المحاماة أجل مهنة في العالم

لحضرة الأستاذ راغب حنا المحامي

تقدير المحاماة:
عنوان هذا المقال مأخوذ عن كلمة خالدة لفولتير قال فيها: (كنت أتمنى أن أكون محاميًا، لأن المحاماة أجل مهنة في العالم).
وفي الحق أنه ليس بين المهن ما يسمو على المحاماة شرفًا وجلالاً، ولا ما يدانيها روعة وتضحية ومجدًا، ذلك أن رسالتها هي تحقيق العدالة بالوقوف إلى جانب المظلوم والأخذ بناصر الضعيف، والدفاع عن شرف الأفراد وحياتهم وحرياتهم وأموالهم، والمحامي يقوم بإسداء النصيحة للكبير، كما أنه القيم الطبيعي على الصغير، يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السواء، ومن عملائه الأمراء والعظماء، يضحى بوقته وصحته وأحيانًا بحياته في الدفاع عن متهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق.
ومن أبلغ ما قيل في وصف المحاماة وتقديرها ما قاله دوجيسو رئيس مجلس القضاء الأعلى بفرنسا في عهد لويس الخامس عشر:
(المحاماة عريقة كالقضاء – مجيدة كالفضيلة – ضرورية كالعدالة – هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب – حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان – المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبدًا له – ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة، غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) [(1)].
وفي تقدير عمل المحامي قال المغفور له الأستاذ عبد العزيز فهمي رئيس محكمة النقض عند افتتاح أولى جلساتها في سنة 1931 (إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر: لأن مهمة القاضي هي الوزن والترجيح، أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين).
هذه شهادة قاضي القضاة في مصر، وتلك شهادة كبير القضاة في فرنسا، وكلاهما من الشهود العدول الذين لا سبيل إلى اتهامهم بالتحيز للمحاماة أو محاباة المحامين…

المحامي كما يجب أن يكون: 

يخطئ من يظن أن مؤهلات المحامي هي فقط الحصول على إجازة الليسانس أو الدكتوراة في القوانين، كما يخطئ من يعتقد أن صناعة المحامي هي مجرد الكلام أو أن دراساته قاصرة على كتب القانون، إذ المحامي النابه يجب أن تستمر دراساته يوميًا طوال حياته، وتتناول – إلى جانب كتب القانون والموسوعات العلمية والقضائية – كتب الأدب والتاريخ والفلسفة والمنطق والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس.
بل إن عمل المحامي يحتاج إلى ثقافة متنوعة متجددة واطلاع شامل دائم على مختلف العلوم والفنون، حتى يستطيع الاضطلاع بمهمة الدفاع في القضايا المختلفة التي يوكل إليه أمرها من مدنية وتجارية وجنائية وعسكرية وسياسية وإدارية وتأديبية وضرائبية، وما لم يكن المحامي مطلعًا على شتى العلوم والفنون ومختلف القوانين والقرارات وكتب الشراح وأحدث الأحكام، في كل فرع من تلك الفروع، فإنه يجد نفسه عاجزًا عن القيام بواجبه فيما يعرض له يوميًا من مشكلات وما قد يواجهه أمام المحاكم من مناقشة الفنيين من الخبراء والتعليق على آرائهم.

المحاماة أشق مهنة في العالم:

كما أن المحاماة أجل مهنة في العالم فإنها أيضًا أشق مهنة في العالم، فهي تفرض على المحامي أن يكرس لها كل وقته ومجهوده، وهي لا تدع له وقتًا للراحة أو الرياضة، يبدأ المحامي دائمًا عمله مبكرًا ويقضي ساعات الصباح عادةً في أداء واجبه أمام مختلف المحاكم متنقلاً بين دار القضاء العالي والمحكمة الكلية والمحاكم الجزئية ومحكمة القضاء الإداري – فضلاً عن المحاكم والمجالس العسكرية والشرعية والملية وغيرها – هذا إذا كان محاميًا بالقاهرة، أما إذا كان محاميًا بإحدى المحافظات أو المديريات أو المراكز فإن عمله يكون أشق إذ يقتضيه السفر بالقطارات والتنقل بالسيارات بين مقر المحكمة الكلية التي يعمل في دائرتها، ومقر محكمة الاستئناف التي تستأنف الأحكام أمامها والمراكز التي تقع فيها المحاكم الجزئية التابعة لها.
فإذا عاد المحامي بعد الظهر إلى منزله مكدودًا محطم الأعصاب لا يكاد يجد وقتًا لتناول الطعام أو للراحة، إذ يتعين عليه أن يعود إلى مكتبه لاستقبال عملائه – حيث يقضي شطرًا من الليل في تفهم ما يعرض عليه من مشكلات، والإفتاء فيما يستشار فيه من منازعات، وتدوين ملاحظاته عما يعهد به إليه من قضايا، حتى إذا ما انتهى من هذا العمل المضني بين إزعاج التليفون ومضايقات بعض العملاء ومساوماتهم – ولم يستدعِ لحضور تحقيق أو مجلس صلح أو تحكيم – كان عليه أن يبدأ دراسة قضايا اليوم التالي وإعداد دفاعه فيها مستعينًا بالمراجع القانونية، كما أن عليه تحرير المذكرات في القضايا التي حجزت للحكم والقضايا التي لا زالت في التحضير، وهو مضطر لتحريرها ومراجعتها لتقديمها في المواعيد المحددة لها وإلا تعرض للمسؤولية في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية محجوزة للحكم، وعرض موكله للحكم عليه بغرامة في حالة التأخير عن تقديم مذكرة في قضية معروضة على قاضي التحضير، والموكل لا يرحم والقاضي لا يعذر، والمحامي فوق هذا وذاك مسؤول أمام ضميره عن أداء واجبه على الوجه الأكمل، ولهذا فهو يقضي الليل ساهرًا باحثًا منقبًا، حتى إذا ما أتم عمله وأرضى ضميره آوى إلى فراشه ليقضي ما بقي من الليل مسهدًا يستعرض أعمال اليوم ويفكر في مشكلات الغد….

هذا موجز للعمل اليومي للمحامي، ومنه يتضح أن المحامي كالشمعة يحترق ليضيء للآخرين، ومع ذلك فكثيرًا ما تقابل مجهوداته وتضحياته الغالية بالجحود ونكران الجميل من جانب الموكلين الذين ما أن يكسبوا قضاياهم حتى يتنكروا لمحاميهم، رغبةً في إهدار حقوقه بعد أن حصل لهم على حقوقهم المهضومة !!

ولذلك كانت المحاماة من أشق المهن وأكثرها إرهاقًا للعقل والجسم والأعصاب، حقًا إن المحامي ينعم بشيء من الاستقلال والحرية وقد يصيب بعض الجاه، وهو ما يحسده عليه الكثيرون ناسين أن ذلك يكون دائمًا على حساب راحته وصحته وأعصابه، وأحيانًا يدفع المحامي ثمنًا لتلك الحرية وذلك الجاه حياته نفسها، وما أغلاه من ثمن !!
ومن أبلغ ما قيل في وصف حياة المحامي ومتاعبه ما قاله العلامة جارسونيه:
(إن المحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة في دعاوى مختلفة، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقة عملائه، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفف من أعباء مشاكله وهمومه، ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة إلا ليعالج مذكرات أطول، فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف متاعب الآخرين، وأستطيع القول إنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) [(2)].

