دراسة وبحث قانوني في التفريد التنفيذي

لم يعد السجن في الزمن المعاصر مجرد مكان يختص لعزل المحكوم عليهم طيلة فترة العقوبة المحكوم بها، بل تحول في ظل السياسة العقابية الحديثة إلى مرفق اجتماعي غايته تقويم وتأهيل وإصلاح النزلاء[1]، وقد استفادت الإدارة العقابية من النتائج التي توصلت إليها الدراسات الإجرامية فيما يتعلق بشخصية المحكوم عليه، وما يطرأ عليها من تغير بفعل الجزاء الجنائي حال قيامها بتنفيذ الجزاء الجنائي المقضي به في حق الجاني، فقد يتاح للقائمين على التنفيذ العقابي بالتعديل من طبيعة العقوبة أو من مدتها أو من طريقة تنفيذها حسب ما يطرأ على شخصية المجرم ومدى استجابته للتأهيل والإصلاح[2].

فالقاضي بعد أن يحكم على الجاني بالعقوبة التي يراها ملائمة لظروف الجريمة وفاعلها، تتولى السلطة أو الجهة الإدارية مهمة تنفيذ هذه العقوبة على المحكوم عليه، وبحكم اتصالها المباشر والقريب بهذه الأخيرة فأنها قد تجد أن العقوبة المحكوم بها عليه غير ملائمة لظروفه الشخصية، خاصة بعد انقضاء فترة زمنية من التنفيذ، لذلك خولها المشرع الصلاحية لتفريد العقوبة على نحو يحقق عدالتها وملاءمتها لظروف الجاني[3].

ويتحقق هذا النوع من التفريد إذا خولت لسلطة التنفيذ الوسائل التي تتمكن بها من جعل كيفية تنفيذ العقوبة ملائمة لظروف كل محكوم عليه، فيسمح لها بتصنيف المحكوم عليهم، وإخضاع كل طائفة لإجراءات تنفيذ تصلح أفرادها، وأعطيت حق العفو عن العقوبة أو تخفيضها، واعترف المشرع لها بالحق في وقف الحكم النافذ، والإفراج عن المحكوم عليهم شرطيا [4].

والتفريد التنفيذي أو الإداري للعقوبة: هو الذي تتولاه السلطة التنفيذية في حدود المبادئ والقواعد العامة التي يحددها المشرع، فكثيرا ما يعهد هذا الأخير إلى السلطة التنفيذية، باعتبارها الجهة القائمة على التنفيذ العقابي وإدارة المؤسسات والمنشآت العقابية التي يتم التنفيذ فيها، بمهمة تفريد العقوبة عندما تكون هي الأجدر على تقدير ملائمتها لظروف الجريمة والمجرم من ناحية، وتحقيقها للغاية منها كما رسمها القانون من ناحية أخرى[5].
ومن بين صور التفريد التنفيذي ما يسمح به لجهة التنفيذ من نقل المحكوم عليه بعد فترة إلى أحد السجون العمومية إذا رأت أن التطور الإيجابي الذي طرأ على شخصيته لم يعد يناسب ظروف الليمانات[6] . ومثال هذا النوع من التفريد أيضاً إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقا لنظام الإفراج الشرطي أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إبدالها بأخف منها، متى كان سلوك المحكوم عليه ينبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة في المستقبل[7].

[1] عبد الرحمن محمد أبو توتة، مرجع سابق، ص255
[2] أحمد لطفي السيد، مرجع سابق، ص33
[3] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص 133
[4] لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص22
[5] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص133
[6] السجن
[7] أحمد لطفي السيد، مرجع سابق، ص 33

لم يعد الجزاء الجنائي في ظل السياسة العقابية الحديثة يهدف إلى إيلام الجاني أو الانتقام منه، بل صار هدفه في المقام الأول إصلاح الجاني وتأهيله، وفي ضوء هذا الهدف وجب توجيه أساليب المعاملة العقابية وجهة تحقق هذا الهدف، ولما كانت أساليب المعاملة العقابية مختلفة ومتنوعة، لذلك يبدو ضروريا أن تبدأ مرحلة التنفيذ العقابي بإجراء دراسة كاملة لمختلف الظروف المحيطة بالجاني حتى يمكن في ضوء ذلك تصنيفه واختيار أسلوب المعاملة الأنسب لحالته[1].
وتعني المعاملة العقابية “مجموعة أساليب التنفيذ العقابي التي تحقق الأغراض المبتغاة من العقـوبـة، وهي تأهيـل المحكوم عليه عن طريق تهذيبه أو علاجه”، وقد عرفته مجموعة قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين لعام 1955 تعريفا عاما “بأنها مجموعة المبادئ والأسس التي تحدد اقل الأوضاع والمعايير المقبولة لمعاملة مختلف طوائف المسجونين البالغين، وتنظيم و إدارة مؤسساتهم طبقا للآراء والممارسات المعاصرة لعلم العقاب الحديث”[2]. وسنتحدث في هذا المطلب عن الفحص “الفقرة الأولى”، والتصنيف “الفقرة الثانية”.

