استثناءاً من قاعدة ابتداء الشخصية القانونية للانسان بتمام ولادته حياً ، فانه قد تبدأ الشخصية القانونية له قبل الولادة ، وهذه هي حالة الجنين او الحمل المستكن ، حيث رعاية لمصلحة الجنين اجاز القانون له ان يكتسب بعض الحقوق وهي الحقوق التي لا تحتاج الى قبول ومنها الحقوق الناشئة عن الارث وعن الوصية اضافة الى حقه في الحياة وحقه في النسب ، ولم يجيز له ان يتحمل بالالتزامات أياً كان نوعها(1).ولقد تقرر هذا الاستثناء نتيجة عناية الشريعة الاسلامية بحياة الجنين فأوجبت حمايته من الموت او الضعف حتى ولو كان نطفةً في الرحم ، وذلك لان النطفة وان لم يكن فيها حياة بالمعنى المعروف فانها ما لم تفسد معدة للحياة ولأن يكون منها انسان حي ، فيعطى لها حكم الحياة باعتبار المال . ولهذا يرى الفقهاء صحة اعتاق ما في البطن ، وصحة الوصية له ، وان كان نطفة ؛ اذ النطفة تعتبر كالنفس الحية باعتبار ما تصير اليه في المال(2). وفي هذا رعاية طيبة محمودة للانسان ولو كان حملاً . لذلك فقد حرم الشارع الكريم ان تجهض المرأة ما حملته من الجنين في احشائها ، واعتبر ذلك كقتل النفس لان حق الحياة منحة من الله تبارك وتعالى لذا فلا يملك احد انتزاعها بغير ارادة الله ، اذن فالاجهاض عمل شنيع وجريمة نكراء وهو شبيه بالوأد الذي كان يفعله بعض العرب قبل الاسلام(3). أما عن اسقاط الحمل قبل ان تدب فيه الحياة فقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين:-

القول الاول : انه جائز ، وهو ما ذهب اليه الزيدية واكثر الحنفية . فقد يقل عن فقهاء المذهب الحنفي ما يفيد انه لا يجوز اسقاط الحمل بعد اربعين يوماً الا بعذر يرقى حكمه الى درجة الضرورة المبيحة للمحظور(4).

القول الثاني : انه حرام ، لان فيه حياة محترمة هي حياة النمو والاعداد . وممن ذهب الى هذا القول الامام الغزالي المتوفي سنة (505هـ) ، فقد عرض لهذه المسألة وفرق بينها وبين العزل والذي هو عزل الزوج لماءه عن ماء زوجته فلا يحصل الاخصاب اصلاً سواء أكان ذلك بفعل الزوج ام بفعل احدى الوسائل الحديثة لعذر يرقى حكمه الى درجة الضرورة المبيحة للمحظور والذي اجازه جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء استدلالاً بالاخبار الكثيرة الواردة فيه ، منها ما رواه جابر بن عبد الله t ، حيث قال : ( كنا نعزل على عهد رسول الله e)(5). ومنها قول جابرٍ أيضاً : (كنا نعزل والقرآن ينزل)(6). أما هذه المسألة فهي جناية على موجود حاصل واول مراتب الوجود ان تقع المادة في الرحم وتختلط بالبويضة وتستعد لقبول الحياة وافساد ذلك جناية وتعظم الجناية كلما انتقلت من طور الى طور كما في الاجهاض حتى تصل الى منتهاها بعد الانفصال حباً كما في الوأد(7). وللترجيح بين القولين نقول ان القول الثاني هو الراجح لانه يعبر عن فهم حقيقي للأدلة الشرعية في وجوب احترام الحياة الانسانية في اية مرحلة كانت عليها ، لتتحقق بذلك الغاية المنشودة من جملة المعطيات الشرعية الموصلة لها ، تلك المعطيات التي تكون كتاب فقه الزواج برمته . لذا فلا يجوز للمرأة المسلمة ان تجهض نفسها سواءً أكان ذلك قبل نفخ الروح في الجنين ام بعده وسواء جرى ذلك باتفاق الزوجين او عدم اتفاقهما ، فالاجهاض في جميع هذه الحالات محرم شرعاً.

