أركان استقلال القضاء

حقيقة إن تحقيق إستقلال القضاء يتطلب ضرورة توافر عدد من الضمانات والحصانات تهدف لتحقيق الاستقلال بمفهوميه الشخصي والعضوي ، ورغم الفروق الواضحة بين أغلب الدساتير في انتهاجها لنظام الحكم والأبواب الأخرى إلا أننا نجد أنها نادراً ما تختلف اختلافا جوهرياً في تنظيمها لضمانات وكفالة احترام السلطة القضائية – عدا الأنظمة الاستبدادية – وللقول بوجود استقلال حقيقي للقضاء يجمع الفقه والقضاء على توافر ثلاثة أمور تمثل في مجموعها الحد الأدنى للقول بوجود استقلال كامل للقضاء في أي دوله ، وأولها مبدأ الفصل بين السلطات وثاني الأركان مبدأ عدم عزل القضاة وآخرها الاستقلال الفني والمالي والإداري ، ونبحث كل ركن في فرع مستقل .

الفرع الاول : مبدأ الفصل بين السلطات

ويقصد بمبدأ الفصل بين السلطات عدم تركيز السلطات في هيئة واحدة في الدولة وإقصاء أو تهميش الهيئات الأخرى ، وإنما تمارسها هيئات مختلفة مستقلة عن بعضها البعض ولا يعني هذا الفصل التام والشامل إنما يلزم وجود قدر من التعاون ، وهذا الفصل التام قد ثبت فشله في تجارب سابقة والتجربة الحالية له في الولايات المتحدة حيث أثبت الواقع العملي وجود قنوات للتعاون بين السلطات فيها ، وغني عن الذكر ذلك الجدل الفقهي حول عدد السلطات ونظريات الفصل وغير ذلك فيكفينا العلم باستقرار الفقه الحديث على وجوب الفصل بين السلطات مع وجود قدر من التعاون لتحقيق المصلحة العامة .

وينبه جانب من الفقه إلى ضرورة تحقيق الفصل بين السلطات خصوصاً من تدخل السلطة التنفيذية بعمل السلطة القضائية وهذا المبدأ هو نسبي ويختلف من بلد لآخر وكما يري جانب من الفقه انه يجب عدم تدخل السلطات الثلاث بإختصاصات بعضها إلى جانب عدم تأثير الصحافة على القضاء ومن ثمرات هذا المبدأ تحقيق التخصص في العمل مما يؤدي لرفع الأداء كماً ونوعاً وقد أصبح هذا المبدأ هو الطريقة التي يمكن بها الحفاظ على السلامة العضوية لوظيفة القضاء وقد أصبح حاضراً بقوة في النزعة الدستورية الجديدة المتمثلة بتقييد الحكومات القانونية ويقتضي تحقيق الفصل بين السلطات كركن لإستقلال القضاء تحقيق ما يلي :-

أ‌) وجود درجة من الاحتراف في الوظيفة القضائية .

ب‌) عزل السلطة القضائية عن التأثير الخارجي .

ج‌) وجود استقلال ذاتي للإدارة القضائية .

د) تحديد مسئولية الجهاز القضائي في إطار مفاهيم استقلال القضاء .

الفرع الثاني : مبدأ عدم القابلية للعزل

مع تزايد ثقل يد الحكومات وعزلها لكل صوت حر بات ليس كل قاضي مستعداً لنصرة الحق والتضحية بمستقبله لذا ظهرت الحاجة لأن يتوافر في النظام القانوني الضمانات التي تُطمئن القاضي لإستقلاليته وحيدته ، وكان رأس هذه الضمانات ضمانة عدم القابلية للعزل لتحقيق حرية الحكم وتحريره من أي خوف أو مداهنة ، وهو باختصار عدم ترك الفصل في عزل القاضي من عدمه بيد السلطة التنفيذية وذلك لا يعني عصمة القاضي وخلوه في الوظيفة مهما صدر منه ولكن يضمن إحاطة عزله بضمانات تكفل له أداء وظيفته بأمان واطمئنان ، ولا يتعارض مع هذا المبدأ إمكانية مساءلة القاضي تأديبياً .

كما يعني مبدأ عدم القابلية للعزل عدم إمكانية النقل إلى وظيفة خارج سلك القضاء ، أما النقل المكاني والنوعي داخل السلك القضائي فجائز وفق قواعد محددة سلفاً.

ويحصر البعض حالات جواز العزل في ثلاث حالات هي :- تأديباً – أو لبلوغ سن التقاعد – أو لعدم الصلاحية الصحية ، على أن يكون القرار صادر من السلطة القضائية نفسها.

وقد عرف فقهاء الشريعة الإسلامية هذا المبدأ بل وساندوه ، فقد ذكر ان القاضي لا ينعزل إلا لمصلحة أي لسبب يبرر عزله ، وإذا لم يكن هناك من يصلح للقضاء غيره لا يصح عزله وان عزله رئيس الدولة فلا ينعزل ، كما لا ينعزل بمجرد قرار عزله بل يجب أن يبلغه هذا العزل( .

وذهب المالكية والشافعية والحنابلة الى عدم قابلية القاضي للعزل مع سداد حاله وما لم يكن هناك مصلحة تبتغى من وراء عزله أو مفسدة ، يراد درئها لتعلق حق الأمة به ولأنهم يرون أن القضاء يولى بعقد بين الأمام والقاضي لمصلحة المسلمين وعزله دون سبب فيه مخالفة للعقد وعدم وفاء به وهذا ما لا يجوز لقوله تعالي ” أوفوا بالعقود” .

وقد ضُمنِ هذا المبدأ بقوة في ” المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية ” التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1985م ، حيث ورد في البند 11 منها “يضمن القانون للقضاة بشكل مناسب تمضية المدة المقررة لتوليهم وظائفهم واستقلالهم وأمنهم وحصولهم على أجر ملائم وشروط خدمتهم ومعاشهم التقاعدي وسن تقاعدهم” كما نص البند 12 على :” يتمتع القضاة سواء كانوا معينين أو منتخبين بضمان بقائهم في منصبهم إلى حين بلوغهم سن التقاعد الإلزامية أو إنتهاء المقرر لتوليهم المنصب …” بل وزاد البند 8 “… لا يكون القضاة عرضة للإيقاف أو للعزل إلا لدواعي عدم القدرة أو دواعي السلوك…..” وكذلك البند 19 : “تحدد جميع الإجراءات التأديبية وإجراءات الإيقاف أو العزل وفقاً للمعايير المعمول بها للسلوك القضائي .” حيث جعلت للإجراءات التأديبية وإجراءات العزل معايير عالمية لا تستطيع الدول التحكم بها ، وكذلك نظمت الجهة التي تصدر العزل بالبند 20 : “ينبغي أن تكون القرارات الصادرة بشأن الإجراءات التأديبية أو إجراءات الإيقاف أو العزل قابلة لإعادة النظر من جانب جهة مستقلة” .

وقد درجت الدساتير على ذكر هذا المبدأ و منها الدستور الكويتي الذي خُصص الفصل الخامس منه للسلطة القضائية وذلك في المادة 163 منه بقولها “…. ويبين القانون استقلال القضاء وبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم وأحوال عدم قابليتهم للعزل. “.

وتطبيقاً لهذا النص الدستوري صدر المرسوم بقانون رقم 23/1990 بشأن تنظيم القضاء والذي يعتبر الثاني بعد أول قانون لتنظيم القضاء وهو المرسوم الأميري 19/1959م ، وقد نص في مادته الثالثة والعشرون على عدم جواز عزل رجال القضاء والنيابة العامة إلا وفقاً لإجراءات المحاكمة التأديبية التي نص عليها القانون عدا وكلاء النيابة (ج) وحقيقة إن الاستثناء الذي أورده المشرع الكويتي بإجازته فصل وكلاء النيابة (ج) وهي أول عتبه في سلم القضاء غير موفق ، ذلك أن هذه الفئة قد تحتاج هذه الضمانة أكثر من غيرها لحداثة السن وسهولة التأثير عليها بعكس من أمضى سنين في السلك القضائي كما إن علة توفير الضمانة هي واحدة فالقانون لا يفرق بين من أمضي 20 سنة في النيابة وبين من أمضي أسبوع فكلاهما قد يحقق في أكثر القضايا حساسية وخطورة .

الفرع الثالث : الاستقلال الفني والإداري والمالي للقضاء

وهذا الركن هو أوسع وأشمل الأركان حيث يضم كل شكل من أشكال الاستقلال العديد من النقاط التي يجب تحقيقها ، وفي ثلاث نقاط نعرض أهم ما إتفق الفقه على ضرورة تحقيقه للقول بوجود استقلال حقيقي للقضاء .

أولاً: الاستقلال الفني :-

ونعني بالاستقلال الفني باختصار إستقلال القاضي في كتابة أحكامه فلا يمكن التدخل وتغيير منطوق الحكم أو القرارات الصادرة من القاضي أو كيل النيابة وقد أرست “المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية” هذه القاعدة ودعمتها بالبند الرابع منها : “لا يجوز أن تحدث أيه تدخلات غير لائقة أو لا مبرر لها في الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر” ، كما نص الدستور الكويتي في المادة 163 على :” لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة ” وحقيقة قد يكون التدخل على القاضي فنياً نادر الحصول جداً إنما التدخل الحقيقي يكون عبر التأثير عليه إدارياًُ ومالياً مما يفقده استقلاله وحيدته في أداء عمله.

ثانياً : الاستقلال الإداري

ونعني هنا استقلال القضاة عن السلطة التنفيذية فيما يتعلق بشئون وظيفتهم ، ويلزم معه تحقيق أربعة أنواع من الاستقلال:-

أ- ترقية القضاة : حيث أن ترقية القاضي تعد من أولى إهتماماته وطموحاته لذلك يجب قطع الطريق على السلطة التنفيذية باستقلال هذه النقطة بمكافأة من يطيع ومعاقبة من يعصي . وهذا ما جعل بعض التشريعات لا تأخذ بنظام ترقية للقضاة فالقاضي لديهم في درجة واحدة لا يجاوزها طول حياته هادفين للسمو بالقاضي من النفاق والرياء .

ولكن الاتجاه الغالب هو ترك أمر الترقية بيد السلطة القضائية نفسها ، وعادة ما ينظم هذا الأمر بقانون لا بقرار إداري .

ب- نقل القضاة وندبهم وإعارتهم : وضمانة عدم النقل كبيرة الصلة بضمانة عدم العزل ذلك أن النقل قد يشكل عقوبة مبطنة للقاضي مما يؤثر سلباً على استقلاله . ولكن عكس ذلك قضية ندب القضاة التي قد تعطي السلطة التنفيذية يداً لمجازاة ومكافأة من تريد ، ونرى كذلك إمكانية معاقبة وإقصاء القضاة بطريقة الإعارة مما يعني التخلص منهم واقعياً خاصة إذا ما علمنا أن مدة الإعارة كما في بعض التشريعات كالتشريع المصري تصل إلى أربع سنوات

ج- التفتيش على أعمال القضاة :فالطبيعة البشرية للقضاة تجعلهم كغيرهم بحاجة لمن يراجع أعمالهم وأوضاعهم . فمن هنا كانت فكرة إدارة التفتيش القضائية والتي مهمتها تتمثل في التقييم والتوجيه والتحقيق في أمور القضاة سواء ما تعلق بعمله القضائي أو سلوكه الشخصي.

د- المساءلة التأديبية : لما كان القاضي يفوق الشخص الطبيعي بضمانات عديدة إلا ان علة هذه الضمانات هي عدم التأثير عليه ، ولما كان بشراً يعيب ويخطأ يظلم ويحق كان لا بد من وجود ضمانة للناس ولجهة القضاء من القاضي المسئ ولكن هذه الإجراءات التأديبية يجب أن تحدد بقانون وأن تشرف عليها جهة القضاء بنفسها .

ثالثاً: الاستقلال المالي

وهذا الاستقلال نرى ضرورة إتحاد عنصرين للقول به أولهما “عنصر شخصي” وهو ما يوجب توفير الحياة الكريمة للقضاة وينأى بهم عن الشبهات ، كما يعلله البعض بأن توفير المزايا المالية للقضاة كالمرتبات العالية وغيرها يضمن لهم مركزاً سامياً يقيهم من التطلع إلى الوظائف الأخرى مما يجعل الدولة تخسر ذوي الخبرة والدراية .

أما مقصودنا “بالعنصر العضوي” فيذهب إلى صيانة السلطة القضائية من الوقوع تحت حاجة السلطات الأخرى في إداراتها لأمورها المالية مما يضمن عدم حاجتها للمداهنة والمهادنة مع السلطات الأخرى لتسيير أمور القضاء المالية .