تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف
عبدالله الشملاوي
محامٍ بحريني

يقول المندوب الخاص للأمم المتحدة في قضايا التعذيب نيغل رودلي: «إن الواقع المظلم هو أن على رغم إجراءات المنظمات غير الحكومية والحكومية على مدى ربع قرن من الزمن، لايزال التعذيب يعد مشكلة منتشرة وواسعة، ليس فقط ضد المعارضين السياسيين، بل أيضا ضد المشتبه في ارتكابهم جرائمَ محددة».

والتعذيب بصفته ظاهرة أو مشكلة ليست جديدة. فقد عرفته كل الحضارات القديمة سواء ما بني منها على الأديان أو على أفكار فلسفية أو غير ذلك. ولم يكن حظ القرن العشرين بالنسبة إلى التعذيب – على رغم ما عرفه من تقدم – بأقل من حظ القرون الأخرى، بل ربما كان هذا القرن قد عرف من الفظائع بالجملة، ومن القتل الجماعي ما لم تعرفه القرون الأخرى.

وأصبح المرء أمام ظاهرة بدأت تتفشى، وهي ظاهرة العنف ضد المتهمين وخصوصا في الجرائم السياسية، إذ غدا أمرا معتادا في كثير من البلدان، حسبما يظهر من تقارير منظمة العفو الدولية التي توضح أن الدول إنما تلجأ للتعذيب في محاولة منها للقضاء على معارضيها السياسيين، حتى أصبح التعذيب عملا روتينيا من أعمال جهات الأمن، بدأ بالاعتقال الفجائي ليلا إلى الاغتصاب وتدبير الحوادث المميتة بشكل غامض، واستخدام العقاقير الطبية من أجل التسلل إلى ذاكرة المتهم بما يعد انتهاكا لحقه في الخصوصية بوصفها أحد الحقوق المتفرعة عن حقه في المساواة مع غيره في الاحتفاظ بمكنونات نفسه.

ولقد ساعدت التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة على جعل كثير من الناس في دائرة الاتهام، وبالتالي أمكن تعريضهم للعنف بصور مختلفة. ومرجع الأصل التاريخي لإمعان المحقق في تعذيب المتهمين هو ممارسة هذا العمل من قبل المحقق على نحو التعبد للأباطرة الرومان بوصفهم ممثلين للآلة، ولما كان يبذله هؤلاء من عطايا سخية للمحقق الذي يتمكن من انتزاع اعتراف المتهم، وخصوصا إذا كانت التهمة من قبيل العيب في الذات الملكية. وكانت أوروبا عموما تجيز التعذيب وخصوصا في الجرائم الدينية بسبب سيطرة الكنيسة. ولم تكن بريطانيا تسمح بالتعذيب؛ لأنها كانت تنتهج سياسة مستقلة عن الكنيسة، ومع ذلك فقد مورس التعذيب واقعا في بريطانيا في الجرائم ذات الطابع الديني وجريمة الخيانة العظمى.

ثم هبت رياح التغيير على يد الفيلسوف فولتير في فرنسا، الذي أدان التعذيب، وشايعه في ذلك الفيلسوف بيكاريا في إيطاليا الذي اعتبر التعذيب عقوبة توقع على المتهم قبل الحكم عليه بما يعد تطويحا بالنظام القضائي كله. ولقد أدى تأثير كلام فولتير وبيكاريا إلى منع التعذيب في بروسيا سنة 1740م وفي فرنسا العام 1789م. وسرعان ما لحقت بلدان أوروبية أخرى بذلك بحيث منعت التعذيب.

ومع مطلع القرن التاسع عشر يمكننا القول أو الادعاء إن التعذيب – الذي هو طريقة غير إنسانية في التعامل مع البشر – قد انتهى. وعلى رغم ذلك حتى هذا اليوم هناك الكثير من المناطق في العالم التي يحصل فيها شكل من أشكال التعذيب على رغم إدانة المجتمع الدولي التعذيب واعتباره جرما يُرتكب في حق الكرامة الإنسانية؛ لما يمثله من انتهاك أساسي لحقوق الإنسان، وأهمها حقه في الأمن الفردي وهو حقه في سلامة جسمه، كما حرّم القانون الدولي التعذيب تحريما قاطعا أيا كانت الظروف.

ولقد بذلت جهود دولية جبارة لمكافحة التعذيب تمثلت في المعاهدات الدولية، ومنها اتفاقية جنيف للعام 1976 والخاصة بالحقوق المدنية والسياسية التي حرّمت التعذيب، وجميع صور المعاملة القاسية، وحددت الأمم المتحدة في مشروع اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب المقصود به والشخص القائم به بشكل تفصيلي، وقد تم فعلا اعتماد هذا المشروع بكونه اتفاقية دولية في ديسمبر/ كانون الأول 1984 التي انضمت إليها البحرين بموجب المرسوم رقم (4) لسنة 1998 المعدل بالمرسوم رقم (34) لسنة 1999. وقد ورد تحريم التعذيب في ميثاق منظمة الدول الأميركية للعام 1959 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان للعام 1981.

كما نصت معظم دساتير الدول – إن لم نقل كلها – على تحريم التعذيب. ومن هذه الدساتير الدستور البحريني الذي نص في المادة (19/د) منه على الآتي: «لا يعرض أي إنسان للتعذيب المادي أو المعنوي، أو للإغراء، أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك، كما يبطل كل قول أو اعتراف يثبت صدوره تحت وطأة التعذيب أو الإغراء أو لتلك المعاملة أو التهديد بأي منها». ثم جاءت المادة (21/د) مؤكدة حظر التعذيب فنصت على ما يأتي: «يحظر إيذاء المتهم جسمانيا أو معنويا»، وهو ما أكده ميثاق العمل الوطني البحريني في العام 2001.

ويقصد بالتعذيب كما عرّفته المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب التي دخلت حيز التنفيذ في 26 يونيو/ حزيران 1987م أنه «أي عمل ينتج منه ألم أو عذاب شديد جسميا كان أو عقليا يلحق عمدا بشخص ما، بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن في ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية، أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها».

فالتعذيب يرتبط ارتباطا وثيقا بالمتهم والجريمة والتحقيق الذي غايته اكتشاف فاعل الجريمة وجمع الأدلة على ارتكابه الجرم وتقديمه إلى المحاكمة. وللتحقيق أصول لا تعدو كونها إجراءات قانونية تخول المحقق جمع الأدلة وتحديد هوية الفاعل، وقد وضعت تلك الإجراءات القانونية لضمان سلامة التحقيق من جهة ولضمان سلامة المتهم من جهة ثانية. إلا أن الأخطار تحوق بكليهما جراء حصول بعض الممارسات الشاذة في كثير من البلدان التي ترمي إلى اختصار الطريق القانونية والسليمة بأن ينصب التحقيق بكل قوته على شخص المتهم لاستخلاص الإقرار منه، وكأن الإقرار هو الغاية من التحقيق، وكأنه كافٍ بحد ذاته لتأييد الاتهام والإدانة المتهم.

ولكن إذا أمعنا النظر في طبيعة الإقرار وجدنا أنه لا يشكل سوى دليلٍ من بين الأدلة الكثيرة التي يجب أن يؤيد بها الادعاء. وقد وضع العلم الحديث الوسائل الفنية الكافية التي تمكن من اقتفاء آثار المجرمين وجمع الأدلة بحقهم من دون المساس بسلامتهم وتعذيبهم لجبرهم على الإقرار. فكم من إقرار كاذب أضاع آثار المجرم الحقيقي وقاد القضاء إلى أخطاء قانونية والحكم على الأبرياء، إذ إن الذين يرغبون في أن يكونوا شهداء، نادرا ما يعترفون أو يكشفون عن أي شيء من مكنوناتهم بالإكراه. وعلى العكس من ذلك، كان آخرون قد عُرف عنهم أنهم يعترفون بأي جريمة ويقدمون أية معلومات عندما يخضعون للتعذيب. ولذلك على القاضي الجنائي ألا يقابل اعتراف المتهم بالترحاب والقبول، بل عليه أن يقابله بغاية من الحيطة والحذر والاحتراس. فالاعتراف بالجرم يورد صاحبه موارد الهَلَكَة، وليس من طبائع البشر وغرائز الإنسان أن يقبل على موارد الهلاك طائعا مختارا، كما أن المتهم نادرا ما يعترف بوازع من الندم أو تأنيب الضمير. فالإقرار ليس كل شيء، والأهمية التي تعطى اليوم للإقرار من قبل البعض ليست سوى من آثار ذلك الماضي القاتم حيث كان الإقرار يشكل الطريق المثلى لإثبات الجرم.

إن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة تتوافر فيها جميع الضمانات القانونية في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة. ومع هذه القرينة القانونية لابد من الاهتمام بالأدلة الجنائية وتوفير الضمانات القانونية لسلامة تلك الأدلة، وكثيرا ما يتبع البحث عن الأدلة مساسٌ بالحريات الفردية للمتهم أو استباحتها.

ولمّا كان الهدف من الإجراءات الجنائية – كما أسلفنا – ليس كشف الحقيقة بعيدا عن احترام حرية المتهم؛ مما يتعين معه احترام تلك الحرية وتأكيد ضماناتها، فلا قيمة للحقيقة التي يتم الوصول إليها على مذبح الحرية؛ إذ من الممكن جدا إجبار المتهم على الكلام ولكن من المتعذر بل من المستحيل إجباره على قول الحقيقة. ولقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه يجب ألا يعول على اعتراف المتهم مهما كان صادقا، مادام وليد إكراه مهما كان قدره، وهو الأمر الذي انتظمته المادة (19/د) من الدستور البحريني التي تقدم ذكرها، كما نصت على البطلان المادة (128/1) من قانون أصول المحكمات الجزائية التي تنص على أن «لا يقبل في معرض البينة أي اعتراف يدلي به المتهم إذا تبيّن للمحكمة أن الإدلاء به جاء نتيجة إغراء أو تهديد أو وعد يتعلق بالتهمة المسندة إليه صادر من شخص ذي سلطة وكافٍ في رأي المحكمة لجعل المتهم يفترض لأسباب تبدو له معقولة سيجني فائدة أو ينفي شرا من نوع دنيوي فيما يتعلق بالإجراءات ضده»، وهو القانون الذي حل محله المرسوم بقانون (46/2002)، وتنص المادة (253) منه على ما يأتي: «يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، ومع ذلك لا يجوز له أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه وكل قول يثبت أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأة الإكراه أو التهديد به يهدر ولا يعول عليه».

نلاحظ على النصين سالفي الذكر أن المشرع لم يكتفِ بتحريم تعريض أي إنسان للتعذيب المادي أو المعنوي، بل مد ذلك التحريم إلى الإغراء أو المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية، وجرّم هذا الفعل وأبطل كل قول أو اعتراف من قبل المتهم يثبت صدوره تحت وطأة التعذيب المادي أو المعنوي أو المعاملة غير الإنسانية للمتهم حتى مجرد التهديد بها، بمعنى أنه لا يشترط في وسائل التعذيب أن تكون من الخطورة بحيث تؤدي لوفاة المتهم حتى أن تترك آثارا في جسمه، بل بدرجة الاعتداء على حرية المتهم أو المسّ بكرامته. فإذا صاحب الاعتراف شيء مما تقدم من صنوف التعذيب حتى مجرد التهديد بها أو بأحدها كان البطلان حكم الاعتراف المتولد عنها.

وتعليل ذلك البطلان من الناحية القانونية أن من شروط صحة الاعتراف أن يكون ناتجا من إرادة حرة. وشرط الإرادة في الاعتراف شرط موضوعي يتوقف عليه وجود العمل الإجرائي ذاته. فالإرادة هي خالقة الاعتراف بصفته عملا إجرائيا، ومن دونها لا يكون له كيان قانوني. والعجيب إن النص القانوني الملغي ذا الأصل الإنجليزي الصادر في مطلع القرن الماضي أوفق بالمتهم وأصلح له. ولقد ورد عن الخليفة عمر (رض) قوله: «ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته».

ولما كان البطلان هنا متعلقا بالنظام العام على أساس المحافظة على المصلحة العامة وليس المصلحة الخاصة، فلا يجوز التنازل عنه كما لا يجوز افتراض صحته ولو رضي صاحب الشأن؛ لأن رضاه معناه التنازل عن التمسك بالبطلان، وهو أمر غير جائز. ويتعين على المحكمة متى استشعرت عدم نزاهة الدليل أن تقضي ببطلانه من تلقاء نفسها. ويكون كذلك إذا عرض المتهم لأي صنف من العنف، عملا بقاعدة بطلان الدليل المتولد خلافا للشرعية الإجرائية؛ إذ عندما يقع الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، وتغدو السلطة التشريعية سائرة في ركب السلطة التنفيذية، أو عندما يصل بها الأمر إلى حد اغتصابها السلطة التشريعية لنفسها، تتربص بالقضاء للقضاء على استقلاله، فتتقهقر حريات الأفراد، وتتسع سلطة الإدارة وتتغول، وتكون أكثر تحررا من القانون، وهي بطبيعتها نزاعة لذلك، فإذا وقعت حوادث تتفاجأ سلطات الأمن بها، تظهر بمظهر المقصر غير العالم بما يحدث، وهو أمر غير مستحب من جانبها، في هذه الحالة.

فسلطات الأمن – فضلا عمّا تقوم به من اعتقالات عشوائية – تحاول جاهدة تدارك تقصيرها في منع وقوع الجرائم باصطناع الأدلة لمن تنسب إليهم ارتكاب الحوادث، وقد تصل سلطة التحقيق في سبيل إثبات ذاتها إلى حد ممارسة الاعتداءات الجسمية على المعتقلين علها تنتزع منهم اعترافا يقوم مقام الدليل في إثبات التهمة عليهم، وتعمد من ثم لتأخير عرض المتهمين على قاضي التحقيق؛ مما ينطوي عليه ذلك الاحتجاز – بلا سند – من تعدٍّ على الدستور والمواثيق الدولية الملزمة. وهي تريد من ذلك أمرين أولهما: الإمعان في تعذيب من صمد من المتهمين، وثانيهما زوال آثار التعذيب ممن اعترف منهم.

ولا شك في أن هذا السلوك يكشف عن قصور وعجز عن كشف الحقيقة، وتقديم متهم بلا تهمة للقضاء، أو بتهمة ولكن بغير دليل، أو في أحسن الفروض بدليل فاقد للمشروعية. ولا شك في أن هذا تضليل للعدالة؛ ذلك أن إقامة العدالة يعني تحقيق دليل الاتهام بالقدر نفسه الذي يتم به تحقيق دفاع المتهم، كما أنه تحقيق للتوازن بين خضوع الجميع للقانون، فإذا أصبح الإنسان متهما فإن ذلك غير كافٍ للحط من كرامته وإيذائه بغية إدانته واعتبار ذلك وسيلة لإقامة العدالة بين أفراد المجتمع.

ولقد قيل بحق إن الإجراءات الجنائية في دولة ما هي الصورة الدقيقة للحريات في هذا البلد. وعليه إن تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف بجرم نسب إليه يعتبر هدما لجانب كبير من جوانب الشرعية الإجرائية، فضلا عن كونه فعلا مؤثما في المواثيق الدولية، وجريمة معاقبا عليها في سائر التشريعات الوطنية على أنها جناية مشددة العقوبة.

وخلاصة القول إن أمر التحقيق في الجرائم دقيق جدا، إذ يقتضي إقامة توازن دائم بين الوسائل الرامية إلى المحافظة على المجتمع بالكشف عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها وحقوق المواطنين في صيانة حريتهم وكرامتهم. وضمانة هذا التوازن تتوافر في الآتي:

1. سنّ القوانين التي تحرّم التعذيب وتجرمه: ذكرنا مجموعة من تلك النصوص التي حرّمت التعذيب وجرّمته. ولا ننسى أن نشير في هذا الخصوص إلى نص المادة (208) من قانون العقوبات البحريني التي تنص على أن «يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها.

وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا أفضى استعمال التعذيب أو القوة إلى الموت». وجريمة التعذيب – كأي جريمة – يتطلب لقيامها عدد من العناصر، منها مادي وهو النشاط الإجرامي للفاعل والنتيجة التي استهدفها، والعلاقة السببية بين النشاط والنتيجة والجانب المعنوي، ويقصد به الصلة بين إرادة الجاني والجانب المادي لجريمته، وهو القصد الجنائي.

ويضيف المشرع عناصرَ أخرى في البنيان القانوني لجريمة التعذيب، فإن تخلف أحدها امتنع قيام الجريمة. ومن تلك العناصر الخاصة كون الجاني موظفا عموميا، وكون المجني عليه متهما، فإذا لم يكن الجاني موظفا عموميا، كنا أمام جريمة اعتداء على جسم الغير، وكذلك الحال إن لم يكن المجني عليه متهما.

ويعتبر فاعلا أصليا من قام بالتعذيب ومن أمر به، أو أذن به على رغم عدم اتصاله بفعل التعذيب ذاته، وخصوصا إذا صدر الأمر والأذن أمام المجني عليه، فإنه برؤيته أو سماعه الأمر بالتعذيب أو الأذن به أكثر ترويعا من التعذيب نفسه وأشد وطئا عليه وإرهابا له؛ باعتبار التعذيب أو التهديد به إنما يقصد به حمل المتهم على الاعتراف بما نسب إليه أثناء التحقيق معه. ورجل السلطة في عدوانه على الأفراد بتعذيبهم أو بتهديدهم أو إغرائهم لحملهم على الاعتراف بما يريد يدرك مدى سطوته المستندة إلى سلطته ويستثمر علاقة الخضوع من الأفراد تجاه السلطة، من دون أن يملكوا حيال بطشه دفعا ولا منعا، وخصوصا إذا كان المجتمع يعيش ثقافة الخوف؛ لأن الجاني يستثمر سلطة وظيفته وسطوتها أسوأ استثمار فيما ينطوي عليه سلوكه من اعتداءات على حقوق فردية ومصالح قانونية تبدأ بمصادرة حق الفرد في صيانة مكونات نفسه وفي سلامة جسمه وحياته، وحقه في الدفاع عن نفسه، وتصل إلى تضليل العدالة باعتراف كاذب قد ينزله القضاء منزل الصدق، ثقة منه بحيادة الإدارة العامة ونزاهتها!

والأمر بالتعذيب بطريق الترك أو الامتناع هو أكثر الفروض وقوعا في العمل. فإذا وقع التعذيب على المتهم لحمله على الاعتراف من موظف أمام رئيسه في العمل أو اتصل بعلم ذلك الرئيس، ولم يأمر مرؤسيه بالكف عن تعذيب المتهم، فإن الرئيس يكون هنا قد عبّر عن إرادته تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، وذلك هو جوهر الأمر بالتعذيب المحرّم شرعا والمنهي عنه من قبل المشرِّع الدستوري والمواثيق العالمية، والمعاقب عليه من قبل القوانين بوصفه جناية عقوبتها السجن مدة طويلة، فضلا عن العقوبات التبعية.

2. إيجاد جهاز للشرطة القضائية واثق بمقدرته العلمية والفنية والبشرية وقادر على فرض وجوده مع احترام حقوق المواطنين: تفتقر أجهزة الشرطة في الغالب للعناصر ذوي الثقافة العلمية العالية والتخصص، كما أنها – أي أجهزة الشرطة – تفتقر للمختبرات العلمية المتطورة وأدوات الاتصال السريع، والتخطيط في مكافحة الجرائم والوقاية منها. فجهاز الشرطة الذي يعتمد على مقدرته الفنية في وقاية المجتمع من الإجرام وملاحقة المجرم لا يرى نفسه مضطرا إلى اللجوء سوى للأساليب العلمية والقانونية للقيام بمهماته وتتبع آثار المجرم وجمع الأدلة بحقه. وإن تهيئة جهاز الشرطة ليكون على مستوى المسئولية يتطلب رفع ملكاته وتجهيزه بصورة فنية وتمكين العناصر الصالحة والمختصة من دخوله.

فلكي تكون للشرطة فاعليتها وتجد المساندة من قبل المواطنين يجب أن تكون محترمة منهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الاحترام المتبادل أي عندما يشعر المواطن أن الشرطي يحترمه ويسهر على أمنه وسلامته بكل جد وإخلاص ويجد لديه كل مساعدة ممكنة. عندئذ يبدأ المواطن احترام الشرطي ومعاونته في أداء رسالته.

3. ضمان السماح بالاتصال بالسجناء أو الموقوفين: كثيرا ما يقع التعذيب عندما يكون السجناء أو الموقوفون محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي وغير قادرين على الاتصال بمن يستطيع مساعدتهم أو معرفة ما يحدث لهم. ومن ثم يتعين الكف عن ممارسة احتجاز السجناء أو الموقوفين بمعزلٍ عن العالم الخارجي. وينبغي أن يضمن مثول جميع السجناء أمام هيئة قضائية مستقلة عقب احتجازهم، ومن دون إبطاء، والسماح للأقارب والمحامين والأطباء بحق الاتصال بالمحتجزين فورا وبصفة دورية.

4. عدم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية: يحدث التعذيب في الغالب في الأماكن السرية. وفي كثير من الحالات يعقب ذلك إعلان «اختفاء» الضحايا. ولذلك يجب أن يضمن عدم احتجاز السجناء أو الموقوفين إلا في أماكن احتجاز معترف بها رسميا، وأن تُقدم على الفور معلومات دقيقة عن اعتقالهم ومكان احتجازهم إلى أقاربهم ومحاميهم والمحاكم، وينبغي توفير وسائل قضائية فعالة في جميع الأوقات يمكن من خلالها لأقارب السجناء ومحاميهم أن يعرفوا على الفور مكان احتجازهم والسلطة التي تحتجزهم وذلك لضمان سلامتهم من أي عسف.

5. توفير الضمانات الكافية أثناء الاحتجاز والاستجواب: يجب أن يُحاط جميع السجناء والمعتقلين والمحتجزين علما بحقوقهم على الفور، ومنها حق التقدم بأي شكوى من معاملتهم والحق في أن يبت قاضٍ – من دون تأخير – في قانونية احتجازهم. ويجب أن يحقق القضاة في أي دليل على وقوع تعذيب ويوصوا النيابة العامة بملاحقة من وقع منه فعل التعذيب بالمعنى الواسع لهذا المصطلح ويأمروا بالإفراج عن السجين إذا كان احتجازه غير قانوني. وينبغي أن يحضر محامٍ مع المحتجز خلال الاستجواب وألا يقتصر حضور المحامي مع المتهم على مرحلة المحاكمة كما يرى بعض الفقه التقليدي المبني على القراءة السياسية لنصوص القانون، بما يوائم هوى السلطة التنفيذية؛ إذ قد تفوت على المتهم، بسبب عدم تمكينه من إحضار محاميه الذي اختاره أو وافق عليه، أمور لا يمكن تداركها بعد ذلك.

كما ينبغي للحكومات أن تضمن توافق ظروف الاحتجاز مع المعايير الدولية لمعاملة السجناء. ويتعين أن تكون السلطة المسئولة عن الاحتجاز منفصلة عن السلطة المسئولة عن الاستجواب، ويقوم مفتشون مستقلون بزيارات دورية غير معلن عنها مسبقا ومن دون قيود لجميع أماكن الاحتجاز؛ تفاديا لافتعال مظاهر توافق القانون بخلاف الحقيقة.

6. لابد من وجود قضاة مستقلين أكفاء واثقين بأنفسهم وبعملهم حريصين على جعل شخصيتهم وحكمتهم ومواطنتهم خير حامٍ للمجتمع والحرية الفردية.

7. لابد من وجود رقابة على أداء جهاز الشرطة لعملهم والتزامهم بالقانون: لا تكفي القوانين وحدها لمنع التعذيب أو القضاء على ظاهرة تعذيب المتهمين. كما ينبغي – على وجه السرعة – التحقيق في دعاوى التعذيب بإجراء تحقيق نزيه وفعال في جميع شكاوى التعذيب تتولاه هيئة مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكاب التعذيب. كما ينبغي إعلان الوسائل والخطوات المتبعة في هذا التحقيق والنتائج التي يتمخض عنها عملا بمبدأ الشفافية الذي صار معيارا للتمدن عند الأمم. وينبغي وقف المسئولين المشتبه في ارتكابهم التعذيب عن القيام بواجبات عملهم خلال التحقيق. ويتعين توفير الحماية للمتظلمين وذويهم، والشهود، وغيرهم من المعرضين للخطر بصفتهم أفرادا أو منظمات المجتمع المدني ذات الاهتمام من أي ترهيب أو أعمال انتقامية قد يتعرضون لها.

وإذا ما أظهرت التحقيقات مسئولية المشتبه في ارتكابهم أعمال التعذيب، فلابد من تقديمهم إلى المحاكمة. وهذا المبدأ ينطبق أيا كان المكان الذي وقع فيه التعذيب وأيا كان أشخاص مرتكبيه أو وضعهم، أو شخص الضحية، ومن دون اعتبار للوقت الذي انقضى على ارتكاب الجريمة؛ إذ لا يجوز أن تسقط بالتقادم؛ لأنها جريمة خصها المشرِّع الدولي والوطني بمعالجة خاصة؛ نظرا إلى طبيعة تلك الجريمة وماهيتها وبعدها الإنساني الذي شكل تهديدا للأمن الاجتماعي؛ مما اقتضى أن تكون هذه الجريمة جناية دائما وخارجة عن قاعدة السقوط بالتقادم لأنها كما صرح الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان بأن «التعذيب وصمة عار على جبين الإنسانية».

لا يفوتني أن أقول لمن فسر المادة الثالثة من المرسوم رقم (10) لسنة 2001 الخاص بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني التي يجري نصها: «يشمل العفو الموقوفين والمتهمين والمحكوم عليهم ممن تسري عليهم أحكام هذا القانون من المواطنين الموجودين داخل البلاد، أو خارجها، على أن يتم العفو على المواطنين الموجودين بالخارج وفق الإجراءات المعمول بها ومع عدم المساس بحقوق الغير، لا تسمع الدعاوى المترتبة عن العفو الصادر بموجب هذا القانون والمراسيم والأوامر التي صدرت في هذا الشأن» إن العفو يمضي على غير المتهمين المعفي عنهم فعلا بأنه تفسير لا تحمله قوائم ولا يقبله وجدان سليم؛ ذلك أن المرسوم المذكور قد عنون بأنه المذكور خاص بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني، وهو قانون خاص فيمتنع أن تجري أحكامه على غير من قصدهم، هذا من جهة ومن جهة أخرى إن أي أنشطة أخرى من أي نوع كانت ومن أية جهة صدرت، وتحت أي مسمى أو مبرر تمت لا يمكن أن تدخل تحت مظلة العفو الملكي المذكور. وعليه إن حق كل من تضرر من إجراءات أو تصرفات جاءت بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الدولية سالفة الذكر في مقاضاة من خالف الدستور والقانون والمواثيق الدولية، وإن لذلك المضرور حقا مكفولا قانونا ولا يسقط بالتقادم وليس مشمولا بمرسوم العفو أو بالأحرى بالتفسير السياسي لذلك المرسوم، وإن أي تفسير آخر لهذا النص يعد تعديلا له تحت ستار التفسير، وإذا رفضت النيابة العامة تلقي الشكوى، أو التحقيق فيها – عملا بالمرسوم المذكور، أو بالأحرى بالتفسير السياسي له، وتبعتها المحاكم الجنائية في التظلم من قرار النيابة العامة، بعدم قبول الشكوى أو حفظها – فلا أقل من رفع دعاوى للمطالبة بالتعويض على من باشر التعذيب أو أمر به أو سكت عن الأمر به أو مباشرته، مع إدخال الدولة في الدعوى على أساس مسئولية المتبوع عن أفعال تابعه.

فإذا أعيت المدعين الحيل، واستغلقت عليهم السبل من جانب القضاء المدني الوطني، فلهم أن يبتغوا إلى القضاء الدولي سبيلا، ولو من باب إيجاد الضغط الإعلامي، الذي هو اليوم أمضى سلاح بيد من اكتووا بنار التعذيب.

صفوة القول إن أمر التحقيق في الجرائم دقيق جداً، إذ يقتضي إقامة توازن دائم بين الوسائل الرامية إلى المحافظة على المجتمع بالكشف عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها وحقوق الأفراد في صيانة حريتهم وكرامتهم. وضمانة هذا التوازن تتوافر في الآتي:

1 – سن القوانين التي تحرم التعذيب وتجرمه، وقد ذكرنا مجموعة من تلك النصوص التي حرمت التعذيب وجرمته، ولا ننسى أن نشير في هذا الخصوص إلى نص المادة (208) من قانون العقوبات البحريني والتي تنص على أنه: «يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها.

وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا أفضى استعمال التعذيب أو القوة إلى الموت». وجريمة التعذيب، كأي جريمة يتطلب لقيامها عدد من العناصر، منها مادي وهو النشاط الإجرامي للفاعل والنتيجة التي استهدفها، والعلاقة السببية بين النشاط والنتيجة. وجانب معنوي، ويقصد به الصلة بين إرادة الجاني والجانب المادي لجريمته، وهو القصد الجنائي. ويضيف المشرع عناصر أخرى في البنيان القانوني لجريمة التعذيب، فإن تخلف أحدها امتنع قيام الجريمة.

ومن تلك العناصر الخاصة، كون الجاني موظفا عموميا، وكون المجني عليه متهما، فإذا لم يكن الجاني موظفا عموميا، كنا أمام جريمة اعتداء على جسم الغير، وكذلك الحال إن لم يكن المجني عليه متهما.

ويعتبر فاعلا أصليا من قام بالتعذيب ومن أمر به، أو أذن به على رغم عدم اتصاله بفعل التعذيب ذاته، وخصوصا إذا صدر الأمر والأذن أمام المجني عليه، فإنه برؤيته أو سماعه الأمر بالتعذيب أو الأذن به، أكثر ترويعا من التعذيب نفسه وأشد وطئا عليه وإرهابا له؛ باعتبار أن التعذيب أو التهديد به إنما يقصد به حمل المتهم على الاعتراف بما نسب إليه أثناء التحقيق معه، ورجل السلطة، في عدوانه على الأفراد، بتعذيبهم أو بتهديدهم أو إغرائهم، لحملهم على الاعتراف بما يريد، يدرك مدى سطوته المستندة إلى سلطته ويستثمر علاقة الخضوع من الأفراد تجاه السلطة، دون أن يملكوا حيال بطشه دفعا ولا منعا، وخصوصا إذا كان المجتمع يعيش ثقافة الخوف؛ لأن الجاني يستثمر سلطة وظيفته وسطوتها أسوأ استثمار فيما ينطوي عليه سلوكه من اعتداءات على حقوق فردية ومصالح قانونية تبدأ بمصادرة حق الفرد في صيانة مكونات نفسه وفي سلامة جسمه وحياته، وحقه في الدفاع عن نفسه، وتصل إلى تضليل العدالة باعتراف كاذب قد ينزله القضاء منزلة الصدق، ثقة منه في حيدة الإدارة العامة ونزاهتها وهو افتراض قد لا يكون له واقع!

والأمر بالتعذيب بطريق الترك أو الامتناع، هو أكثر الفروض وقوعا في العمل، فإذا وقع التعذيب على المتهم لحمله على الاعتراف من موظف أمام رئيسه في العمل أو اتصل بعلم ذلك الرئيس، ولم يأمر مرؤوسيه بالكف عن تعذيب المتهم، فإن الرئيس يكون هنا قد عبر عن إرادته بتعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، وذلك هو جوهر الأمر بالتعذيب المحرم شرعا والمنهي عنه من قبل المشرع الدستوري والمواثيق العالمية، والمعاقب عليه من قبل القوانين بوصفه جناية عقوبتها السجن مدة طويلة، فضلا عن العقوبات التبعية.

2 – إيجاد جهاز للشرطة القضائية واثق بمقدرته العلمية والفنية والبشرية وقادر على فرض وجوده مع احترام حقوق المواطنين؛ إذ تفتقر أجهزة الشرطة، في الغالب، إلى العناصر ذوي الثقافة العلمية العالية والتخصص، كما أنها – أي أجهزة الشرطة – تفتقر إلى المختبرات العلمية المتطورة وإلى أدوات الاتصال السريع، وإلى التخطيط في مكافحة الجرائم والوقاية منها. فجهاز الشرطة الذي يعتمد على مقدرته الفنية في وقاية المجتمع من الإجرام وملاحقة المجرم لا يرى نفسه مضطرا إلى اللجوء سوى للأساليب العلمية والقانونية للقيام بمهماته وتتبع آثار المجرم وجمع الأدلة بحقه في ضوء الشرعية الإجرائية. وإن تهيئة جهاز الشرطة ليكون على مستوى المسئولية يتطلب رفع ملكاته وتجهيزه بصورة فنية وتمكين العناصر الصالحة والمختصة من دخوله؛ فلكي تكون للشرطة فاعليتها وتجد المساندة من قبل المواطنين يجب أن تكون محترمة منهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الاحترام المتبادل، أي عندما يشعر المواطن بأن الشرطي يحترمه ويسهر على أمنه وسلامته بكل جد وإخلاص ويجد لديه كل مساعدة ممكنة، عندئذ يبدأ المواطن باحترام الشرطي ومعاونته في أداء رسالته، وهي صيانة أمن وسلامة المجتمع وفقا لمقتضيات القانون الذي يسود الجميع.

3 – ضمان السماح بالاتصال بالسجناء أو الموقوفين. فكثيراً ما يقع التعذيب عندما يكونون محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي وغير قادرين على الاتصال بمن يستطيع مساعدتهم أو معرفة ما يحدث لهم. ومن ثم يتعين الكف عن ممارسة احتجاز السجناء أو الموقوفين بمعزلٍ عن العالم الخارجي. وينبغي أن يضمن مثول جميع السجناء أو الموقوفين أو المعتقلين أمام هيئة قضائية مستقلة عقب احتجازهم، وذلك دون إبطاء، والسماح للأقارب والمحامين والأطباء بحق الاتصال بالمحتجزين فور احتجازهم، وبصفة دورية أثناء احتجازهم.

4 – عدم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية، إذ يحدث التعذيب في الغالب في الأماكن السرية، وفي كثير من الحالات يعقب ذلك الإعلان عن «اختفاء» الضحايا! ولذا يجب أن يضمن عدم احتجاز السجناء أو الموقوفين إلا في أماكن احتجاز معترف بها رسمياً، وأن تُقدم على الفور معلومات دقيقة عن اعتقالهم ومكان احتجازهم لأقاربهم ومحاميهم وللمحاكم. وينبغي توفير وسائل قضائية فعالة في جميع الأوقات يمكن من خلالها لأقارب السجناء ومحاميهم أن يعرفوا على الفور مكان احتجازهم والسلطة التي تحتجزهم ولضمان سلامتهم من أي عسف.

5 – توفير الضمانات الكافية أثناء الاحتجاز والاستجواب، فيجب أن يُحاط جميع السجناء والمعتقلين والمحتجزين علماً بحقوقهم على الفور، ومنها حق التقدم بأي شكوى من معاملتهم والحق في أن يبت قاض، دون تأخير، في قانونية احتجازهم. ويجب أن يحقق القضاة في أي دليل على وقوع تعذيب وأن يوصوا النيابة العامة بملاحقة من وقع منه فعل التعذيب بالمعنى الواسع لهذا المصطلح وأن يأمروا بالإفراج عن السجين إذا كان احتجازه غير قانوني. وينبغي أن يحضر محام مع المحتجز خلال الاستجواب وألا يقتصر حضور المحامي مع المتهم على مرحلة المحاكمة كما يرى بعض الفقه التقليدي المبني على القراءة السياسية لنصوص القانون، بما يوائم هوى السلطة التنفيذية؛ إذ قد تفوت على المتهم، بسبب عدم تمكينه من إحضار محاميه الذي اختاره أو ارتضاه، أمور لا يمكن تداركها بعد ذلك. كما ينبغي على الحكومات أن تضمن توافق ظروف الاحتجاز مع المعايير الدولية لمعاملة السجناء. ويتعين أن تكون السلطة المسئولة عن الاحتجاز منفصلة عن السلطة المسئولة عن الاستجواب، وأن يقوم مفتشون مستقلون بزيارات دورية غير معلن عنها مسبقاً ودون قيود، لجميع أماكن الاحتجاز، تفاديا لافتعال مظاهر توافق القانون بخلاف الحقيقة.

6 – وإلى جانب جهاز الشرطة القادر لابد من وجود قضاة مستقلين أكفاء واثقين من أنفسهم ومن عملهم حريصين على جعل شخصيتهم وحكمتهم ومواطنيتهم خير حام للمجتمع وللحرية الفردية.

7 – لابد من وجود رقابة على أداء جهاز الشرطة لعملهم والتزامهم بالقانون، فلا تكفي القوانين وحدها لمنع التعذيب أو للقضاء على ظاهرة تعذيب المتهمين. كما ينبغي، وعلى وجه السرعة، التحقيق في دعاوى التعذيب، وذلك بإجراء تحقيق نزيه وفعال في جميع شكاوى التعذيب، تتولاه هيئة مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكاب التعذيب. كما ينبغي الإعلان عن الوسائل والخطوات المتبعة في هذا التحقيق وعن النتائج التي يتمخض عنها، عملا بمبدأ الشفافية الذي صار معيارا للتمدن عند الأمم. وينبغي وقف المسئولين المشتبه في ارتكابهم للتعذيب عن القيام بواجبات عملهم خلال التحقيق. ويتعين توفير الحماية للمتظلمين وذويهم، والشهود، وغيرهم من المعرضين للخطر كأفراد أو منظمات المجتمع المدني ذوي الاهتمام، من أي ترهيب أو أعمال انتقامية قد يتعرضون لها. وإذا ما أظهرت التحقيقات مسئولية المشتبه في ارتكابهم لأعمال التعذيب؛ فلابد من تقديمهم إلى المحاكمة. وهذا المبدأ ينطبق أياً كان المكان الذي وقع فيه التعذيب وأياً كان أشخاص مرتكبيه أو وضعهم، أو شخص الضحية، ودون اعتبار للوقت الذي انقضى على ارتكاب الجريمة؛ إذ لا يجوز أن تسقط بالتقادم؛ لأنها جريمة خصها المشرع الدولي والوطني بمعالجة خاصة؛ نظراً لطبيعة وماهية تلك الجريمة وبعدها الإنساني الذي شكل تهديداً للأمن الاجتماعي؛ ما اقتضى أن تكون هذه الجريمة جناية دائما وخارجة عن قاعدة السقوط بالتقادم لأنها – وكما صرح الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان – بأن التعذيب وصمة عار على جبين الإنسانية؛ وعليه فإن حق كل من تضرر من إجراءات أو تصرفات جاءت بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الدولية سالفة الذكر، في مقاضاة من خالف الدستور والقانون والمواثيق الدولية، وأن لذلك المضرور حقاً مكفولاً قانوناً، ولا يسقط بالتقادم، وليس مشمولاً بمرسوم العفو أو بالأحرى بالتفسير السياسي لذلك المرسوم، وإن أي تفسير آخر لهذا النص يعد تعديلاً له تحت ستار التفسير، وإذا رفضت النيابة تلقي الشكوى، أو التحقيق فيها، عملاً بالمرسوم المذكور، أو بالأحرى بالتفسير السياسي له، وتبعتها المحاكم الجنائية في التظلم من قرار النيابة، بعدم قبول الشكوى أو حفظها، فلا أقل من رفع دعاوى للمطالبة بالتعويض على من باشر التعذيب أو أمر به أو سكت عن الأمر به أو مباشرته أو النهي عنه، مع إدخال الدولة في الدعوى على أساس مسئولية المتبوع عن أفعال تابعة، فإذا أعيت المدعين الحِيَل، واستغلقت عليهم السبل من جانب القضاء المدني الوطني، فلهم أن يبتغوا إلى القضاء الدولي سبيلا، ولو من باب إيجاد الضغط الإعلامي، الذي هو اليوم أمضى سلاحاً بيد من اكتووا بنار التعذيب

إعادة نشر بواسطة محاماة نت