نظرة القضاء للسبب في القانون المدني وفق التشريع المصري

يشغل السبب حيزاً ليس قليلاً في مجال القانوني ، لذلك كثرت الأبحاث التي كتبت في هذا أمر السبب – على أن هذه الأبحاث مع وفرتها كانت مرادفاً لاحتدام الجدل الفقهي حول السبب بين مؤيد له ونافٍ لوجوده وأهميته .

إلا أن القضاء لم يقف إطلاقاً عند هذا الجدل الفقهي حول السبب ، وإنما عمد رغبة منه في مسايرة الحياة العملية إلى تجنب هذه الخصومات الفقهية ، وقام بتحديد مدلول السبب على النحو الذي يمكنه من إحكام رقابته على مشروعية تصرفات الأفراد .

فما لبث الفقهاء إلا أن ناهضوا القضاء سواء السببيون واللاسببيون على هذا المسلك – ثم في النهاية استقر الأمر على ما درج عليه القضاء .

وعلى العموم فإننا نجد أن القضاء نظر نظرة مغايرة للفقهاء – حيث نظر إليه على أساس وظيفته بوصفه أداة لحماية المجتمع من اتجاه الإرادة إلى تحقيق أغراض غير مشروعة وضمان إخضاع المعاملات لقواعد الآداب فتوسع فيه وجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد ، وربط صحة العقد بمشروعية البواعث .

فالسبب في نظر القضاء هو الباعث الدافع الذي وجه إرادة المتعاقد ، فإذا كانت الإرادة بعد أن تحررت من قيود الشكل القديمة – لها القدرة على ترتيب ما تشاء من التزامات ، إلا ان هذه الإرادة لابد لها من باعث يدفعها ، وعلى القضاء أن يتحقق من مشروعية هذا الباعث لضمان عدم اتجاه الإرادة إلى تحقيق غرض يحرمه القانوني أو يتنافي مع النظام العام والآداب .

على أن القضاء لاحظ أن البواعث التي تدفع الإرادة عديدة ومتنوعة ، وأن الإسراف في تقصيها يترتب عليه إهدار استقرار التعامل ، ولذا أورد القضاء على الاعتداء بالباعث قيدين :-

أولهما : أن القضاء لا يعتد إلا بالباعث الرئيسي الذي لولاه لما أبرم العاقد العقد .

فهذا الباعث الرئيسي وحده هو الذي يقف عنده القاضي للتحقق من مشروعيته ، ولا يعتد بما قد يقوم إلى جانبه من بواعث ثانونية ولو كانت غير مشورعة ، لأنه لا أثر لها على الإرادة .

والثاني : أن القضاء لا يعتد بالباحث إلا إذا كان داخلاً في دائرة التعاقد .

فالقضاء رغبة منه في استقرار التعامل اشترط في عقود المعاوضات لترتيب البطلان على عدم مشروعية الباعث أن يكون هذا الباعث داخلاً في دائرة التعاقد – بحيث يشترط للاحتجاج ببطلان العقد على العاقد الذي لم يقم لديه الباعث غير المشروع ، أن يكون عالماً بعدم مشروعية الباعث الذي دفع المتعاقد الآخر إلى التعاقد ، وذلك حتى لا يفاجأ العاقد حسن النية ببطلان العقد لباعث غير مشروع انفرد به العاقد الآخر .

على أن القضاء قصر هذا القيد الثاني الخاص باشتراط العلم بالباعث الغير مشروع على المعاوضات دون التبرعات لأن بطلان التبرع لعدم مشروعية الباعث لن يترتب عليه سوى حرمان المتبرع له من فائدة لم يؤد عنها أي مقابل .

ويؤيد جانب كبير من الفقه هذا الأمر السنهوري ( ج1/436) ، د. اسماعيل غانم ( النظرية العامة للالتزام ج1/271، د. أنور سلطان ( النظرية العامة للالتزام ج1/264 ) ، د. حشمت أبو ستيت ( نظرية الالتزام ج1/226 ) وغيرهم كثير من فقهاء القانون المدني .

غير أن هناك رأي آخر في الفقه يرى ضرورة عدم الاكتفاء بالعلم بالباعث غير المشروع في المعاوضات ، ويتطلب لإبطال العقد أن يكون هذا الباعث غير المشروع مشتركاً بين الطرفين ، بينما يكتفي في التبرعات بعلم المتبرع له بعدم مشروعية الباعث – د. عبد الحي حجازي ( مصادر الالتزام 343 ) .

وإذا كنا ندرك الفرق بين مجرد العلم وبين الاشتراك – فقد بدا لنا مدى التعارض بين الرأيين والنتائج المترتبة على الأخذ بأي منهما.

غير أنه إذا كان مفهوم السبب يشير إلى أنه الغاية الدافعة إلى التعاقد كما أسلفنا في بداية الموضوع – هذا المفهوم الذي لم يكن محل خلاف – فإنه إنطلاقاً من نقطة البدء وعند محل اجتماع الآراء ، فإنه يكتفى فقط بشرط العلم إذا ما أريد إبطال العقد لعدم مشروعية السبب – لأن السبب وكما يقول د. جميل الشرقاوي لا يعتد به أصلاً إلا إذا خرج من النطاق النفسي وظهر في مضمون التعبير عن الإرادة ( طبيعة المحل والسبب في التصرف القانوني – مجلة القانون والاقتصاد .ع2.س34.ص 365 ) .

وفي كل الأحوال وفي رأينا المتواضع فإن ركن الرضا في العقد قد يجمع الرأيين معاً عند نقطة التقاء – لأن التصريح بالسبب من جانب أحد الطرفين يعني اتصال المتعاقد الآخر به ، ومن ثم إذا ابرم العقد وتم التصريح بالسبب من قبل أحد الطرفين فإن قد توافر علم الطرف الأخر به واشتركت إرادته فيه ضمن رضاها على العقد في مجموعة .

ومن ثم فطالما تم التصريح بالسبب فيمكن القول بتوافر العلم بمجرد التصريح وظهوره في معني التعبير عن الإرادة ، والاشتراك فيه عند التراضي على العقد في مجموعة – ومن ثم أمكن إبطال العقد العد لعدم مشروعة السبب .

هذه هي نظرية القضاء في السبب ومنها يظهر بوضوح إعتداد القضاء بالباعث الدافع إلى التعاقد واشتراطه أن يكون مشروعاً