ومما اقرته الشريعة الاسلامية كذلك للحفاظ على حياة الجنين واجمع عليه الفقهاء تأجيل عقوبتي الجلد والرجم على الحامل حتى تضع حملها ، وذلك لحماية الولد من سراية الضرب الذي قد سري الى نفس المضروب كما في الرجم فيموت الجنين وهو لا ذنب له(8). وهذا من رحمة الاسلام بالجنين البريء اذ لو استوفى الحد من الحامل لمات الجنين بموت امه وهو نفس محترمة ومصونة وان اقترفت امه هذه الجريمة – فيكون ذلك مخالفاً لقوله تعالى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(9). ومن عناية الشريعة الاسلامية الغراء بحياة الجنين أيضاً انه اذا ماتت الام وفي بطنها حمل معلوم الحياة وجب شق بطنها وانقاذ حياة جنينها ، لان المحافظة على حياة الجنين من المقاصد الضرورية الخمسة التي اجمع فقهاء الشريعة على حفظها وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال(10). اذن مما تقدم يتضح النظام الشرعي للحياة التقديرية ، والذي ارسى دعائمه فقهاء الدين الاسلامي الحنيف . ولو وازنا بين هذا النظام والنظام القانوني المقابل له لتبين لنا ان الاسلام قد أقر الحقوق للجنين منذ اربعة عشر قرناً بصورة لم تعرفها القوانين الحديثة الا في القرن العشرين ، وان المبادئ التي قررتها الشريعة الاسلامية لصون حياة الجنين ونموه في بطن الام لا تزال برونقها وصفائها اكثر بهاءاً واعظم شمولاً من كل ما جاءت به القوانين الوضعية من تفاصيل . وتنتهي الحياة التقديرية للحمل بعملية ولادته وهي تمام انفصال المولود عن امه ، ولا تتحقق اذا ظل جزء من المولود في رحم الام ، حيث لا بد من تحقق الانفصال الكلي للمولود عن الام سواءً أكان ذلك بصورة طبيعية ام بطريقة طبية(11). ولهذه العملية الولادة ثلاثة احتمالات هي :-

الاول :- ان يولد الحمل ميتاً بغير جناية على أُمه او اعتداء ، وفي هذه الحالة لا يرث اتفاقاً بين جميع الفقهاء لعدم تحقق شرط هام من شروط ميراثه وهو عدم تيقن حياة الحمل وقت موت المورث . وذلك لان ولادته ميتاً جعلت من أمر تحقق حياته وقت موت مورثه أمراً مشكوكاً فيه لذا فلا ارث له(12). استناداً الى قاعدة لا ميراث بشك .

الثاني :- ان يولد الحمل ميتاً نتيجة جناية على امه او اعتداء وعند ذلك ، فأنه يرث ما وقف له ويورث عنه لورثته على رأي الحنفية(13). وذلك لان المشرع الكريم أوجب على الضارب او عاقلته تعويضاً يسمى الغرة ومقدارها نصف عشر الدية الكاملة أي دية الرجل وهذا في الذكر ، وفي الانثى عشر دية المرأة وكل منهما خمسمائة درهم وتجب في سنة وقال الامام الشافعي في ثلاث سنين ، أما اذا ألقي حياً ثم مات ففيه دية كاملة لانه اتلف حياً بضربه ، واذا ألقته الام ميتاً ثم ماتت فعليه دية بقتل الام وغرة بالقائها وقد صح انه عليه الصلاة والسلام قضى في هذا بالدية والغرة ، واما اذا ماتت الام من الضرب ثم خرج الجنين بعد ذلك حياً ثم مات فعليه دية في الام ودية في الجنين لانه قاتل شخصين ، واذا ماتت الام ثم القت ميتاً فعلية دية في الام ولا شيء في الجنين . وقال الشافعي – رحمه الله- تجب الغرة في الجنين لان الظاهر موته بالضرب فصار كما اذا القته ميتاً وهي حية ، ونرى ان موت الام احد أسباب موته وليس جميعها لذا فلا يجب الضمان بالشك . وهذا وما يجب في الجنين من غرة موروث عنه لانه بدل نفسه فيرثه ورثته – ولا يرثه الضارب حتى لو ضرب بطن امرأته فألقت ابنه ميتاً فعلى عاقلة الاب غرة ولا يرث منها – لانه قاتل بغير حق مباشرةً ولا ميراث للقاتل(14). وأقام الحنفية رأيهم هذا استناداً الى اعتبار ان المشرع اوجب على الضارب او عاقلته تعويضاً يسمى الغرة ، وأساس هذا التعويض هو تقدير ان موت الجنين كان بسبب هذا الضرب وأنه أي الجنين كان حياً قبل الضرب لان ايجاب التعويض انما يكون في الجناية على الحي دون الميت ، وما دام الشارع قد اعتبره حياً قبل الضرب فانه يعتبر حياً وقت موت مورثه الذي يكون قد مات والجنين في بطن امه فيرث في تركته ، وينتقل ميراثه هذا فضلاً عن تعويضه (الغرة) بالميراث لورثته من بعده(15). أما قول الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) ، فانهم يرون ان الجنين لا يرث لان احد شروط ميراثه وهو ولادته كله حياً لم يتحقق ، ولكن ما دام الشارع قد قرر له هذا التعويض فانه يرثه ثم يورث عنه فحسب(16). وعن موقف التشريعات تجاه هذين الرأيين فانها لم تأخذ بهما (17). وهي بعدم الاخذ بهما قد اخذت ضمناً بالرأي الثالث وهو مذهب الليث بن سعد وربيعة بن عبد الرحمن والذي يقضي بأن الجنين لا يرث ولا يورث ، وان هذا التعويض (الغرة) انما هو تعويض للأم لان الجناية وقعت عليها حيث ان الجنين ما دام لم ينفصل حياً بالولادة من الام فانه يعتبر جزءاً من اجزاء جسمها كعينها او سنها لذلك فان هذا التعويض تستحقه الام وحدها دون الجنين ويورث عنها في حالة وفاتها(18). وهذا الرأي الأخير في الواقع اكثر جدوى من الناحية العملية ، وسمته انه يوازن بين مصلحة الحمل ومشاعر أمه ومصلحة بقية الورثة ، وذلك دون أن يجعل أحدهما يضر بالأخر ، وهو رأي جدير بالتأييد في التشريع العراقي وفيه أيضاً اقتداء بالقوانين العربية التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية كقانون المواريث المصري وغيره من القوانين التي احتدت به(19).

الثالث :- اما الاحتمال الثالث لولادة الحمل فهو ان يولد حياً ، وعندئذً فانه سيكون أهلاً لاكتساب الحقوق المقررة له وأهلاً للتمتع بها ، ومن هذه الحقوق حقه في الميراث من تركة مورثه .

______________________________________

[1]- محمد لبيب شنب ، مبادئ القانون ، دار النهضة العربية ، بيروت ، لبنان ، 1970م ، ص162.

2- شمس الدين السرخسي ، المبسوط ، ج30 ، ط3 ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان، دون سنة طبع ، ص51.

3- عبد الستار حامد الدباغ ، المصدر السابق ، ص187.

4- محمد امين بن عمر بن عبد العزيز عابدين ، رد المحتار على الدر المختار المشهور بحاشية ابن عابدين ، المجلد الثاني ، ج2 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، دون سنة طبع ، ص54.

5- الحديث اخرجه الامام البخاري في صحيحه ، في كتاب النكاح ، (97) باب العزل ، الحديث 5207 ، في 958.

6- الحديث اخرجه الامام البخاري في صحيحه ، في كتاب النكاح ، (97) باب العزل ، الحديث 5208 ، في 958.

7- عبد الستار حامد الدباغ ، المصدر السابق ، ص187.

8- والدليل على ذلك ما رواه الامام مسلم بسنده عن عبد الله بن بريدة عن ابيه عن رسول اللهe انه ارجع امرأة من غامد كانت حبلى من الزنا ، وقد جاءت اليه e ليطهرها فقال لها (حتى تضعي مت في بطنك) ، ثم عادت اليه بعد الوضع فقال لها حتى ترضعيه ، ثم عادت اليه بعد فطامه ، فأقام عليه الصلاة والسلام الحد عليها فرُجمت ، فقال في حقها e ، انها تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ –جابي ظلماً – لغفر له ، ثم امر بها فصلى عليها ودفنت . الجامع الصحيح للامام مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنا ، في 5/120 .

9- سورة فاطر ، الاية (18) .

0[1]- عبد الستار حامد الدباغ ، المصدر السابق ، ص188.

1[1]- محمد حسام محمود لطفي ، موجز النظرية العامة للحق ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، مصر ، 1988م ، ص85.

2[1]- نبيل كمال الدين طاحون ، احكام المواريث في الشريعة الاسلامية ، ط1 ، الرياض ، 1984م ، ص201 .

3[1]- الامام شمس الدين السرخسي ، المبسوط ، المصدر السابق ، ج30 ، ص54.

4[1]- الامام برهان الدين علي بن ابي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغيناني ، الهداية شرح بداية المبتدئ ، في الفقه على مذهب الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان ، ج4 ، الناشر ، المكتبة الاسلامية ، القاهرة ، مصر ، دون سنة طبع ، ص190.

5[1]- محمد زيد الابياني ، شرح الاحكام الشرعية في الاحوال الشخصية ، ج3 ، مكتبة النهضة ، بيروت ، بغداد ، دون سنة طبع ، ص115.

6[1]- السيد سابق ، فقه السنة ، المجلد الثالث ، دار الريان للتراث ، القاهرة ، مصر ، 1987م ، ص525.

7[1]- الصفحة 23 من هذه الدراسة .

8[1]- محمد زكريا البردستي ، الميراث ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، مصر ، 1971م ، ص71 .

9[1]- وهي التي أشرنا اليها في الصفحة 25 من هذه الدراسة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .