جنائي، وبالتالي ليس للحكم المدني الصادر بالتعويض عن الضرر الناشئ عن الجريمة أيّة حجيّة أمام القضاء الجنائي”.([206]) وهذه القاعدة الأخيرة يقرّها كذلك القانون التونسي والقوانين المقارنة الأخرى رغم أنّها قاعدة فقه قضائيّة.

“وتنقضي الدعوى العموميّة بإصدار حكم باتّ فيها. والحكم الباتّ هو الذي لم يعدّ قابلا للطعن فيه بطرق الطعن وهي الاعتراض والاستئناف والتعقيب. ويعتبر الحكم كذلك إمّا لفوات ميعاد الطعن المنصوص عليها قانونا دون أن يستعمل المحكوم عليه حقّه في الطعن، وإمّا باستنفاذ طرق الطعن، وإمّا لأنّ الحكم الصادر لم يكن ابتداء قابلا للطعن. وبصيرورة الحكم باتا (أي مبرما) يقال أنّ الدعوى العموميّة انقضت ولا يجوز إثارتها من جديد حتّى ولو ظهرت أدلّة أو ظروف جديدة. ([207])

“وإذا حدث ورفعت دعوى سبق أن صدر فيها حكم باتّ فاصل في موضوعها وجب على المحكمة أن تقضي بعدم قبولها لسبق الفصل فيها واكتسابها قوّة الشيء المقضي (La force de la chose jugée) وهذا الحكم لا تجوز مخالفته لتعلّقه بالنظام العام”.([208])

ومبرّرات عدم جواز قبول الدعوى لسبق الفصل فيها بحكم بات هي :

– إنّ أوّل هذه المبرّرات تحقيق الاستقرار في المعاملات والمراكز القانونيّة للأفراد، فلا يظلّ الفرد مهدّدا قلقا بدعوى ترفع عليه رغم سبق الفصل فيها.

– وثاني هذه المبرّرات احترام الحكم الجنائي في ذاته بوصفه عنوانا للحقيقة لا سيّما حين يصير هذا الحكم باتا مبرما غير قابل للطعن فيه.

– وثالثها اعتبار عدم إرهاق القضاء بنظر دعاوى سبق الفصل فيها واستنزاف وقت وجهد القضاة. ([209])

– ورابع هذه المبرّرات تفادي نظر نفس الدعوى أكثر من مرّة بما يحمله ذلك من خطر إصدار أحكام متضاربة، وهو ما يخلّ بالثّقة الواجب توافرها في القضاء. ([210])

ويتبيّن ممّا ذكر أنّ مبرّرات عدم جواز النظر في الدعوى لسبق الفصل فيها أو انقضاء الدعوى العموميّة بمرور الزّمن هي نفس المبرّرات المتعلّقة باتّصال القضاء وكذلك الشّأن بالنسبة للشروط الواجب توفّرها والتي من أهمّها أنّه :

لا يجوز التمسّك بسبق الفصل في الدعوى إلاّ بالنسبة للأحكام الباتّة المعبّر عنها في لغة الفقه وفقه القضاء اللّبناني “المبرمة”. والأحكام الباتّة هي التي لا تقبل الطعن بالاعتراض والاستئناف والتعقيب وذلك إمّا لفوات مواعيد الطعن أو لاستنفاذ طرق الطعن أو لكون الحكم لا يقبل الطعن ابتداء. ويترتّب على ذلك أنّ كلّ حكم لا تتوافر فيه هذه الصفة لا يحوز قوّة الأمر المقضي وإن جاز اعتباره حائزا لحجيّة بوصفه حكما نهائيا (قطعيا) (كالحكم الصادر في جناية من محكمة الجنايات، والحكم الصادر في جنحة من محكمة الجنح المستأنفة)، فما يمنع نظر الدعوى هو الحكم الحائز لقوّة الأمر المقضي وليس للحجيّة التي تكتسبها سائر الأحكام النهائية”. ([211])

وهذا ما يعبّر عنه الفقه بحجيّة الحكم الجنائي على الجنائي (L’autorité de la chose jugée au criminel sur le criminel) لأنّها تستند على نفس المبرّرات والشروط الواجب توفّرها في الأحكام الصادرة عن محاكم القضاء الجزائية. وهذه الشروط التي أقرّها فقه القضاء شبيهة بالشروط الواجب توفّرها للتمسّك بالحجيّة في المادة المدنيّة وهي وحدة الموضوع والسبب والأطراف. ونفس هذا الرّأي أقرّه الفقه الفرنسي.([212])

وإن كان الحكم الباتّ باعتباره تنقضي به الدعوى العموميّة ويتّصل به القضاء في الأحكام الجزائيّة لحجيّة الحكم الجزائي على الجزائي. فإنّ الحكم الباتّ الجزائي أيضا له تأثير على الدعوى المدنيّة المرتبطة به.

وإن كان الحكم الباتّ في الصّورة الأولى لم يثر أيّ إشكال يذكر فإنّه أثار عدّة إشكالات في صورة حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني، مثلما سنرى في الفقرة الثانية من هذا المبحث.

الفقرة الثانية – حجيّة الحكم الجزائي الباتّ على القاضي المدني

حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني هي قاعدة أخذها فقه القضاء التونسي من القانون الفرنسي([213]) وهو لا يزال متمسّكا بها.

تفيد هذه القاعدة أنّ القاضي المدني يكون ملزما بعدم إعادة النظر في ما بتّ فيه القاضي الجزائي لكي لا يتسنّى له نفي أو مخالفة ما أكّده هذا الأخير.

تفرض هذه القاعدة على القاضي المدني أن يقبل ما أكّده الحكم الجزائي على أنّه حقيقة ثابتة.

فمثلا، إذا عرضت على القاضي المدني دعوى تهدف إلى تعويض الضرر وكان قد صدر حكم جزائي يتعلّق بنفس الأفعال المؤسّسة عليها الدعوى المدنيّة، فإنّ القاضي المدني يكون ملزما بعدم معارضة ما حكم به القاضي الجزائي نهائيا، بمعنى أنّ القاضي المدني يكون مقيّدا بنتيجة الحكم الجزائي، فإذا صدر هذا الحكم بالإدانة يجب عليه أن ينظر في الدعوى المدنية على أنّ الخطأ ثابت أمّا إذا صدر الحكم الجزائي بالبراءة فإنّ عليه أن ينفي الخطأ عن المدّعى عليه.

أ – شروط حجيّة الحكم الجزائي على القضاء المدني :

1 – الشروط المتعلّقة بالهيئة الصادر عنها الحكم الجزائي :

إنّ الأحكام الجزائية التي تكون حجّة على القضاء المدني يجب أن تكون صادرة عن سلطة قضائية خوّلت لها الدولة أمر الفصل في الدعاوى العمومية التي تعرض عليها طبق القانون وأن تكون تلك السلطة ذات اختصاص حسبما يفرضه قانون الإجراءات الجزائية وأن يكون الحكم صادرا في الأصل وبالتالي فلا حجيّة للأحكام التحضيريّة والأحكام الصادرة بعدم الاختصاص.

نتساءل هنا عن حجيّة قرارات حاكم التحقيق ودوائر الاتّهام ومدى تأثيرها على القضاء المدني ؟

إنّ الرّأي السّائد في فرنسا فقها وقضاء هو أنّ القرارات التي يصدرها قاضي التحقيق سواء كانت قاضية بإحالة الدعوى العمومية على المحكمة الجزائية أو بحفظها بسبب عدم توفّر أركان الجريمة أو بسبب عدم التوصّل لمعرفة الجاني أو بسبب عدم كفاية الحجّة، فإنّها لا تحوز الحجيّة أمام القضاء المدني باعتبار أنّ لها طبيعة مؤقّتة، إذ يمكن العدول عنها كلّما ظهرت أدلّة جديدة([214])، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّ فقه القضاء الفرنسي قد حوّر من موقفه معتبرا أنّ عدم تمتّع قرارات التحقيق الواقع حفظها بالحجيّة أمام القضاء المدني لا يرجع إلى كونها مؤقّتة وإنّما يرجع إلى كونها مجرّد قرارات تحضيريّة مقصورة على التحضير للحكم الجزائي وليست صادرة في الموضوع.

كما أنّ المشرّع المصري أقرّ أنّ القاضي المدني لا يلتزم إلاّ بالأحكام الجزائية النهائيّة – أمّا القرارات الصادرة عن قلم التحقيق فهي ليست أحكاما وإنّما هي مجرّد قرارات.

أمّا فقه القضاء التونسي فإنّه لا يتقيّد كذلك بالقرارات التي يصدرها قاضي التحقيق سواء كانت بالإحالة أو بالحفظ وذلك لاعتبارها مجرّد قرارات لا أحكاما جزائيّة صادرة في الموضوع وكذلك الشأن بالنسبة للقرارات الصادرة عن دائرة الاتّهام وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب([215]) أنّ “تصريح قرار الحفظ الصادر عن قلم التحقيق بعدم ثبوت جريمة التدليس لا يمنع من النظر في الدعوى المدنية على أساس ترجيح الرّسوم بعضها على البعض حسب أحكام القانون المدني”.

مع الملاحظة كذلك وأنّ القاضي المدني لا يرتبط بقرارات الحفظ التي تصدرها النيابة العمومية سواء كان الحفظ ماديا كعدم التوصّل إلى معرفة الجاني أو قانونيّا لعدم توفّر أركان الجريمة وهذا ما درج عليه فقه القضاء التّونسي، لأنّ تلك القرارات ليست لها صبغة الأحكام الجزائية إذ تعتبر مجرّد قرارات إدارية وبالتالي ليست لها حجيّة أمام القضاء المدني. وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب بأنّ : “حجيّة القضاء الجزائي على المدني لا تكون بقرار حفظ صادر عن النيابة العموميّة إذ أنّ هذا القرار لا يقيّد القاضي المدني”.([216])

2 – الشروط المتعلّقة بالحكم الجزائي ذاته :

يشترط في الحكم الجزائي الذي يتمتّع بالحجيّة أمام القضاء المدني، أن يكون حكما جزائيا بطبيعته، وأن يكون فاصلا في موضوع الدعوى الجزائية وسابقا عن الدعوى المدنية، وأن يكون باتّا.

ولا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجزائي إلاّ إذا كان فاصلا في موضوع الدعوى العموميّة أي أن يكون صادرا بالبراءة أو بالإدانة، كما ذهب إلى ذلك غالبيّة الفقه والقضاء بفرنسا ومصر وتونس.

هذا وإنّ الأحكام الجزائية الصادرة في الموضوع فيما يتعلّق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني وبنسبتها إلى المتّهم هي التي تحوز الحجيّة أمام القضاء المدني – أمّا الأحكام الصادرة قبل الفصل في موضوع الدعوى العمومية فإنّها لا تقيّد القاضي المدني في شيء ومثل ذلك الحكم الجزائي القاضي بانتداب خبير أو الحكم القاضي بالتخلّي عن الدعوى العمومية لعدم الاختصاص وذلك إذا أحيلت على المحكمة الابتدائية الجنائية جريمة بوصفها جنحة إلاّ أنّه اتّضح من الوقائع أنّها تؤلّف جناية لا جنحة.([217])

ولكي يحوز الحكم الجزائي الحجيّة أمام القضاء المدني فإنّه يجب أن يكون باتّا.

وإنّ المقصود بالحكم الجزائي الباتّ هو الحكم النهائي الذي أصبح غير قابل لطرق الطعن العادية أي الاعتراض والاستئناف أو غير العادية بسبب استنفاذ طرق الطعن أو لفوات الآجال.

ويمكن القول إذا بأنّ الحكم الباتّ هو ذلك الذي استنفذ كافّة طرق الطعن فيه وهو بذلك يمثّل حلاّ نهائيّا لواقعة مادية نسبت إلى متّهم وبذلك تنتهي التتبّعات ضدّه بصدور الحكم.

لقد استقرّ فقه القضاء المصري والفرنسي على اعتبار أنّ الحكم الجزائي الذي يحوز الحجيّة أمام القضاء المدني هو الحكم النهائي irrévocable أو غير القابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن التي رسمها القانون.

وقد نصّت المادة 456 من قانون الإجراءات الجنائية([218]) التّي جاءت بالباب الخامس تحت عنوان في قوّة الأحكام النهائية على ما يلي : “يكون للحكم الجنائي الصادر من المحكمة الجنائية في موضوع الدعوى الجنائية بالبراءة أو بالإدانة قوّة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنيّة في الدعاوى التي لم يكن قد فصل فيها نهائيا فيما يتعلّق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها إلى فاعلها ويكون للحكم بالبراءة هذه القوّة سواء بني على انتفاء التهمة أو على عدم كفاية الأدلّة، ولا تكون له هذه القوّة إذا كان مبنيا على أنّ الفعل لا يعاقب عليه القانون”.

أمّا بالنسبة للقانون الفرنسي([219]) فيبدو أنّ هذه القاعدة تستوجب نفس الشروط التي من أهمّها أن يكون الحكم صادرا في الأصل من محاكم القضاء وباتا بمعنى irrévocable.

وقد ذهب فقه القضاء التونسي في هذا الاتّجاه مستندا في ذلك ضمنيّا على الفصل 481 من م.ا.ع في قرار تمسّك فيه الطاعن (بأنّ المطعون فيه استند في قضائه إلى قرينة اتّصال القضاء الوارد بها الفصل 481 من م.ا.ع بدون بيان كيفيّة انطباقها..).

وجاء في ردّ محكمة التعقيب([220]) عن هذا المطعن قولها : “وحيث إنّه من المبادئ المسلّم بها فقها وقضاء أنّ اتّصال القضاء بالأحكام الجزائية النهائيّة قرينة قانونيّة تكون حجّة تقيّد القاضي المدني فيما بتّ فيه القاضي الجزائي للتفادي من تضارب الأحكام”.

ويبدو لي أنّ هذا التعليل وجيه وسليم ويجنّبنا النقاشات الفقهيّة التونسيّة والمقارنة التي أثارتها مسألة حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني، لأنّ حسن سير القضاء وهيبته وحجيّة أحكامه تقتضي التكامل فيما بينها جزائية كانت أو مدنيّة حتّى لا يضطرب سير العدالة وتفقد الثّقة في أحكامها.

وجاء مبدأ القرار المذكور ناصّا على ما يلي : “اتّصال القضاء إذا توفّر فيه اتّحاد الموضوع والسبب والخصوم، تتكوّن منه قرينة قانونيّة تشكّل حجّة تقيّد القاضي المدني فيما بتّ في القاضي الجزائي”.

ب – الحجيّة المطلقة للحكم الجزائي :

ولكن لم تكتف محكمة التعقيب([221]) بذلك بل ذهبت إلى اعتبار أنّ : “لاتّصال القضاء بالأحكام الجزائيّة النهائيّة – خلافا للأحكام المدنيّة – قوّة أشمل وأعمّ وذلك بما يحيط الشراع بتلك الأحكام من ضمانات خاصّة حتّى تصبح حجّة لا على المتّهم والمدّعى العمومي (ممثّل المجتمع) فحسب بل حتّى على المتضرّر من الجريمة موضوع الحكم والمسؤول مدنيّا من ذلك الجرم أو من حلّ محلّه بموجب عقد التأمين. وتأسيسا على تلك المبادئ القانونيّة فإنّ القاضي المدني يكون مقيّدا بما بتّ فيه القاضي الجزائي وفي حدود ما بتّ فيه هذا القاضي حتّى لا تتعارض الأحكام فيضطرب سير العدالة وتفقد الثّقة في الأحكام”.

وخلاف للحكم المدني الذي لا تكون له حجيّة إلاّ على من شملته القضيّة فإنّ الحكم الجزائي يكون حجيّة على الكافة أي حتّى على من لم تشمله القضيّة علاوة على أنّه وإن كان الحكم المدني يستند في حجيّته باعتباره قرينة قانونيّة طبق ما نصّ على ذلك القانون. فإنّ فقه القضاء ورغم غياب نصّ تشريعي لحجيّة الحكم الجزائي على المدني فقد اعتبر الحكم الجزائي له حجيّة مطلقة لا تستند إلى قرينة اتّصال القضاء.

“وارتباط القاضي المدني بقضاء الحكم الجزائي يرجع إلى الحجيّة المطلقة التي يكتسيها ذلك الحكم لا إلى قرينة اتّصال القضاء”.([222])

وقرّرت كذلك بأنّ “اتّصال القضاء جزائيا يقيّد المحكمة المدنية في موضوعه بحيث لا يمكن لها أن تعيد النظر أصلا فيما أثبته الحكم الجزائي، وهكذا فإنّ المسؤولية الواردة بالفصلين 96-101 من م.ا.ع هي نفس المسؤولية التقصرية التي جاء بها الفصل 83 من م.ا.ع. وإنّما الخلاف بينهما هو في خصوص عبء الإثبات هل هو على المتضرّر حسب المبدأ العام الذي جاء به الفصل 83 أو على من وقع منه الضرر حسب المبدأ العام الذي جاء به الفصل 96، وإذا أثبت الحكم الجزائي بصورة جازمة وصريحة أنّ كامل مسؤولية الخطأ محمولة على المتضرّر فإنّ التمسّك بالفصل 96 لم يعدّ له محلّ مادام أنّ الفقرة الثانية منه تعفي من نسب إليه الضرر من المسؤوليّة بسبب وقوع الخطأ ممن حصل له الضرر”.([223])

وكان كلّ ما يحويه الحكم الجزائي يقيّد القاضي المدني بما في ذلك خطأ المتضرّر ومساهمته في الحادث.

ودام هذا الوضع ردحا من الزّمن إلى أن أصدرت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة عددا من القرارات([224]) في هذا الموضوع وضعت بها حدّا لنطاق حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني.

ج – نسبيّة حجيّة الحكم الجزائي :

لقد أقرّت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة المذكورة بأنّ الخطأ الشخصي المتمثّل في الإهمال والتقصير الذي نصّ عليه الفصل 98 من قانون الطرقات هو نفس الخطأ المنصوص عليه بالفصل 83 من م.ا.ع لأنّ كلاهما يهتمّ بسلوك الإنسان وما يترتّب عنه من ضرر للغير ولأنّ تعريف الخطأ الجزائي كان واسعا فشمل الخطأ المدني الشخصي وبذلك وضعت حدّا للاعتقاد السائد فقها وقضاءا من أنّ حجيّة الأحكام الجزائية الصادرة بالإدانة هي التي لها تأثير على القاضي المدني وليس الأحكام الجزائية الصادرة بالبراءة استنادا لنظريّة ازدواجيّة الخطأ. ورأت محكمة التعقيب بأنّ المشرّع لم يقصد من الفصل 101 من م.ا.ع تمكين القاضي المدني من إعادة النظر فيما بتّ فيه القاضي الجزائي ضرورة سواء كان ذلك بصفة مطلقة أو في خصوص أحكام البراءة كأن يثبت القاضي المدني بأنّ سائق السيارة قصّر قي السياقة أو لم يتّخذ الاحتياطات الكافية بعد أن أثبت القاضي الجزائي أنّ السّائق لا ينسب له أي تقصير أو إهمال.([225]) ورأت بأنّ مثل هذا التأويل يضرّ بحقوق المتقاضين ويتعارض مع قاعدة تقيّد القاضي المدني بما بتّ فيه القاضي الجزائي.

