مبدأ المشروعية وسيادة القانون

يكفي وجود دستور وان يكون الدستور جامدا لقيام قضاء دستوري فعال ومؤثر في بلد من البلاد .

وكثير من البلاد فيها دساتير واغلب الدساتير جامدة ولكن مع ذلك لا يوجد بها رقابة قضائية علي دستورية القوانين . ولا يوجد بها من باب أولى قضاء دستوري . والأنظمة الدستورية ليست مجرد نصوص في وثائق .

كثير من البلاد الأفريقية الحديثة الاستقلال يوجد بها دساتير علي مستوي رفيع من حيث الصياغة الدستورية بل انها تتكلم عن حقوق الأسنان وحرياته علي نحو مبهر .

ومع ذلك فلا صلة لهذه الدساتير بالواقع الذي يعيشه الناس من قهر ومصادرة للحريات .

كذلك لا صلة لهذه الدساتير بالانقلابات التي تحدث في تلك البلاد من اجل الاستيلاء علي السلطة وتحقيق الكثير من المغانم والكثير من إفقار الشعوب واضطهادها .

الأنظمة الدستورية هي في جوهرها إيمان بدولة المؤسسات وإنهاء مفهوم دولة الفرد وإيمان بان السلطة يمارسها أشخاص معينون وفقا لقواعد معينة وان هؤلاء الأشخاص أن خرجوا علي القواعد القانونية المنظمة لاختصاصهم فقد خرجوا علي مبدأ المشروعية . وهذا بدوره هو معني بمبدا المشروعية وسيادة القانون .

وقد تكررت الإشارة إلى دولة المؤسسات ويتعين أن نقدم لتلك الدولة مفهوما بسيطا وواضحا .

دولة المؤسسات هي تلك الدولة التي تنشا السلطات فيها وفقا لقواعد قانونية سابقة تحدد كيفية إسناد السلطة إلى فرد أو أفراد معينين .

ثم تحدد القواعد القانونية بعد ذلك اختصاصات كل فرد أو مجموعة من الإفراد أو وجهة من الجهات أو هيئة من الهيئات تحديدا واضحا بحيث يكون التصرف داخل هذه الاختصاصات قانونيا ومشروعا ويكون التصرف خارج هذه الاختصاصات غير قانونية وغير مشروع . وهكذا يتضح ويتحددا مبدأ المشروعية ويرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة دولة المؤسسات وفكرة الاختصاصات الذي يحدده القانون (8).

هذا وقد أشار الأستاذ الدكتور احمد فتحي سرور في مؤلفه القيم ” الحماية الدستورية للحقوق والحريات ” (9)إلى هذا المعني وأورد حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بتاريخ 4 يناير 1992 في القضية رقم 22 سنة 8 قضائية دستورية الذي جاء فيه : ” الدولة القانونية هي التي تتقيد في جميع مظاهر نشاطها – وأيا كانت سلطاتها – بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لإعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها “ .

وقد ألححنا كثيرا في كثير من مؤلفاتنا ومحاضراتنا وأحاديثنا عي هذا الربط بين دولة المؤسسات ومبدأ المشروعية وسيادة القانون .

وجمهور فقهاء القانون العام في فرنسا وفي مصر – وان لم يربطوا هذا الربط الذي ذبهنا إليه منذ سنوات – فانهم مع ذلك قد أكدوا المضمون الذي يربط بين الدولة القانونية من ناحية ومبدأ المشروعية من ناحية أخرى .

والفقيه الكبير العميد دوجي duguit يري أن جوهر الشرعية هو خضوع كل تصرف لقاعدة القانون .

وإذا كانت تصرفات الإفراد وخضوعها للقانون لا تثير جدلا فان تصرفات السلطات العامة ووجود ما يلزمها علي اتباع قاعدة القانون هو القضية الأساسية بالنسبة لمبدأ المشرعية . ذلك من أسباب رفضه لنظرية أعمال السيادة واعتبارها سبة في جبين القانون العام .

ويذهب الأستاذان بارتلمي ودويز في مؤلفهما عن القانون الدستوري إلى أن مبدأ المشروعية يعني سيطرة القانون وإعلان علوه وسموه وانتهاء فكرة عدم خضوع السلطة للقانون ذلك أن خضوع السلطة للقانون وفرض احترام القاعدة القانونية علي من إصدار تلك القاعدة طالما لم يلحقها تعديل هو جوهر فكر المشروعية (10) .

ومبدأ المشروعية هو ومبدأ سيادة القانون وجهان لعملة واحدة .

مبدأ سيادة القانون :
سيادة القانون تعني أن القاعدة القانونية تأتى فوق إرادات الإفراد جميعا حاكمين أو محكومين وتلزمهم جميعا باتباع أحكامها . . فان لم يلتزموا – خاصة الحكام – بالقاعدة القانونية انقلب تصرفهم المخالف للقانون إلى تصرف غير قانوني وغير مشروع .

وإذا كان خروج الحكام علي القانون يمثل النمط العام كما هو الحال في كثير من بلاد العالم الثالث انقلبت الدولة من أن تكون دولة قانونية إلى دولة فعلية غير قانونية .

كانت سلطة في الماضي تختلط بأشخاص الحكام بحيث إن إرادة الحاكم كانت هي الفيصل أو هي القانون ، وبعد تطور طويل في سبيل تأكيد حرية الشعوب ، وبعد أن استقر مبدأ أن الشعب هو صاحب السلطة وانه مصدرها الأصيل وان الحكام إنما يمارسون السلطة باسمه ويستمدونها منه ، بعد أن استقر ذلك استقر معه مبدأ أخر ملازم له وناتج عنه وهو الفصل بين شخصية الدولة وشخصية الحاكمين ، اصبح الحاكم يمثل الدولة في النطاق الذي يحدده الدستور والقوانين ولم يعد الحاكم هو الدولة كما كان يقول لويس الرابع عشر .

لم يعد الحاكم فوق القانون وانما اصبح القانون فوق الإرادات جميعا ، اصبح القانون هو الذي يحكم جميع الإرادات ويحدد لها أدوارها والنطاق الذي تعمل فيه بحيث إذا تجاوزت الإرادة ذلك النطاق لم تستطيع أن تحدث أثرا قانونيا يعتد به واعتبر عملها نوعا من اغتصاب السلطة أو تجاوزها .

وهذا الذي انتهي إليه التطور – بعد كفاح طويل لشعوب كثيرة – هو الذي يعبر عنه بمبدا ” سيادة القانون ” وهكذا نستطيع أن نقول أن سيادة القانون تعني أن ارادات الإفراد – مهما علوا في مدارج السلطة هي ارادات محكومة ، هي ارادات يحكمها القانون .

هذا المبدأ بقدر اعتزاز الشعوب به فانه كثيرا ما يكون مصدر ضيق لضيقي العقول من الحاكمين الذين تغيب عنهم دائما حقيقة انهم حاكمون اليوم ومحكومون غدا ، وان الفترة التي يقضونها من حياتهم محكومين هي أطول بكثير – في العادة – من الفترة التي يقضونها حاكمين ، وانهم محكومين في حاجة ماسة – خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في بوتقة الحياة العامة وأتونها – إلى حماية القانون .

وما اكثر ما يتردد المبدأ علي السنة الحكام وما اكثر ما تضيق به قلوب بعضهم في أن واحد .

وفي فترة من فترات تاريخ نظام الحكم في مصر كانت الهوة بعيدة بين ما يقال وما يمارس .

وجري التطاول علي القانون حتى أن واحدا من المشاركين في السلطة اباح لنفسه أن يقول علنا ” انه أعطى القانون اجازه ” – وفي ظل هذه الظروف لا سيادة للقانون وانما السيادة لما تتمتع به السلطة من أدوات القهر .

ومن هنا كان حرص دستور 1971 علي أن يؤكد هذه المعاني جميعا التي يفترض انها اصل أصيل في قيام الدولة الحديثة – حتى يغير نص – وان يقررها واضحة لا لبس فيها بل وان يرتب بعض النتائج الهامة التي تمس مساسا مباشرا بحياة المواطنين وحرياتهم وأمنهم .

يقول الدستور ” سيادة القانون أساس الحكم في الدولة “ ( م 64 ) ثم يردف علي ذلك قوله ” تخضع الدولة للقانون ” ( م 65 ) .

ولكن واضعي الدستور ولهم من تجاربهم ما يدلهم علي أن تأكيد المبدأ لا يكفي وحده لاحترام المبدأ والعمل به لذلك حرصوا علي أن يحيطوا المبدأ نفسه بضمانات تؤدي إلى حمايته وصيانته وتأكيد العمل به .

ولكننا نحب قبل أن نعرض لهذه الضمانات التي رتبها الدستور لحماية ودعم مبدأ ” سيادة القانون “ نحب أن نقول أن الحماية الحقيقية لهذا المبدأ تكمن في وعي الرأي العام وقوته من ناحية ، وفي حرص كل سلطة علي أن توازن السلطة الأخرى ، وعلي أن لا تقصر فيما منح لها من سلطات ولا أن تتجاوز هذه السلطات من ناحية ثانية ،

كذلك ومن ناحية ثالثة اكثر أهمية – خاصة في دول العالم الثالث – أن يستقر في أذهان الحكام انهم يؤدون دورا في حياة بلادهم ، وان هذا الدور موقوت لان العمر كله موقوت ، وقلما استغرق ذلك الدور العمر كله ، وانهم هم أنفسهم اكثر الناس حاجة – عندما تختلف الأدوار وتختلف المقاعد وكثيرا ما تختلف – أحوج الناس لحماية القانون وأكثرهم إفادة من مبدأ سيادة القانون .

علي أي حال فان الدستور لم يكن في طاقته أن يفعل اكثر مما فعل . . إذ قرر اصل المبدأ في المادة الرابعة والستين وصدر المادة الخامسة والستين . ثم رتب فيما تلي ذلك من مواد نتائج وضمانات لحماية المبدأ وتأكيده .

وأول النتائج التي ساقها الدستور – بعد تقرير المبدأ – هي تأكيد استقلال القضاء وحصانته .

(م65) كذلك فان الدستور قد حرص علي أن يهدم كل الحواجز التي تحول بين المواطن وحق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي – وذلك في عبارة واضحة غير محتاجة لتفسير أو تأويل وذلك بقوله في المادة 68 :

” التقاضي حق مصون ومفكول للناس كافة ، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي ، وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء بين المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا .

ويحظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار أدارى من رقابة القضاء .

ولكي ندرك القيمة الحقيقية في الواقع العملي لهذا النص الخطير فانه يكفينا أن نراجع العديد من أحكام القضاء الإداري وأحكام المحكمة العليا الصادرة بعد العمل بالدستوري في قضايا تتعلق بفصل موظفين من وظائفهم والحيلولة بينهم وبين الالتجاء إلى القضاء بدعوى أن فصل موظف – في الدرجة السادسة أو السابعة – يعتبر عملا من أعمال السيادة .

هدمت الحواجز أذن بين الناس وبين قضاتهم ، ولقد كان القضاء في مصر – عندما أتيح له أن يمارس وظيفته – أمينا بحق علي قضية الحرية وعلي إعلاء كلمة القانون . ولا شبهة أن الاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها .

وكثيرا ما كانت تصدر الأحكام ولا تنفذ .

بل أن جهات الإدارة كانت تسخر أحيانا من المواطنين الذين يريدون إجبارها علي تنفيذ الأحكام إلى المدى الذي فقد الناس فيه الثقة في القانون وفي القضاء وفي كل شئ ، ولم تغب هذه الظاهرة الخطيرة عن دستور 1971 فعالجها بنص صريح فيه يقول ” تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب ويكون الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة يعاقب عليها القانون . وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة ” (م 72) .

وهكذا يعطي الدستور للمواطن حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة ولا يوقف هذا الحق علي أذن من النائب العام أو من غيره – كما كان الحال – ولا يستطيع القانون أن يأتي لكي يحدد هذا الحق أو لكي يقيده أو لكي يحرم المواطن منه علي أي نحو ، ولو هو فعل لكان قانونا غير دستوري ، وسنري جزاء مثل هذه القوانين .

وقد حرص الباب الرابع من الدستور الذي عالج موضوع سيادة القانون ورتب عليه بعض نتائجه ونص علي بعض ضماناته – حرص علي أن يؤكد بعض المبادئ القانونية المتعلقة بقانون العقوبات وقانون الإجراءات وذلك لشدة مساسها بالحرية الشخصية ولما يمكن أن يكون لمخالفتها أو الخروج عليها من اثر خطير علي حياة الناس وحرياتهم وأمنهم .

من ذلك قول الدستور في المادة 66 ” العقوبة شخصية . ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء علي قانون ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي . ولا عقاب إلا علي الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون ” .

وقوله أيضا في المادة 68 : ” المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه . وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه ” .

ومما استحدثه دستور 1971 في هذا الشأن – وكان ذلك الاستحداث متأثرا أيضا ببعض التجارب المريرة التي ابيح فيها انتهاك حريات الناس وحرماتهم – ما نص عليه الدستور في المادة 71 منه عندما قرر ” يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا ، ويكون له حق الاتصال بمن يري إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به علي الوجه الذي ينظمه القانون ، ويجب إعلانه علي وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه ، وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية ، وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة وإلا وجب الافراج حتما “

والمهم في هذا النص الجديد انه وضع أساسا وقواعد لا يستطيع المشرع العادي أن يتجاوزها .

من ذلك مثلا أن الدستور يوجب أن يبلغ المقبوض عليه أو المعتقل – وهذه أول مرة يكون فيها للمعتقلين في بلادنا حقوق دستورية – بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا . وعلي ذلك لا يستطيع نص قانون عادي أن يبيح للسلطة العامة أن تتراخى في ذلك الإبلاغ وإلا كان تراخيها خروجا مؤثما .

كذلك فانه للمقبوض عليه ولغيره – علي إطلاق ذلك الغير – بحسبان أن المصلحة هنا متحققة لكل مواطن وان الدعوى من قبيل دعوي الحسبة – التظلم أمام القضاء ، ولا يستطيع القانون أن يقيد هذا الغير بان يكون قريبا أو زوجا أو ما إلى ذلك .

هذا النص من نص المادة 57 من الدستور نعتبرهما من المكاسب الحقيقية التي يجب أن يعيهما الشعب وان يصونهما وان يعض عليهما بالنواجز مع سائر نصوص الدستور الأخرى . ذلك أن السياج الحقيقي والنهائي لحماية الدستور ولتأكيد سيادته إنما يرجع في النهاية إلى الشعب نفسه صاحب كل حق وسيد كل سلطة ومرجع كل إرادة .