الهيبة المطلوبة للمجلس القضائي

حرصت الشريعة الإسلامية على إحاطة المجلس القضائي بهيبة كبيرة لتكون ضمانة لردع الظالم وشعور المظلوم بالنصفة حين يرى هذه الهيبة للقضاء التي تقنعه بوجود الضمانات المانعة للتدخل من أصحاب النفوذ أيا كانوا, وتوجد في نفوس الناس الارتياح العام إلى عدالة القضاء وقدرته على تحقيق الحقوق لأهلها, وفي الحقيقة ليست هذه الهيبة هي العنصر الوحيد في هذه المنظومة, أعني: منظومة ضمانات حفظ الحقوق إلا أنها بالتأكيد داعم وضامن لتحقيقها, حيث إنها إضافة لما سبق تكفل الكثير من السلطة للقاضي, والشعور بالتفرد الكامل في النظر في القضية استنادا إلى البينات المعروضة أمامه, وهذا يقطع أمل القوي في حيف القاضي, وهو أحد جانبي العدالة التي هي من أهم الواجبات في هذا المجلس, والجانب الثاني لها هو ألا تؤدي هذه الهيبة إلى منع الطرفين من إبداء حججهما و دفوعهما براحة واطمئنان وألا تنقلب لتكون أداة في إسكاتهما وبث الخوف والرعب في قلوبهما, بل يكتفى فيها بما يحقق الهيبة الحافظة للحقوق والمانعة من طمع من في قلبه طمع, وما أحسن ما قرره الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب لأبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – في رسالته المشهورة له حين قال: “… آس بين الناس بوجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”, ولا بد أن نلحظ أن عمر لم يقل له لا تظلم واعدل وأعط الناس حقوقهم لأنه لو قال ذلك لما كان لهذه الرسالة كل هذا الحضور في كتب الفقه والكتب المعنية بآداب القاضي والأحكام السلطانية, لكون ذلك لا يشتمل على الكثير من الجديد فلا يعدو أن يكون توجيها من حاكم إلى أحد قضاته بالعدالة, إلا أن الجديد الذي تضمنته هذه الكلمات من المحدث عمر هو: تقريره أن العدالة في مجلس القضاء ليست فقط في المساواة الظاهرة بين الخصوم في جلوسهم والحديث معهم وتمكينهم من الكلام والدفاع, بل لا بد أن تصل إلى مرحلة ألا يطمع الشريف في ظلمه, وهذه تتطلب الكثير من فرض الهيبة لإيصال الرسالة إلى هذا الشريف – القوي –, ومن دخل المحاكم قاضيا أو متقاضيا عرف دلالات هذا التعبير, ولم تكتف الرسالة بذلك بل طلبت منه ألا ييأس الضعيف في عدله, فقد لا يصدر من القاضي صراحة ما يوجد هذا الشعور في نفس الضعيف إلا أن الفقه الإسلامي – ممثلا برسالة عمر, وهي أصل في هذا الباب – لم يكتف بذلك بل طلب من القاضي السعي والحرص على ألا يوجد حتى الشعور في نفس الضعيف باليأس من العدل, وهذا غاية في تحقيق العدالة بين الخصوم.

هذا في الجانب النظري للموضوع, وفي الجانب التطبيقي فقد قرر الفقه الحق للقاضي بحفظ مجلس القضاء بما يحقق هذه الهيبة, بتأديب من يخل بنظامه والحق بجلب الخصوم المماطلين, وأخذ بهذا نظام المرافعات الشرعية حيث نصت المادة 69 على أن “ضبط الجلسة وإدارتها منوطان برئيسها، ولــه في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل كان للمحكمة أن تحكم على الفور بحبسه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة، ويكون حكمها نهائيا، وللمحكمة أن ترجع عن ذلك الحكم”.

ومن التطبيقات لهذا الجانب أيضا: منع التمايز بالملبس بين الخصوم ما أمكن, مثل منع اللبس العسكري, ولبس “البشت”, وكل ما قد يوجد أثر تقليل الهيبة في نفوس الخصوم, بشقيها طمع القوي بالحيف ويأس الضعيف من العدل, وهو أمر تقديري للقاضي، أما ما فيه أنظمة حاكمة فيصار إليها وإن لم يكن هناك أنظمة فيرجع تقديره إلى نظر القاضي بمدى كون ذلك واجبا عليه في تحقيق العدالة التي وظف لأجلها, ومن التطبيقات: منع التمايز في الألقاب: فيلزم أن يسمي الناس بأسمائهم ولا يلقب شخصا أو يكنيه بما يدل على الزيادة في تقديره عن خصمه, وهذه تفرض منع القاضي – أيضا – من مخاطبة الخصوم بالألقاب المكتسبة مثل: صاحب السمو, وسمو الأمير والدكتور والشيخ والأستاذ ونحوها, والتي لها وقعها في نفس الطرف الآخر, وقد توجد في نفسه الشك في العدالة.

من خصوصيات مجلس القضاء المحققة للعدالة: عدم إنزال الناس منازلهم فيه , بل إنزالهم المنازل المحققة للعدالة, .. خاصم يهودي عليا بن أبي طالب رضي الله عنه فحضر إلى مجلس القضاء فقال عمر لعلي: قف يا أبا الحسن (أي بجوار خصمك) فغضب علي فقال عمر: أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء فقال: لا, ولكني كرهت منك أن عظمتني في الخطاب وناديتني بكنيتي.