وأقرّت الدوائر المجتمعة من جهة أخرى بأنّ حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني ليست مطلقة ولا يتقيّد هذا الأخير إلاّ بما بتّ فيه القاضي الجزائي ضرورة وأنّ ما يشار إليه بالحكم الجزائي من خطأ المتضرّر ومساهمته في وقوع الحادث لا تأثير له على القاضي المدني لأنّ القاضي الجزائي متعهّد بالنظر في وجود الخطأ الجزائي المنسوب للمتّهم من عدمه أمّا ما زاد على ذلك فهو من باب التزيّد الذي ليس له أيّة حجيّة.

وبذلك تكون قد أقرّت الدوائر المجتمعة بأنّه ليس للحكم الجزائي حجيّة مطلقة على القاضي المدني بل له حجيّة نسبيّة تتعلّق بالخصوص فيما كان أساسا ضروريّا للحكم Le soutien indispensable de la décision.

كالأساس الذي من أجله برّر القاضي الجزائي حكمه بالإدانة أو بالبراءة كالذي يهمّ الركن الأدبي للجريمة أي فيما يتعلّق بالخطأ ونسبته لمن صدر عنه. ([226])

أمّا ما زاد عن البتّ في الجرم المقترف فإنّ ما يثبته القاضي الجزائي من جسامة الأضرار اللاّحقة بالمتضرّر مثلا فإنّ ذلك لا يقيّد القاضي المدني لأنّه ليس من مستلزمات البتّ في الدعوى العامّة. ([227])

وكذلك الشأن فيما يتعلّق بما يشير إليه القاضي الجزائي من مساهمة المتضرّر في حصول الضرر أو في كونه هو السبب الوحيد في حصوله أو أنّ الضرر يعزى لأمر طارئ أو قوّة قاهرة فهذا يعدّ تزيّدا لا تقتضيه ضرورة البتّ في الدعوى العامة مثلما جاء في قرار محكمة التعقيب وبالتالي فليس له أي حجيّة على القاضي المدني.([228])

وقد وضعت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة حدّا للتذبذب والحظّ وعدم الاستقرار في نفوس المتضرّرين من حوادث الطرقات خاصّة في صورة القيام على المسؤوليّة الشخصيّة (الفصل 83 من م.ا.ع) والحكم الجزائي صادرا بالبراءة فإنّ قيامه بطلب التعويض تأسيسا على الفصل 96 من م.ا.ع يختلف عن قيامه استنادا على المسؤوليّة الشخصيّة لأنّ فقه القضاء السابق كان يعتبر المسؤوليّتين المذكورتين لا تختلفان وإنّما الفرق بينهما في عبء الإثبات أو بعلّة أنّ الحكم الجزائي له حجيّة مطلقة على القاضي المدني.

وأقرّت بأنّه “تختلف المسؤوليّة الشخصيّة سند الفصل 83 من م.ا.ع عن المسؤولية الشيئيّة سند الفصل 96 من نفس المجلّة من حيث الأساس وعبء الإثبات فالأولى أساسها الخطأ والثانية أساسها الضمان”.([229])

وإن وضعت محكمة التعقيب حدّا للحجيّة المطلقة للحكم الجزائي على القاضي المدني واعتبرت أنّ الحكم الجزائي لا يقيّد القاضي المدني إلاّ فيما بتّ فيه ضرورة وَحَّدَتْ الخطأ المدني والجزائي([230]) فخفّفت الوطأ على المتضرّرين خاصّة من حوادث الطرقات للحصول على التعويض الناجم عن الجرم الغير القصدي والذي بتّ فيه القاضي الجزائي.

فإنّ هناك مبدأ آخر ما يزال يثير الجدل والنقاش ولا يختلف في انعكاساته السيّئة عمّا كنّا تعرّضنا إليه، ألا وهو مبدأ إيقاف النظر في القضيّة المدنيّة إلى أن يقضى بوجه باتّ في الدعوى العموميّة، وما أثاره هذا الحكم الباتّ من تأويلات كان أغلبها تعتبره حكما باتا بمعنى الحكم الذي لم يعد قابلا للطعن فيه. فيتعطّل النظر في القضيّة المدنيّة طيلة تلك المدّة التي يكون فيها الحكم قابلا للطعن وتطول تلك المدّة خصوصا لمّا يكون الحكم الجزائي غيابيّا.

وهذا مردّه إلى خصوصيّة الحكم البات وإلى عدم تأويله التأويل التي تقتضيه عبارته حسب صيغة الفصل الذي تضمّنه وغاية المشرّع من ذلك، إضافة إلى عدم تمييز فقه القضاء بين الحكم الصادر في النّزاع أي الحكم الذي له حجيّة الأمر المقضي وبين الحكم القابل للتنفيذ. وهذا موضوع (المبحث الثاني) من هذا الفصل.

المبحث الثاني – حجيّة الأمر المقضي للحكم الجزائي الباتّ

يجدر التذكير أنّ الأحكام تنقسم من حيث الحجيّة المترتّبة عليها إلى أحكام باتّة وأحكام غير باتّة (أحكام قطعيّة وأحكام غير قطعية) والحكم الباتّ définitif هو الحكم الذي يحسم النّزاع في موضوع الدعوى. وتنقسم الأحكام الغير الباتّة إلى أحكام تتعلّق بسير الدعوى les jugements d’avant dire droit. وتنقسم الأحكام من حيث قابليّتها للطعن فيها إلى أحكام ابتدائية وانتهائيّة وحائزة لقوّة الشيء المحكوم فيه و”باتّة” بمعنى لم تعد قابلة لأي وجه من أوجه الطعن irrévocable.([231])

ويتّضح من ذلك أنّ للحكم البات معنى مزدوج علاوة على ما كنّا ذكرناه. فهو يفيد بالمعنى المشار إليه الحكم الذي له حجيّة الأمر المقضي والحكم القابل للتنفيذ بعد أن استنفذ طرق الطعن.

ولاكتساب حجيّة الأمر المقضي ليس ضروريّا أن يكون الحكم باتّا بمعنى القابل للتنفيذ définitif ne veut pas dire irrévocable. وإنّ حكما قضائيا له حجيّة الأمر المقضي من اليوم الذي صدر فيه إلى أن يقع الطعن فيه بوسيلة طعن عاديّة.([232])

وقد اعتبرت محكمة التعقيب مثلما رأينا عند حديثنا عن الحجيّة “بأنّ حجيّة الأمر المقضي هي قرينة قانونيّة لا تقبل الدليل المعاكس ومؤدّاها أنّ الحكم صدر صحيحا من ناحية الشكل وعلى حقّ من ناحية الموضوع والغرض من هذا المبدأ القانوني وضع حدّ للنزاع حتّى لا يتكرّر..” هذا فيما يتعلّق بحجيّة الأحكام المدنيّة بالخصوص. كما أنّ الحكم الباتّ مثلما رأينا في الجزء الأوّل من هذه الرّسالة يفيد الحكم الذي بتّ في الدعوى سواء أكانت دعوى مدنية أم دعوى جزائية، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّه لمّا يتعلّق الأمر بالحكم الجزائي وفي حجيّته على القاضي المدني مثلما رأينا أو في مسألة إيقاف النظر في الدعوى المدنيّة إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة على معنى الفصل 7 من م.ا.ج. فإنّ فقه القضاء التونسي يميل إلى تأويل الحكم البات والبتّ في الدعوى بوجه بات بمعنى الحكم القابل للتنفيذ.

(والحكم البات بهذا المعنى، يقابله الحكم غير البات وهو الحكم الإجرائي أو التحضيري الذي يتعلّق بمسألة إجرائيّة. وعلى عكس هذا التفسير فإنّ محكمة التعقيب اعتبرت أنّ الحكم الجزائي لا تكون له قوّة اتّصال القضاء ما لم يكن حكما نهائيا طبق ما يتّضح جليّا من عديد القرارات التعقيبيّة التي اعتبرت أنّ الحكم البات هو الحكم النهائي).([233])

ونعتقد بأنّ خصوصيّة الحكم الباتّ من الناحية الجزائية ولّدت خلطا في مفهوم الحكم البات بالنسبة للموضع الذي جاء فيه وبالنسبة للغاية التي يهدف إليها المشرّع وهذا الخلط مثلما أشرنا وقع فيه فقه القضاء الفرنسي وفقه القضاء التونسي لأنّ كلّا من التقنينين عبّر عن “الحكم البات” للدلالة على معنيين مختلفين، ولذلك يكون من الواجب على فقه القضاء والفقه أن يجتهدا لإبراز المعنى الذي تقتضيه تلك العبارة مع الهدف الذي يرمي إليه المشرّع.

ومفهوم الحكم الباتّ على معنى الفصل الرّابع من م.ا.ج مثلما رأينا والذي تنقضي به الدعوى العامّة ولم يعد بالإمكان تتبّع الشخص مرّة ثانية من أجل نفس الفعل هل هو نفس مفهوم الحكم البات على معنى الفصل 7 من م.ا.ج ؟ أو بالأحرى مفهوم القضاء بوجه بات في الدعوى العامّة.

لذا سنتحدّث في هذه المبحث عن مفهوم القضاء بوجه بات في الدعوى العامّة (الفقرة الأولى)، وعن حجيّة الأمر المقضي للحكم الغيابي في فقه القضاء التونسي والمقارن (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى – مفهوم القضاء بوجه بات في الدعوى العامّة

أ – مفهوم الحكم البات على معنى الفصل 7 من م.ا.ج. :

نصّ الفصل المذكور على ما يلي :

“الدعوى المدنيّة من حقّ كلّ من لحقه شخصيّا ضرر نشأ مباشرة عن الجريمة.

ويمكن القيام بها في آن واحد مع الدعوى العموميّة أو بانفرادها لدى المحكمة المدنيّة، وفي هذه الصّورة يتوقّف النظر فيها إلى أن يقضى وجه باتّ في الدعوى العموميّة التي وقعت إثارتها…”.

وجاء بالترجمة الرسميّة باللّغة الفرنسيّة لهذا الفصل ما به الحاجة ما يلي :

“… il est sursis à son jugement tant qu’il n’a pas été statué définitivement sur l’action publique lorsqu celle-ci été mise en mouvement…”.

فما مدلول كلمة “بات” (يقضي بوجه بات في الدعوى العموميّة) ؟ والتي يقابلها باللّغة الفرنسيّة définitif وما هو المعنى الذي تقتضيه هذه العبارة بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون ؟

جاء في قاموس اللّغة الفرنسيّة.

Jugement définitif = jugement qui porte sur le fond d’une affaire.

وجاء في معجم المصطلحات القانونيّة فرنسي عربي([234]) : نهائي وقطعي، بات = définitif. ويقال بتّ في الحكم أصدره بلا تردّد (المعجم الوسيط).

ونصّ الفصل 147 من م.ا.ج. لسنة 1922 على أنّه “لا يقبل الاستئناف إلاّ في الأحكام الصادرة ابتدائيا من المجالس الأفاقيّة في أصل النّازلة بصفة باتّة وأمّا غيرها من الأحكام فلا يستأنف إلاّ مع الأولى”.

وجاء في مختصر شرح قانون المرافعات الجنائيّة التونسي([235]) في الباب الخامس – في النقض والتعقيب… “ثانيا : الأحكام الباتّة : لا يرخّص في القيام بالمعارضة إلاّ بالنسبة للأحكام الباتّة التي تصدر في الأصل وتنتهي بها المرافعات وعليه فالأحكام التحضيريّة لا يجوز معارضتها إلاّ في آن واحد مع الأحكام الباتّة وهناك موازية تامّة مع القاعدة الواردة بها الفصل 147 في الاستئناف… والأمثل بالمثل في صورة الحكم الصادر في عدم الاختصاص بالنظر ولو كان باتا والأحكام التمهيديّة التي يستبان منها وجه فصل القضيّة لا تقبل الطعن إلاّ بعين الطريقة التي تسلك لمعارضة الأحكام التحضيريّة نفسها ونحن نرى مبدئيا أنّ الأحكام ولو كانت باتّة لا يمكن الطعن فيها فرادى إذا لم يكن مقضيا بها في أصل الحقّ المدّعى به”.

وأقرّت محكمة التعقيب بأنّ : “الاستئناف له تأثير على الماضي في مسألة الأحكام الباتّة التي تقضي في الأصل وفي هذه الصورة يجب على حاكم الدرجة الثانية أن يقضي في أصل النّزاع كما لو كان حاكما من الدرجة الأولى وله أن يفعل ما كان على الحاكم الأوّل فعله”.([236])

ويستنتج ممّا سبق أنّ المعنى الذي تقتضيه عبارة “بات” الواردة بالفصل 7 من م.ا.ج تفيد الحكم البات في أصل النزاع أي ما يطلق عليه الفقهاء مثلما رأينا في الجزء الأوّل من هذه الرّسالة “بالحكم القطعي” الذي أنهى تعهّد المحكمة. ولأنّه قبل البتّ في الدعوى العامّة قد تصدر أحكام أخرى لتهيئة الدعوى للفصل كقرارات قاضي التحقيق وغيرها من الأحكام التحضيريّة فهذه لها صبغة وقتيّة ويمكن مراجعتها أو الرّجوع فيها وبالتّالي فليست لها أهمّ خاصيّة يمتاز بها الحكم الباتّ في أصل الدعوى وهو الحجيّة.

ثمّ إنّه لا يتصوّر أن يقضي في الدعوى بحكم بات بمعنى القابليّة للتنفيذ ؟ وخصوصا بمعنى الحكم الباتّ الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن irrévocable ؟ لأنّ بذلك يقع النيل من مبدأ هام أو من حقّ أساسي ألا وهو التقاضي على درجتين. علاوة على أنّ المشرّع استعمل عبارة “الدعوى العامّة” ولم يستعمل عبارة “حكم” وكما لا يخفي فإنّ كلّ دعوى عامّة تنتهي بحكم والحكم هو الذي يحسم موضوع الدعوى بالإدانة أو بالبراءة بالبتّ فيه لذلك سمّي حكم بات jugement définitif لتخرج بذلك الأحكام التحضيريّة التي تصدر أثناء سير الدعوى قبل البتّ في الأصل.

ومثلما رأينا عند تحديدنا لمفهوم الحكم الباتّ في الدعوى والذي أجمع عليه الفقهاء بأنّه “الحكم القطعي” الذي يقابله باللّغة الفرنسية jugement définitif.

فقد جاء في كتاب “وقف الدعوى المدنية لحين الفصل في الدعوى الجنائية”([237]) “ونصّ الفصل 18 من قانون المرافعات الجنائية التونسي([238]) على أنّ : “دعوى الحقّ الشخصي من خصائص كلّ من لحقه الضرر فله أن يقوم بها على ذي الشبهة أو على من كان نائبا عنه ويمكن تتبّعها في آن واحد مع دعوى الحقّ العام لدى حاكم واحد. ومن الممكن القيام بها بانفرادها لدى محكمة مدنيّة، وفي هذه الصورة يبقى إجراؤها متوقّفا ريثما تنفصل بوجه قطعي دعوى الحقّ العام المقامة قبل المطالبة الشخصيّة أو أثناءها…”.

كما جاء في مختصر شرح قانون المرافعات الجزائيّة السابق الذكر([239]) في شرح الفصل 18 المشار إليه ما يلي “ويبقى إجراؤها (أي إجراء دعوى الحقّ الشخصي) متوقّفا ريثما تنفصل بوجه قطعي دعوى الحقّ العام المقامة قبل المطالبة الشخصيّة أو أثناءها”. وذلك عملا بالقاعدة القاضية بأنّ “الجنائي يوقف النظر في المدني”.

ويبدو من خلال ما سبق ذكره أنّ استعمال مصطلح الحكم القطعي بالفصل 18 من م.ا.ج القديمة والذي يقابله الحكم définitif في الترجمة الفرنسيّة الرسميّة لذلك الفصل عوض استعمال مصطلح الحكم الباتّ هو للدلالة على الحكم الصادر في أصل الحقّ لأنّ الأحكام الباتّة الأخرى الصادرة أثناء سير الدعوى وحتّى الحكم الصادر بعدم الاختصاص ولو تنتهي به المرافعات لا تعتبر من الأحكام الصادرة في أصل الحقّ وبالتالي فليست لها الحجيّة التي لا تكون إلاّ للحكم القطعي وأثرا من آثاره.

وفي هذا المعنى أقرّت محكمة التعقيب : “أنّه على مقتضى الفصل 18 من قانون المرافعات الجنائيّة إذا وقع القيام بالدعوى الشخصية بانفرادها لدى محكمة مدنية ففي هاته الصورة يبقى إجراؤها متوقّفا ريثما تنفصل بوجه قطعي دعوى الحقّ العام المقامة قبل المطالبة الشخصية أو أثنائها وأنّ أحكام الفصل المذكور التي لها صبغة عامّة وصريحة تنطبق بالنسبة لجميع المحاكم مهما كان نوع النّزاع وأنّه يكفي لتوقيفه النظر حتميا أن تكون الدعوى العموميّة جارية بالفعل وأن تكون الدعوتان متعلّقتان بأمر واحد وحينئذ يجب توقيف النظر عملا بالقاعدة المشار إليها بالفصل 18 المذكور وبالمبدأ العام القاضي بأنّ الجنائي يوقف النظر في المدني.([240])

وإضافة إلى ما ذكر فقد استعمل مشرّع الإجراءات الجزائية لسنة 1968 الفعل “بتّ” في عدّة فصول منها : 100 و101 و106 و116 و123 و124 و143 و171 و172 و180 و185 و188 و190… وهو يفيد في جميعها النظر في المسألة المعروضة على المحكمة باتّخاذ قرار أو حكم باتّ أو قطعي بشأنها.

وممّا جاء في تلك الفصول ما يلي : (وتقدّم أوجه التجريح فيهم ويبتّ فيها. ف. 143). (ولا ينفّذ العقاب إلاّ بعد البتّ في الاعتراض. ف. 180). (فإنّ المحكمة تبتّ فيها بحكم واحد يكون قابلا للاستئناف في مجموعه. ف. 172). (والمحكمة تبتّ في المحجوز بحكم مستقلّ. ف. 185). (ولا تتعهّد محكمة الاستئناف إلاّ بعد أن تبتّ المحكمة الابتدائية في الأصل. ف. 188).

ولذا فالحكم الذي بتّ في أصل النّزاع هو “الحكم القطعي” الذي وقعت الإشارة إليه أي الحكم الباتّ في أصل النّزاع وأنهى الدعوى العامّة فهذا الحكم هل من شأنه أن يضع حدّا لإيقاف الدعوى المدنيّة التي موضوعها جبر الضرر الناشئ عن الجريمة التي بتّ فيها القاضي الجزائي ؟

وهذا يجرّنا إلى الحديث عن قاعدة الجنائي يوقف النظر في المدني.

ب – الجنائي يوقف النظر في المدني :

إنّ الفصل 7 من م.ا.ج المذكور والذي يقابله الفصل 18 من مجلّة الإجراءات القديمة هو الذي جاء بهذه القاعدة.

لا خلاف في أنّ أساس مبنى قاعدة إيقاف النظر هو نفس مبنى مبدأ حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني. ويقع تبريره بصفة عامّة بخشية أن يعارض القاضي المدني ما أقرّه القاضي الجزائي “بحكم باتّ”.

فإذا أوقف القاضي المدني النظر في الدعوى المدنيّة إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة فلأنّ هذا الحكم البات له حجيّة الأمر المقضي. وبعبارة أخرى لا يمكن للقاضي المدني أن يبتّ في الدعوى المدنيّة إلاّ بعد أن يبتّ القاضي الجزائي في الدعوى العامة حتّى لا تتعارض الأحكام.

فمفهوم الحكم الباتّ رهين الهدف الذي ترمي إليه من خلال القاعدتين المذكورتين. ولكن الحلول القضائية اتّجهت اتّجاها آخر ومفهوم الحكم الباتّ تمّ فهمه بصفة تكاد تكون متطابقة في القاعدتين.([241])

ويبدو أنّ هذا الخلط في مفهوم الحكم الباتّ بين مبدأ حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني وقاعدة إيقاف النظر هو أنّ الفصل 7 من م.ا.ج الذي جاء بهذه القاعدة قد وقع اعتماده كأساس لمبدأ الحكم الجزائي على المدني.

ولأنّ هذا المبدأ مثله مثل مبدأ حجيّة الحكم الجنائي على الجنائي يوجب للتقيّد بالحكم الجزائي أن يكون الحكم باتّا بمعنى الحكم القابل للتنفيذ أو الذي لم يعد قابلا لأي وسيلة من وسائل الطعن. وبما أنّ الهدف من إيقاف النظر في الدعوى المدنيّة هو التقيّد بالحكم الجزائي فاستنتجوا من ذلك أن يكون الحكم الجزائي الصادر في الدعوى العموميّة باتا بالمعنى المذكور نسجا على منوال شروط التقيّد بحجيّة الحكم الجزائي على المدني.([242])

ولكن من الواجب علينا أن نفهم الغاية من هذا التقيّد أو من تعطيل أو إيقاف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضى في الدعوى العامّة التي تعتبر السند القانوني للمطالبة بالتعويض أو الأساس المشترك في الدعويين، وبالتالي فتبرير إيقاف النظر هو حتّى لا تتعارض الأحكام في موضوع واحد وهو تبرير الحجيّة بين الأحكام بصفة عامّة حتّى لا تتعارض في القضيّة الواحد فيضطرب سير العدالة وتفقد الثقة في الأحكام.

ونقصد بالحجيّة هي حجيّة الأمر المقضي والتي مثلما رأينا اعتبرتها محكمة التعقيب “قرينة قانونيّة لا تقبل الدليل المعاكس ومؤدّاها أنّ الحكم صدر صحيحا من ناحية الشكل وعلى حقّ من ناحية الموضوع “.

وما المطالبة بالتعويض مدنيا تأسيسا على حكم جزائي يعتبر في اعتقادي خصومة واحدة ويكون من المتّجه أن يتقيّد القاضي المدني بالحكم الجزائي تأسيسا على الفصل 481 من م.ا.ع الذي جاء بحجيّة الأمر المقضي بين الأحكام المدنيّة، مثلما أسّس فقه القضاء الجزائي حجيّة الأحكام الجزائية وشروطها تأسيسا على نفس ذلك الفصل مثلما رأينا.

ومثلما يتقيّد القاضي المدني بحجيّة الأمر المقضي للحكم المدني فمن باب أولى أن يتقيّد بحجيّة الحكم الجزائي الذي يعتبره فقه القضاء له علويّة لما للقاضي الجزائي من سلطات واسعة في حريّة وسائل الإثبات وجمعها ليكون حكمه عنوانا للحقيقة.

ولذا فيكون من الواجب أنّه إثر البتّ في الدعوى العامّة أن يتحرّر القاضي المدني أو بالأحرى أن يضع حدّا لتعطيل القضيّة ويواصل النظر فيها على ضوء الحكم الجزائي البات الذي بتّ في الدعوى وأنهى تعهّد المحكمة الجزائية فيها.

فهذا هو مفهوم الحكم البات في نظرنا بالنسبة لقاعدة إيقاف النظر أي الحكم البات بمعنى الحجيّة لا الحكم البات بمعنى القابليّة للتنفيذ إذ لو يؤول الحكم البات بهذا المفهوم الأخير فلم يعد هناك اختلاف بين مبدأ حجيّة الحكم الجزائي على المدني وقاعدة إيقاف النظر في حين أنّهما قاعدتان مختلفتان على الأقلّ في شرط من شروطهما.

وإن كان الحكم الباتّ القابل للتنفيذ أو المحرز على قوّة الأمر المقضي irrévocable هو الشرط الواجب توفّره لحجيّة الحكم الجزائي على الجزائي ولحجيّة الحكم الجزائي على المدني له ما يبرّره لوضع حدّ للنزاع باتّصال القضاء وفق ما نصّ عليه الفصل الرابع من م.ا.ج.

فإنّ من يعتقد بأنّ نفس تلك الشروط من الواجب توفّرها في الحكم البات الذي نصّ عليه الفصل 7 من م.ا.ج المتعلّق بقاعدة إيقاف النظر ليس له ما يبرّره لأنّ من شأن هذا الاعتقاد أن يعطّل سير القضاء ويضرّ بمصالح المتقاضين ولا نعتقد أنّ هذه النتيجة هي التي يهدف إليها المشرّع.

والحكم البات ليس بالضرورة أن يكون حكما بتّ في أصل الدعوى ويكفي أن يكون الحكم الصادر فيها يضع حدّا لممارسة الدعوى العامّة وتنتهي به تعهّد المحكمة الزجريّة وقرارات الحفظ توضع حدّا لإيقاف النظر في الدعوى المدنيّة ولو أنّ بعض الفقهاء يعتبرها أحكاما باتّة بالنسبة للإجراء المتّخذ في شأنها.

Les décisions de non lieu doivent être considérées comme “définitives en égard à l’état de la procédure”.([243])

ولو نشترط دائما وجوب أن يكون الحكم الباتّ هو الحكم الغير القابل للطعن l’irrévocabilité de la décision مثلما هو الشأن بالنسبة لحجيّة الحكم الجنائي على المدني فإنّنا سنحيد عن مبنى قاعدة إيقاف النظر وخصوصيّتها ومبرّراتها.

“فيجب على القاضي المدني أن يضع حدّا لتعطيل النظر في القضيّة المدنيّة إثر البتّ في الدعوى العامّة وبهذا التأويل الضيّق نحدّد من العراقيل التي تشلّ الدعوى المدنية).([244])

ويتمثّل الإشكال التطبيقي الذي طرحه مبدأ إيقاف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامة في صورة ما إذا كان الحكم الصادر من المحكمة الجزائية حكما غيابيا، وهكذا نصل إلى الفقرة الثانية من هذا المبحث.

الفقرة الثانية – حجيّة الأمر المقضي للحكم الغيابي البات في فقه القضاء التونسي والمقارن

سنتناول في هذه الفقرة حجيّة الحكم الغيابي باعتباره حكما كسائر الأحكام الباتّة في النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة ونحن نعلم أنّ من آثار هذه الأحكام “القطعية” أو “الباتة” أنّ لها حجيّة الأمر المقضي فهل يعمل بهذه القواعد المتّفق عليها بالنسبة للحكم الغيابي عند الاحتجاج به لدى القاضي المدني ؟ أم أنّ تلك الحجيّة لا تكفي ويشترط لصيرورة الحكم الغيابي باتا بمعنى قابلا للتنفيذ” للاحتجاج به لدى القاضي المدني لوضع حدّ لإيقاف النظر في الدعوى المدنية (أ) ثمّ ما هو موقف الفقه وفقه القضاء المقارن من هذه المسألة (ب).

أ) حجيّة الحكم الغيابي في فقه القضاء التونسي :

هل الحكم الجزائي الغيابي يعتبر حكما باتا أو “قطعي” لأنّه بتّ في أصل النزاع المعروض على المحكمة وأنهى تعهّدها ؟

وهل يعتبر حكما قضائيا تتوفّر فيه كافّة الشروط الواجب توفّرها في الأحكام مثلما رأينا في الجزء الأوّل من هذه الرّسالة ؟

الجواب في اعتقادي لا يكون إلاّ بالإيجاب خصوصا وأنّ المشرّع هو الذي أقرّ صدور الحكم غيابيا في صورة استدعاء المتّهم بصفة قانونيّة ولم يحضر وفق ما نصّت على ذلك الفقرة الثانية من الفصل 175 من م.ا.ج مثلما أقرّ في الإجراءات المدنيّة من أنّ المحكمة لا تتوقّف على حضور المطلوب ويحكم في القضيّة على ضوء أوراقها إن بلغه الاستدعاء كما يجب قانونا.

ولكن المشكل الذي أثاره فقه القضاء([245]) يتمثّل في أنّه مادام الحكم الغيابي مازال قابلا للاعتراض فهو لا يعتبر حكما باتّا وقد عرّف القرار الأوّل في الذكر الحكم البات بـ: “والمقصود بالأحكام الباتّة هي الأحكام غير القابلة للطعن بطريق الاعتراض أو الاستئناف”.

وهكذا يتبيّن لنا جليّا هذا “الانحراف” في مفهوم الحكم البات الذي استقرّ عليه فقه القضاء لسنوات طويلة مثلما رأينا، ولكن يبدو لي أنّ هذا الانحراف له ما يبرّره وهو خصوصيّة الحكم الجزائي البات وكلّما تعلّق الأمر بالاحتجاج بحكم جزائي على القضاء المدني علاوة إلى أنّه تمّ الاستناد إلى الفصل 7 من م.ا.ج لتبرير مبدأ حجيّة الحكم الجزائي على القاضي المدني فوقع الخلط في مفهوم الحكم الجزائي البات بالنسبة للمبدأ المذكور وبالنسبة لقاعدة إيقاف النظر مثلما أشرنا.

أي بمعنى آخر فقد وقع الخلط بين الحكم الباتّ بمعنى الحجيّة والحكم البات بمعنى القابليّة للتنفيذ فطرق الطعن في الأحكام تهمّ التنفيذ ولا علاقة لها بحجيّة الحكم “حجيّة الأحكام الباتّة” تكتسب قوّتها من نفسها لا من الإجراءات اللاّحقة بها وخصوصا منها التي لا تهمّ إلاّ التنفيذ”.([246])

و”يتّصف الحكم حين صدوره بحكم اتّصل به القضاء أمّا إذا استنفذ طرق الطعن فإنّه يكتسب قوّة ما اتّصل به القضاء ونتائج قوّة ما اتّصل به القضاء تحسب من يوم استنفاذ طرق الطعن”.([247])

كما جاء في قرار آخر لمحكمة التعقيب([248]) بأنّ : “الحكم الغيابي الذي لم يقع الإعلام به لشخص المحكوم عليه لا يعدّ من الأحكام الباتّة القابلة للتنفيذ وأنّ قبول الاعتراض في شأنه شكلا يجعل المحكمة تجاه دعوى عموميّة تسقط بمرور الزّمن…”.

وهذا القرار يستدعي منّا إبداء ملاحظتين :

الأولى : إنّني أشاطر هذا الرأي القائل بأنّ الحكم الغيابي الذي لم يقع الإعلام به لشخص المحكوم عليه لا يعدّ من الأحكام الباتّة القابلة للتنفيذ، لأنّه مثلما رأينا فالإعلام بالحكم يهمّ الطعن والتنفيذ ولا علاقة له بحجيّة الحكم ولذا يمكن لنا القول بأنّ الحكم الغيابي إذا لم يعلم به يعتبر حكما باتّا بمعنى له حجيّة الأمر المقضي مثله مثل سائر الأحكام ولا يعتبر حكما باتا قابلا للتنفيذ.

الثانية : وهي تتعلّق بخصوصيّة “الحكم الباتّ الغيابي” فيما يتعلّق بسقوط العقوبات فقد نصّت الفقرة الثانية من الفصل 349 من م.ا.ج على أنّه : “وتسقط العقوبات المحكوم بها في الجنح بمضيّ خمسة أعوام كاملة.

أمّا العقوبات المحكوم بها في المخالفات فهي تقسط بعد مضيّ عامين كاملين ويجري أجل السقوط من تاريخ صيرورة العقاب المحكوم به باتا. ويجري من يوم الإعلام بالحكم الغيابي إذا لم يقع ذلك الإعلام للمحكوم عليه نفسه ما لم يتبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أنّ المحكوم عليه حصل له العلم به”.

ويتبيّن من آخر الفصل المذكور أنّه إذا لم يقع الإعلام بالحكم الغيابي لشخص المحكوم عليه ولم يتبيّن من أعمال تنفيذ الحكم أنّه حصل له العلم به. فإنّ الحكم الغيابي يعتبر “باتا” من يوم الإعلام به بصفة قانونيّة. وبداية من ذلك التاريخ بحسب أجل سقوط العقاب. وكلمة “بات” المذكورة أخيرا تفيد الحكم القابل للتنفيذ ولا تفيد الحجيّة.([249])

(وما تجدر ملاحظته هو أنّ الاتّجاه الرامي إلى إيقاف الدعوى المدنيّة إلى حين الفصل نهائيا في الدعوى الجزائية، مرفوض من قبل العديد من الفقهاء خاصّة إذا ما كان الحكم الجزائي غيابيّا. فبالنظر إلى مصلحة المتضرّر وللوضعيّة الاستثنائيّة التي يخلقها غياب المتّهم، فإنّ وصف الحكم الجزائي الغيابي بكونه غير بات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون عائقا للنظر في الدعوى المدنية المرفوعة أمام القضاء المدني مستقلّة عن الدعوى العموميّة من قبل المتضرّر من الجريمة. هذا وإن كان الاعتراض يضمن حقوق المتّهم في الدفاع عن نفسه فإنّه من مصلحة المتضرّر أن لا يقع إيقاف النظر في دعواه المدنيّة مدّة سقوط العقاب التي يمكن أن تصل إلى عشرين سنة. إنّ هذه الوضعيّة تلحق ضررا فادحا بالمتضرّر، إذ بما أنّ الدعوى المدنيّة تسقط بنفس الآجال المقرّرة للدعوى العموميّة الناتجة عن الجريمة التي تولّد عنها الضرر، فإنّ المتضرّر يجد نفسه في وضعيّة يستحيل معها عليه أن يتحصّل على حكم مدني ضرورة أنّ الدعوى المدنيّة تنقرض في الوقت الذي يصبح فيه الحكم الجزائي نهائيا، وهذا وحده كاف لعدم إخضاع الدعوى المدنيّة التي يرفعها المتضرّر من الجريمة أمام المحكمة المدنيّة لمبدأ الجزائي يوقف المدني).([250])

وفي اعتقادي، وفي تأويل المعنى الذي جاءت فيه عبارة “بات” بالفصل 7 من م.ا.ج “إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة” بالمعنى الذي تقتضيه تلك العبارة بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومقصد المشرّع مثلما رأينا ومثلما أقرّته محكمة التعقيب منذ سنة 1941([251]) من أنّ مفهوم الحكم البات الوارد بالفصل المذكور يفيد “الحكم القطعي” أي الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع وأنهى تعهّد المحكمة وفق ما أقرّه الفقهاء وفقه القضاء المقارن مثلما سنرى. فإنّني لا أرى أي مانع من إخضاع الدعوى المدنيّة التي يرفعها المتضرّر من الجريمة أمام المحكمة المدنيّة لمبدأ الجزائي يوقف المدني حتّى لا تتعارض الأحكام في النزاع الواحد. وإذا ما قضى الحاكم الجزائي مثلا بعدم سماع الدعوى فإنّ القاضي المدني يقضي برفض الدعوى المدنيّة المؤسّسة على تلك الجريمة المحكوم فيها مثلا بانتفاء الخطأ الجزائي أمّا إذا كان القيام بالدعوى المدنيّة تأسيسا على المسؤوليّة الشيئيّة مثلا فلا مجال لإيقاف النظر مثلما أشرنا إلى ذلك. وإذا كان القيام بالدعوى المدنية تأسيسا على الفصل 82 من م.ا.ع كالمطالبة بتعويض أضرار لاحقة بملك المدّعي وتمسّك المدّعى عليه بأنّ هناك قضيّة جناحيّة منشورة في تاريخ سابق في نفس الموضوع والسبب بتهمة الإضرار بملك الغير وهي ينفي نيّة الإضرار بملك خصمه طالبا إيقاف النظر في القضيّة المدنيّة إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة. ففي هذه الصورة وحسنا لسير القضاء أن يوقف القاضي المدني النظر في القضيّة إلى أن يقع البتّ في نيّة الإضرار حتّى نتجنّب التضارب بين الأحكام فهذا قاض يثبت نيّة الإضرار أو العمد وهذا قاض آخر ينفيه. أمّا إذا كان القيام بالدعوى المدنيّة تأسيسا على الخطأ الشخصي أي تأسيسا على الفصل 83 من م.ا.ع فلا مجال لإيقاف النظر في القضيّة. وهذا من شأنه أن يحدّ من قاعدة إيقاف النظر حرصا على إيصال الحقوق لأصحابها وحتّى لا يكون المتضرّر من جريمة قصديّة أو غير قصديّة حظّه أسوأ من غيره.

وإضافة إلى القرار التعقيبي المشار إليه الذي اهتدى إلى مفهوم الحكم الذي نصّ عليه الفصل 18 من مجلّة الإجراءات الجزائيّة القديمة والذي يقابله الفصل 7 من م.ا.ج ألا وهو الحكم القطعي فقد اهتدت كذلك بعض محاكم الموضوع([252]) من التوصّل إلى نفس ذلك المفهوم، فقد جاء في الحكم الابتدائي ما يلي :

“اقتضى الفصل 18 من مجلّة المرافعات الجنائية القديمة (الذي يقابله الفصل 7 م.ا.ج) أنّه يتحتّم وقف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضى في الدعوى العامة بوجه قطعي (أو بات)”.

