التصالح على المال العام

القاضي عامر حسن شنتة

إذا كان تخصيص المال للمنفعة العامة يعد من أهم المعايير التي قيلت في تمييز المال العام عن غيره من الأموال، فأن الاعتداء عليه يعتبر مساساً بحقوق المجتمع في الاستفادة من المنفعة العامة التي خصص المال لأجلها، وما يؤدي اليه من نتائج وخيمة تطال فرص التنمية والخدمات.

وتبعاً لذلك عدت الجرائم التي تقع على المال العام من الجرائم التي تشدد المشرع والقضاء في معالجتها عن طريق التشدد في فرض العقوبات على مرتكبيها، غير أن مرتكبي تلك الجرائم غالبا ما يفلتون من العقاب نتيجة لأسباب متعددة منها ما يتعلق بضعف إجراءات الرقابة والتدقيق، ومنها ما يتعلق بتأخر الكشف عن تلك الجرائم.

وقد يقعون تحت طائلة العقاب، غير أنهم ينجحون في تهريب الأموال التي استولوا عليها إلى الخارج، أو يدخلونها في دورة الاقتصاد والمال بشتى الوسائل عن طريق غسل تلك الأموال وبأساليب متطورة ومتنوعة، عجزت معها الكثير من الدول عن تعقبها ومعرفة مصيرها. ونتيجة لذلك ضاعت أموال طائلة للدولة كان يمكن أن توظف لخدمة المجتمع.

وإزاء ذلك العجز ظهرت في كثير من الدول فكرة التصالح مع مرتكبي الجرائم الواقعة على المال العام،والتي يرى مؤيدوها أنها الطريق الأضمن والأسرع لإعادة تلك الأموال، والمصلحة الأولى بالرعاية من المصلحة بفرض العقاب. فيما يرى معارضوها إنها تسهم في تشجيع الاعتداء على المال العام ولا تحقق النتائج المرجوة منها إذ نادرا ما يقوم مرتكبو تلك الجرائم بإعادة الأموال.

وأيا كان فقد شهد العام 2016 تجربتين بهذا الصدد في كل من مصر والعراق.

ففي مصر أقر مجلس الشعب المصري تعديل المادة (18 مكرر/ب) من قانون الإجراءات الجنائية والتي تسمح بالتصالح مع مرتكبي الجرائم الواقعة على المال العام، عن طريق تسوية تتولاها لجنة من الخبراء تؤلف بقرار من رئيس الوزراء وتعرض نتائجها على مجلس الوزراء، الذي يقوم بالمصادقة عليها وإشعار النائب العام بإيقاف الإجراءات القانونية وفقاً للتفاصيل الواردة بالتعديل. وقد نجحت تلك اللجنة وفي إطار تسوية واحدة باسترداد (75%) من ثروة رجل الأعمال المصري المعروف (حسين سالم) وأسرته، والمتهم بقضايا استيلاء على الأموال العامة.وبأصول تقدر بنصف مليار دولار أمريكي.

أما في العراق فقد شرع مجلس النواب قانون العفو العام رقم 27 لسنة 2016 الذي نص على شمول مرتكبي جرائم (الاختلاس وسرقة أموال الدولة وهدر المال العام عمداً) بالعفو العام شريطة أن يسددوا المبالغ التي ترتبت بذمتهم. وبالمقارنة بين التجربتين نلاحظ أن المشرع المصري قد نجح في معالجة الأمر بشكل أكبر، بعد أن أناط ذلك بلجنة تتولى عرض التسوية وعن مجمل ثروة المتهم. ولم يجعل ذلك منوطا بتسديد قيمة الأموال التي وقعت عليها الجريمة كما فعل المشرع العراقي. حيث أن مرتكب تلك الجرائم يتحصل على عائدات المبالغ التي قام بسرقتها أو اختلاسها والتي قد تزيد كثيرا عن قيمة المبلغ المختلس أو المسروق المطالب بتسديده.

صحيح أن قانون العفو العام لم يمنع من إقامة الدعوى المدنية بحق المتهم المشمول بالعفو، أو ملاحقته جزائياً عن جريمة غسل الأموال.

غير أن إثبات ذلك أمر عسير جدا في ظل التطور الكبير في أساليب إخفاء الأموال وتهريبها.وكان الأجدر بالمشرع العراقي أن يسلك الطريق الذي سلكه المشرع المصري بأن يجعل التصالح مع المتهم رهناً بإعادة تلك الأموال ومتحصلاتها وعوائدها التي تقدرها لجنة الخبراء وعن مجمل ثروته.

تحقيقا للغاية من شمول المتهمين بقانون العفو العام والتي هي إعادة المبالغ التي استولوا عليها واثروا بها على حساب الشعب.