حدود تأثر الاختصاص القضائي الدولي بضابط الخضوع الاختياري

سعيد شكوح : باحث في سلك ماستر العلاقات الدولية الخاصة

كلية الحقوق السويسي – الرباط

مقدمـــــة:

تتضمن قوانين كل دولة وخصوصا قوانين الإجراءات نصوصا تتحدد اختصاص محاكمها على الصعيد المحلي الداخلي عندما يكون أطراف الخصومة وطنيين. كما أنها تتضمن كذلك نصوصا لتحديد اختصاص محاكمها عندما يتضمن النزاع عنصرا أجنبيا، حيث تعمد الدول إلى وضع قواعد تدعى قواعد الاختصاص القضائي الدولي، وهي تلك القواعد التي تحدد ولاية محاكمها في المنازعات التي تتضمن عنصرا أجنبيا إزاء غيرها عن محاكم الدول الأخرى، وذلك بناء على ضوابط مختلفة.

ومن بين هذه الضوابط، ضابط الاختصاص القضائي الدولي المبني على الخضوع الاتفاقي المنبثق من مبدأ سلطان الإرادة،والذي يمكن تعريفه بأنه “اتفاق الأطراف على قبول ولاية قضاء دولة معينة ولو لم تكن محاكمها مختصة أصلا للنظر في النزاع، على اعتبار أن الأصل هو قيام الأطراف المتعاقدة بالاتفاق على اختيار القضاء الذي يحكم نزاعهم والذي تتجه إرادتهم الصريحة أو الضمنية إلى اختياره”.

وبمعنى آخر فإن تحقق إرادة الأطراف في مجال الاختصاص القضائي الدولي يكون عن طريق الاتفاق بين الخصوم للخضوع إلى ولاية قضاء دولة ما بشكل صريح يحدد في العقد الأصلي موضوع النزاع،أو في عقد مستقل،كما يمكن أن يتحقق بشكل ضمني عندما يقيم شخص دعوى أمام محكمة معينة،ويحضر المدعى عليه أمامها دون أن يدفع الأخير بعدم الاختصاص قبل النظر في موضوع الدعوى[1].

ولقد أخذ مبدأ الخضوع الاتفاقي من القواعد العامة في الاختصاص الداخلي منذ القدم،كما يعتبر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون أول من قال به، وذلك حينما قرر “أن أكثر المحاكم اختصاصا بنظر الدعوى هي المحكمة التي ارتضى الخصوم الخضوع لحكمها”[2]،وهو الآن مبدأ مستقر عليه في القانون الدولي الخاص،حيث أخذت به العديد من التشريعات،وأحكام القضاء، كما أن المعاهدات الدولية المتعلقة بالتعاون القضائي تقره.

وتكمن الأهمية العلمية لهذا الموضوع في ملامسة حدود تأثر الاختصاص القضائي الدولي حينما يعمد أطراف الخصومة إلى إعمال إرادتهم لاختيار المحكمة التي تنظر في منازعتهم، وانطلاقا من هذه الأهمية يمكن بسط الإشكالية التالية: ما مدى تأثر الاختصاص القضائي الدولي بقانون الإرادة؟

سيتم الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال اعتماد مبحثين: نعنون الأول بإعمال إرادة الأطراف في تحديد الاختصاص القضائي الدولي، والثاني بالآثار المترتبة عن إسناد الاختصاص بناء على إرادة الأطراف.

المبحث الأول: إعمال إرادة الأطراف في تحديد الإختصاص القضائي الدولي.

لمناقشة هذا المبحث لابد من تقسيمه إلى مطلبين نخصص أولهما للتعبير عن الإرادة في اختيار المحكمة التي تحكم النزاع وثانيهما للشروط الواجب توفرها في الاتفاق المانح للاختصاص القضائي الدولي.

المطلب الأول: طرق التعبير عن الإرادة لاختيار المحكمة التي تنظر في النزاع.

تختلف طرق التعبير عن الإرادة بين إرادة صريحة يصرح بها الأطراف في العقد، وإرادة ضمنية يستنبطها القاضي، إذن فماذا يقصد بكل منها؟

الإرادة الصريحة:
يقصد بالاختيار الصريح إذا كان المظهر الذي اتخذه الشخص كلاما أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك، مظهرا موضوعا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس، وبالتالي فالإرادة الصريحة تحقق بإحدى صور ثلاث وهي: الكلام أو الكتابة أو الإشارة[3].

أما التعبير الصريح في مجال الاختصاص القضائي الدولي لاختيار الخصوم للمحكمة التي تنظر نزاعهم، حال نشوبه فيقصد به الإرادة الحقيقية والمعلق عنها صراحة، كما لو نص المتعاقدون صراحة في الاتفاق المبرم بينهم على اختصاص قضاء دولة معينة بالنظر في المنازعات التي قد تنشأ عن تنفيذ العقد[4].

ويعتبر تحديد الجهة القضائية المختصة، في العقد التجاري الدولي أحد المظاهر الأساسية لإنجاح العلاقات التجارية ذات الطابع الدولي، لأنها تعطي الأمان للمتعاقدين الدوليين، بالإضافة إلى كونها تؤمن الحل في حال وجود نزاع، كما أن عرض النزاع أمام الجهة القضائية التي اختارت أطراف العقد بإرادتها اختيارا صريحا، يعد دليلا لا يدع مجالا للشك أنه يخدم مصالحهما[5].

الإرادة الضمنية:
تعرف الإرادة الضمنية بأنها المظهر الذي اتخذ ليس في ذاته موضوعا للكشف عن الإرادة ولكنه مع ذلك لا يمكن تفسيره دون وجود هذه الإرادة.

والإرادة الضمنية في مجال الاختصاص القضائي الدولي تتحقق حينما يكون خضوع الخصوم لولاية قضاء الدولة ضمنيا، ويحدث ذلك عندما يعين الخصوم موطنا مختارا لهم في دولة معينة، أو حينما يترافع الخصم في دعوى مرفوعة ضده دون أن يدفع بعدم اختصاص المحكمة[6].

فلجوء المدعي إلى محاكم دولة غير مختصة بنظر النزاع في هذه الحالة يفيد خضوعه الاختياري لقضائها، وسكوت المدعي عليه عن الدفع بعدم الاختصاص دلالة على قبوله الضمني لولاية محاكم هذه الدولة، بل ويمكن للمدعى بدون اتفاق صريح أن يرفع دعواه أمام محكمة غير مختصة محليا، ويعد ذلك تنازلا منه عن الدفع بعدم الاختصاص، ويكون للمحكمة بناء على ذلك أن تنظر في الدعوى ما لم يتمسك المدعى عليه بعدم اختصاصها قبل البت في الموضوع، أما لو ترافع هذا الأخير في موضوع الدعوى فيعد ذلك تنازلا منه عن الدفع بعدم الاختصاص[7].

المطلب الثاني: شروط صحة الاتفاق المانح للاختصاص.

بالرجوع إلى القانون المغربي نجده لم يتطرق لمسألة الاتفاق المانح للاختصاص في المجال الدولي، ولم يتعرض بالأحرى لشرط صحته، وهذا لا يقتصر عليه فقط بل حتى التشريعات التي تعرضت له لم تشر إلى هذه الشروط وهو الأمر الذي تولد عنه جدال واسع بين الفقه المقارن، ومع ذلك يمكن حصر شروط صحة الاتفاق المانح للاختصاص في شرطين هما:

الشرط الأول: ضرورة اتصاف النزاع محل الاتفاق المانح للاختصاص بالصفة الدولية.
يشترط في النزاع محل الاتفاق المانح للاختصاص أن يتسم بالصفة الدولية، بمعنى آخر يجب أن يحتوي على عنصر أجنبي يجعله يخرج من دائرة النزاعات الداخلية الوطنية البحتة التي من غير المقبول أن ترفع أمام محاكم دولة أجنبية؛ فمثلا إذا تعلق الأمر بشخصين من جنسية مغربية أبرما عقدا بالمغرب واتفقا على تنفيذه فيه، ثم أسندا الاختصاص للنظر في النزاع الذي قد ينشأ بينهما بخصوص هذا العقد إلى المحاكم الفرنسية، فإن هذا غير منطقي، لأنه من الأمور ظاهرة التناقض، أن يسمح لإرادة الأطراف بأن تعطي الاختصاص لمحاكم دولة أجنبية بصدد العلاقات الوطنية الصرفة[8].

ومع ذلك فإن هناك بعض الفقهاء وعلى رأسهم الأستاذة الفرنسية Helene Gaudement – Tallon قالوا بجواز إسناد الاختصاص في نزاع داخلي إلى محاكم دولة أجنبية مستندين على مجموعة من الحجج منها: أن بعض المعاهدات[9] لم تتطلب ضرورة تواجد عنصر دولي من أجل القول بصحة شرط التحكيم أو شرط الإسناد الاتفاقي، كما أن بعض الفقهاء عند تحليلهم للتشريع الألماني والفرنسي لم يضعوا هذا الشرط لصحة الإسناد ومنهم الأستاذ Riezler بالنسبة للتشريع الأول والفقيه Batiffal بالنسبة للتشريع الثاني، ناهيك عن وجود صعوبة في تحديد الصفة الدولية للنزاع محل الاتفاق المانح للاختصاص لغياب معيار مقبول ومتفق عليه[10].

إلا أن هذا الرأي قد وجهت إليه انتقادات واسعة ومن بين الذين انتقدوا هذا التوجه نجد الدكتورة حفيظة السيد الحداد التي عقبت على هذا الرأي المعارض لدولية النزاع بما يلي:

إن القول بأن المعاهدات الدولية وعلى وجه الخصوص معاهدة نيويورك لسنة 1958 لا تشترط أن يكون النزاع محل التحكيم متصفا بالصفة الدولية من أجل شرط التحكيم، خو لقول مردود عليه ، إذ أنه من الأمور التي لا تقبل أي شك أن اتفاقية نيويورك لسنة 1958 لا تطبق على تنفيذ أية أحكام المحكمين الأجنبية، كما أن هناك شبه إجماع بين الفقه في إطار القانون الدولي الخاص على أن المادة الثانية من اتفاق نيويورك، تعالج اتفاق التحكيم المتصل بنزاع ذات طابع دولي، كما أن معاهدة لاهاي لسنة 1965 والخاصة بالاتفاقات المانحة للاختصاص، تنص بصريح العبارة في المادة الثانية منها، على أنها تطبق على الاتفاقات المانحة للاختصاص المبرمة في إطار العلاقات الدولية بصدد أمر من الأمور المدنية أو التجارية[11].

أما اعتماد الأستاذة Helene في رأيها على تفسيرات بعض الفقهاء فهو غير مقنع، ذلك أن عدم ذكر هؤلاء لضرورة اشتراط الصفة الدولية في النزاع محل الاتفاق من أجل صحته، فإن هذا دليل على أن هذا الشرط يعد أمرا مسلما به ولا يحتاج إلى ذكر[12].

والقول بصعوبة إيجاد معيار يتم على أساسه معرفة ما إذا كان النزاع محل الاتفاق يتسم بالطبيعة الدولية أمر مردود عليه، بحيث يمكن تحديده من خلال معيار موضوعي منضبط، إذ يمكن اعتبار أن نزاعا ما متصفا بالصفة الدولية في جميع الأحوال التي تكون فيها العلاقة القانونية التي بصددها النزاع متصلة بأحد عناصرها، أيا كان هذا العنصر سواء كان جنسية الأطراف أو موطن أحدهم أو مكان إبرامأو تنفيذ التصرف القانوني أو مكان حدوث العمل، أو مكان وجود المال المتنازع عليه من قبل أكثر من دولة[13].