الفقرة الأولى: الفحص
الفحص هو نوع الدراسة الفنية التي يقوم بها أخصائيون في مجالات مختلفة لإجراء الدراسة على المحكوم عليه لتحديد شخصية وبيان العوامل الإجرامية التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة، حتى يمكن الملائمة بين ظروفه الإجرامية وبين الأساليب العقابية التي تجعل الجزاء الجنائي المحكوم به يحقق تأهيله، ويعتبر الفحص خطوة تمهيدية لتصنيف المحكوم عليه. ولذلك يجب أن يحدد الفحص درجة خطورة المحكوم عليه في المجتمع، ثم مدى استعداده للتجاوب مع الأساليب العقابية المختلفة[3].
الفحص في جوهره عمل فني يفترض تضافر جهود فريق من المختصين في علوم الطب وعلم النفس والاجتماع، وهو ما يفترض بعد ذلك تأهيل النتائج التي أثمرتها أعمالهم وإعدادها في صورة صالحة لتكون أساسا للتصنيف.
وللتصنيف أنواع وهي:

1. الفحص السابق للحكم: وهو ما يسمى بالفحص القانوني الذي يهدف أساسا إلى تحديد نوع ومقدار التدبير الجنائي اللازم للمتهم، وقد نصت تشريعات عديدة على هذا النوع من الفحوص استجابة لما تم إقراره من مفاهيم حديثة في مجال السياسة العقابية، ومن التشريعات التي اخذ بهذا النوع من الفحوص، قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الذي يلزم قاضي التحقيق والجنايات، ويجيز له ذلك في مواد الجنح أن يجري بنفسه أو عن طريق شخص ينتدبه لذلك، ليجري تحقيقا حول شخصية المتهم ومركزه المادي والعائلي والاجتماعي، كما يجيز له الأمر بإجراء فحص طبي ونفسي للمتهم[4].

2. وهو الذي يدخل في نطاق دراسة علم العقاب: وهو اللاحق على صدور الحكم بالجزاء الجنائي، وهو الذي يمهد السبيل إلى تصنيف المحكوم عليه، لتقرير المعاملة العقابية الملائمة لكل طائفة، حتى يحقق الجزاء غرضه التأهيلي، ويجب أن يكون هذا النوع من الفحص امتداد للنوع الأول، والسبيل إلى ذلك يكون بنقل ملف شخصية مع المحكوم عليه إلى مركز الفحص[5].

3. الفحص التجريبي: وهو الذي يجري بعد دخول المحكوم عليه المؤسسات العقابية، ويقوم به القائمون على المؤسسة من إداريين وحراس، فيلاحظون سلوك المحكوم عليه أثناء إقامته بالمؤسسة ومدى تجاوبه معهم، والعلاقة بينه و بين زملائه، ويعين ذلك في تحديد طريق معاملته.
ويجب أن ينصب البحث على الجوانب المختلفة لشخصية المحكوم عليه، وبصفة خاصة الجوانب التي ساهمت في سلوك المجرم سبيل الجريمة، وأهم الجوانب الشخصية التي تكون موضوعا للفحص هي: الجانب العضوي “البيولوجي”، والجانب العقلي والجانب النفسي، وكذلك يمتد إلى دراسة حياته المحكوم عليه الاجتماعية.

الفقرة الثانية: التصنيف
قبل البدء في البحث عن موضوع التصنيف تجدر الإشارة إلى نقطة هامة مفاداها أن مبدأ تصنيف السجناء قد أسيء فهمه في أغلب أنحاء العالم، وقد أشار إلى هذه الحقيقة العالم الجنائي الشهير “بول باتان” في كتابه “سبيل الإصلاح المعاصر”، ويقول أن سبب سوء الفهم نابع من عدم فهم الوظيفة الأساسية للتصنيف، بأنها وضع كل صنف من السجناء المتشابهين في محل واحد، كوضع المسجونين عن جرائم القتل في محل والسرقة في محل آخر، وان مثل هذا الفصل هو موضوع انتقاد كبير، وهو بدوره ليس له صلة بموضوع تصنيف السجناء الذي نحن بصدده[6].
والتصنيف العلمي للمحكوم عليهم يختلف طبقا للمدلولين الأمريكي والأوروبي:
المدلول الأمريكي: أن التصنيف في المعنى العقابي هو في المقام الأول “أسلوب” يحقق التنسيق بين التشخيص والتوجيه والمعاملة في كل حالة على حدا في صورة فعالة، وهو يكاد يشمل كل نظم التنفيذ العقابي.
المدلول الأوروبي: يقسم المحكوم عليهم طبقا للمدلول الأوروبي إلى فئات مختلفة في المؤسسات المتخصصة بالاستناد إلى السن، الجنس،……وغيرها، وبعدها يتم تقسيمهم إلى مجموعات مختلفة داخل كل مؤسسة[7].
وقد ذهب رأي من الفقه العقابي إلى تعريف التصنيف بأنه: “وضع المحكوم عليه في المؤسسة العقابية الملائمة لمقتضيات تأهيله، وإخضاعه في داخلها للمعاملة مع هذه المقتضيات”، بينما عرفته المؤتمر الجنائي الدولي الثاني عشر الذي انعقد في لاهاي عام 1950 “التصنيف عبارة عن عملية تقسيم المحكوم عليهم إلى فئات معينة وفقا للسن، الجنس، العود والحالة العقلية والاجتماعية، وتوزيعهم وفقا لذلك على مختلف المؤسسات العقابية حيث تتم تقسيمات أخرى فرعية”[8].
وهناك مجموعة نظم للتصنيف يمكننا حصرها في ثلاث أنظمة وذلك على النحو التالي:

1. نظام مكاتب التصنيف “أجهزة التصنيف التابعة للمؤسسات العقابية”: تتبع أجهزة التصنيف -وفقا لهذا النظام- المؤسسات العقابية فيوجد في كل مؤسسة عقابية جهاز ملحق بها، يضم عددا من المتخصصين بإجراء الفحوص المختلفة، يقومون بفحص المحكوم عليهم الذين يرسلون إلى المؤسسة وفقا لأسس محددة قانونا، ثم يقومون معا بعملية التصنيف لكل محكوم عليه –وفقا للنتائج التي أسفر عنها فحص الشخصية- برنامج المعاملة الملاءمة لحالته[9].

2. النظام التكاملي: يقوم هذا النظام على أساس الجمع بين الأخصائيين والفنيين والإداريين في هيئة أو مجلس ملحق بالمؤسسة العقابية، فبينما يعكف الأخصائيون على تشخيص حالات المحكوم عليهم؛ يقوم الإداريون بوضع برامج المعاملة العقابية لكل حالة على نحو يتلاءم مع إمكانيات المؤسسة المادية و الفعلية[10].
ويتميز هذا النظام على خلاف سابقه في أن رأي الهيئة ليس استشاريا بل هو ملزم للإدارة المؤسسة العقابية.

3. نظام مركز الاستقبال: يفترض هذا النظام وجود جهاز مركزي يمتد اختصاصه إلى كامل أقاليم الدولة، حيث تجري دراسة كاملة لكل محكوم عليه على حدا، وفي ضوء ذلك يتم توجيهه إلى المؤسسة العقابية الملاءمة لحالته مع بيان أسلوب المعاملة العقابية الذي ينبغي إتباعه في مواجهته، وهذا النظام يحقق أهداف المعاملة العقابية في أجلى معانيها، وذلك أنه يستقبل جميع المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية ثم يتولى فحصهم وتوزيعهم على المؤسسات وفق معايير موحدة يضعها المركز، مما يحقق قدرا كبيرا من المساواة بينهم.

[1] عبد الرحمن محمد أبو توتة، مرجع سابق، ص273
[2] محمد خلف، مرجع سابق، ص185
[3] فوزية عبد الستار، مرجع سابق، ص351
[4] عبد الرحمن محمد أبو توتة، مرجع سابق، ص278،279
[5] فوزية عبد الستار، مرجع سابق، ص352
[6] محمد خلف، مرجع سابق، ص193
[7] نفس المرجع، ص194،195
[8] عبد الرحمن محمد أبو توتة، مرجع سابق، ص281
[9] فوزية عبد لستار، مرجع سابق، ص359
[10] عبد الرحمن محمد أبو توتة، مرجع سابق، ص283