بحث حول قواعد المنافسة واليات الضبط
مقدمة:
إن اقتصاديات الدول السائرة في طريق النمو والتي تمر بمرحلة انتقالية- على غرار الجزائر- تكون قد خرجت لتوها من مرحلة اقتصادية كانت تشهد سيطرة الاحتكارات الطبيعية والقانونية، ولذلك يكون فتح هذه القطاعات أمام المنافسة تحد كبير، لأنه في البداية تظهر بعض الممارسات التي تعد مقيدة للمنافسة، والتي يرتكبها المتعاملين السباقين إلى السوق حتى يمنعوا بقية المتعاملين من منافستهم.

ومن جهة أخرى صاحب هذا التغير إنشاء سلطات ضبط مستقلة على مستوى بعض القطاعات التي شهدت نوعا من التحرر والانفتاح على المنافسة، وهي تصور جديد لإدارة مستقلة، وليست بالمفهوم التقليدي تسعى إلى تمكين جميع المتعاملين الاقتصاديين من الوصول إلى السوق والاستفادة من ميزاته، وتكرس الدور الجديد للدولة كمنظمة للنشاط الاقتصادي وحارسة لحسن سيره.

وهدف هذه السلطات المستقلة هو احترام شروط النشاط سواء منها المسبقة أو أثناء مباشرته، وتنظيم المنافسة وذلك على مستوى كل قطاع اقتصادي تشرف عليه، أي أن اختصاصها يكون بشكل عمودي.

وفي المقابل نجد بأن مهمة تنظيم المنافسة في السوق وحمايتها وقمع الممارسات المقيدة لها قد عزي إلى سلطة إدارية مستقلة أخرى وهي مجلس المنافسة، وذلك بالنسبة إلى مختلف القطاعات التنافسية، أي أ ن اختصاصه يكون بشكل أفقي.

وعليه فهذا المناخ المؤسساتي الجديد قد أوجد الإشكالات القانونية والوظيفية التالية:
– تداخل الاختصاص بين هذه السلطات الإدارية المستقلة ومجلس المنافسة.
– عدم وضوح طبيعة العلاقة بين هذه السلطات ومجلس المنافسة.
– كيف يمكن الفصل في النزاعات التي يمتد فيها الاختصاص إلى الجهتين، حتى نتفادى فكرتي التنازع السلبي والايجابي للاختصاص.

فقرة أولى: تداخل الاختصاص بين مجلس المنافسة وسلطات الضبط المستقلة:
إن الفكرة الأساسية التي تجمع مجلس المنافسة مع سلطات الضبط المستقلة هي الوصف القانوني لها باعتبارها سلطات إدارية مستقلة جاءت كضرورة حتمية للتغيير الذي يشهده الاقتصاد، وتكون العلاقة بينها أكثر غموضا عندما تتقاسم أهدافا مشتركة[1].
لذاك فتداخل الاختصاص بين مجلس المنافسة وسلطات الضبط المستقلة لا يمكن فهمه إلا من خلال محاولة تحديد الدور المنوط بكل جهة.

أولا: تحديد دور سلطات الضبط المستقلة:
إن سلطات الضبط جاءت في إطار سياسة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي[2]، وفي مواجهة معطيات تقنية أكثر تعقيدا، فالدولة تجري في كل مرة تفويضا للسلطة إلى السلطات الإدارية المستقلة، والتي يمر نشاطها على الخصوص من خلال بعض المعايير التي لا تخضع للتصنيفات التقليدية للإدارات إضافة إلى أن إنشائها مرتبط أساسا بالحاجة إلى التخصص والخبراتية[3] ،فالقانون التجاري أصبح قانونا للخبراء ولابد للإدارة أن تتكيف مع هذا التطور[4].
و عليه فإنشاء سلطات الضبط قد جاء كرد على نوعين من المتطلبات:

أ. ضمان فتح السوق:
هذا الدور هو الهدف الأساسي لسلطات الضبط، فهي تعمل على انفتاح القطاع الذي تشرف عليه على السوق من خلال تزويدها بالوسائل المادية والبشرية والتقنية اللازمة لذلك، وفي هذه الحالة لا نكون بصدد تنظيم للمنافسة ولكن بصدد محاولة تفعيلها، ولهذا فقانون المنافسة في هذه الحالة يلعب دورا ثانويا[5]، وفي هذه الحالة كذلك نجد أن سلطة الضبط هي التي من شانها أن تفرق لنا بين القطاعات المحررة والقطاعات التي لازالت تحت الاحتكار.

ب. ضمان توازن السوق:
يتمثل هذا الهدف في حل النزاعات و توقيع العقوبات المقررة للأشخاص المخالفين، وهنا يمكن أن نلمس الاختلاف بين مجلس المنافسة والسلطات الإدارية الأخرى، فمجلس المنافسة لا يملك إلا أن يوقع العقاب بينما تملك هي دورا أكثر ايجابية من خلال وضع دفاتر الشروط، ويتعدى دورها إلى مرافقة المتعاملين وتقديم المساعدة التقنية لهم، وتوجيههم بصفة دائمة وشبه يومية[6]. لكن تبقى نقطة التداخل والتي تثير إشكالا يتمثل في إمكانية نظر سلطة الضبط في نزاع يتعلق بإحدى الممارسات المقيدة للمنافسة، بعيدا عن أدوارها التقنية المعتادة.

ثانيا: تحديد دور مجلس المنافسة في القطاعات المنظمة:
إن تنظيم المنافسة يقترب أكثر من معنى تنظيم المنافسة، بمعنى محاولة منع كل التصرفات والممارسات التي تكيف بأنها مقيدة للمنافسة[7]، هذه الأخيرة هي مجال اختصاص مجلس المنافسة الذي يأخذ تدخله صورتين أساسيتين:

أ. التدخل المسبق لمجلس المنافسة:
إن مجلس المنافسة وان كان ليس له دور كبير في تغيير الأسعار ونوعية الخدمات، إلا انه يمكن أن يلعب دورا مهما في تفعيل ميكانيزمات تنظيمية قطاعية، ويتأتى له ذلك من خلال إعطاء رأيه في مشاريع القوانين

التي لها علاقة بالمنافسة[8]، وأكثر من ذلك فانه بامكانه أن يقوم بتحقيقات حول شروط تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصلة بالمنافسة، وإذا أثبتت هذه التحقيقات أن تطبيق هذه النصوص تترتب عليه قيود على المنافسة،فان مجلس المنافسة يباشر كل العمليات لوضع حد لهذه القيود[9].

وبذلك نجد أن مجلس المنافسة لم يتنازل عن اختصاصه حتى ولو كان القطاع المعني موجود تحت سلطة ضبط وذلك من خلال تدخله المسبق.

ب. التدخل اللاحق لمجلس المنافسة:
تدخل مجلس المنافسة في هذه الحالة يكون في حالة عدم امتلاك سلطة الضبط لصلاحيات في مجال المنافسة أو أنها تدخلت لكنها فشلت في ضمان احترام قواعد المنافسة، أو كان تصرفها مناف للمنافسة، وعندها يمكنه أن يطلب المعلومات المفصلة من طرف السلطة القطاعية فيما يخص هيكلة السوق المعني، ورأيها في آثر الممارسات المقيدة للمنافسة على نفس السوق، والملاحظ أن أهم الممارسات التي يمكن أن تشكل خطرا على المنافسة في هذه المرحلة الانتقالية هي هيمنة مؤسسة على السوق وتعسفها في ذلك[10]، لذلك فان مجلس المنافسة يفرض رقابة مسبقة على التجميعات الاقتصادية على الرغم من أنها لاتشكل ممارسة مقيدة للمنافسة ويفرض كذلك رقابة بعدية على التعسف في وضعية الهيمنة[11].

وفي الحالات التي يتطلب الأمر ضرورة وجود خبرة تقنية، فلا بد من الاتصال بهذه السلطة القطاعية، إلا أن القرار في النهاية لابد أن يؤخذ بناءا على تحاليل اقتصادية بحتة[12].

فقرة ثانية: تحليل طبيعة العلاقة بين مجلس المنافسة وسلطات الضبط
من خلال ما سبق يمكن أن نخرج بفكرة أساسية مفادها أن العلاقة بين مجلس المنافسة وسلطات الضبط الأخرى المستقلة هي أكثر وضوحا إذا تعلق الأمر بفكرة التخصص والحاجة إلى الخبرة التقنية، لكن تتعقد الأمور إذا وجدنا بان المتعامل الاقتصادي يجد نفسه أمام سلطتين مختصتين معا في مجال المنافسة ويمكنه أن يرفع دعواه أمام أي منهما[13].

لذلك لابد من الوقوف أولا على النصوص القانونية وكيف تعاملت مع هذه العلاقة ثم تبيان آليات التعاون من أجل حل النزاعات.

أولا: التنظيم القانوني لهذه العلاقة
إن العلاقة بين مجلس المنافسة وسلطات الضبط الأخرى يمكن أن نلمسها من خلال نوعين من النصوص فمن جهة نجد الأمر 03/03 المتعلق بالمنافسة ومن جهة أخرى لابد من الرجوع إلى النصوص الخاصة التي تنظم دور هذه السلطات.

أ. الأمر 03/03:
بالرجوع إلى هذا الأمر نجد أن المشرع قد تفطن إلى هذه الجدلية، وحاول أن يلطف الجو بين هذه السلطات وأورد حكما بموجب المادة 39 والتي جاء فيها:” عندما ترفع قضية أمام مجلس المنافسة حول ممارسة تتعلق بقطاع نشاط يكون تحت مراقبة سلطة ضبط، فلن مجلس المنافسة يرسل نسخة من الملف إلى السلطة المعنية لإبداء الرأي.

يقوم مجلس المنافسة، في إطار مهامه بتوطيد علاقات التعاون والتشاور وتبادل المعلومات مع سلطات الضبط”.
كما يمكن لمجلس المنافسة أن يستفيد من خبر ة هذه السلطات بناءا على نص المادة 34/2 من نفس الأمر والتي جاء فيها ” يمكن أن يستعين مجلس المنافسة بأي خبير أو يستمع إلى أي شخص بامكانه تقديم معلومات”.

وفي هذه الحالة ليس هناك شخص أكثر خبرة من سلطة الضبط ذاتها.

إن المشرع من خلال هذا الحكم حاول أن يرفع الحرج الذي يمكن أن يقع فيه مجلس المنافسة من خلال فصله لنزاع يوجد تحت مراقبة سلطة ضبط، خاصة وان ما يعاب على مجلس المنافسة هو غياب الفهم الواضح لميكانيزمات وخصوصيات السوق، وافتقاره إلى الخبرة التقنية[14]، ونلمس ذلك جليا من خلال تشكيلته والتي تضم 9 أعضاء، من بينهم:

– عضوان يعملان أو عملا في مجلس الدولة أو في المحكمة العليا أو في مجلس المحاسبة بصفة قاض أو مستشار.

– سبعة أعضاء يختارون من ضمن الشخصيات المعروفة بكفاءتها القانونية أو الاقتصادية أو في مجال المنافسة والتوزيع الاستهلاك من ضمنهم عضو يختار بناءا على اقتراح الوزير المكلف بالداخلية.

ادن الملاحظ على هذه التشكيلة أنها تشمل أشخاصا أكاديميين أغلبهم أساتذة جامعيين يفتقرون إلى التخصص التقني الذي تتطلبه القطاعات الاقتصادية الموجودة تحت رقابة سلطة الضبط، لذلك وحتى يعطي مجلس المنافسة مصداقية اكبر لقراراته فانه يستشير سلطة الضبط.

لكن من جهة ثانية نجد أن المشرع قد اغفل تناول الحالة العكسية، وهي حالة رفع قضية أمام سلطة ضبط وكانت تتعلق بإحدى الممارسات المقيدة للمنافسة والتي تدخل في اختصاص مجلس المنافسة، فهل ستتعامل معه بنفس الطريقة أم لا؟، بمعنى هل ستطلب من مجلس المنافسة إبداء رأيه في القضية أم لا.

الحقيقة أن الإجابة عن هذا التساؤل يمكن أن نلمسها من خلال بعض النصوص الخاصة التي تنظم اختصاص لسلطات الضبط.

ب. النصوص الخاصة:
في هذا الخصوص نجد بان هذه النصوص التي تنظم مهام سلطات الضبط قد أعطتها الاختصاص للنظر في بعض النزاعات المتعلقة بالمنافسة وكمثال على ذلك نجد:
– المادة 13/1 من القانون رقم 2000/03، الذي يحدد القواعد العامة المتعلقة بالبريد والمواصلات[15].

– المادة 30/2 من مرسوم تشريعي رقم 93/10، يتعلق بالبورصة والقيم المنقولة[16].
– المادة 45/12 من القانون رقم 01/10، يتضمن قانون المناجم[17].

– المادة 114/3 من قانون رقم 02/01، يتعلق بالكهرباء وتوزيع الغاز بواسطة القنوات[18] ،وفي إطار هذا القانون نجد المادة 15/3 والتي جاء فيها ” في إطار مهامها المحددة في المادة 114 فان لجنة ضبط الكهرباء والغاز(CREG) :