الرقابة علي دستورية القوانين في فرنسا أو الرقابة الوقائية غير القضائية

ما دفع فرنسا إلى الأخذ بهذه الصورة من صور الرقابة التفسير الذي ساد الفقه الفرنسي في فهم نظرية الفصل بين السلطات . . كذلك اعتبار البرلمان هو المعبر عن سيادة الأمة وان القانون هو التعبير عن هذه الإرادة [la loi expres – sion de la volonte generale ] هذان الآمران حالا بين فرنسا وبين الأخذ بالرقابة القضائية علي دستورية القوانين .
وقد ظهرت فكرة الرقابة السياسية علي دستورية القوانين أول الأمر خلال إعداد دستور السنة الثالثة لثورة – 1795 – وكان بين أعضاء الجمعية التأسيسية المناط بها وضع ذلك الدستور الفقيه ” سييز sieyes ” وقد اقترح ذلك الفقيه إنشاء هيئة محلفين دستورية تكون مهمتها رقابة أعمال السلطة التشريعية حتى تحول بينها وبين مخالفة الدستور وتشكل هذه الهيئة من بين أعضاء السلطة التشريعية أنفسهم ، ولقي هذا الاقتراح معارضة شديدة ولم يكتب له أن يري النور ، والحقيقة انه لم يكن منطقياً أن يعطي عدد محدود من أعضاء البرلمان نفسه حق الرقابة عليه بكامل أعضائه .

وعند إعداد مشروع دستور السنة الثامنة للثورة في عهد الإمبراطور نابليون عادت الفكرة إلى الظهور في صورة أخرى : صورة إنشاء مجلس يسمي ” المجلس المحافظ senate consewoteur ” مهمته المحافظة علي الدستور وذلك بالتحقق من دستورية القوانين والقرارات والمراسيم التي تقدرها السلطة التنفيذية .

ولم يقدر لهذا المجلس أن ينجح في مهمته حتى فقد سبب وجوده والغي عام 1807 ، والحقيقة أن هذه المسالة أثيرت أمام القضاء الفرنسي في اكثر من مناسبة ، ولكن ذلك القضاء سواء الإداري أو العادي انتهي دائماً إلى رفض رقابته علي دستورية القوانين .
وقد حكمت محكمة النقض الفرنسية في 11 أبريل 1833 بان ” القانون الذي تمت مناقشته وصدر بالطرق المرسومة لا يمكن أن يكون محل مهاجمة أمام المحاكم بدعوى عدم الدستورية .
وقد استمرت محكمة النقض الفرنسية دائماً في هذا الاتجاه .
ومن ناحية أخرى فان القضاء الإداري في فرنسا وإن اخضع لرقابة مشروعية القرارات الإدارية ومدي اتفاقها مع القانون . . فانه حكم بعدم قبول الدعاوى التي تستند إلى عدم دستورية القانون .
والواقع أن القضاء الفرنسي عندما حجب نفسه عن مراقبة دستورية القوانين لم يكن مقصراً في أداء مهمته ولكنه وجد نفسه في مواجهة بعض النصوص التشريعية التي تحول بينه وبين هذه الرقابة فضلاً عن بعض الحجج التاريخية والفلسفية .
أما من حيث النصوص فقد وجد القضاء الفرنسي أمامه نص المادة الحادية عشرة من قانون تنظيم القضاء الصادر عام 1790 والتي تمنع المحاكم من أن ” تشترك علي نحو مباشر أو غير مباشر في ممارسة السلطة التشريعية أو أن تعرقل قرارات الهيئة التشريعية أو أن توقف نفاذها ” .

وكذلك المادة 127 من قانون العقوبات التي تؤثم ” القضاة الذين يتدخلون في ممارسة السلطة التشريعية سواء بإيجاد لوائح تتضمن إحكاماً تشريعية أو بمنع أو إيقاف قانون أو اكثر أو بالتداول فيما إذا كان يجب نشر القوانين أو نفاذها ” .

وبالإضافة إلى هذين النصين الواضحي الدلالة في الحيلولة بين القضاء الفرنسي والنظر في رقابة دستورية القوانين فهناك الحجة التاريخية التي أوجدتها تصرفات المحاكم الفرنسية القديمة والتي كانت تسمي البرلمانات – قبل الثورة – والتي كانت تعرقل تنفيذ القوانين بل وتلغي بعض نصوصها مما ولد ميراثاً من الحذر والريبة لدي رجال الثورة تجاه القضاة باعتبارهم معوقين وراغبين في التغول علي اختصاصات السلطات الأخرى وادي هذا كله إلى تيار قوي رافض لإعطاء القضاء حق رقابة دستورية القوانين .
وساند ذلك كله ثمة اعتبارات فلسفية قامت علي مفهوم معين لمبدأ الفصل بين السلطات من مقضتاه أن يحال بين كل سلطة والتدخل في أعمال السلطات الأخرى وان رقابة القضاء لدستورية القوانين التي يصدرها البرلمان هو اعتداء علي هذا المبدأ وإهدار له .

واخيرا ذهب جانب من الفقه الفرنسي – مشايعاً في ذلك تعاليم جان جاك روسو – إلى أن القانون هو مظهر إرادة الأمة ، هذه الإرادة التي يعبر عنها البرلمان والتي لا يتصور أن يراقبها أحد أو أن يردها أحد إلى الصواب ذلك أن الصواب مفترض فيمن يعبرون عن إرادة الأمة ، وقد أخذت المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 بهذا المعني عندما نصت علي أن ” القانون هو التعبير الحر والرسمي للإرادة العامة ” .
وإذا كان البرلمان هو المعبر عن الإرادة العامة فانه لا يسوغ للقضاء أن يعطل هذه الإرادة بحجة النظر في دستورية هذه القوانين .
والفقيه الفرنسي الكبير Duguit يذهب إلى أن النتيجة المنطقية لفكرة النيابة تؤدي إلى أن نقو أن إرادة هؤلاء النواب – باعتبارها إرادة الأمة نفسها – لا يمكن أن تراقبها إرادة أخرى تعتبر اسمي منها بحكم مراقبتها لها .
ويمكن أن يعبر عن هذا الموقف الرافض لرقابة دستورية القوانين بما قاله [ Maurras ] .
” . . هل يمكن أن توجد حكومة منتخبة ، حكومة تعبر عن رأي الأمة في صدام مع قضاتها ؟ بعبارة أخرى : سلطة منتخبة تحوز ثقة الرأي العام – مثل هذه السلطة يمكن أن تخضع للقضاء . . إن هذا يعني قتل هذه السلطة . ” .
ثم يقول : ” . . لا : هذا غير ممكن . وهذا لن يكون . . ” .
(1) non, cela nest pas possible . cela nest pas et ne sera pas هذا الميراث القضائي والفقهي والفلسفي كان وراء رفض فكرة الرقابة القضائية علي دستورية القوانين والاتجاه نحو نوع من الرقابة الوقائية السابقة التي قد تتصور بعد مناقشة مشروعات القوانين في البرلمان وقبل إصدارها .
وقد تبلورت هذه الفكرة عند وضع دستور الجمهورية الرابعة عام 1946 ثم اكتملت عند وضع دستور الجمهورية الخامسة عام 1958.

اللجنة الدستورية في دستور 1946 : 

انشأ دستور 1946 في فرنسا ما اسماه باللجنة الدستورية le comite constitutionnel a كما ولا أن يسد بها فراغ الرقابة علي دستورية القوانين الذي كان قائماً قبل ذلك ، وقد جاء تكوين هذه اللجنة كنوع من التوفيق بين أنصار السيادة البرلمانية والتي ترفض رقابة الدستورية وأنصار سمو الدستور والذين يرون ضرورة وجود رقابة علي دستورية القوانين ولكنه كان توفيقاً متواضعاً علي حد تعبير الفقيه الفريسر بوردون وقد جاء المشروع الأول لدستور 1946 خالياً من أي نص يتعلق برقابة الدستور ودكن المشروع الذي قبل في النهاية تضمن إنشاء هذه اللجنة الدستورية .
وعلي أي حال فقد كان من المستقر استبعاد فكرة الرقابة القضائية لدستورية القوانين وفي ذلك استجابة للتقاليد الفرنسية التي ترفض إخضاع التشريعات البرلمانية للرقابة القضائية ، بل لقد ذهب الأمر إلى حد تجنب الدستور ذكر عبارة ” رقابة الدستورية ” واكتفت المادة 61 من ذلك الدستور بقولها تختبر اللجنة “ le comite examine” القوانين التي صوتت عليها الجمعية الوطنية والتي قد تفترض تعديلاً في الدستور مناقضة للأبواب من الأول إلى العاشر من الدستور وهي تلك التي تنظم السلطات العامة ، كذلك فان الإجراءات المتبعة أدت بدورها إلى تضييق مدي هذه الرقابة المحدودة من الأصل .

المجلس الدستوري ودستور 1958 : 

حاول واضعوا دستور 1958 أن يطوروا من فكرة الرقابة علي دستورية القوانين مع البقاء في إطار استبعاد كل رقابة قضائية لدستورية القوانين .
وقد وقع تعديلاً بخوصص المجلس الدستوري خلال عام 1947 والثاني خلال عام 1990 وقد أدى هذان التعديلان إلى اتساع نطاق الرقابة وان ظلت في كل الأحوال رقابة سياسية لا يقوم بها القضاء . ( التعديل الثاني لم يقدر له أن يكتمل ) .
وقد نظم دستور 1958 هذا الموضوع في المواد من 56 إلى 63 ، وقد كان هذا التنظيم متجهاً في الأساس إلى حماية المؤسسات السياسية كما وضعها الدستور من أن تنالها يد المشرع العادي بالتعديل ولم يكن يعني هذا التنظيم الرقابة حماية حقوق وحريات الإفراد في مواجهة البرلمان إلا في نطاق محدود .
لقد كان المقصود الأساسي من وجود المجلس الدستوري هو ضمان التطبيق السليم للنصوص الدستورية التي تضمن حسن سير السلطات العامة خاصة ما تعلق بتوزيع الاختصاصات بين السلطة التشريعية والتنفيذية ، لقد أراد الدستور بهذا المجلس أن ينشئ نوعاً من الحكم arbiter السياسي يحمي ذلك التوازن بين السلطتين .
وكان اختصاص ذلك المجلس قاصراً علي القوانين التي تصدر عن البرلمان أي القوانين بالمعني الشكلي ، وهكذا استبعد الدستور كل رقابة علي دستورية اللوائح التي تصدر عن السلطة التنفيذية ، وقد أعطى الدستور للمجلس الدستوري في هذا الصدد نوعين من الاختصاص :

1 – اختصاص وجوبي يتعلق بالقوانين العضوية organiques ولوائح المجالس البرلمانية إذ نصت المادة 61 من الدستور في فقرتها علي أن ” يجب أن تعرض علي المجلس الدستوري القوانين العضوية lois organiques قبل إصدارها ولوائح المجالس البرلمانية قبل تطبيقها ليقرر مدي مطابقتها للدستور ” وهكذا فان هذه المجموعة من القوانين تعرض حتماً علي المجلس الدستوري ليقول رأيه فيها مقدماً ” .

2 – اختصاص جوازي متروك لإرادة رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ ليعرض كل منهم أي قانون اقره البرلمان قبل إصداره علي المجلس الدستوري ليقرر مدي مطابقته للدستور .
وفي الحالتين – حالة الاختصاص الوجوبي وحالة الاختصاص الاختياري – يجب أن يبدي المجلس الدستوري رأيه خلال شهر ، ومع ذلك فللحكومة أن تطلب في حالة الاستعجال تقصير هذه المدة إلى ثمانية أيام ، وقد نصت المادة 62 من الدستور الفرنسي الصادر عام 1958 علي أن ” النص الذي يعلن عدم دستوريته لا يجوز إصداره أو تطبيقه .
كما نصت تلك المادة أيضاً علي أن قرارات المجلس الدستوري لا تقبل الطعن فيها بأي وجه من اوجه الطعن وهي ملزمة للسلطات العامة ولجميع السلطات الإدارية والقضائية .

وهناك استثناء هام من القوانين التي يجب أو التي يجوز عرضها علي المجلس الدستوري لمعرفة مدي دستوريتها تلك هي القوانين التي يتم إقرارها عن طريق الاستفتاء العام إذ انها عندئذ ستمثل التعبير المباشر عن السيادة ولا يصبح هناك مجال للبحث في دستوريتها بعد ذلك ، وقد استطاع الرئيس شارك ديجول أن ينفذ عن هذا الطريق ويعدل الدستور لتقرير طريقة الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية بغير الطريقة المنصوص عليها في الدستور نفسه لتعديله ولم يستطع أحد أن يثير عدم دستورية ذلك التعديل نظراً لأنه اقر في استفتاء شعبي عام .

هذا عن اختصاص ذلك المجلس في رقابة دستورية القوانين ، وهي كما تري وقائية سابقة علي إصدار القانون نفسه وهي رقابة سياسية لأنه لا يقوم بها قضائه .
والي جوار رقابة الدستورية فان للمجلس الدستوري اختصاصات أخرى عهد إليه بها دستور 1958 بعضها يتعلق بالانتخابات العامة وانتخابات رئيس الجمهورية والفصل في صحة انتخاب عضو البرلمان .
كذلك فان المجلس هو الذي يقرر وجود عائق يعوق رئيس الجمهورية عن مباشرة مهام منصبه وما إذا كان ذلك العائق مؤقتاً أو دائماً ، وإذا قرر المجلس أن العائق الذي يعوق رئيس الجمهورية هو عائق دائم فان انتخابات جديدة تجري خلال عشرين يوماً علي الأقل وخمسة وثلاثين يوماً علي الأكثر لانتخاب رئيس جديد .
كذلك فان للمجلس الدستوري اختصاصاً هاماً عند الرجوع إلى المادة 16 من الدستور – وهي التي تقابل المادة 74 من دستورنا – وهي التي تعطي رئيس الجمهورية في حالات الخطر الداهم التي تهدد المؤسسات الدستورية سلطات واسعة ويجب أن يبدي المجلس الدستوري رأيه قبل إمكانية اللجوء إلى المادة 16 وان يبدي رأيه في كل قرار يصدره الرئيس ولكنه مع ذلك يظل ذو قيمة أدبية وسياسية كبيرة .
هذا عن اختصاص المجلس الدستوري .

كيفية تكوين المجلس الدستوري

يتكون المجلس من نوعين من الأعضاء .
(أ) أعضاء بحكم القانون ولمدي الحياة وهؤلاء هم كل رؤساء الجمهورية السابقون الموجودون علي قيد الحياة .
(ب) أعضاء معينون ، وهؤلاء تسعة أعضاء ، ومدة العضوية تسع سنوات ، وهؤلاء التسعة يختار رئيس الجمهورية منهم ثلاثة ، ولإمكان تجديد في عضوية المجلس فان كان واحد ممن لهم حق الاختيار يختار واحداً لمدة ثلاثة سنوات وواحداً لمدة ست سنوات وواحداً لمدة تسع سنوات وهذه الطريقة تضمن تجديد ثلث أعضاء المجلس المعينين كل ثلاث سنوات .
(ج) رئيس المجلس : يعين رئيس الجمهورية أحد أعضاء المجلس – سواء من الأعضاء المختارين أو من الأعضاء بحكم القانون – رئيساً للمجلس ، ويكون للرئيس صوت مرجح عند تساوي الأصوات (م56) .
وقد جري العمل حتى الآن علي أن يعين رئيس المجلس من بين الأعضاء الثلاثة الذين يختارهم رئيس الجمهورية .
وأعضاء المجلس يستمرون في عضويتهم طوال المدة المبينة ولا يفقدون العضوية إلا بالوفاة أو الاستقالة ، ويجوز فقدان العضوية بقرار من المجلس الدستوري نفسه في حالة عدم الأهلية لمزاولة العمل ، ولا يجمع أعضاء المجلس بين عضويته والوزارة أو عضوية البرلمان أو عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي كذلك لا يجوز تعيين أعضاء المجلس في الوظائف الحكومية وانما يجوز لمن كان منهم موظفاً قبل تعيينه أن يستمر في وظيفته ، علي سيبل المثال فان أعضاء المجلس الذين كانوا أساتذة في كلية الحقوق استمروا يشغلون منصب الأستاذية إلى جوار عضوية المجلس .

التعديل الدستوري عام 1974 : 

في عام 1974 حدث تعديل دستوري يتعلق بمن لهم حق طلب العرض علي المجلس الدستوري إذ أضيف إلى من لهم هذا الحق وهو رئيس الجمهورية والوزير الأول ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ أضيف إلى هؤلاء انه يجوز لستين نائباً أو لستين شيخاً أن يطلبوا عرض قانون معين قبل إصداره علي المجلس الدستوري ليقول رأيه في مطابقة ذلك القانون أو عدم مطابقته للدستور ، وهكذا اتسع نطاق من لهم حق العرض علي المجلس الدستوري .
وفي عام 1990 م حدث تطور جوهري في هذه الناحية .

مشروع التعديل الذي لم يتم في عام 1990 

بدا الحديث عن هذا التعديل الجوهري في أوائل 1990 وفي 19 أبريل من نفس العام وبناء علي اقتراح من الحكومة أقرت اللجنة التشريعية في الجمعية الوطنية مشروع التعديل المتعلق بالمجلس الدستوري رغم شدة الانقسامات داخل اللجنة بين الاتجاهات الحزبية المختلفة والشيء الجوهري في ذلك التعديل هو انه خطا خطوة نحو ما يمكن أن يقال له رقابة قضائية علي دستورية القوانين ، ذلك انه حتى ذلك التاريخ كان الأمر مقصوراً علي نوع من الرقابة الوقائية بناء علي طلب جهات رسمية معينة ، وقد انتهي التعديل السابق إلى أن أعطى حق هذا الطلب لستين عضواً من أي من المجلسين وبذلك يتمكن نواب المعارضة من استعمال هذا الحق إذا رأوا ضرورة لاستعمال ولكن مشروع التعديل الجديد ذهب إلى ابعد من ذلك ، ذلك انه كان يجيز للأفراد الدفع أمام المحاكم بعدم دستورية قانون معين أو نص في قانون معين .
وكان هذا المشروع لتعديل اختصاص المجلس الدستوري كما قال السيد جورج فيديل – وإن لم يكن في ذاته ثورة – إلا انه كان تطورا وإصلاحا حقيقيا في الحياة الدستورية .

وكان المشرع لا يعطي الإفراد حق الدفع بعدم الدستورية في مواجهة كل القوانين وانما في مواجهة تلك القوانين التي تمس الحقوق الأساسية التي يتضمنها الدستور وإعلان حقوق الإنسان والمواطن ( إعلان 1789 ) وكذلك المبادئ الأساسية التي قررتها قوانين الجمهورية ، وهي تلك التي تتعلق أساساً بالحريات العامة وبالموضوعات الدستورية ، وقد حاول البعض أن يوسع النطاق الخاضع للرقابة بإدخال القرارات الجمهورية واللوائح فيما يمكن أن يكون محلاً للطعن ، ولكن ذلك الاقتراح لم يقبل ، وكان المشرع يستهدف أيضاً مزيداً من الصفة القضائية للمجلس الدستوري وإن كان هناك من رأي انه يجب أن ينتخب حراس الدستور le gardiens la constitution عن طريق الانتخاب العام المباشر !! .
ولكن في النهاية لم يكتب لهذا المشروع أن يري النور وتغلبت الحجج التقليدية الفرنسية علي هذا الاتجاه الجديد ، وقيل أن هذا التعديل سيخل بالتوزان بين السلطات وسيقيم في فرنسا ” حكومة قضاة ” ولن يكون القانون بعد ذلك تعبيراً عن إرادة الأمة لا تجوز مناقشة دستوريته بعد صدوره .
وإن كنا نعتقد أن الأمر لن يتوقف عند هذا الذي حدث وان عجلة التطور ومبدأ سيادة القانون سيدفعان الأمور دفعاً نحو صورة اكثر فعالية من صور الرقابة علي دستورية القوانين في فرنسا .

كيفية انعقاد اختصاص المجلس : 

تنص الفقرة الثانية من المادة (61) من الدستور علي انه ” . . يمكن أن تعرض القوانين قبل إصدارها علي المجلس الدستوري من قبل رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ أو من قبل ستين عضواً من أعضاء الجمعية الوطنية أو من أعضاء مجلس الشيوخ . . ” .

رئيس الجمهورية : 

يلاحظ أن رؤساء الجمهورية لم يستعملوا هذه الرخصة بأنفسهم واثروا أن يتركوا لغيرهم استعمالها .
ولكن ذلك لم يمنع بحكم الوجوب الدستوري أن يرجع رئيس الجمهورية للمجلس قبل إعلان العمل بالمادة (16) من الدستور ( حالة الضرورة ) .
كذلك لم يمنع ذلك أيضاً من ضرورة الرجوع إلى المجلس بخصوص الاستفتاء علي بعض القوانين .

الوزير الأول : 

وعلي عكس الحال بالنسبة لرئيس الجمهورية فان الوزير الأول لجأ إلى هذه المكاشفة في العديد من الأحوال وذلك بواسطة طلب يتقدم به إلى رئيس المجلس لكي يقرر المجلس ما إذا كان قانوناً أو نصاً في قانون – قبل الإصدار بطبيعة الحال – يتفق مع الدستور أو لا يتفق .

رئيس الجمعية الوطنية : 

لجأ رئيس الجمعية الوطنية إلى المجلس الدستوري لمعرفة رأيه عن حق طرح الثقة بالحكومة أما الجمعية الوطنية أثناء العمل بالمادة ( 16 ) من الدستور ( حالة الضرورة ) .
كما لجأ إلى المجلس الدستوري في عدد من الحالات الأخرى حول دستورية بعض النصوص المطروحة للمناقشة أمام الجمعية .

رئيس مجلس الشيوخ : 

رغم اتجاه مجلس الشيوخ لمعارضة أي صورة من صور الرقابة علي دستورية القوانين . . فان الرؤساء المتعاقبين لجأوا إلى المجلس . . فان رؤساء مجلس الشيوخ لجأوا إلى المجلس الدستوري في العديد من الحالات المتعلقة بحرية تكوين الجمعيات ( حكم المجلس في 27 ديسمبر 1973 ) وفي بعض التشريعات الضريبية أيضا ، وفي بعض التشريعات المتعلقة بالمحليات ( حكم المجلس في 2 ديسمبر 1982 ) .

ستون عضواً من أي من المجلسين : 

تقرر هذا الحق للأعضاء – ولم يكن موجوداً من قبل – في 29 أكتوبر 1974 إذ اصبح لستين عضواً مجتمعين من أي من المجلسين حق التقدم للمجلس الدستوري بطلب للنظر في دستوري أو عدم دستورية نص في قانون لم يصدر بعد .
والملاحظ أن الطلبات التي قدمت من أعضاء البرلمان لمجلسيه هي النسبة التالية من الطلبات التي عرضت علي المجلس الدستوري ، حتى سنة 1994 كان النواب قد تقدموا بـ ( 284 ) ” مائتين وأربعة وثمانين طلب ” بعدم دستورية قانون أو نص في قانون .
وقد صدر 199 حكم في هذه الطلبات وقضي في 92 منها بعدم الدستورية .

الخلاف حول طبيعة المجلس الدستوري : 

جري خلاف بين الفقه حول طبيعة المجلس الدستوري ، وهل هو هيئة سياسية أم هيئة قضائية .
أما الذين قالوا انه هيئة سياسية . . فقد نظروا إلى طريقة تكوينه التي أشرنا إليها والتي تختلف اختلافا جذرياً مع كيفية تكوين المحاكم القضائية .
أما الذين قالوا أن المجلس يعتبر هيئة قضائية . . فقد نظروا إلى طيبعة اختصاصه وانه يفصل في مسائل قانونية بحتة وعلي اعلي مستوي كذلك فان المجلس منذ إنشائه وحتى الآن يصيغ قراراته علي هيئة الأحكام القضائية من حيث مناقشة الوقائع ومن حيث التسبيب وكتابة الحيثيات .

كذلك فان قرارات المجلس لها حجية في مواجهة سلطات الدولة وفي مواجهة الجهات الإدارية والقضائية ، وقرارات المجلس غير قابلة للطعن بأي طريق من طرق الطعن .
ويجري نص المادة (62) فقرة ثانية علي النحو التالي :
[ les decisions de conseil constitutionnel ne sont susceptibles daucun recours. Elles simposent aix pouvoirs publics et a toutes led antorites administraties et juridictionnelles. ]
والمجلس نفسه يشير في قراراته إلى بعض قراراته السابقة مؤكداً ما لها من حجية وإلزام ، وهكذا يمكن أن يقال إن المجلس الدستوري في فرنسا هو هيئة سياسية من حيث تكوينه وهو هيئة قضائية من حيث كونه يفصل في منازعات قانونية .

تقدير الرقابة علي الدستورية في فرنسا : 

رغم كل محاولات المجلس الدستوري لتوسعة اختصاصاته عن طريق التفسير وعن طريق ما اخذ به من فكرة الخطأ الواضح في التقدير errens manifeats lapreciation – وهي فكر ابتدعها في الأصل مجلس الدولة – ونقلها المجلس الدستوري إلى مجال التشريع برغم كل ذلك فان الرقابة علي دستورية القوانين في فرنسا تظل قاصرة ومتخلفة عما هو سائد في الولايات المتحدة وفي كثير من البلاد الأوروبية . . فالمجلس لا يجوز له أن يتصدى من تلقاء نفسه لموضوع الدستورية كذلك فان المحاكم لا يجوز لها أن تحيل إليه ما قد تري انه مخالف للدستور من نصوص تشريعية لان النص التشريعي متي صدر ووقع عليه رئيس الجمهورية ونشر في الجريدة الرسمية فقد استغلق أمامه باب الطعن بعدم دستوريته ومن ناحية أخرى هامة أيضاً فان الإفراد الذين قد تمس التشريعات الصادرة حرياتهم وحقوقهم الأساسية ليس لهم الحق بالدفع بعدم دستورية هذه القوانين .
كل هذه الاعتبارات تنتقص من مدي فاعلية هذه الرقابة التي يباشرها المجلس الدستوري في مواجهة ” مشروعات ” القوانين والتي لا ينعقد اختصاصه بها إلا بطلب من رئيس الجمهورية