إن كلمة الشريعة تعني الأحكام التي شرعها الله لعباده(1). وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً)(2) . و(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)(3) و(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(4). والتعبير في الشريعة الإسلامية ينصرف إلى كل ما جاء الرسول الكريم محمد r من الله سبحانه وتعالى من الأحكام(5). وإذا كانت التشريعات الوضعية تزهو بمجموعة من القواعد والأسس الجنائية فإن الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً عرف هذه الأصول في أوضاعها المثلى وتضمنت الشريعة حقوق الإنسان ومنها حقه في التكامل الجسدي ومن المقاصد الأساسية في الشريعة الإسلامية هي النفس التي تعد إحدى المصالح الخمسة في الشريعة والاعتداء على سلامة الجسم من الجرائم الخطيرة في الإسلام وتتمثل هذه الجرائم بالقصاص والدية وهي جرائم الاعتداء على النفس بالقتل أو الجرح أو الضرب أو أي إيذاء آخر وهذه الجرائم في القانون الجنائي تسمى (جرائم الاعتداء على الأشخاص) وفي الشريعة الإسلامية تشمل الجناية على ما دون النفس كل أذى يوقعه شخص على جسم غيره ولا يفضي إلى الوفاة(6) ويدخل ضمن هذا النوع من الجناية أنواع الجرح والضرب والإيذاء. وتنقسم هذه الجنايات من حيث نتيجة فعل الجاني على خمسة أقسام(7) وكالآتي:

القسم الأول: إبانة الأطراف وما يجري مجرى الأطراف، ويشمل هذا القسم قطع اليد والرجل والأصبع والأنف والذكر والأنثيين والأظافر والأذن والشفة وقلع الأسنان وكسرها وحلق شعر الرأس والحاجبين وغير ذلك.

القسم الثاني: إذهاب منفعة الأطراف مع إبقاء أعيانها، ويشمل هذا القسم تفويت السمع والبصر والشم والذوق والكلام والجماع والبطش وغير ذلك.

القسم الثالث: الشجاج، ويقصد بالشجاج جراح الرأس والوجه ويشمل الأنواع الآتية:

1.الحارصة: وهي تخدش الجلد ولا تخرج الدم وهي مأخوذة من حرص القصار الثوب أي شقه.

2.الدامعة: وهي التي تخرج الدمع من الجرح ولا تسيله، كالدمع الذي يخرج من العين ولا يسيل على الخد أي يخرج الدم من الجلد بمقدار يسير.

3.الدامية: وهي التي تسيل الدم.

4.الباضعة: وهي التي تبضع الجلد أي تقطعه، وهي مأخوذة من البضع وهو الشق.

5.المتلاحمة: وهي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة وقيل هي التي تقطع اللحم وقيل كذلك بأن المتلاحمة تأتي قبل الباضعة وهي التي تظهر اللحم ولا تقطعه.

6.السمحاق: وهي التي تقطع اللحم وتصل إلى الجلدة الرقيقة بين اللحم وعظم الرأس.

7.الموضحة: وهي التي تقطع اللحم وتظهر العظم.

8.الهاشمة: وهي التي تهشم العظم، أي تكسره.

9.المنقلة: وهي التي تنقل العظم بعد الكسر أي تحوله من موضع إلى موضع آخر.

10.الآمة: وهي التي تصل إلى أم الدماغ وهي جلدة تحت العظم فوق الدماغ.

11.الدامغة: وهي التي تصل إلى الدماغ بعد أن تخرق الجلدة التي هي فوق الدماغ(8).

القسم الرابع: الجراح، ويقصد بالجراح ما كان في سائر البدن عدا الرأس والوجه، والجراح نوعان:

1.جائفة: وهي التي تصل إلى التجويف البطني والصدري سواءً كانت الجراحة في البطن أو الصدر أو الظهر أو الجنين، ولا تكون في اليدين والرجلين أو الرقبة.

2.غير جائفة: وهي التي لا تصل إلى الجوف.

ونلاحظ أن الفرق بين الشجاج والجراح أن الشجاج لا يكون إلا في الوجه والرأس بينما تكون الجراح في سائر البدن.

القسم الخامس: كل ما لا يدخل تحت الأقسام السابقة، ويشمل كل اعتداء أو إيذاء لا يفضي إلى إبانة الإطراف أو إذهاب معناها، ولا يدخل أيضاً ضمن الشجاج أو الجراح. إن الإسلام دعا أفراد المجتمع جميعاً إلى الانتصار للفضيلة ومحاربة الرذيلة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن المجتمع في نظر الإسلام يمثل الوحدة المتماسكة المتعاونة التي يسعى كل فرد من أفرادها إلى تقوية أواصر الود بين خلاياها لتكون في مأمن من العوامل السيئة التي تسهم في تفتيت هذه الوحدة أو تؤثر في تكوينها، وجرائم الاعتداء على حق الإنسان بالتكامل الجسدي في الشريعة الإسلامية من الجرائم التي تتعلق بحياة المجتمع وبأمنه ونلاحظ أن الشريعة قد راعت في هذه الجرائم المجني عليه ووليه وأعطت لهما الحق في العفو عن القصاص نظراً لأن هذه الجرائم تمس المجني عليه(9) بطريقة مباشرة أكثر مما تمس المجتمع لذلك يجوز للمجني عليه في جرائم الاعتداء على حق الإنسان في التكامل الجسدي أن يعفو عن حقه في القصاص فإذا عفا فعندئذٍ يسقط القصاص أو امتناعه لمانع من الموانع الشرعية وينتقل حق المجني عليه إلى الدية التي تمثل العقوبة البدلية التي تحل محل جرائم القصاص في الجرائم العمدية المتصلة بالاعتداء على الأشخاص(10).

ومن شروط القصاص فيما دون النفس أن تحقق المماثلة وأن يكون الاستيفاء ممكنا بغير زيادة في الجرح من الجناية، فإذا كانت المماثلة غير ممكنة أو كان الاستيفاء لا يمكن إلا مع زيادة في الجرح فعندئذ لا يجوز القصاص لأن دم الجاني معصوم إلا بمقدار الجناية التي ارتكبها فما زاد عن مقدار هذه الجناية فأنه يبقى على عصمته الاصلية. وبناء على هذا لا يجوز أن يتم القصاص إلا في الجروح التي يمكن المماثلة فيها بغير زيادة أو حيف أو اضرار بالجاني وليست هناك قاعدة ثابتة لأن الجروح مختلفة ولذلك يرجع فيها إلى القصص ولا يسقط القصاص إلا عندما يتفق الطرفان الجاني والمجني عليه أو وليه على الاستعاضة بالدية عن القصاص وهذا الاتفاق نوعا من الصلح والصلح لا يتم إلا برضا الطرفين(11).

غير أن الإمامين الشافعي وأحمد لا يوافقان على هذا الرأي لأن الثابت في هذا المجال هو أحد أمرين: القصاص أو الدية ويكون الخيار في ذلك للولي فإذا أختار القصاص وجب له القصاص وأن أختار الدية يسقط حقه في القصاص وتجب الدية ويكون الجاني ملزما بدفع الدية دون أن يكون له الحق في الاختيار. إن الإسلام يجعل الإنسان المحور المركزي للمسيرة الإنسانية والناس في أصل خلقهم متحدون متشابهون منذ خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) حتى قيام الساعة. يقول عز وجل: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(12). إن الله سبحانه وتعالى أبدع في خلق الإنسان غاية الإبداع فطرةً واستعداداً، قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(13). تدل هذه الصياغة على أن الإنسان تجلت به عناية الله في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق سواءً في تكوينه الجسدي البالغ الدقة والتعقيد أم في تكوينه العقلي الفريد أم في تكوينه الروحي العجيب، وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين النفسي، فالإنسان يولد وهو بريء الذمة تقي السريرة صافي الفطرة وقد أكدت على ذلك نصوص كثيرة منها قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ! فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ! قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ! وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(14). وقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ! إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(15). إن أعمال الإنسان معلومة لله تعالى الذي خلق العقل للإنسان كما أعطاه الإرادة وجعله يفكر بحسب مداركه وفهمه ونفسيته وتركه يفعل ما يريد، والله بطبيعة الحال يعلم ما سوف يقدم عليه المخلوق من خير أو شر(16).

في تصورات الأديان السماوية يرجع الكائن الإنساني إلى التصوير الإلهي الأول للإنسان ويكفينا أن نذكر في هذا المجال مدرسة الحق الطبيعي التي سادت الفكر التشريعي الغربي منذ القرن السادس عشر تنبع من الدين، ونلاحظ أن الفلاسفة الوحدانيون عندما يتأملون في الإنسان فإنهم ينظرون في الحقيقة إلى منوال آدم وحواء كصورة وطبيعة أبدية للإنسان فهذه الصورة وهذه الطبيعة تعني حق الكائن الإنساني والحياة هي أول تعبير عن هذا الحق مع المساواة والسعي إلى السعادة(17). إن الديانات السماوية والفلسفة الوحدانية تعد أن الحياة هبة من الله وأن الإنسان محمول بجبلته على الحفاظ والمثابرة على حياته فلا يجوز أن يحرم أحد منها ولا يجوز أن ينتهك في شيء حامل الحياة وحاويها وهو الجسم لأن كل انتهاك أو تأليم أو تعذيب أو إفناء للجسم يعد حرماناً من الحياة أو تنقيص من قداستها ويعد الآدميون من أب واحد وقد خلقوا لنفس المصير فإنهم متساوون ليس فيهم مالك ولا مملوك وخضوعهم لنفس الخالق هو أقوى ضمان للتساوي بينهم كما ذهب إليه (لاس كازاس Las Gasas) رائد مدرسة الحق الطبيعي(18). إن الإسلام يجعل الإنسان المحور المركزي للمسيرة الإنسانية إذ تصب معطياتها وإنجازاتها وطموحاتها كلها في محصلة نهائية هي خير هذا الإنسان لأنه أكرم ما في الوجود وهو فعلاً أكرم ما في الوجود إذ أن الله عز وجل حين خلق الإنسان جزءاً من خلق الكون كله بسماواته وأرضه وجماده ونباته وحيوانه إنما خلقها كلها لتكون مسخرة لخير الإنسان أكرم خلق الله عند الله، وقال تعالى في حكم الاعتداء على حق الإنسان: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ! إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً)(19). وينبغي أن نشير إلى أن حقوق الإنسان التي يقررها الإسلام ليست منة من حاكم ولا من منظمة وطنية أو إقليمية أو عالمية، وإنما هي حقوق أزلية فرضتها الإرادة الربانية فرضاً كجزء لا يتجزأ من نعمة الله على الإنسان حين خلقه في أحسن صورة وأكمل تقويم(20).

__________________

1- الأستاذ أحمد موافي، المرجع السابق، ص5.

2- سورة الشورى، آية 13.

3- سورة الجاثية، آية 18.

4- سورة المائدة، آية 48.

5- الأستاذ أحمد موافي، المصدر السابق، ص5.

6- الدكتور محمد فاروق النبهان، مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي ، الطبعة الأولى، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977، ص77.

7- الدكتور محمد فاروق النبهان، المرجع السابق، ص78، وقد قسمها بعض الفقهاء على أربعة أقسام ويقول في ذلك: فالجناية على ما دون النفس مطلقاً أربعة: أحدها إبانة الأطراف وما يجري مجرى الأطراف والثاني إذهاب معاني الأطراف مع إبقاء أعيانها والثالث الشجاج، والرابع الجراح، أنظر أبو بكر بن سعود الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الجزء السابع، دار الكتب العربية، بيروت، 1982، ص296.

8- إن هذه الأحوال ذكرها الكاساني في كتابه (بدائع الصنائع) الجزء السابع، ص296، وقد ترك الإمام محمد صاحب ابن حنيفة (الحارصة والدامغة) لأن الحارصة لا يبقى لها أثر والدامغة تفضي إلى الموت مباشرة، ويرى الإمام مالك أن الشجاج عشرة ويحذف الهاشمة لأنها تدخل عنده ضمن جراح البدن ويرى الشافعي أن الشجاج عشرة فقط ويحذف الدامغة، أنظر: نهاية المحتاج، ج7، ص268.

9- الدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي، المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية، دراسة مقارنة بالقانون، الجزء الأول، بغداد، مطبعة أسعد، 1982، ص133.

10-الدكتور محمد فاروق النبهان، المصدر السابق، ص10؛ الأستاذ أحمد موافي، المصدر السابق، ص214؛ والدكتور أبو بكر الجزائري، منهاج المسلم، كتاب عقائد وآداب وأخلاق وعبادات ومعاملات، مكتبة دار الجديد، 1993، ص53.

11- أنظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، الجزء السابع، ص246؛ والدكتور عبد الكريم زيدان، العقوبة في الشريعة الإسلامية، ط2، مؤسسة الرسالة، لبنان، 1988، ص47.

12- سورة التغابن، آية رقم (3).

13- سورة التين، آية رقم (4). إن هذه الآية هي المعيار على الصفة التي يتمتع بها الإنسان وتتمثل بالكمال.

14- سورة الشمس، الآيات 7، 8، 9، 10.

15- سورة الإنسان، الآيتان 2، 3.

16- الدكتور أحمد فتحي بهنسي، المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1988، ص35؛ الدكتور محمد شلال حبيب، علم الإجرام، جامعة بغداد، مكتب الطباعة المركزية، 1989، ص105.

17- المحامي الدكتور فيصل شطناوي، حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الطبعة الثانية، عمان، دار ومكتبة الحامد للنشر والتوزيع، 2001، ص25.

18- عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1998، ص204.

19- سورة النساء، الآيتان 168، 169.

20- المحامي الدكتور فيصل شطناوي، المصدر السابق، ص28.

المؤلف : حسين عبد الصاحب عبدة الكريم الربيعي
الكتاب أو المصدر : جرائم الاعتداء على حق الانسان في التكامل الجسدي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .