بحث يوضح هل من حق المشهود عليه معرفته بمن شهد؟

جمهور أهل العلم على أن من الحقوق المكفولة للمشهود ضده معرفته بالشهادة ومن شهد عليه ، وسواء كان المشهود ضده ممن يخشى ضرره أو لا .

ووجه اشتراط معرفته بمن شهد ضده : ليتمكن من جرح الشهود والتفتيش عن حالهم ( )، وجرحهم لا يمكن من غير معرفتهم .

قال الإمام مالك رحمه الله : ( ولا يشهد الشهود عند القاضي سراً وإن خافوا من المشهود عليه أن يقتلهم , إذ لا بد أن يُعَرَّفه القاضي بمن شهد عليه ويعذر إليه فيه ) ( ) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : ( وإذا شهد الشهود على الرجل بشهادة فعدلوا انبغى للقاضي أن يسميهم وما شهدوا به على المشهود عليه ويمكنه من جرحهم ، فإن جاء بجرحتهم قبلها ، وإن لم يأت بها أمضى عليه الحق ) ( ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( للمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق ) ( )

وخالف ابن بشير تلميذ مالك وتبعه بعض متأخري المالكية ، فقالوا : إن من يخشى منه ضرر على بينة شهدت عليه فلا إعذار إليه بل ولا تسمى له البينة ( ).
قال الدسوقي : (قول ابن بشير هذا خلاف المدونة ) ثم قال : ( وقد يجاب عن تضعيفهم قول ابن بشير بأنه وإن قال بعدم الإعذار لمن يخشى منه على البينة ؛ لكنه يقول : إنه يجب على القاضي أن لا يهمل حق المشهود عليه من التفتيش عن حال الشهود بالكلية بل يتنزل في السؤال عنهم منزلة المشهود عليه وحينئذ فالمقصود من الإعذار إليه حاصل بغيره مع الأمن على البينة ) ( )
وهذا الذي ذكره ابن بشير مع توجيه الدسوقي له يمكن أن يناقش فيقال:
لا يخلو الحال في عدم تسمية البينة من احتمالين :
الأول : أن يعلم القاضي البينة دون الخصم : وهذا فيه شبه قريب بقضاء القاضي بعلمه إن لم يكن من صوره . وسواء كان شبيهاً به أو من صوره فهو باب لتطرق الناس إلى اتهام القاضي والوقوع في عرضه ( ) .
الثاني : ألا يعلم القاضي والخصم البينة : وهذا من القضاء بلا برهان ، وقد مضى في المقدمة الأولى أنه لا قضاء إلا ببينة أو إقرار .
والذي سار عليه المنظم يوافق ما ذهب إليه الجمهور :
جاء في المادة التاسعة عشرة بعد المائة من نظام المرافعات : ( تسمع شهادة كل شاهد على انفراد بحضور الخصوم وبدون حضور باقي الشهود الذين لم تسمع شهادتهم على أن تخلفهم لا يمنع من سماعها ، وعلى الشاهد أن يذكر اسمه الكامل وسنه ومهنته ومحل إقامته وجهة اتصاله بالخصوم بالقرابة أو الاستخدام أو غيرها إن كان له اتصال بهم مع التحقق عن هويته ) .

ونظام الإجراءات الجزائية وإن كان أغفل النص التصريح باسم إلا أنه قرر في مادته 221 : (تطبق الأحكام الواردة في نظام المرافعات الشرعية فيما لم يرد له حكم في هذا النظام وفيما لا يتعارض مع طبيعة الدعاوي الجزائية )

ثم وقفنا بعدُ على نصٍّ في كتب الحنابلة يحتمل موافقته لمذهب ابن بشير المالكي ، قالوا : ( (ويحرم الاعتراض عليه) أي الحاكم (لتركه تسمية الشهود)) ( ) قال المرداوي : ( ذكره القاضي وغيره في مسألة المرسل ، وابن عقيل ، وقدمه في الفروع )( ) . ثم اعقبوا بعد كلامهم هذا النقل عن ابن تيمية بحكاية الاتفاق على أنَّ للمحكوم عليه مطالبة الحاكم تسمية البينة وهو النقل الذي أوردناه آنفاً .
وإنما قلنا يحتمل لأمور :
o أن الحنابلة نصوا على أن من حق المشهود عليه جرح الشهود ، بل ويمهل لذلك ، جاء في زاد المستقنع : ( وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه )( ) . وما جاء في الزاد أمر مقرر في عامة كتب المذهب . والجرح لا يتأتى إلا مع معرفة أعيان الشهود !
o أنهم نصوا أيضاً على أن من شروط الشهادة على الشهادة : تعيين شاهدي الأصل وتسميتهما ؛ وعللوا لذلك بحفظ حق المشهود عليه ، فربما أمكنه جرح الشهود وإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك . جاء في الكافي: (الشرط الثالث: أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم ، وأنسابهم، ولو قالوا: نشهد على شهادة عدلين، لم تقبل؛ لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير عدلين عند الحاكم، ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما )( ) . فإذا كان معرفة المشهود عليه أسماءَ الشهود مكفولة له في الشهادة على الشهادة ؛ لأجل الجرح ، فمن باب أولى تسميتهم من غير شهادة على شهادة.
o أنَّ هذا يخالف أصل القاضي أبي يعلى ، فإنه يذهب إلى أن الحاكم لا يحكم بإقرار الخصم في مجلس الحكم حتى يسمعه معه شاهدان ؛ دفعاً للتهمة( ) . فإذا كان هذا أصله في الإقرار الذي هو سيد الأدلة ، فمن باب أولى ألا يحكم بناءً على شهادة لا يعلم المشهود ضده من أدائها !

ولهذا فلعل مراد القاضي وابن عقيل هو حكم تسمية الشهود في كتاب القاضي إلى القاضي ، وهذه مسألة معروفة في كتب المذاهب الأخرى هل يسمى في كتاب القاضي الشهود أو لا ؟ ويؤيد هذا ما ذكره المرداوي من أن القاضي أبو يعلى ذكرها في مسألة المرسل !

إذا تقرر أنه من حق المشهود معرفته بالشهادة ومن شهد بها ، فهل :
يُكفل هذا الحق له شفاهاً – بأن يصرح بأسمائهم في مجلس الحكم مشافهة – لا تحريراً في الضبط والصك ؟ .
أو يُكتفى فيهما بترميز الأسماء ؟ .
أما الضبط فالظن أنه لا بد من ذكر أسمائهم صراحة ؛ لأنه في مأمن عن التداول وتناقل الأيدي له .
ولأنه قد يحتاج إلى مراجعة القضية بكل ملابساتها وتفاصيلها – بما في ذلك الشهود وشهاداتهم – ولا ضابط لها إلا الضبط .
وأما الصك فيمكن الإذن بترميز أسماء الشهود فيه خاصة ؛ لأنه مما تتناقله الأيدي غالباً ، والخصم كُفِلَ حقه بحضور الشاهد مجلس الحكم ومعرفته بعين من يشهد ضده واسمه .
ولكون المادة الرابعة والستين بعد المائة من نظام المرافعات لم توجب ذكر الأسماء في الصك, وإنما أوجبت ذكر نص الشهادة والتزكية لتعلق الحكم بها. ونصها 🙁 بعد الحكم تصدر المحكمة إعلاماً حاوياً لخلاصة الدعوى والجواب والدفوع الصحيحة وشهادة الشهود بلفظها وتزكيتها و تحليف الأيمان وأسماء القضاة الذين اشتركوا في الحكم واسم المحكمة التي نظرت الدعوى أمامها وأسباب الحكم ورقمه وتاريخه مع حذف الحشو والجمل المكررة التي لا تأثير لها في الحكم .).

ونورد هنا إتماماً للعقد كلام الفقهاء في حكم تدوين أسماء الشهود في المحاضر والسجلات :
عند الشافعية : المحضر : هو حكاية الحال لما جرى في الدعوى ( ) أو هو مُسَودَّات الشهود ( )
والسجل : هو حكاية المحضر مع زيادة إنفاذ الحكم به ( ) .
ومنهم من يرى أن السجل هو الذي يبقى عند القاضي ، وأما الذي يكتب في إنفاذ الحكم فيسمى الحُجَج ( ) .
ويرون أيضاً : أنه قد يطلق المحضر على السجل ، وقد يطلق السجل المحضر ( ).
وأما الحنابلة : فالمحضر : ما تضمن الحكم بإقرار أو نكول ( ). وهو شرح لثبوت الحق عنده لا الحكم بثبوته، وهو الصك ، سُمي بذلك لما فيه من حضور الخصمين والشهود ( ) .
والسجل : ما تضمن الحكم ببينة ( ) ، ويقولون : بأن السجل يُكتب لإنفاذ ما ثبت عند القاضي وحَكَم به ( ) .
ثم هم – الشافعية والحنابلة – يقولون : يُجعل من السجل نسختين ، نسخة يدفعها الحاكم لطالب الوثيقة ، والنسخة الأخرى يحبسها الحاكم عنده ؛ ليرجع إليها عند ضياع ما بيد الخصم أو الاختلاف ( ) .

أما تدوين أسماء الشهود فيهما ، فسأورد نصوصهم حسب المذاهب الفقهية :
فالحنفية : يشيرون إلى أن الكاتب يدون أسماء الشهود ، جاء في تحفة الفقهاء للسمرقندي : ( وفي عادة السلف أنَّ القاضي هو الذي يكتب خصومة كلا الخصمين على كاغد السؤال والسؤال والجواب ثم يكتب شهادة الشهود على حسب ما شهدوا بعد كتابة جواب الخصم ثم يطوي الكتاب ثم يختمه ثم يكتب على ظهره خصومة فلان وفلان في شهر كذا في سنة كذا ويضعه في قمطرة على حدة .
وفي زماننا العادة أن الكاتب هو الذي يكتب كتاب الدعوى ويترك موضع التاريخ ولا يكتب جواب الخصم ويكتب أسماء الشهود بعد ذلك ويترك فيما بين الخطين فرجة فإذا رفع الدعوى عند القاضي فيكتب التاريخ بنفسه ويكتب جواب الخصم على الوجه الذي تقرر ) ( ) .

والمالكية : يفرقون بين حكم صادر على حاضر وبين صادر على غائب .
فأما الحكم على غائب : فيوجبون فيه التصريح بأسماء الشهود ، قال ابن فرحون : (قال المازري: إذا لم يصرح القاضي بأسماء الشهود في الحكم على الغائب فالمشهور أن ذلك حكم لا ينفذ دون أن يعرف الغائب من يشهد عليه، ووقع في المذهب رواية أن ذلك ينفذ، ولكنها مطروحة عند القضاة المالكية ) ( )؛ وعللوا ذلك : بأن التسمية لإرجاء الحجة للغائب فيهم ، فلا يمكنه القدح فيهم من غير معرفة أسمائهم ( ) ، بل إن أشهب يقول : ( ينبغي للقاضي إذا سجل بين الخصمين أن يذكر في الكتاب أسماء الشهود فإن لم يفعل حتى أوقع الحكم فالأحب إلي أن يبدل الكتاب، فإن لم يفعل حتى عزل أو مات نفذ الحكم إلا على الغائب؛ لأنه إن قدم فقال – من الشاهد علي – فإن عندي تجريحه : فالقضية مردودة، والخصومة مؤتنفة، والبينة معادة ) ( ) .

وأما الحكم على حاضر ، فاختلفوا في تدوين أسمائهم على رأيين :
الأول : لا تدون أسماء الشهود ؛ لأن القاضي قد يحكم بهم وهم عدول ثم تحدث لهم جرحة، وقد عزل القاضي أو مات، فيدعي المقضي عليه أن القاضي قبل شهوداً غير عدول . وهذا مذهب سحنون ( ).
والثاني: تدون أسماء الشهود . وهذا مذهب أصبغ ، قال ابن فرحون : (وإلى قول أصبغ وتسمية الشهود ذهب من رأيته من فقيه وحاكم ، … وبه جرى العمل فهو في الحاضر مستحب وفي الغائب واجب لإرجاء الحجة له ) ( ).

أما الشافعية : فاعتصر الماوردي -رحمه الله- الخلاف فقال : ( فأما تسمية الشهود الذين حكم بشهادتهم في المحضر والسجل فقد ذكرنا اختلاف الناس في الأولى منه مع اتفاقهم على جواز الأمرين .
فرأى أكثر أهل العراق أن ترك تسميتهم أولى وهو أحوط للمشهود له. واختاره أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا.
ورأى أكثر أهل الحجاز أن تسميتهم فيه أولى وهو أحوط للمشهود عليه مما لعله يقدر عليه من جرحهم، واختاره أبو العباس بن سريج من أصحابنا.
ولو أن القاضي عدل عن كتب السجل إلى أن زاد في المحضر إنفاذ حكمه وإمضائه بعد إمهال المشهود عليه بما يدفع به الشهادة فلم يأت بها وعلم فيه وأشهد به على نفسه جاز ) ( ) .

أما الحنابلة : فإنهم ذكروا أن مما يدون في السجل ( ) أسماء الشهود ، جاء في الشرح الكبير : (وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في أول المحضر ومن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهاة فلان وفلان وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين وإلا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر …)( )

خلاصة المقدمة أن من حقوق المشهود عليه معرفته بالشهادة وبعين من شهد ضده في قول جمهور أهل العلم خلافاً لبعض المالكية .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت