لمحة عن نشأة النظام البرلماني وتطوره

المؤلف : احمد نبيل صوص
الكتاب أو المصدر : الاستجواب في النظام البرلماني

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

نشأ النظام البرلماني في إنجلترا، ومر بمراحل عديدة من التطور حتى تبلورت أركانه وبرزت دعائمه وكان للنجاح الذي حققه في موطنه الأصلي إنجلترا صدى كبير لدى كثير من .( دول العالم التي اقتبسته عنها، مما أدى إلى حدوث تطورات معينة في هذا النظام(1) لم يتكون النظام البرلماني وينشأ على أساس أيديولوجي معين، أو بناء على نظرية معينة أوجدتها طفرة واحدة، وإنما جاءت نشأته مرتبطة بتطورات تاريخية معينة وبشكل خاص في إنجلترا التي تعد مهد النظام البرلماني ومنها أنتقل إلى غيرها من الدول وقننت مظاهر النظام البرلماني في دساتير العديد من الدول وقوانينها الأساسية(2) ففي إنجلترا هناك مبدأ مهم ومحترم من الجميع أفرادًا وسلطات، وهو مبدأ سمو البرلمان صاحب السلطة العليا خاصة في ظل غياب الدستور المكتوب وتبنيها لنظام الدستور غير المكتوب(3) كان ملوك إنجلترا فيما مضى هم الذين يسيرون دفة الأمور في الدولة مباشرة يعاونهم في أداء هذه المهمة جماعة من الموظفين وعدد من المجالس المختلفة وظل هذا النظام سائدًا عدة قرون، وكان من أهم المجالس التي تعاون الملك مجلس يسمى (المجلس الخاص)(4).

وكان يطلق على هذا المجلس في بداية تكوينه اسم المجلس الدائم، وسبب هذه التسمية ترجع إلى كثرة انعقاده وأهميته مقارنة بالمجالس الأخرى، ولكن في عهد الملك هنري السادس منذ سنة ( 1421-1471 ) أصبح يطلق على هذا المجلس: (المجلس الخاص)، وانقسم في القرن الرابع عشر إلى قسمين؛ القسم الأول، وكان يختص بالمسائل العادية وكان يسمى المجلس العادي، والقسم الثاني ظل محتفظًا باسم المجلس الخاص وكان يرأسه الملك شخصيا، وقد كون أعضاء هذا المجلس عدة لجان، تختص كل لجنة منها بالإشراف على مصلحة من مصالح الدولة، وكانت تراقب تنفيذ أعمال هذه المصلحة(5).

ومن بين لجان هذه المجالس لجنة يطلق عليها: (لجنة الدولة ) وكانت تعرض عليها أعمال الدولة، ومن أجل ذلك كانت تعد اللجنة الأولى في المجلس الخاص(6) وتعد هذه اللجنة الأصل التاريخي للوزارة في النظام البرلماني، وقد تشعبت أعمال هذه اللجنة وازداد نفوذها، وأنتقلت إليها أهم اختصاصات المجلس الخاص نظرا لقلة عدد أعضائها، وقدرتها على مناقشة المسائل والبت فيها بحزم وسرعة، وبمضي الزمن اكتسبت هذه اللجان صفة قانونية بعد أن كانت في أصل نشأتها لا تعتمد على أساس قانوني، وكان أعضاء هذه اللجنة يسمون بمستشاري التاج، والملك هو الذي يعينهم فضلا عن بقية أعضاء المجلس، وذلك أن الملك كان يستأثر باختيار جميع أعضاء المجلس الخاص طبقا لإرادته، ولم يكن للبرلمان أي رقابة على أعضاء المجلس، وإنما كانت الرقابة من حق الملك المطلق دون تدخل من أي جهة أخرى.

فليس من حق البرلمان أن يكره الملك على اختيار فيهم ثقته(7) ومع ذلك ففي القرن الرابع عشر استطاع مجلس العموم أن ينشئ لنفسه حقا مؤداه اتهام رجال الملك (أي وزرائه ومستشاريه) إلا أن هذا الاتهام كان لابد أن ينصب على إسناده جريمة للوزير أي أنه كان اتهاما جنائيا _ وليس سياسيا _ وكان لا يؤدي إلى مسؤولية المتهم فلا تترتب علية مسؤولية الوزراء بالتضامن مع زميلهم(8) وبالرغم من عيوب طريق الاتهام الجنائي إلا أنه ظل الوسيلة الوحيدة لسؤال الوزراء عن تصرفاتهم التي تصل إلى مرتبة الجرائم، واستمر الوضع على هذا النحو حتى القرن السابع عشر، فمنذ هذا التاريخ بدأت مسؤولية الوزراء تتخذ صبغة جديدة فأصبحت مسؤولية جنائية سياسية، ذلك أن مجلس العموم لم يعد يحصر الاتهام في الأمور الجنائية البحتة، وإنما استخدمه أيضا في حالة ارتكاب الوزراء أخطاء جسيمة، أو عند تصرفهم على نحو لا يتفق مع مصلحة الدولة كأن يشير أحد الوزراء على الملك بعقد معاهدة تضر بمصلحة البلاد(9)

حدث بعد ذلك تطور في إنجلترا أدى إلى اندثار المجلس الخاص وحلت محله فئة قليلة انفصلت عنه منذ القرن السادس عشر وكانت تلك الفئة تسمى في البداية (لجنة الدولة )، ثم أصبحت تحمل اسم الوزارة، ويمكن القول أن هيكل الحكومة بدأ يتضح منذ عهد الملك شارل الثاني، ثم سار في طريق التطور حتى بلغ وضعه الحالي(10) وكانت مهمة الوزارة العمل على تنفيذ سياسة معينة تحظى بتأييد أغلبية مجلس العموم وكانت الوزارة تظل في ممارسة عملها ومباشرة وظيفتها ما دامها حائزة ثقة البرلمان، وكذلك الرأي العام. وكانت الأقلية في البرلمان تظل في موقف المترقب والمتربص للأغلبية حتى تسنح لها الفرصة وتتمكن من كسب الأغلبية فتصبح بيدها مقاليد الأمور وتسيطر على شئون الدولة(11) ويلاحظ أن الوزارة لم يكن لها رئيس بالمعنى المعروف الآن، وإنما كان يرأسها أحد الوزراء ممن له حظوة ومكانة عند الملك، ولم يكن يربط الوزارة مبدأ أساسي واحد، وكان لا بد من تنظيم العلاقة بين الوزارة _ مستشاري التاج _ ومجلس العموم حيث يمكن الحصول على الأموال المطلوبة للملك(12).

وذلك لأن موافقة مجلس العموم كانت ضرورية لفرض الضرائب على الشعب. ولم يتبع الوزراء سياسة مشتركة، وينتهجوا سبيلا موحدا للحصول على موافقة البرلمان، وإنما كانوا يستغلون ضعف شخصيات الأعضاء، ويعملون على إرضاء مطامعهم والاستجابة لرغباتهم وبهذه الوسائل الشخصية كانوا يصلون إلى تحقيق أغراض هم والحصول على الأموال المطلوبة(13) وفي ذلك العهد أخذ البرلمان ينقسم إلى حزبين كبيرين يتميز كل منهما بطابع معين، وإن بدا أن الوحدة والتماسك تنقص كليهما، وأحد هذين الحزبين كان يسمى حزب التورى ويضم طبقة الملاك والمزارعين، والحزب الثاني ويطلق علية اسم الهويج ويتزعمه بعض الارستقراطيين ويضم جماعة المعارضين للكنيسة، ولكن هذه الجماعة أصبحت من مؤيدي نظام الكنيسة في نهاية الأمر، وبظهور هذين الحزبين بدأ الصراع في داخل البرلمان. وكل حزب يحاول الاستئثار بالسيادة والتحكم في شئون الدولة والسيطرة على الملك(14) أما فيما يتعلق بتطور المسؤولية الوزارية إذ لم تنشأ المسؤولية التضامنية إلا بعد تطور طويل، وكان كل وزير في بداية الأمر مسؤولا عن تصرفاته مسؤولية فردية ، وكانت هذه المسؤولية جنائية.

ولكن التطور أخذ يتجه نحو تقرير المسؤولية التضامنية وبدأ التطور منذ عهد وزارة روبرت والبول حيث كان ذا نفوذ كبير ويرجع هذا النفوذ إلى أنه كان يتمتع بثقة الملك التامة، كما كان عضوا في مجلس العموم ولديه خبرة فائقة بجميع الأعضاء وكان يحتفظ بأغلبية كبيرة من أعضاء المجلس يعتمد عليها لتأييده في تصرفاته(15) ويجمع رجال الفقه على اعتبار روبرت والبول أول رئيس للوزراء بالمعنى الفني ، الحديث في تاريخ إنجلترا، وقد استمر والبول في الوزارة من سنة 1721 حتى سنة 1742 ولكن حدث في سنة 1741 خلاف بين والبول ومجلس العموم فطلب النواب إقالته من الوزارة فاعترض والبول على طلب المجلس وحاول تسويغ موقفة، ولكنه اضطر في نهاية الأمر إلى الاستقالة عندما أدرك نية المجلس ورغبته في الالتجاء إلى اتهامه بارتكاب جرائم دولة(16) إن استقالة والبول تعد أول استقالة في تاريخ إنجلترا يقدم عليها وزير بناء على قرارات صادرة بحقه من مجلس العموم، ومعنى هذا القرار سحب الثقة من الوزير وعدم ارتياح المجلس لبقائه في الحكم. وكانت نتيجة هذا الوضع استقالة الوزير استجابة لرغبة المجلس (17).

ونتيجة لذلك دعى الملك زعيم المعارضة إلى تولي الوزارة بعد استقالة والبول، فظهرت قاعدة تولي المعارضة للحكم عند سقوط الوزارة (18) وإذا كانت استقالة والبول هي استقالة فردية، فإن التطبيق الأول لاستقالة الوزارة بأكملها عند تقرير مسئوليتها حدث في أواخر القرن الثامن عشر ضد وزارة لورد نورث، وتكررت بعد ذلك استقالة الوزارات عند سحب البرلمان لثقته بها مما أرسى قاعدة المسئولية التضامنية للوزارة أمام البرلمان(19) أما استخدام الوزارة لحق حل الهيئة البرلمانية، فإنه تم لأول مرة من قبل وزارة وليم بت، الذي احتكم إلى الشعب لحسم الخلاف الذي نشب بينه وبين البرلمان وأدى إلى حله، فجاءت نتيجة الانتخاب مؤيدة للحكومة.

ومضمون تلك القاعدة: أنه عند نشوب خلاف بين ال وزارة والبرلمان فإن الوزارة تستطيع بدلا من تقديم استقالتها أن تلجأ إلى حل البرلمان والاحتكام إلى هيئة الناخبين لمعرفة رأي الآمة بصدد هذا الخلاف، ويتوقف وضع الوزارة والبرلمان على نتيجة الانتخابات فإذا جاءت نتيجة الانتخابات لصالح الوزارة القائمة كان معنى ذلك أن الشعب يؤيد سياستها وينتصر لها في خلافها مع البرلمان.

ويترتب على ذلك استمرارها في الحكم مؤيدة من المجلس الجديد، وإن أسفرت النتيجة عن فوز المعارضة كان والتخلي عن الحكم وإفساح المجال للمعارضة إدارة دفه الحكم في البلاد وتطبيق سياستها(20) وقد وصل التطور الدستوري في أواخر القرن الثامن عشر إلى مرحلة اتضحت عندها أسس النظام البرلماني واستقرت قواعده فتأكد مبدأ المسؤولية السياسية للوزار ة، بمعنى أن الوزراء مسئولون بالتضامن باعتبارهم كتلة وهيئة واحدة ولا تستطيع الوزارة البقاء في الحكم إذا فقدت ثقة البرلمان(21) ولقد ساعد على استمرار العمل بهذه القواعد التي تمثل أركان النظام البرلماني واستقراره بروز حزبين كبيرين في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر هما حزب الأحرار وحزب المحافظين.

إذ أن الانتخابات كانت تأتي بأحد الحزبين إلى السلطة، مع ضمان أغلبية مؤيدة للوزارة في البرلمان. فساعد ذلك على استقلال الوزارة استقلالا كاملا، ونتج عن ذلك عدم مسئولية الملك عن تصرفات الوزارة وكان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، والتي تخلى الملك عن سلطة اختيار الوزراء(22) ويتضح لنا من كل ذلك أن النظام السياسي الإنجليزي بدأ بالملكية المطلقة، التي تحولت إلى الملكية المقيدة، ومنها إلى الملكية البرلمانية بعد ذلك، التي حققت النظام الديمقراطي البرلماني، ومنها استهوى الدول الأخرى التي تتوق إلى الديمقراطية السلمية فاقتبسته من موطنه الأصلي انجلترا واتخذته نظامًا للحكم فيها.
__________________
1- البارودي، مصطفى: الحقوق الدستورية. ج 1. ط 2. دمشق: مطبعة الجامعة السورية. 1957 . ص 323 .
2- سرحال، احمد: القانون الدستوري والأنظمة السياسية. بيروت: دون ذكر الناشر. 1980 . ص 249 .
3- فهمي، مصطفى أبو زيد: مبادئ الأنظمة السياسية. الإسكندرية: منشأة المعارف. 1984 ص 20 )
4- خليل، محسن: النظم السياسية والقانون الدستوري. ط 2. الإسكندرية: منشأة المعارف. 1971 . ص 262
5- هوريو، أندريه: القانون الدستوري والمؤسسات السياسية. ج 1. ترجمة: علي مقلد، شفيق حداد، عبد الحسن سعد بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع. 1974 . ص 337
6- الخطيب، محمد فتح الله: الديمقراطية البرلمانية الإنجليزية. ترجمة: فاروق يوسف. القاهرة: دون ذكر الناشر. 1970 ص 174
7- غراهام، لورانس، فكركيس، ريتشارد، غريري، روبرت، راسموسن، جورجن: السياسة والحكومة. ترجمة: عبد الله بن مهذ اللحيدان، الرياض: جامعة الملك سعود. النشر العلمي والمطابع. 1999 . ص 162
8- عبد الله، عبد الغني بسيوني: النظم السياسية والقانون الدستوري.ط 4. مصر: منشأة المعارف. 1997. ص 278
9- عصفور، سعد: المبادئ الأساسية في القانون الدستوري والنظم السياسية. الإسكندرية: منشأة المعارف . دون ذكر السنة. ص 254
10- عبد العال، محمد حسنين: القانون الدستوري. مصر: دار النهضة العربية. 1975 . ص 38.
11- ثابت، عادل: النظم السياسية. الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة. 1999 . ص 60 .
12- دوهاميل، أوليفيه، ميني، وإيف: المعجم الدستوري. ترجمة: منصور القاضي. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات. والنشر والتوزيع. 1996 . ص 337
13- الغالي، كمال: مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية. دمشق: مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية . 1996 ص 367
14- ھوريو، أندريه: مرجع سبق ذكره. ص 337.
15-صبري، السيد: حكومة الوزارة. القاهرة: المطبعة العالمية. 1952 . ص 104 .
16- شطناوي، فيصل: النظم السياسية والقانون الدستوري. ط 1. عمان: الحامد للنشر والتوزيع. 2003 . ص 213
17- بيرنز، دليل: المثل السياسية. ترجمة: لويس إسكندر. القاهرة: مؤسسة سجل العرب. 1964 .ص 160 .
18- رباط، أدمون: الوسيط في القانون الدستوري. ج 1. ط 2. بيروت: دار العلم للملايين. 1968 . ص 280 .
19- الوحيدي، فتحي: القانون الدستوري والنظم السياسية. ط 4. غزة: مطابع المقداد. 2004 . ص 330.
20- باز، بشير علي محمد: حق حل المجلس النيابي في الدساتير المعاصرة. الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة للنشر ،141 – 2004 . ص 140
21- بدران، محمد محمد: النظم السياسية المعاصرة. بيروت: دار النهضة العربية. 1997 . ص 361 .
22- العمري، أحمد سويلم: أصول النظم السياسية المقارنة. مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1976 . ص 171