– الحكم القطعي أو البات هو الذي يبتّ في الموضوع أي في أصل النّزاع بقطع النظر عن كونه حضوريا أو غيابيا، ابتدائيا أو نهائيا ويقابله الحكم غير القطعي أو البات وهو الحكم الذي يبتّ في مسألة إجرائية لا في أصل الموضوع وكلاهما يختلف عن الحكم النهائي الذي لم يعد قابلا للطعن بالطرق الاعتيادية (الاستئناف والاعتراض).

– الحكم الغيابي يعتبر حكما قطعيا أو باتا ولو كان غير نهائي ومن آثاره أنّه يضع حدّا لوقف النظر في الدعوى المرفوعة أمام القضاء المدني ويسمح بإعادة سيرها بعد أن توقّف بسبب النظر في الدعوى العامة التي ختمت بصدور الحكم الغيابي.

أمّا فيما يخصّ نصّ الفصل 18 من مجلّة المرافعات الجنائية القديمة فإنّ المشرّع عبّر بكلمة قطعي ولم يعبّر بكلمة نهائي. وممّا لا شكّ فيه أنّ المشرّع عالم بمدلول الكلمتين ولم يستعمل كلمة نهائي أو غير قابل للاعتراض لأنّه لم يقصد ذلك المدلول وإنّما استعمل كلمة قطعي لأنّه قصد مدلول هذه الكلمة وهو الحكم الذي يبتّ في الموضوع وفي أصل النّزاع بقطع النظر عن كون ذلك وقع حضوريا – غيابيا – ابتدائيا – نهائيا ويقابله الحكم غير القطعي وهو الحكم الإجرائي التحضيري الذي يبتّ في مسألة إجرائيّة لا علاقة فيها بالأصل.

وجاء في الحكم الاستئنافي ما يلي :

“حيث ركّزت شركة التأمين المستأنفة طعنها على أنّ الحكم الجزائي المبنية عليه الدعوى صدر غيابيا، ولذلك فإنّ الدعوى العامة مازالت جارية، ويتعيّن توقيف النظر في قضية الحال بناء على أنّ “الجزائي يوقف النظر في المدني“.

وحيث اقتضت الفقرة الثانية من الفصل 7 من مجلة الإجراءات الجزائية أنّ الدعوى المدنية (يمكن القيام بها في آن واحد مع الدعوى العامة أو بانفرادها لدى المحكمة المدنية، وفي هذه الصورة يتوقّف النظر فيها إلى أن يقضي بوجه باتّ في الدعوى العامة التي وقعت إثارتها).

وحيث أنّ المقصود بالقضاء (بوجه باتّ في الدعوى العامة)، هو القضاء بحكم يبتّ في الأصل، بقطع النظر عن كون هذا الحكم نهائي الدرجة أو ابتدائيا، أو كونه حضوريا أو غيابيا.

وحيث يتّضح من ذلك أنّ الدعوى العامة في قضيّة الحال قد سبق البتّ فيها في الأصل بحكم غيابي وذلك كاف لمواصلة النظر في الدعوى المدنيّة”.

مع الإشارة وأنّ الحكمين المذكورين منشورين مع تعليق([253]) جاء فيه :

“من المشاكل التي تتّصل بقاعدة : “الجزائي يوقف النظر في المدني” مسألة : أثر الحكم الجزائي الغيابي في وضع حدّ لهذه القاعدة. وهذه المسألة ذات نتائج عمليّة مهمّة، تواجه رجال القانون في التطبيق في عدد كبير من القضايا، خاصّة في دعاوى التعويض المقامة بمناسبة حوادث المرور التي تكاثرت في السنين الأخيرة.

فقد يرتكب الحادث سائق سيارة غريب عن البلاد قدم في سياحة أو عمل ثمّ غادر البلاد نهائيّا من غير أن يعرف له عنوان. فهل يعتبر الحكم الجزائي الصادر غيابيا بثبوت إدانته، مانعا من النظر في الدعوى المدنية التي يرفعها المتضرّر ضدّ الشركة المؤمّنة للحادث، بحجّة أنّ الحكم الغيابي لا ينهي النظر في الدعوى العامة ولا يضع بالتالي حدّا لوقف سير الدعوى المدنية ؟”

ولا خلاف بأنّ مفهوم الحكم الباتّ على معنى الفصل 7 من م.ا.ج هو الحكم الذي بتّ في أصل النّزاع سواء كان الحكم الجزائي حضوريّا أو غيابيا ومن آثاره أنّه له حجيّة الأمر المقضي وهذا ما استقرّ عليه القانون وفقه القضاء المقارن.

ب – حجيّة الحكم الغيابي ومسألة إيقاف النظر في القانون المقارن :

1 – الفقه المصري :

وجاء في الوسيط([254]) تحت عنوان “حكم قطعي” الحكم القطعي والحكم النهائي : (لا تكون حجيّة الأمر المقضي إلاّ لحكم قطعي (jugement définitif) وهو الحكم الصادر في الموضوع بالبتّ فيه ولو كان حكما ابتدائيا غيابيا قابلا للطعن فيه بالمعارضة والاستئناف ولا ضرورة، حتّى تكون للحكم حجيّة الأمر المقضي أن يصبح الحكم القطعي حكما نهائيا jugement passé en force de chose jugée باستنفاذه لطرق الطعن العادية من معارضة واستئناف فالحجيّة تثبت للحكم الغيابي ثبوتها للحكم الحضوري وللحكم الابتدائي ثبوتها للحكم النهائي وتثبت للحكم النهائي حتّى ولو طعن فيه بالنقض أو بالتماس إعادة النظر أو باعتراض الخارج عن الخصومة).

“إذا فصل في الدعوى الجنائية قبل الفصل في الدعوى المدنية فيكون للحكم الجنائي حجيّة الشيء المحكوم فيه إزاء الدعوى المدنية بمعنى أن تكون المحكمة المدنية ملزمة باحترامه وبعدم الحكم على نقيض ما انتهى إليه من نتائج ملزمة.([255])

و”يشترط لحجيّة الحكم ما يلي :

1 – أن يكون الحكم الجنائي صادرا في موضوع الدعوى الجنائية بالإدانة أو بالبراءة سواء من محكمة عادية أو خاصة وبالتالي لا يحوز حجيّة الأحكام والأوامر الآتية :

أ – الأحكام التي لم تفصل في موضوع الدعوى الجنائية كالأحكام الوقتية أو التحضيرية أو كالحكم بعدم القبول أو بعدم الاختصاص.

ب – القرارات والأوامر الصادرة من سلطات التحقيق.([256])

وإنّ : “سبق صدور الحكم الجنائي على الفصل نهائيا في الدعوى المدنية يعني صدور حكم بات أو قطعي أي بتّ في الأصل ويعني ذلك أنّه إذ صدر الحكم الجنائي قبل أن يصدر في الدعوى المدنية حكم بات تقيّد به القاضي المدني ولو كانت هذه الدعوى مطروحة على محكمة النقض”.([257])

2 – الفقه وفقه القضاء الفرنسي :

و”أنّ الحكم الغيابي ولو لم يعلم به المتّهم شخصيا من شأنه أن يضع حدّا لإيقاف النظر في الدعوى المدنية”.

Un jugement rendu par défaut, même non signifié à personne permet à l’instance de reprendre son cours.

و”أنّ طرق الطعن العادية في الأحكام الجزائية تعيد من جديد مسألة إيقاف النظر في القضية المدنية المرتبطة بها كما في صورة الاعتراض أو الاستئناف ذلك أنّ وسائل الطعن تعلّق حجيّة الأحكام”.([258])

و”إنّ الحكم الغيابي ولو أنّه قابل للاعتراض يكتسب حجيّة الأمر المقضي مثله مثل الأحكام الحضورية طيلة المدّة التي لم يطعن فيه بالمعارضة، ولكنّ المعارضة المرفوضة لا تحول دون تنفيذ الحكم، على أنّ تنفيذ الحكم وحجيّته شيئان مختلفان عن بعضهما البعض”.([259])

La force exécutoire du jugement et la chose jugée sont deux notions totalement distinctes. ([260])

الحكم الجزائي البات définitif هو الحكم الذي ينظر في موضوع الدعوى وينهي تعهّد المحكمة وله حجيّة الأمر المقضي والحكم الغيابي هو حكم بتّ في الأصل.

وحجيّة الأمر المقضي هي قرينة قانونيّة يتّصف بها الحكم الذي بتّ في أصل النزاع ويكون من نتيجتها منع الأطراف التنازع من جديد في نفس ذلك الموضوع.

أمّا قوّة الأمر المقضي فهي صفة يكتسبها الحكم في صورة عدم الطعن فيه بالاستئناف أو لمضيّ الأجل فيصبح قابل للتنفيذ.

فللتمسّك بحجيّة الحكم أمام القاضي المدني وسواء أكان الحكم المحتجّ به حكما مدنيّا أو حكما جزائيا فيكفي أن يكون الحكم قد صدر من محكمة القضاء وباتا في أصل النّزاع.

ويستثنى من ذلك الأحكام الوقتيّة أو ذات الصبغة الإجرائيّة والتي لا تفصل المسألة القانونيّة المعروضة على المحكمة.

لا يفهم من إيقاف النظر في الدعوى المدنية أنّه يستلزم طيلة المدّة التي سيصير فيها الحكم الجزائي نهائيا فليس من الضروري أن يصبح ذلك الحكم غير قابل لأي وسيلة من وسائل الطعن irrévocable أو حائزا على قوّة الشيء المحكوم به، وأنّ أحكاما غيابية أو حتّى قرارات بالحفظ تعتبر أحكاما قطعية (باتّة) définitif على معنى الفصل الرابع الفقرة الثانية من م.ا.ج.ف.([261])

وهكذا يتبيّن أنّ الفقه المقارن يتماشى مع مفهومنا لحجيّة الأمر المقضي للحكم الجزائي الغيابي والتي تكون من نتيجتها وضع حدّ لإيقاف النظر في الدعوى المدنيّة المرتبطة بذلك الحكم حسنا لتطبيق القواعد القانونيّة ولسير القضاء ومحافظة على حقوق المتقاضين، لأنّ اعتبار الحكم الغيابي ليس بحكم بات أو “قطعي” وليس له حجيّة الأمر المقضي يتنافى مع التأويل القانوني السليم ومع مقصد المشرّع.

الخاتمة

لقد تبيّن لي من خلال هذا البحث أنّه لفهم إشكاليّة الحكم الباتّ في القانون وفقه القضاء التونسي يجب وضع الموضوع في إطاره الزّمني وذلك بالرّجوع إلى الماضي لمعرفة منطلق الأسباب والمبرّرات علّنا من خلاله نستوعب أساس الاختلاف في الموضوع لنجد له الحلول ونستشرف المستقبل.

ومثلما أشرنا فلا يخفى أنّه لأسباب تاريخيّة كانت قوانيننا وفقه قضائنا متأثّرة بالقانون الفرنسي، وهذا القانون الأخير بدوره كان متأثّرا بالقانون الرّوماني الذي يرجع له فضل التمييز بين الأحكام القطعية sententia definitivae أي التي تفصل في موضوع الدعوى، وبين الأحكام التحضيريّة التي تفصل في المسائل الفرعيّة.

وهذه الأحكام القطعيّة أطلقنا عليها “الأحكام الباتّة” أي الأحكام الباتّة في موضوع الدعوى لأنّ الأحكام التحضيريّة لا تبتّ في الموضوع. ولم يطلق على تلك الأحكام الباتّة في الموضوع مصطلح “الحكم القطعي” رغم اتّفاق الفقهاء([262]) على ذلك المصطلح. ويبدو أنّ ذلك راجع إلى الفصل الرّابع من مجلّة المرافعات المدنية القديمة الذي نصّ على أنواع الأحكام التي يمكن استئنافها وهي الأحكام الباتّة الابتدائية… مثلما رأينا. على أنّ فقه القضاء لم يقتصر على ذلك الفصل فقط في استعماله للحكم البات بالمعنى الذي بتّ في النّزاع، بل استعمله أيضا استنادا على الفصلين 481 و482 من م.ا.ع (اللّذين جاءا بقرينة حجيّة الأحكام). “إنّ الأحكام التحضيريّة لا تعتبر من الأحكام الباتّة التي لا رجوع فيها”([263]) وإن كان ذلك استنادا على الفصل الرابع المذكور فقد كان استئناسا كذلك بفقه القضاء الفرنسي الذي يعتبر بدوره الحكم الذي لا رجوع فيه définitif أي الحكم “النهائي” الذي استقرّ عليه رأي المحكمة خلافا للأحكام الأخرى الصادرة قبله والتي يمكن الرّجوع فيها والتي الغاية منها التحضير للحكم الذي يبتّ في النّزاع.

ثمّ أصبح مصطلح définitif يدلّ كذلك على الحكم النهائي بمعنى الحكم الغير القابل للطعن بطرق الطعن الغير العاديّة. كما أصبحت عبارة “الحكم الذي لا رجوع فيه” المذكورة في القانون التونسي تدلّ على الحكم النهائي كما تدلّ على الحكم الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن.

ونعتقد أنّ من الأسباب التي جعلت فقه القضاء لا يستقرّ على مفهوم الحكم البات أنّه لم تتح الفرصة للدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب لقول كلمتها في الموضوع بعد صدور مجلّة الإجراءات الجزائيّة الجديدة لسنة 1968 لأنّها أضافت بدورها معاني مختلفة للحكم الباتّ مثلما تعرّضنا لذلك. فتارة يفيد الحكم البات في النّزاع وتارّة أخرى يفيد الحكم القابل للتنفيذ بمعناه المزدوج : أي الحكم الحائز على قوّة الشيء المحكوم به. Passé en force de la chose jugée. و”الحكم المبرم” الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن irrévocable.

ولذا ألا يتّجه المحافظة على عرف استعمالنا للحكم البات بمعنى الحكم البات في النّزاع وإجراء تنقيحات على بعض فصول م.ا.ج خصوصا في الفصل الذي لا يستدعي كلمة “بات” من ذلك الفصل 338 الذي نصّ على أنّه : “ينفّذ الحكم إذا أصبح باتّا” إلاّ أنّ أجل الاستئناف المخوّل للوكيل العام… لا يحول دون تنفيذ العقاب”.

لأنّ الفقهاء أجمعوا في تقسيمهم للأحكام من حيث قابليّتها للتنفيذ على أنّ هذه الأنواع من الأحكام هي الحائزة لقوّة الشيء المحكوم به وهي بذلك قابلة للتنفيذ، إضافة وأنّ قانونا التونسي لا يجهل هذا المصطلح فقد سبق لمشرّع م.م.م.ت الصادرة سنة 1959 بالفصل 286 أنّه نصّ على : “تنفّد بعد التحلية بالصيغة التنفيذية 1) الأحكام التي أحرزت على قوّة اتّصال القضاء([264]) وهي التي لم تكن أو لم تعد قابلة للطعن بإحدى الوسائل المعطّلة للتنفيذ”.

ولذا فالمقترح تنقيح الفصل 338 المذكور على النحو التالي : “ينّفذ الحكم إذا حاز على قوّة الشيء المحكوم فيه”.

أمّا بالنسبة للحكم البات الذي لم يعد قابلا لأي وجه من أوجه الطعن. كما في صورة الحكم بالإعدام، فالتعقيب يوقف تنفيذ الحكم (الفصل 265 م.ا.ج) ووكيل الدولة العامة للجمهورية يعلم به بمجرّد صيرورته باتا كاتب الدولة للعدل ولا ينفّذ إلاّ إذا لم يمنح العفو (الفصل 342 م.ا.ج).

فمن الواجب الاتّفاق على مصطلح تتّفق عليه لجنة مختصّة وعلى سبيل المثال ألا يجوز تسميته “بالحكم المبرم” مثلما هو الشأن بالنسبة للقانون اللّبناني حتّى نضع بذلك حدّا للتأويلات المختلفة للحكم البات وما انجرّ عليها من عدم استقرار فقه القضاء طيلة نصف قرن تقريبا.

ولكن يبدو أنّ هذه النتيجة التي توصّلنا إليها غير كافية إذا لم تشفع بتنقيح في المصطلحات المستعملة بالفصلين 481 و482 من م.ا.ع لأنّ عبارة “الحكم الذي لا رجوع فيه” الواردة بهما ساعدت على اعتبار “القضاء في الدعوى بوجه بات” بالفصل 7 من م.ا.ج هو الحكم الذي لم يعد قابلا للطعن أي الحكم القابل للتنفيذ والذي لا يمكن الرّجوع فيه. في حين أنّ الفصل 481 من م.ا.ع يتحدّث عن حجيّة الشيء المحكوم فيه autorité de la chose jugée ولا يتحدّث عن الحكم الحائز على قوّة الشيء المحكوم به. بمعنى الحكم القابل للتنفيذ([265]) كما لا يتحدّث عن قوّة الأمر المقضي على غرار المادة 405 من القانون المدني المصري التي تضمّنت بأنّ للحكم حجيّة الشيء المحكوم به فهو حجّة فيما فصل فيه من الحقوق ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه القرينة.([266]) وهذا المفهوم لحجيّة الأحكام وشروطها هي نفسها التي نصّ عليها القانون التونسي.

لذا أرى من المتّجه في اعتقادي إعادة صياغة الفقرة الأولى من الفصل 481 من م.ا.ع بحذف “ما أناطه القانون من النفوذ بأحكام المجالس التي لا رجوع فيها” وتعويضها على سبيل المثال بـ : “الحكم البات في اصل النزاع له حجيّة الشيء المحكوم به”. والأحكام التحضيريّة والمستأنفة ليست لها تلك الحجيّة…

فالحكم له حجيّة الشيء المحكوم به من يوم صدوره، وأنّ المطالبة “بصيرورته باتا” للاحتجاج به يفرغ الحكم البات من مضمونه ومن مفهومه وآثاره.

ولذا فمن الواجب عدم المغالات في التأويل بما يضرّ المتقاضين خصوصا فيما يتعلّق بقاعدة إيقاف النظر في الدعوى المدنية إلى أن يقضى بوجه بات في الدعوى العامّة. فالحكم مهما كان وصفه حضوريّا أم غيابيا له حجيّة الأمر المقضي. وأنّ حجيّة الحكم لا علاقة لها بقابليّته للطعن والتنفيذ.

وبهذا، وبمزيد من الجهد في البحث عن مقصد المشرّع من كلمة بات، يمكننا التوصّل إلى حلول سليمة تساهم في حسن سير العمل القضائي، مع استبعاد الفكرة التقليديّة الرامية إلى التفرقة بين القضاء الجزائي والقضاء المدني، والنظر إلى الهيكل القضائي نظرة موضوعيّة باعتباره وحدة متلاحمة يأبى التضارب بين مفهوم أحكامه ودون تمييز بينها وبين قضاته حماية لحقوق المتقاضين وحفاظا على هيبة القضاء. ([267])