الشرط الثاني: ضرورة وجود رابطة جدية بين النزاع ودولة المحكمة المختارة.

يتجه جانب من الفقهاء المعاصرين إلى اشتراط وجود رابطة جدية بين النزاع ومحكمة الدولة التي اتفق الخصوم على إسناد الاختصاص لها، وهذه الرابطة تستند إلى عنصرين : أحدهما شخصي كجنسية الأطراف أو موطنهم، كما لو كان أحد أطراف النزاع يستوطن في دولة المحكمة المختارة، وثانيهما موضوعي مستمد من العلاقة القانونية محل النزاع كأن يتصل أحد عناصر تلك العلاقة (كمحل تنفيذ العقد مثلا) بالدولة التي تتبعها المحكمة المختارة

وقد أخذت العديد من التشريعات بهذا الشرط، ومنها القضاء الإنجليزي حيث أتاح للقاضي في حال عدم وجود الرابطة الجدية، أن يتخلى عن نظر الدعوى عملا بنظرية المحكمة غير الملائمة وبالتالي يحيل الخصوم إلى المحكمة المختصة والتي يرتبط بها النزاع برابطة جدية[14].

ويعزى حق القاضي في الدفع بعدم اختصاصه رغم خضوع الخصوم الاختياري لولاية محاكم دولته، إلى مبدأ نفاذ الأحكام وفعاليتها في المجال الدولي، إذ لا يصح أن يكون في تنازل الخصوم عن الدفع بعدم الاختصاص وقبولهم ولاية القضاء الوطني، ما يجبر هذا القضاء على النظر في نزاع لا يرتبط بالإقليم على أي وجه من الوجوه وبالتالي لا تضمن الدولة التكفل بآثار الحكم الصادر فيشأنه[15].

كما أن اشتراط رابطة الجدية يساعد على إغلاق باب التحايل والغش نحو الاختصاص أمام الأفراد، فقد يلجأ هؤلاء إلى محاكم الدولة التي يعلمون مسبقا أنها ستحكم على النحو الذي يتفق ومصالحهم في مسألة تتعلق بالأحوال الشخصية مثلا،ولعل هذا الاعتبار هو الذي دفع بالفقه الفرنسي إلى رفض فكرة الخضوع الاختياري فيمواد الأحوال الشخصية مقررا أن المحكمة تقضي في هذه الحالة بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها، و هو ما استقر عليه القضاء الغالب في كل من إيطاليا و إنجلترا[16].

ومع ذلك ذهب جانب آخر من الفقه إلى المطالبة بالاستعاضة عن فكرة الرابطة الجدية بفكرة أخرى أكثر اتساعا يتحقق معها الهدف المتوخى من وراء هذا الضابط، وهي فكرة المصلحة المشروعة للخصوم التي تتلخص حسبهم في أن احترام إرادة الأطراف المعترف بها كأساس لإسناد الاختصاص القضائي الدولي توجب أن يترك للأفراد الحرية في اختيار المحكمة التي يرونها من وجهة نظرهم الشخصية محققة لمصالحهم أكثر من غيرها من المحاكم، ومتى تطلبنا أن تكون المصلحة مشروعة فلا خشية عندئذ من أن يكون هناك غش نحو الاختصاص إذ عندها سينتفي الضابط لعدم مشروعية المصلحة[17].

المبحث الثاني:اﻵثار المترتبة عن إسناد الاختصاص بناء على إرادة الأطراف

سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين: نخصص اﻷول للآثار المترتبة نتيجة جلب ونزع الاختصاص، والثاني للآثار المترتبة على مستوى القانون الواجب التطبيق.

المطلب اﻷول: جلب ونزع الاختصاص

إناﻹتفاق المانح الاختصاص القضائي الدولي يرتب أثرين:أحدهما جالب للاختصاص، والآخر سالب له.

الأثر الجالب للاختصاص:
يقصد بالأثر الجالب بأنه سلب الاختصاص من محكمة كانت مختصة أصلا للنظر في النزاع وإعطائه لأخرى لم تكن مختصة، فيؤثر بذلك على قواعد الاختصاص التي تتمتع كل دولة بشأن صياغتها بسيادة مطلقة. ولما كان الأمر كذلك فإن المحكمة التي جلب إليها الاختصاص أو تلك التي سلب منها هي وحدها القادرة على الفصل في مسألة الأثر الذي يرتبه هذا الاتفاق ويتحدد ذلك وفق قانون المحكمة المطروح أمامها النزاع وحده[18] على اعتبار أن القاضي المرفوع أمام أنظاره النزاع لا يعنيه من أمر الاتفاق إلا أثره على تعديل اختصاصه، وهي مسألة يرجع فيها لأحكام قانونه على أساس أن قواعد الاختصاص الدولي مفردة الجانب[19]، وهو ما ذهبت إليه المحكمة الفيدرالية الألمانية في إحدى قراراتها الصادرة سنة1972 حيث أخضعت الاتفاق المسند للاختصاص من حيث أثاره وقبوله لقانون القاضي بينما أخضعت صحته الموضوعية كعقد للقانون الذي أشارت له قواعد الاستناد[20].

الأثر السالب للاختصاص:
إن العديد من التشريعات الأوربية نصت في قوانينها على قبول الاتفاقات التي تسلب الاختصاص من المحاكم الوطنية وتسنده إلى محاكم دولة أجنبية مثل إيطاليا التي أصبح قانونها الجديد ينص في المادة الرابعة منه[21]على حرية الخروج عن اختصاص المحاكم الايطالية لفائدة قاضي أو محكم أجنبي.

أما بالنسبة لفرنسا فإن الاجتهاد القضائي في السنين الأخيرة جرى على قبول الإسناد الاتفاقي للاختصاص لمحاكم دولة أجنبية حتى في مسائل اعتبرها المشرع تخرج عن دائرة الاتفاق في المجال الداخلي، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر بتاريخ 08 يوليوز 1985[22] إذ جاء فيه أنه “بمجرد كون عقد الشغل يكتسي طابع دولي، يترتب على ذلك أن الأطراف بإمكانهم الخروج عن مقتضيات المادة 517 فقرة 1 من مدونة الشغل”.

أما فيما يخص موقف بعض التشريعات العربية من مسألة سلب الاختصاص فنجد مثلا التشريع المصري ينص في المادة 32[23]، من قانون المرافعات المدنية والتجارية على أنه”تختص المحاكم المصرية بالفصل في الدعاوى ولو لم تكن داخلة في اختصاصها إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمنا”وهنا يثور التساؤل الآتي: هل هذه الإرادة القادرة على جلب الاختصاص المصري في حدود ولايته تستطيع أن تسلب منه الاختصاص في فروض أخرى تكون فيه المنازعة مما يدخل في ولايتها، ولكن يتفق الأطراف على منح الاختصاص فيه لمحكمة أجنبية؟ لقد انقسم الفقه المصري في الإجابة عن هذا التساؤل إلى فريقين:

الاتجاه الأول: يرى بأن قواعد الاختصاص القضائي الدولي برمتها من النظام العام و من ثم لا يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتهما و الخروج على حكمها ذلك لأن المشرع إذ يحدد اختصاص المحاكم الوطنية فهو يرسم بذلك حدود ولاية هذه المحاكم بالنظر في المنازعات التي تثور على إقليمه. و ترتبط قواعد الاختصاص الدولي من هذه الوجهة بوظيفة أساسية من وظائف الدولة وهي أداء العدالة في الإقليم حفاظا على الأمن والسكينة وهي اعتبارات تمس بالضرورة فكرة النظام العام[24].

الاتجاه الثاني: يرى بأن قواعد الاختصاص القضائي الدولي من النظام العام وبالتالي يلزم في حقيقة الأمر رفض كل دور للإرادة الفردية في مجال تقرير هذا الاختصاص جلبا له أو سلبا إياه[25]، أما الاعتراف للإدارة بدور جالب للاختصاص فقط، فإن ذلك أمر يحمل بين جنباته نزعة وطنية أنانية هدفها توسيع حالات الاختصاص للمحاكم الوطنية وهي نزعة لا تتلاءم مع طبيعة القانون بوصفه القانون الذي يحكم العلاقات الدولية الخاصة، كما أنها لا تتلاءم وحاجة التجارة الدولية في الوقت الحالي بصفة خاصة بعد انتشار التحكيم التجاري الدولي واتساع الدور الذي يلعبه في هذا المجال[26]وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يتخذ أي موقف من مسألة جلب أو سلب الاختصاص خلافا لبعض التشريعات التي جسدت موقفها في نصوص قانونية صريحة كإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية و مصر.

المطلب الثاني:الآثار المترتبة على مستوى القانون الواجب التطبيق

تثير الدعاوى ذات العنصر الأجنبي التي ينبني الاختصاص فيها على ضابط الإسناد الاتفاقي للاختصاص مشكلة في غاية الأهمية تتمثل فيما هو القانون الواجب التطبيق على هذا الاتفاق المانح للاختصاص؟ للإجابة عن هذه الإشكالية انقسم الفقهاء إلى اتجاهين:

الاتجاه الأول:يرى أن تحديد القانون الواجب التطبيق يكون بتحديد طبيعة الاتفاق الذي تم من خلاله إسناد الاختصاص.وبناء على ذلك ذهب هذا الاتجاه هن الفقه إلى القول بالطبيعة الإجرائية للاتصال المانح للاختصاص بوصفه اتفاق يهدف إلى ترتيب أثر معين هو جلب للاختصاص إلى المحكمة التي طرح النزاع أمامها وتلك مسألة متعلقة بالإجراءات لأنها تتصل للاختصاص لأكثر من اتصالها بفكرة العقد وبذلك تخضع لقواعد الاختصاص المقررة في قانون القاضي،بينما ذهب جانب آخر من الفقه إلى القول بالطبيعة العقدية للاتفاق المانح للاختصاص ومن ثم فهو يخضع للقانون الذي يحكم التزامات العقدية[27].

الاتجاه الثاني:يرى أن تحديد القانون الواجب التطبيق على الاتفاق المانح للاختصاص لا تستنبط من خلال التفرقة بين الطبيعة الإجرائية أو العقدية لهذا الشرط المانح للاختصاص، حيث أن هذا الأخير وإن كان يجد مصدره في اتحاد إرادتين أي في العقد إلا أن محله وأثره ينصب على سلب الاختصاص من محكمة وجلبه لمحكمة أخرى. وإدراك هذه الحقيقة المتمثلة في الطبيعة المزدوجة لهذا الاتفاق تؤدي إلى استحالة تطبيق قانون واحد عليه.

ومن ثم لا مفر من تطبيق قانونين أحدهما يفصل في مسألة صحة العقد والآخر يفصل في الآثار التي يرتبها هذا العقد فيخضع الاتفاق المانح للاختصاص بوصفه عقدا لقانون الإرادة في كافة المسائل المتعلقة بتكوين العقد والتي لا علاقة لها بأثر على الخضوع الاختياري ومن صحة الرضا ولا يشترط بالضرورة أن يكون هذا القانون هو الذي يحكم العقد الأصلي. ولكن إذا اتفق الأطراف في العقد الأصلي على اختيار قانون معين ليحكمه فإن هذا الأخير يحكم أيضا الاتفاق المانح للاختصاص، إلا إذا نص على خلاف ذلك.[28]

خاتمــــــة:

نخلص في الختام إلى أن ضابط الخضوع الاختياري المنبثق من مبدأ سلطان الإرادة يلعب دور جد هام في مجال الاختصاص القضائي الدولي، بحيث يمكن للخصوم الاتفاق على الخضوع لولاية محكمة دولة ولو لم تكن مختصة أصلا للنظر في النزاع، الأمر الذي دفع بالعديد من التشريعات المقارنة إلى الأخذ بهذا الضابط صراحة في قوانينها الإجرائية، ونذكر منها قانون المرافعات المصري الذي نص على ضابط الخضوع الاختياري في المادة 32 منه، وكذلك قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني في المادة 27 منه، كما أن هناك تشريعات أخرى تناولت فكرة الخضوع الاختياري على الصعيد الداخلي، وعملت على تمديدها على المستوى الدولي كما هو الحال بالنسبة لقانون المرافعات المدنية والتجارية الفرنسي، أما بالنسبة للمشرع المغربي فهو لم يتعرض في قانون المسطرة المدنية لقواعد الاختصاص القضائي الدولي في شكلها العام بالأحرى أن يتعرض لضابط الخضوع الاختياري، إلا أنه قد تدارك هذا الموقف في مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية حيث جاء في المادة 21 – 33 على “أنه تختص محاكم المملكة بالنظر في الدعاوى ولم لم تكن داخلة في اختصاصها متى قبل المدعى عليه ولايتها صراحة أو ضمنيا ما عدا الدعاوى المتعلقة بعقار يوجد في الخارج”.

لائــــــحــــة المراجـــــــــع:

مؤلفات قانونية:
أحمد قسمت الجداوي: مبادئ الاختصاص القضائي الدولي وتنفيذ الأحكام الأجنبية، دار النهضة العربية، طبعة 1999.
حفيظة السيد الحداد: القانون القضائي الخاص الدولي، بدون ذكر دار النشر والطبعة، جامعة محمد الخامس، أكدال.
حفيظة السيد الحداد: الموجز في القانون الدولي الخاص، منشورات الحلبي بيروت، طبعة 2002.
خالد هشام: القانون القضائي الخاص الدولي، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، طبعة 2001.
هشام علي صادق: تنازع الاختصاص القضائي الدولي، دار المعارف الإسكندرية دون ذكر الطبعة.
عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد الأول، مصادر الالتزام، دار النشر للجامعات المصرية، الطبعة الأولى 1952.
عكاشة عبد العال، الإجراءات المدينة والتجارية، دون ذكر دار النشر، طبعة 1985.
رسائل جامعية:
الحسن لحلو لمولوخي: القانون الدولي الخاص المغربي والمسطرة المدنية، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق سويسي – الرباط، السنة الجامعية 1997 – 1998.
محمد قط: “الخضوع الاختياري كضابط اختصاص قضائي جولي للمحاكم الوطنية” دبلوم لنيل شهادة الماستر في العلاقات الخاصة الدولية، جامعة قاصدي مرباح، كلية الحقوق والعلوم السياسية قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2014/2015.

نصوص القانونية:
مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية المغربي نسخة مؤقتة منشورة في الموقع الرسمي لوزارة العدل بتاريخ 12 يناير 2015.
قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري رقم: 13 الصادر سنة 1986.
الفهــــــرس

مقدمـــــة : 1

المبحثالأول: إعمال إرادة الأطراف في تحديد الإختصاص القضائي الدولي.. 2

المطلبالأول: طرق التعبير عن الإرادة لاختيار المحكمة التي تنظر في النزاع.. 2

المطلبالثاني: شروط صحة الاتفاق المانح للاختصاص.. 4

المبحثالثاني: اﻵثار المترتبة عن إسناد الاختصاص بناءعلى إرادة الأطراف.. 7

المطلباﻷول: جلب ونزع الاختصاص…. 7

المطلبالثاني: الآثار المترتبة على مستوى القانون الواجب التطبيق.. 9

خاتمــــــة:. 11

لائــــــحــــةالمراجـــــــــع:. 12

الفهــــــرس… 13

[1]– محمد قط: “الخضوع الاختياري كضابط اختصاص قضائي دولي للمحاكم الوطنية” دبلوم لنيل شهادة الماستر في العلاقات الخاصة الدولية، جامعة قاصدي مرباح، كلية الحقوق والعلوم السياسية قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2014/2015، ص: 12.