محامون يتولون زعامة الشعوب ورئاسة الدول: 

لما كانت دراسات المحامين وأعمالهم تتناول شتى نواحي الحياة، وصناعتهم تقتضي التمكن من الخطابة والبلاغة، إلى جانب إلمامهم بنفسية الجماهير ودراستهم لدساتير الأمم والقوانين الدولية والإدارية والمالية، كان من الطبيعي أن يبرز من بين المحامين من تولوا زعامة الأمم وقيادة الشعوب ورئاسة الدول والحكومات والبرلمانات، ومن اختيروا لأرفع مناصب القضاء.
ويكفي في هذه العجالة أن نشير إلى أن غاندي زعيم الهند كان محاميًا، كما أن مصطفى كامل وسعد زغلول زعيمي مصر الخالدين كانا محاميين.

وقد تولى رئاسة جمهورية فرنسا كثيرون من المحامين ونقباء المحامين نذكر منهم: جول جريفى ولوبيه وفالليير وبوانكاريه وميلليران، كما تولى رئاسة الوزارة في فرنسا في أحرج أوقات الحرب محامون – منهم ألكسندر ريبو ورينيه فيفانى وارستيد بريان وغيرهم…

أما في مصر فقد تولى رئاسة الوزارة في العصر الحديث من المحامين: سعد زغلول ومصطفى النحاس وحسن صبري وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي ونجيب الهلالي، كما تولى رئاسة مجلس الشيوخ ورئاسة مجلس النواب من المحامين: محمود بسيوني ومحمد محمود خليل ومحمد حسين هيكل وويصا واصف وعبد السلام فهمي جمعة وحامد جودة.
وأما من تولى منصب الوزارة من رجال المحاماة فأكثر من أن يحيط بهم الحصر، ويكفي أن نذكر أن غالبية الوزراء في العهود الأخيرة كانوا دائمًا من المحامين.

وقد قدمت المحاماة للقضاء أفذاذًا شرفوا القضاء كما شرفت بهم المحاماة، نذكر منهم الزعيم الخالد سعد زغلول ونقيب المحامين عبد العزيز فهمي والفقيه الكبير حامد فهمي وكثيرين غيرهم ممن شغلوا ولا زالوا يشغلون بكل جدارة أرفع مناصب القضاء.

الوزراء والمستشارون والقضاة يشتغلون بالمحاماة:

ولا يفوتنا أن نسجل في هذه المناسبة أن عددًا كبيرًا من الوزراء والمستشارين والقضاة – الذين استقالوا أو أحيلوا إلى المعاش لبلوغهم السن القانوني ومنهم رؤساء ووكلاء محكمة النقض ومحاكم الاستئناف – اشتغلوا بالمحاماة، حتى لقد كاد يصبح تقليدًا أن كل وزير من رجال القانون أو مستشار أو قاضٍ يتقاعد، يبادر فور تقاعده إلى الاشتغال بالمحاماة، ففي ميدانها الحر الفسيح متسع للجميع…

حوادث بين القضاة والمحامين: 

ولقد كان هذا التبادل بين رجال القضاء ورجال المحاماة، وذلك التقدير الكريم من القضاء لمهنة المحاماة، مدعاة للاحترام المتبادل والود والوئام والتعاون بين الفريقين، ولكن لسوء الحظ كثيرًا ما يقع من الحوادث بين القضاة والمحامين ما يعكر صفو العلاقات بين القضاء الجالس والقضاء الواقف، ونحن لا نلوم فريقًا دون فريق، ولكننا نرجع الحوادث إلى أسبابها للعمل من الجانبين على تلافيها واستمرار التعاون والاحترام المتبادل بينهما لتحقيق رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.
ولعل أهم أسباب هذا الخلاف ما أشار إليه حضرة المستشار الكبير محمد مختار عبد الله في محاضرته (المحاماة في نظر القاضي) حيث قال:

(إن جميع أسباب الاحتكاك بين القضاء والمحاماة منشؤها في الغالب رول طويل مربك يبغي القاضي أن ينجزه من جهة، ومن جهة أخرى رغبة حارة من جانب المحامي في إرضاء ضميره بعرض كل ما لديه من وقائع وأسانيد، ولا يمكن التوفيق بين الطرفين إلا إذا قدر كل منهما وجهة نظر الآخر، وكان في أداء واجبه مخلصًا في مساعدة الطرف الآخر أيضًا على أداء واجبه، وقد يكون حماس المحامي باعثًا له على أن يبالغ في الاهتمام بمسائل يرى القاضي المثقل بالرول الطويل أن الوقت لا يتسع للإنصات إليها، كما قد يبالغ القاضي في الرغبة في الإنجاز بحيث يحرج المحامي أمام ضميره وأمام موكليه، وهذه الصعوبة نشعر أنها في ازدياد كل يوم، فالإحصائيات القضائية تدل على اضطراد الزيادة في عدد القضايا وبعد أن كانت المائة هي العدد الذي لا يحلم بوصول رول القاضي الجزئي إليه أصبح مشحونًا أحيانًا بعدة مئات، وإذن لا مفر من التعاون الفعلي بين القضاء والمحاماة ليرضي كل ضميره [(3)].

حصانة المحامي في الجلسة:

ولقد كان تعدد حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين حافزًا للمشرع على أن يتدخل فيضع من التشريعات ما يحمي المحاماة أثناء وجوده بالجلسة للقيام بواجبه، ويحيطه بحصانة يمتنع معها على القاضي أن يحاكمه أو يحكم عليه إذا وقع منه أثناء انعقاد الجلسة ما يعده القاضي اعتداءً عليه أو إخلالاً بنظام الجلسة، إذ يقتصر حق القاضي في مثل هذه الحالة على تحرير محضر بما حدث، مع جواز إحالة المحامي إلى قاضي التحقيق لإجراء التحقيق إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته جنائيًا وإلى رئيس المحكمة إذا كان ما وقع منه يستوجب مؤاخذته تأديبيًا، وفي الحالين لا يجوز أن يكون رئيس الجلسة التي وقع فيها الحادث أو أحد أعضائها عضوًا في الهيئة التي تنظر الدعوى الجنائية أو التأديبية إذا أقيمت.

وقد استحدثت هذه الحصانة في مصر بقانون المحاماة رقم (98) لسنة 1944 ثم نص عليها
قانون المرافعات الجديد في المادة (130)، كما نص عليها قانون الإجراءات الجنائية في المادة (245)، لكي يتسنى للمحامي أن يقوم بواجبه المقدس في الدفاع عن موكليه بكل حرية واطمئنان على الوجه الذي يرضي ضميره، ولكي لا يكون القاضي – الذي يعتقد أن المحامي اعتدى عليه أو أخل بنظام الجلسة – خصمًا وحكمًا في آنٍ واحد، ولكي لا يقضي في دعوى هو أحد طرفيها تحت تأثير غضب أو ضيق صدر بسبب (الرول الطويل المربك الذي عليه أن ينجزه)، كما يقول حضرة المستشار محمد مختار عبد الله…
ولعل هذه الحصانة – مع النصائح الغالية التي أشار على الفريقين باتباعها حضرة المستشار محمد مختار عبد الله – كفيلة بعدم تكرار حوادث الاحتكاك بين القضاة والمحامين ليتعاون الجميع في ود دائم واحترام متبادل على أداء رسالتهما المشتركة في خدمة العدالة.

(2)

بيان:

تكلمنا في العدد الماضي عن تقدير القضاء لمهنة المحاماة، واستخلصنا منه صحة كلمة فولتير (إن المحاماة أجل مهنة في العالم)، ثم تناولنا الكلام على عمل المحامي وحياته اليومية، وأثبتنا أن المحاماة – كما أنها أجل مهنة في العالم – هي أيضًا أشق مهنة في العالم، وتكلمنا عن المحامي كما يجب أن يكون، وأشرنا إلى ثقافته وتنوع دراساته، وأوردنا بيانًا موجزًا عن المحامين الذين تولوا رئاسة الدول والحكومات والبرلمانات وزعامة الشعوب، والذين تولوا أرفع مناصب القضاء، والوزراء والمستشارين والقضاة الذين تركوا مناصبهم للاشتغال بالمحاماة، وأخيرًا تكلمنا عن متاعب المهنة وأخصها الحوادث التي تقع بين القضاة والمحامين وأسبابها وعلاجها، وانتهينا إلى الكلام عن حصانة المحامي في الجلسة والقوانين التي نظمتها [(4)].
وفي عدد سابق تكلمنا عن مقابل أتعاب المحاماة الذي يقضي به على الخصم الذي خسر الدعوى، وما جرى به العرف من الحكم بمبالغ تافهة لا تعوض صاحب الحق عما أنفقه في سبيل الوصول إلى حقه، وأوردنا حكم القانون وآراء الشراح وأحكام القضاء التي توجب كلها الحكم لصاحب الحق بقدر من أتعاب المحاماة يوازي ما دفعه فعلاً، أو ما كان يجب أن يدفعه، إلى محاميه الذي عهد إليه في استرداد حقه المغصوب أو دفع دعوى خصمه المبطلة [(5)].
ونختم هذه السلسلة بالكلام عن واجب المحامي، ثم عن المحامين تحت التمرين.

واجب المحامي: 

إن واجب المحامي هو الدفاع عن المظلوم، ولكن هل كل المتهمين مظلومون ؟ وماذا يفعل المحامي إذا وكل عن متهم معترف ؟ بل ماذا يفعل إذا وكل عن متهم منكر اعترف له بارتكاب الجريمة ؟
هذه أسئلة لا تجد ردًا عليها في الكتب، ولكننا نعرف الرد عليهم من تقاليد المحاماة الشريفة العريقة، حقًا إنه ليس كل المتهمين مظلومين، ولكن قل إن تجد منهما غير جدير بالرحمة والعطف، فكثيرًا ما نصادف متهمين مثقفين من عليه القوم دفعتهم الظروف دفعًا إلى ارتكاب جريمة في ثورة غضب، أو دفعًا لإهانة، وجلَّ من لا يخطئ…..
وهناك متهمون ارتكبوا جرائم دون أن يكونوا مسؤولين عنها لسبب من أسباب الإباحة وموانع العقاب: كمن يرتكب جريمة بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة (مادة 60 عقوبات)، ومن يرتكب جريمة دفاعًا عن النفس أو المال (مادة 61 عقوبات) أو من يرتكب جريمة وهو فاقد الشعور أو الاختيار في عمله، إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة إذا أخذها قهرًا عنه أو على غير علم منه بها، (مادة 62 عقوبات) أو الموظف الذي يرتكب الفعل تنفيذًا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه إطاعته أو اعتقد أنها واجبة عليه، أو يرتكب الفعل بحسن نية تنفيذًا لما أمرت به القوانين أو ما أعتقد أن إجراءه من اختصاصه (مادة 63 عقوبات).
وهناك متهمون غير مسؤولين مسؤولية كاملة عن الأفعال التي ارتكبوها لمرض عقلي أو نفسي أو عصبي – كالعته والشيزوفرانيا والحالات السيكرباتية….
في هذه الحالات يجب على المحامي أن يبرز ويثبت للمحكمة ظروف الحادث، وسبب الإباحة أو موانع العقاب إن وجدت، وحالة المتهم وقت ارتكاب الجريمة من الوجهة العقلية والنفسية والعصبية، مستعينًا بتاريخ المتهم وأثر الوراثة وتقارير الأطباء الأخصائيين، مع بيان الظروف المخففة.
ولكن ما العمل إذا كان المتهم قد أنكر ارتكاب الجريمة وباح لمحاميه بارتكابها ؟
لا شك أن في هذه الحالة تعارضًا بين ضمير المحامي وواجبه إذ هو لا يستطيع إفشاء سر المهنة، كما أن ضميره لا يطاوعه على طلب البراءة.
ومن حسن الحظ إن هذه الحالة نادرة الوقوع، حيث لا يبوح المتهم عادةً لمحاميه بارتكاب الجريمة إذا كان قد أنكر ارتكابها أمام المحققين، حيث لا يجد فائدة تعود عليه من الاعتراف للمحامي.
فإذا حدث ذلك فإنه يجب على المحامي أن يتنحى عن الدفاع في القضية – إرضاءً لضميره ومحافظةً على مصلحة موكله – وفي هذه الحالة يوكل المتهم محاميًا آخر لن يبيح إليه في هذه المرة بسره، فيتولى المحامي الجديد الدفاع عنه مرتاح الضمير لطلب البراءة.
وهذه إحدى التضحيات التي تحتمها على المحامي تقاليد مهنته الشريفة…

المحامون تحت التمرين: 

إن مدة السنتين التي يقضيها المحامي تحت التمرين هي إحدى الصعوبات التي تواجه خريجي الحقوق، بل هي الصدمة الأولى التي تجابهم، إذ يرون زملاءهم من خريجي المعاهد الأخرى يباشرون عملهم فور تخرجهم، ويتقاضون مرتبات محترمة تتناسب مع مؤهلاتهم، بينما يضطرون هم – دون سواهم – إلى قضاء هذه الفترة يقومون بأعمالهم أمام المحاكم وفي المكاتب دون أن يتقاضوا أجرًا مناسبًا، أو دون أن يتقاضوا أجرًا أصلاً…
والذنب في ذلك ليس ذنبهم، بل ذنب النظام السخيف الذي يفرض عليهم قضاء أربع سنوات كاملة في كلية الحقوق يحشون أدمغتهم بدراسات نظرية وتفصيلات دقيقة وفروض قد لا تتحقق أبدًا ويندر أن تصادفهم في العمل أصلاً دون أن يتمرنوا على تحرير عرائض الدعوى والمذكرات، أو يشهدوا جلسات المحاكم وما يدور فيها من مرافعات، أو يطلعوا على الأحكام والتحقيقات، أو يلموا بمختلف إجراءات التقاضي أمام المحاكم، وتحرير العقود وشهرها بمكاتب التوثيق والشهر العقاري !!!
ولا ندري لماذا لا تختزل بعض الدراسات النظرية، والتفصيلات التي لا طائل تحتها، وتخصص السنان الأخيرتان – إلى جانب الدراسة النظرية – للتمرين عمليًا على تحرير عرائض الدعاوى والمذكرات وإجراءات التحقيق وشهود جلسات المحاكم وزيارة أقلام الكتاب والمحضرين ومكاتب التوثيق والشهر العقاري تحت إشراف أساتذتهم، كما هو الحال في الكليات العملية مثل كليات الطب التي يقضي طلبتها العامين الأخيرين في المران بالمستشفيات – وكليات الهندسة التي يتمرن طلبتها في المصانع – ومدارس المعلمين التي يقوم طلبة السنة النهائية ليس فقط بزيارة المدارس بل بإلقاء الدروس على التلاميذ !!!
هذا هو الحل العملي الوحيد لمشكلة المحامين تحت التمرين، ففيه حفظ لكرامتهم وتجنيبهم صعابًا لا يجوز أن يتعرض لها أمثالهم من الشباب في مستهل حياتهم العملية.

[(1)] آبلتون: (مهنة المحاماة) صـ 21.
وهنري روبير: (المحامي) تعريب حليم سيفين صـ 55.
[(2)] جارسونيه جزء 1 صـ 413.
[(3)] من محاضرة قيمة ألقاها على المحامين تحت التمرين حضرة الأستاذ محمد مختار عبد الله المستشار بقاعة محكمة الاستئناف يوم 10 ديسمبر سنة 1931، وهي منشورة بمجلة المحاماة السنة الثانية عشرة بالعددين السادس والسابع صـ 559 و671.
[(4)] المحاماة السنة الثانية والثلاثون العدد الثالث صـ 547.
[(5)] المحاماة السنة الثالثة والثلاثون العدد الثامن صـ 1230.