مقال قانوني هام عن الإحاطة القانونية بالظواهر السياسية

أ/ عبد الله كامل محادين

القانون هو طريقة لتنظيم المجتمع. و هكذا اتفق على تعريف القانون على الشكل التالي: “مجموعة من القواعد الإلزامية التي تحدد سلوك الناس الذين يعيشون في مجتمع، هدفها تحقيق النظام و العدالة في العلاقات الاجتماعية”. من ذلك نرى أنّ القانون ليس سوى وسيلة للإحاطة بالعلاقات أو الظواهر الإنسانية المختلفة من أجل إقامة النظام فيها و تحقيق العدالة فيما بينها. و كما نعلم إنّ القانون يتألف من فروع متعددة، كل منها يتناول أو يحيط بفئة معينة من العلاقات أو الظواهر الإنسانية.

فالقانون المدني مثلاً غرضه الإحاطة بالتصرفات الإنسانية في مجال حياة العائلة و العلاقات المالية من بيع و شراء و إيجار …الخ. و قانون العمل هدفه الإحاطة بالعلاقات بين أرباب العمل و العمال، و هكذا كل فرع من فروع القانون يكون غرضه الإحاطة بفئة معينة من العلاقات أو الظواهر الإنسانية.
و في الدراسات القانونية التقليدية نميز عادةً بين فرعين من فروع القانون : القانون الخاص و القانون العام. فالقانون الخاص هو مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم العلاقة بين الأفراد و الجماعات الخاصة بما فيها الدول باعتبارها شخصاً عادياً (أو شخصاً من أشخاص القانون الخاص). أما القانون العام فهو مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم العلاقات بين الدولة (السلطة العامة) و الأفراد

.

ومن هذا التمييز التقليدي نستنتج

-أولاً : إنّ أشخاص القانون العام هم الدولة و بقية الهيئات العامة المتفرعة عنها، بينما يشكل الأفراد و الجماعات الخاصة أشخاص القانون الخاص.

-ثانياً : إنّ المصلحة التي ينظمها القانون العام هي مصلحة جماعية و عامة، في حين إنّ المصلحة التي ينظمها القانون الخاص هي مصلحة فردية و خاصة. يضاف إلى ذلك استنتاج ثالث ناجم عن الاستنتاجين السابقين و مضمونه بأن المساواة تسود الأشخاص الذين ينطبق عليهم القانون الخاص ، في حين يسود عدم المساواة العلاقة بين الدولة (السلطات العامة) و الأفراد.

و يعتبر القانون الدستوري فرع من فروع القانون العام، الذي ينظم العلاقات بين الدولة و المواطنين أو بين الحكام و المحكومين. أي أنه القانون الذي يهدف إلى تنظيم الظواهر السياسية في المجتمع.

و يبدو أن التنظيم القانوني للظواهر السياسية أمر صعب، إذا ما أخذنا خاصةً بعين الاعتبار أن العنف أمر ملازم للنشاط الإنساني، و أن مخالفة القواعد الدستورية لا تخضع للعقاب الذي يخضع له مخالفة القواعد القانونية المتعلقة ببقية فروع القانون. ففي القانون المدني مثلاً لو أن مديناً اقترض مبلغاً مقابل رهن عقار يملكه، و لم يقم بإيفاء دينه في الوقت المحدد، فإن العقار موضوع الرهن يمكن أن يباع على يد القضاء لصالح الدائن، و إذا حاول المدين معارضة البيع فإنه يمكن للسلطة أو القوة العامة أن تتدخل. أي أن القاعدة القانونية التي توجب على المدين الالتزام بتعهداته تجد المؤيد الإكراهي لها. كذلك الأمر في القانون الجزائي و التجاري …الخ. فالقضاء و القوة العامة يشكلان الضمان لتطبيق القواعد القانونية في هذه الفروع من القانون. أما في القانون العام و بالأخص في القانون الدستوري فإن الأمر على خلاف ذلك. فالحكام الذين هم المكلفون بإظهار إرادة الدولة و التصرف باسمها من خلال تطبيق القواعد الدستورية، يصعب إكراههم (أو إكراه أنفسهم) باسم الدولة على احترام هذه القواعد.

هذا الأمر أثار جدلاً في الفقه الدستوري حول اعتبار القانون الدستوري جزءاً من القانون أم لا؟ فكما أشرنا سابقاً أن القانون “مجموعة من القواعد الإلزامية”، و هذه الصفة الإلزامية للقاعدة القانونية يمكن ضمانها عند الضرورة عن طريق الإكراه باللجوء إلى القضاء و القوة العامة. و هذا الأمر هو الذي يميز القواعد القانونية عن القواعد الأخلاقية. و الحكام، الذين لديهم اتجاه دائم لتجاوز السلطة ، لا يخضعون للقواعد القانونية إلا مرغمين أو مضطرين.

لا شك أن قواعد القانون الدستوري لا تخضع في تأمين صفتها الإلزامية في حال مخالفتها لنفس الطريقة التي تؤمن إلزامية بقية القواعد القانونية، أي عن طريق اللجوء للقضاء و القوة العامة، و لكن لا تفلت من أي عقاب يضمن لها الصفة الإلزامية. فالحاكم الذي يتجاوز صلاحياته المحددة بالدستور، يمكن أن يوقف عند حده عن طريق بقية السلطات العامة الأخرى، و ذلك تحت رقابة المواطنين أو الرأي العام. فكما يقول مونتسكيو “السلطة توقف أو تحد السلطة ”Le pouvoir arrête le pouvoir. فالطبيعة الخاصة للقانون الدستوري تقتضي تأمين إلزامية قواعده في حال مخالفتها بطريقة مختلفة عن بقية القواعد القانونية الأخرى. فالمؤيد الإكراهي لضمان تطبيق القواعد القانونية الأخرى هو إكراه سلطوي (القضاء و القوة العامة)، أما المؤيد الإكراهي لضمان تطبيق القواعد الدستورية هو إكراه سياسي (سلطة أخرى أو الرأي العام) في الأساس، و هذا أمر طبيعي بالنظر إلى ما أشرنا إليه بدايةً و هو أن غرض القانون الدستوري هو الإحاطة القانونية بالظواهر السياسية.

و يضاف إلى ذلك ضمان آخر، كما سنرى فيما بعد، يؤمنه القضاء الدستوري بوجه خاص من خلال الرقابة على دستورية القوانين، و القضاء بشكل عام في الدولة تطبيقاً لمبدأ المشروعية الذي يعتبر جوهر دولة القانون L’Etat de droit، و الذي يقوم في الأساس على مبدأ آخر يسمى مبدأ التدرج بين القواعد القانونية La hiérarchie des normes، و التي يأتي في قمة هرمها القواعد الدستورية.
انطلاقاً من ذلك يمكننا القول : إنه إذا كان القانون هو دعامة و أساس المجتمع، فإن القانون الدستوري يشكل دون أدنى شك نواة القانون.