[2]– أحمد عبد الكريم سلامة: فقه المرافعات المدنية الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000، ص: 300.

[3]– عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد الأول، مصادر الالتزام، دار النشر للجامعات المصرية، الطبعة الأولى 1952، ص: 149.

[4]– هشام علي صادق، تنازع الاختصاص القضائي الدولي، دار المعارف الإسكندرية، دون ذكر الطبعة، ص: 54.

[5]– عبد الرزاق السنهوري، نفس المرجع ، ص: 151.

[6]– حفيظة السيد الحداد، الموجز في القانون الدولي الخاص، منشورات الحلبي، بيروت، الطبعة 2002، ص: 132.

[7]– حفيظة السيد الحداد، نفس المرجع، ص: 136.

[8]– الحسن لحلو الملوخي، القانون الدولي الخاص المغربي والمسطرة المدنية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس – السويسي – السنة الجامعية 1997 – 1998، ص: 82.

[9]– معاهدة نيويورك حول تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية لسنة 1958، ومعاهدة لاهاي المتعلقة بالاتفاقات المانحة للاختصاص الموقعة في نوفمبر سنة 1965.

[10]– الحسن لحلو لملوخي، نفس المرجع، ص: 83.

[11]– حفيظة السيد الحداد، القانون القضائي الخاص الدولي، بدون ذكر دار النشر والطبعة، جامعة محمد الخامس أكدال، ص: 112 – 113.

[12]– الحسن لحلو لملوخي، المرجع السابق، ص: 83.

[13]– حفيظة السيد الحداد، ، القانون القضائي الخاص الدولي نفس المرجع، ص: 114 – 115.

[14]– أحمد قسمت الجدواوي، مبادئ الاختصاص القضائي الدولي وتنفيذ الأحكام الأجنبية، دار النهضة العربية، طبعة 1999، ص: 201.

[15]– هشام علي صادق، المرجع السابق، ص: 164.

[16]– خالد هشام، القانون القضائي الخاص الدولي، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، طبعة 2001، ص: 156.

[17]– عكاشة محمد عبد العال، الإجراءات المدنية والتجارية الدولية، دون ذكر دار النشر، طبعة 1985، ص 79.

[18]– حفيظة السيد الحداد: الموجز في القانون القضائي الخاص الدولي، م.س، ص: 29.

[19]– الحسن لحلو لملوخي: م.س، ص: 92.

[20]– وارد عند حفيظة السيد الحداد نفس المرجع ص: 132.

[21]– وارد عند الحسن لحلو لملوخي، م.س، ص: 89.

[22]– قرار وارد عند الحسن لحلو لملوخي، ص: 89

[23]– قانون المرافقات المدنية والتجارية المصري.

[24]– وارد عند حفيظة السيد الحداد : الموجز في القانون القضائي الخاص الدولي، م.س، ص: 134.

[25]– أحمد قسمت الجداوي: مبادئ الاختصاص القضائي الدولي وتنفيذ الأحكام الأجنبية ،م.س، ص: 94.

[26]– عكاشة عبد العال: م.س، ص: 85.

[27]– Gabrille Kaufmen-Kohler la clause d’election de for dans les contrats internationaux, Basel und Frankfurt Am Main 1980. نقلا عن حفيظة السيد الحداد: القانون القضائي الخاص الدولي، مرجع سابق ص:130.

[28]– حفيظة السيد الحداد: القانون القضائي الخاص الدولي، مرجع سابق، ص: 131.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت