حرية الصحافة السعودية
داود الشريان
رغم أن الصحافة السعودية تعيش اليوم حرية متنامية، إذ تخلصت إلى حد بعيد من كثير من القيود الاجتماعية والسياسية، فأصبحت تمارس دورها كسلطة شعبية في الرقابة على مؤسسات المجتمع من خلال النقد الجريء والحاد في بعض الأحيان، إلا أن ما وصلت إليه الصحف المحلية من مكاسب، ميزتها في بعض الأحيان عن مثيلاتها في غير بلد عربي، معرض للانتكاس والتراجع، بسبب غياب العلاقة القضائية الواضحة بين الصحف ومؤسسات المجتمع وأفراده.

ولهذا تشهد الساحة الصحافية السعودية بين فترة وأخرى إجراءات تسيء إلى هذا الانجاز السياسي المهم، وتخلق انطباعاً بأن كل ما يقال عن حرية التعبير المتنامية في السعودية كلام لا يؤيده الواقع، فبسبب غياب هذه العلاقة القضائية الواضحة يتم أحيانا فرض رقابة مسبقة أو لاحقة على الصحف، أو مصادرتها أو إغلاقها أو تعطيلها بقرارات ادارية لا تستند إلى حكم قضائي، علماً أن هذه الصحف لا تتضمن مواد تمس الأمن القومي أو النظام العام والآداب.

وفي المقابل تمارس الصحف دورها بحرية غير منضبطة بقوانين النشر المتعارف عليها في دول العالم فتنشر موضوعات ومقالات تفتقر إلى الدقة والموضوعية، وربما تضمنت معلومات غير صحيحة بالمطلق، فتعرض مصالح مؤسسات ومسؤولين وأفراد للضرر من دون أن تصدر بحقها أحكام قضائية تعكس حجم الضرر وتحفظ حقوق الآخرين المادية والمعنوية.

صحيح أن نظام المطبوعات والنشر في السعودية شهد تطوراً خلال السنوات الأخيرة، وواكب هذا التطور تكريس مفهوم العمل المؤسسي للصحافة، فنشأت جمعية للصحافيين السعوديين لا تختلف في مضمونها ودورها عن مثيلاتها في الدول الأخرى، فضلاً عن أن الصحف نفسها شهدت نقلة نوعية في ادارتها ومهنيتها وتعاملها مع صناعة النشر والقراء، لكن هذه الإنجازات بقيت بلا اعتراف قضائي مستقل بوجودها.

وحاولت وزارة الإعلام إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال تأسيس ما يسمى «لجنة المخالفات الصحافية» للفصل في النزاعات التي تنشأ بين الصحف ومؤسسات المجتمع وافراده، مكونة من أربعة أعضاء يمثلون أربع جهات حكومية هي وزارات الإعلام والداخلية والتجارة والعدل، وتتبع اداريا لوكيل وزارة الإعلام. لكن هذه اللجنة صارت، على نحو ما، جزءاً من نظام الرقابة الذي تحاول وزارة الإعلام فرضه على الصحف، ويسعى الصحافيون الى طي صفحته، ولهذا لم تجد هذه اللجنة تعاوناً يذكر من الصحف، فضلاً عن أن أي إجراء تتخذه هذه اللجنة أصبح ينعكس سلباً على صورة حرية التعبير في السعودية، فهي ليست جهة مستقلة، والقائمون عليها ليسوا قضاة متخصصين في هذا المجال.

لا شك في أن الحرية المتنامية التي تشهدها الصحافة السعودية اليوم تعكس ارادة سياسية مرحبة بوجودها وتطورها، لكن هذه الإرادة لن تكون فعالة من دون علاقة قضائية واضحة تحمي هذا التوجه.

فإنشاء محاكم مستقلة للفصل في النزاعات التي تنشأ بين الصحف ومؤسسات المجتمع وأفراده سيضمن حقوق المؤسسات والأفراد من تعديات الصحف، ويحمي صورة النظام السياسي من التشويه.

فصدور حكم قضائي ضد كاتب أو جريدة لن يكون خبراً مؤذياً لصورة النظام السياسي، فوسائل الإعلام تحفل يومياً بأخبار عن أحكام قضائية ضد صحف وصحافيين في مختلف دول العالم، لكن لا أحد يتحدث عن دور للنظام السياسي فيها كما هي الحال مع السعودية، التي يتحول فيها خبر روتيني في بلد آخر إلى قضية القضايا، فيصير مناسبة لمعاودة نشر الصورة النمطية الظالمة عن السعودية ونظامها وقوانينها، لسبب بسيط أنه ليس حكماً قضائياً صادراً عن محكمة مستقلة.

ومن جهة ثانية فإن إنشاء محاكم مستقلة لتنظيم علاقة الصحف بالمجتمع سيسهم في تطور مضمون الصحف ومهنيتها، فلا تنشر مقالات أو أخباراًَ من دون أن تتحقق من دقتها، فهي ستدرك أن ثمة ملاحقة قانونية ستكلفها الكثير في حال استسهلت عملية النشر كما يحصل اليوم، وستعمد إلى الاستعانة بمحامين لمراجعة الموضوعات التي تكتسب حساسية خاصة.

ولعل من يتابع تجربة الصحف العربية التي صدرت في الدول الأوروبية يلمس تأثير وضوح العلاقة القانونية بين الصحف والمجتمع على مهنيتها، ورقي لغتها وحذرها الشديد في نشر الأخبار والتحقيقات والمقالات التي تتناول حياة الأفراد، وعمل المؤسسات المالية والتجارية، من دون أن يؤثر هذا على حريتها.

الأكيد أن الصحافة السعودية مرت على مدى العقود السبعة الماضية بفترات ازدهرت فيها حرية التعبير، لكن هذه الفترات لم تصمد طويلاً لغياب التراكم والتأصيل والحماية القانونية. فالحرية التي تشهدها الصحافة السعودية اليوم مرشحة لذات المصير ما لم يتم تكريسها بنظام قضائي مستقل، يحميها ويحمي الناس من استغلالها.