التقاعد والتأمينات والمخاطر المنتظرة !
محمد العمران

في السنوات الأخيرة، بدأت الأوساط الاستثمارية حول العالم تتنبه إلى بروز ظاهرة سلبية تتمثل في الانخفاض التدريجي للعوائد على جميع الاستثمارات (من أسهم وسندات واستثمارات بديلة.. إلخ) تزامناً مع انخفاض أسعار الفائدة على معظم العملات الدولية لمستويات تاريخية وهذا طبيعي.

وفي المملكة، لاحظنا جميعاً الأخطاء الجوهرية التي تسبب بها برنامج «نطاقات» من تفاقم وتشويه للخلل الهيكلي الذي يعاني منه أساساً سوق العمل السعودي بسبب انتشار السعودة «الوهمية» والتي تم استغلالها أسوأ استغلال من قبل القطاع الخاص بسبب التركيز على «الكم» وليس»النوع» بمباركة من جهات حكومية مع الأسف الشديد.

كنتيجة لذلك كان من المتوقع أن نشاهد كلاً من المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية يشتكون الآن من العجوزات الإكتوارية في تقاريرهم المالية بسبب اختلال ميزان المصروفات مع الاشتراكات (خصوصاً وأن الدولة – حفظها الله- تعتمد منذ عدة سنوات على القطاع الخاص في خلق فرص عمل جديدة للشباب السعودي)، وأصبح يطرح في وسائل الإعلام المختلفة تعديل أنظمة التقاعد والتأمينات من خلال رفع سن التقاعد أو إلغاء التقاعد المبكر أو تعديل معادلة احتساب الراتب التقاعدي أو غيرها من المبادرات.

نحن ندرك أن انخفاض العوائد على الاستثمارات هي من العوامل الخارجية التي يصعب التحكم بها، لكن الخطورة في أننا ندرك جيداً أيضاً أن تطبيق برنامج «نطاقات» بشكله المترهل حالياً إلى جانب شبه توقف القطاع الحكومي عن التوظيف واعتماده على القطاع الخاص في ذلك من أهم الأسباب لمشكلة العجوزات الإكتوارية، وكنت أتمنى لو أن هاتين المؤسستين تحددان أسباب المشكلة الحقيقية وجهاً لوجه أمام وزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية بعيداً عن المجاملات لإيجاد الحلول الناجعة بدلاً من تقديم مقترحات تهدف لتبرير قرارات حكومية يدفع ثمنها الحلقة الأضعف في هذه المعادلة ألا وهم «المشتركون» آخذين في الاعتبار الانتقادات العنيفة التي تعرض لها برنامج «نطاقات» منذ تطبيقه عام 2011م وحتى يومنا هذا من غالبية الأخوة المحللين.

الغريب أن وزارة العمل أدركت اليوم أن تطبيق برنامج «نطاقات» كانت له نتائج كارثية على سوق العمل السعودية ولهذا ستبدأ قريباً بحل المشكلة من خلال تطبيق برنامج «نطاقات الموزون» لتحسين نوعية الاشتراكات الجديدة وهذا بالطبع سيكون رائعا جداً للتأمينات الاجتماعية لكن يبدو أنها لن تنتظر نتائج البرنامج الجديد بعد إصلاح الخطأ، وفي المقابل نجد معالي وزير الخدمة المدنية يتحدث في وسائل الإعلام عن اعتماد برنامج التحول الوطني على «التقاعد المبكر» في تنفيذ أهداف البرنامج بينما نجد مؤسسة التقاعد تتحدث في وسائل الإعلام عن توصية بإلغاء «التقاعد المبكر» !!!

والأغرب من كل ذلك أن التأمينات الاجتماعية تشتكي من العجوزات الإكتوارية بأرقام مخيفة بينما في نفس الوقت تستنفد سيولتها النقدية بالدخول في مزايدات على إصدارات السندات الحكومية الجديدة !!!

في ظل وجود اختلالات وتناقضات في آلية عمل هاتين المؤسستين قد تؤدي -لا سمح الله- إلى نتائج تضر بمصالح المشتركين كما نشاهد إرهاصاتها الأولية الآن (تحديداً ما يتعلق بتعارض المصالح مع جهات حكومية نكن لها كل احترام)، أعتقد أنه آن الأوان لاستقلالية هاتين المؤسستين العملاقتين تماما عن وزارة العمل وعن وزارة الخدمة المدنية وعن جميع الأجهزة الحكومية، بالشكل الذي يتماشى مع الهياكل التنظيمية المطبقة في جميع دول العالم للمؤسسات المناظرة لهما وبالشكل الذي يعكس طبيعة المسؤوليات الملقاة على عاتقهما بحكم أنهما مؤسستان مؤتمنتان أمام الله عز وجل ثم أمام ولاة الأمر – حفظهم الله ورعاهم- على حماية وتنمية أموال المشتركين بالدرجة الاولى مهما كانت الظروف وهذا هو المطلوب في هذه المرحلة المهمة.

في مقالي الأخير تحدثت عن المخاطر المنتظرة التي تواجه المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية نتيجة لانخفاض العوائد الاستثمارية وللتشوهات التي فاقمت السعودة الوهمية في سوق العمل بالمملكة بعد تطبيق برنامج «نطاقات» (الذي تسببت به جهات حكومية)، وأخيرًا للتناقضات في آلية عمل هاتين المؤسستين، التي أضرتهما اليوم مع إصرار الدولة على رئاسة مجالس إدارات هاتين المؤسستين، في حين أن الدولة في واقع الأمر هي مؤتمنة على أموال المشتركين؛ وأنه – وهو المهم – قد آن الأوان لاستقلاليتهما تمامًا عن الدولة.

لا يختلف أحد على أن نضوب النفط في المملكة سيتسبب بكارثة اقتصادية على المدى الطويل إن لم ننجح في تنويع اقتصادنا؛ إذ تشير التقديرات إلى أن كلمة «المدى الطويل» هنا تعني فترة زمنية، ستتراوح بين 50 – 70 سنة على أكبر تقدير. ولأن الاشتراكات والاستثمارات في هاتين المؤسستين ذات طبيعة زمنية طويلة فإن من البديهي أن تكون استثماراتهما بعيدة تمامًا عن الاقتصاد السعودي تحوطًا لأي سيناريوهات سيئة متوقعة أو غير متوقعة في المستقبل (بالضبط كما تفعل صناديق التقاعد في الدول المصدرة للنفط). إلا أننا عندما ندقق في استثمارات هاتين المؤسستين سنجد أن غالبية هذه الاستثمارات تتركز داخل الاقتصاد السعودي!!!

ولا أدري – حقيقةً – كيف سيسددون تعويضات المشتركين بعد 50 أو 60 سنة، أو ربما قبل ذلك (على الأقل نظريًّا)؟ وعلى أي أساس؟

من جانب آخر، عندما ندقق في نوعية الأصول الاستثمارية لهما سنجد أنها على شكل أسهم وعقارات، وهي أصول ذات طبيعة غير سائلة. والحقيقة التي يجب أن نتفق عليها أنه يستحيل تسييل هذه الاستثمارات، أو لنقل إن تسييلها سيتسبب بكارثة لسوق الأسهم أو لسوق العقارات، وإن كان متدرجًا على فترة زمنية طويلة!!!

وحتى نفهم هذه النقطة جيدًا يجب أن نضع في الحسبان أن التقديرات الرسمية تشير إلى أن المعاشات في التقاعد المدني تجاوزت الاشتراكات، وأن نفاد كامل الاحتياطيات سيكون عام 1458هـ، بينما في التقاعد العسكري المعاشات هي الآن قد تجاوزت كلاً من الاشتراكات وعوائد الاستثمار مجتمعتَيْن، وأن نفاد كامل الاحتياطات سيكون عام 1442هـ (أي بعد سنوات قليلة من الآن)!!

وللخروج من هذه المشكلة (أو بمعنى آخر لتأجيل ظهور هذه المشكلة الخطيرة على الملأ بوضوح)، فإن أفضل الحلول المتاحة تبدو لي بدمج المؤسسة العامة للتقاعد بالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية تحت مسمى تبني المعايير الدولية في تنظيم الأنشطة التقاعدية تحت كيان واحد، على اعتبار أن الوضع المالي للتأمينات الاجتماعية أفضل بكثير من مؤسسة التقاعد، وهذا صحيح، وإن حصل هذا فعلاً فهو يعني أنه سيتم تحميل موظفي القطاع الخاص أخطاء ارتكبها مسؤولون حكوميون، ساهموا في التأثير على مجلس إدارة المؤسسة العامة للتقاعد لاتخاذ قرارات تاريخية خاطئة، بدأنا نشاهد إرهاصاتها الأولى الآن، وسنشاهد الصورة كاملة في المستقبل القريب.

وطالما أننا سنتحدث عن المعايير الدولية في تنظيم الأنشطة التقاعدية فحتمًا سنشاهد انتقائية في تطبيق هذه المعايير الدولية؛ إذ من المتوقع أن يتم تجاهل استقلالية مجالس إدارات التأمينات الاجتماعية ومؤسسة التقاعد عن الأجهزة الحكومية تمامًا (كما تفعل بقية دول العالم)، وأن يتم تجاهل تركز استثمارات هاتين المؤسستين بعيدًا عن اقتصاد المملكة لضمان انسيابية دفع التعويضات للمستفيدين حتى بعد مرحلة نضوب النفط (كما تفعل الدول المصدرة للنفط)، وربما نشاهدهم يقدمون (دراسات مقارنة) مضحكة عن استثمارات التقاعد في دول متقدمة، ليس لديها نفط سينضب في المدى الطويل، لإثبات صحة نظريتهم في إعادة الاستثمار داخل الاقتصاد!!

إعادة نشر بواسطة محاماة نت