المحـاماة والمحــامي

قديماً وحديثاً

1- احترام المحامي نفسه
2- نقد الرأي العام للمحامي في تصرفاته
3- المحامي عون كبير للقضاء في فريضة إحقاق الحق، مرافعة شهيرة في قضية خطيرة ذات علاقة في البحث.
4- أخلاق المحامي واستقامته في معيشته الخاصة.

للأستاذ أحمد فؤاد القضماني

رئيس اتحاد المحامين الفخري

وأمين سر مجلس النقابة

المحاماة فن قديم وجد منذ وجدت الخصومة، وهي مهنة مقدسة شريفة، قال بصددها هنري روبير النقيب السابق للمحامين في فرنسا: ليس من وظيفة –عدا وظيفة القضاء- أشرف من المحاماة، وهذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها والموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره، والأصل فيها، نيل الشرف وخدمة العدالة، ومساعدة صاحب الحق على أخذه، ومقاومة الباطل والمبطلين.

وقد اشترط اليونانيون الذين نبغ فيهم عدد عظيم، في التشريع والفلسفة، والحكمة، والعلم، والخطابة (المعروفة عندهم بالمحاماة) أن يكون المحامي حراً، ولا رقيقاً، لأنهم كانوا يرون بأن درجة الرقيق المدنية أحط من أن يشتغل بهذه المهنة الشريفة، وأن لا يكون مرذولاًً ساقط الشرف، أو من الذين لا يحترمون والديهم، أو ممن أبوا الدفاع عن الوطن، أو من الذين قبلوا وظيفة عامة، أو اشتغلوا بتجارة تخالف الآداب وتشين الاعتبار، ولا من الذين يترددون على أماكن الفحش والفجور، والمحلات العامة المشهورة بالفسق ولا من الأشخاص الذين عاشوا عيشة التأنق فبددوا ما ورثوه عن آبائهم، ولا من كان أميناً على أموال الحكومة إلا إذا قدم حساباً يثبت أنه لم يبق في ذمته شيء من المال. وكان من المأمور به عندهم أن يكون المحامي مستقيما لأن الذي يتقدم للنيابة عن الناس في أموالهم وأرواحهم وحرياتهم وأعراضهم ليدافع عنها يشترط أن تكون صفة الاستقامة فيه أكبر ضمانة للناس في أعماله وبسببها يمنحون المحامي الثقة باطمئنان وراحة بال. والاستقامة في المحامي عبارة عن تمسكه بالقوانين والنظم الاجتماعية والأخلاقية واحترامه لأحكامها وللعادات المرعية في المحيط الذي يعيش فيه، والانصياع إلى ما يمليه الضمير وتقتضيه الذمة الظاهرة.

وأوجبوا عليه أيضاً صادق الحديث وفياً للعهد كاتماً لأسرار الموكلين، فإنهم يرون في ذلك الدعامة الكبرى للواجبات التي مصدرها الشرف. وأن لا يخرج عن جادة الكمال والتواضع، وأن لا يدافع في المسألة الواحدة مرتين أمام المحكمة نفسها، وعليه أن ينزه لسانه عن الشتائم، وأن لا يضرب بيديه أثناء الدفاع ولا برجليه على الأرض.

وقد قرر الرومان منذ عهدهم الأول أن العدالة كيان الدولة وأن القضاء أهم أركان العمران في الأمم، والمحاماة هي السلم الذي يرقى منه الرجل إلى أرفع المناصب، وما كان مجلس الأعيان والأمة ذاتها ينتخبان أحداً لتلك المناصب إلا من المحامين، وهكذا ارتفع (كاتون) الأكبر من كرسي المحاماة إلى كرسي القضاء وانتقل فيه من رتبة إلى أرفع منها حتى عين قنصلاً وتم له النصر على أعداء الجمهورية فعين مسيطراً عاماً على الأمة وهو مقام فوق مقام الملوك من حيث القوة والسلطان ونفوذ الكلمة، وكذلك كان شأن (شيشرون) الذي كان يعد مفخرة روما وبهجتها، فارتقى إلى مقام القنصلية ثم سما على سلفه حتى دعاه قومه أبا الوطن وأمير البلاغة. ويعجز الباحث عن إحصاء عدد الولاة والحكام والقناصل والمسيطرين الذين أهدتهم المحاماة إلى الأمة تحت حكم الجمهورية.

وقد كان (جول سيزار) المحامي ممن ازدانت بهم المحاماة وهو الذي أخضع الأمم كلها لسلطانه، زد على ذلك أنهم كانوا يشترطون أن يكون المحامي من ذوي الهمم العالية، والعقول النيرة، ولذلك أمر (رولمولوص) أن لا ينتخب للنيابة عن الأمة في المجلس ولا يجلس على منصة القضاء إلا المحامي، وسرى هذا النظام من حكمه إلى حكم الجمهورية فنقل النص في القوانين المعروفة عندهم بالألواح الإثني عشر واستمر مرعياً مدة خمسة أجيال.

وقد اشترط الإمبراطور (ليون) فيمن يحترف المحاماة أن يكون شريف النفس، ومن أشهر القوانين عند الرومان في هذا الموضوع القانون الذي أصدره هذا الملك والملك (أنطيموس) فسويا فيه بين المحامين ورجال الجيش، ومن المعلوم أن رجال الجيش كانوا أكبر القوم وأعزهم جاهاً، وأرفعهم شأناً ، والذي حمل هذين الملكين على الجهر بهذه المساواة هو صرحا به في قانونهما من أنه لا فرق بين الذين يحمون ذمار الدولة بحد المرهفات وبين الذين يذودون عن حقوقها بألسنتهم وأقلامهم،ويجعلون من فصاحتهم مانعاً يمنع الجوائح من تخريب البيوت وتفريق العائلات، ويمدون يدهم لمساعدة من حاق به الظلم وقعد بن حاله عن حقه المسلوب واسترداد ماله المنهوب.

وأمر الملك «انسطاس» أن ينعم على كل محام يعتزل الصناعة طلباً للراحة بلقب من ألقاب الشرفاء، مكافأة له على سابق خدمته.
وحرم الإمبراطور «تيودور» و «فالنيتنيان» دخول قاعة المحاماة على من لحقت به ذلة وعلى الأعمى والأصم والأبكم.
وكان من عادة المحامين عندهم أن يستعينوا في مبدأ مرافعتهم بأسماء الآلهة، وكان إذا قام المحامي بواجبه أعلن القضاة له ارتياحهم ومدحوه في الجلسة التي ترافع فيها.
ومما هو جدير بالذكر أن التاريخ لم يأتنا بخبر يفيد أن الرومان طردوا محامياً من طائفته لخيانة أو لغش بموكله، لا بل من المحامين من فضل الموت على مخالفة مقتضيات الذمة والاعتبار.
وإلى القراء الحادثة التاريخية الآتية:
«لم قتل الملك (كراكلا) أخاه طلب من المحامي الشهير (بابينيان) أن يقوم بمدحه أمام الأمة فأبى فهدده بالقتل، ففضله على تمجيد ظالم أثيم ومات شهيد طهارة الذمة وصدق العزيمة».

هذه سيرة المحاماة وتلك أحوال المحامين لدى اليونان والرومان، وليست هي أقل منها في الدول الأخرى كألمانيا، وأميركا، والنمسا، وبلجيكا، واسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، ورومانيا، وروسيا، وسويسرا، وفرنسا. فمن تتبع قوانين المحاماة ونظمها الداخلية في هذا الدول واطلع على الحوادث التاريخية المتعددة، وعلى قرارات وأحكام محاكم النقض والإبرام فيها والمجالس العليا القائمة مقام هذه المحاكم قبل تشكيلها، لآمن بأن المحاماة إنما وجدت منذ نشأت الإنسانية وأنها لأفضل مهنة عرفها البشر في الوجود.
وقد قرر العلامة الفرنسي (باسكيه) أنه بعد البحث الطويل في أصول فرنسا لم يعثر على عائلة عظيمة الشأن في تاريخ سياسة الأمة إلا كان لها منشأ في المحاماة.

كما وأن العلماء الفرنسيين قد أجمعوا على أن يكون المحامي صادقاً أميناً مستقيماً وأن يكون شجاعاً في اقتحام المخاوف والمخاطر في سبيل الدفاع عمن التجأ إليه، وهذا الشرط الأخير ممتاز جداً لأن المحامي الضعيف الذي تنقصه الشجاعة والجرأة الأدبية يهزأ به القاضي وموكله والخصوم، ويكون موضع سخرية السامعين له، فيخسر نفسه وعلمه وماله، ويشحن مع المتقاعدين على حداثة سنه.

ومن المؤلم حقاً أن بعضاً من أعداء الحريات الذين يتظاهرون في أقوالهم بأنهم من أنصارها ولكن قلوبهم وأفعالهم تكذبهم فتدل على حقيقة ما تكنه نفوسهم من أنهم أنصار للمتسلطين الظالمين، يحاولون في بعض القضايا السياسية الهامة إبعاد (محامي الدفاع) رسل العدالة وحلفاء الحق عن الدفاع ضدهم أو ضد تصرفاتهم السيئة نحو الوطن، ويريدون بهم أن يلصقوا ألسنتهم بحلوقهم أمام القضاء أو أن يساوموا في مهمتهم ليجعلوها موضع لين وضعف (فقد حدث للمرة الأولى في التاريخ أن أرسل أمثال هؤلاء شرذمة من صغار القوم للاعتداء على محامي الدفاع في وسط قاعة محكمة جنايات العاصمة السورية وتحت سمع وبصر قضاة المحكمة وذلك في شهر كانون الثاني من عام 1939 بعهد الحكومة التي يرأسها السيد جميل مردم بك واعتقد المتآمرون أن ذلك يثني من عزيمة المحامين ويردهم عن غايتهم النبيلة السامية. نذكر هذه الحادثة بمرارة نفس للتاريخ لتسجل في صفحة المسؤولين السوداء المباشرين منهم والمتغاضين عن الفاعلين). وفات هؤلاء الجهلاء الضعيفي الإيمان أن المحامي الذي وقف نفسه وعقله ومداركه في الحياة في سبيل نصرة المظلوم وخدمة العدالة لا يعبأ ولا يعير مثل هذه التصرفات المشينة أقل اهتمام، حتى ولو أدى ذلك إلى الموت لأن الإنسان يموت مرة لا مرتين والموت الذي يقع أثناء الجهاد أو أثناء رفع صوت الحقيقة التي هي من مشتقات الحق (سبحانه وتعالى) لهي موتة تحيي ذكر الميت حتى قيام الساعة، ولا أعتقد أن إنساناً على وجه الأرض ينكر علينا بأن الذكرى الحسنة للإنسان خالدة لا تموت. تجاه مثل هذه الحوادث أطلب إلى كل زميل محترم يريد أن يعيش في مهنته إلى أن يلقى وجه ربه، أن يرجع إلى تعاليم المحاماة القديمة الأبدية، فيقيد نفسه بها ويعاهد ربه أن لا يحيد عنها قيد أنملة، ويحطم بقوة ضميره وقدسية يمينه التي حلفها قبل أن يلبس روب الشرف، كل قوة طاغية تريد أن تنال أو تحط من عظمة الاسم الذي يحمله وهو اسم العدل والفخر والشرف، ويجابه كل سلطان –مهما كان شأنه- يحاول أن يسخر ضمير المحامي لأغراضه وشهواته ومنافعه الزائلة، وبذلك يحق له أن يفاخر بعنوانه، ويكون حقاً حامي العدل والشرف والحريات، وألا يسجل على نفسه بنفسه عاراً أسود لا يمحى ولطخة غضب تستقر على اسمه وجسمه إلى ما شاء الله.
احترام المحامي نفسه:
بجانب تلك الصفات البارزة المفروض وجودها في طبقة المحاماة العليا في العالم نسمع أن بعضاً من المحامين يتحمل في الجلسات العلنية أثناء قيامه بواجبه نقداً لاذعاً من أحد القضاة، يسيء فيه إليه ولحرمة المحاماة، فيسكت ولا يبالي ولا يخبر طائفته بالأمر، في حين أن المحامي إنسان من قبل أن يكون محامياً، وأول واجب فرضته الإنسانية على بنيها هو أن يبدأ كل واحد باحترام ذاته، فالأجدر بالمحامي أنه حينما يرى قولاً أو عملاً -من أي مكان- فيه انتهاك لشرفه ولمكانته أن تستفزه عواطف الشمم ويغضب لذلك وينتصر لنفسه – بسلاح الحق القانوني-ويهتم لما يفقد به سائل الاعتبار، ولا يحني رأسه ويستسلم للإهانة ويطمئن للتصغير كأنه يفرح بالتحقير ويحمد الله على أنه خرج من الجلسة ورأسه بين كتفيه ولم يرسل إلى الحبس.
وفات مثل هذا المحامي – إن صح إن يطلق هذا الاسم بعد ما تقدم أنه لا يستطيع بعد هذا الموقف المزري الذي وقفه أن يطلب من القضاة احترام صوته، لأنه يكون قد داس كرامته وعجز عن الدفاع عنها ولم يعد صالحاً لحماية كرامات الناس وحرياتهم ولحماية أموالهم.
نقد الرأي العام للمحامي في تصرفاته:
ونرى لزاماً علينا في هذا المقام أن نبحث نقطة هامة في حياة المحاماة تعترض المحامين أثناء حياتهم العملية، وهي أننا نشاهد في بعض الظروف أن الرأي العام يتأثر أحياناً من فظاعة جرم فيحمل على المتهم به حملة شعواء ويتناول من ينتدب للدفاع عن المتهم بألفاظ جارحة تخرج عن حد الأدب واللياقة، وتجاه مثل هذه الحوادث المتكررة أسمح لنفسي أن أقرر على ضوء مبادئ المحاماة ونصوص علم الاجتماع أن حكم الرأي العام على المتهم، ظالم لأنه حكم قبل أن يعرف حقيقة الموضوع، وبدون أن يطلع على محضر التحقيق ويهتدي منه إلى أن ما ينفي التهمة أو يثبتها، ويكون مصدر رأيه بتوجيه اللائمة، التأثر بفظاظة الفعل لا بمعرفة الفاعل الحقيقي، ولا يخفى أن الأحكام في القضاء تصدر على الفاعلين لا على الأفعال، ولذلك يكون حكم الرأي مبتسراً أي قبل الأوان، ومن القواعد المنصوص عنها في قانوننا المدني (المجلة) المقننة في كثير من البلدان الأخرى أن إفشاء الرأي قبل الأوان يوجب حرمان صاحب الرأي من الحكم في الموضوع.

وسمعت مرة أن محامياً في دمشق انتدب للدفاع بقضية قتل عادية، وما أن ذاع نبأ قبوله الوكالة حتى أتاه ساعي البريد وسلمه كتابين من مجهولين يحملان عبارات التهديد والوعيد، إن أقدم على الدفاع بالقضية ذاتها، وقامت بعض الصحف تحمل حملة شعواء على من يقبل مهمة الدفاع حتى باتت المدينة تتخبط في الأمر من تلك الثورة الكلامية المصطنعة، التي يراد منها –يومئذ- أن يسلب المتهم قوة الدفاع المقررة له منذ زرعت بذرة البشر الأولى في الأرحام.

ويستغرب القارئ إذا علم بعد تلك الحملة الشديدة أنها كانت نتيجة جهد صرفه خصم ذلك المتهم.
ولما كانت معالجة قضايا العباد مدنية كانت أو جزائية والتصويت عليهت من قبل المجتمع كله قبل أن يحيط بها ويعرف ما ظهر منها وما خفى، فيها خطر على الحق والصواب، فضلاً عن أن الحكم فيها لا يكون إلا ظالماً غير مرتكز على أساس علمي أو فني ومخالفاً لقواعد العدل والإنصاف.

وكثيراً ما نرى أن المجتمع يحكم على القاتل ويلح على القضاء بوجوب إعدامه ويظهر بعد ذلك أن القتل كان دفاعاً عن النفس أو العرض أو المال فيقضي بعدم مسؤولية القاتل لأن القتل كان بحق، وكذلك فإن الشعب يخدع حيناً من الدهر برجل تظاهر بالمثل الأعلى في المحافظة على حقوق بلاده، فيستسلم له مدة حتى يؤلهه، وما أن تمضي تلك المدة إلا وتظهر عدم أمانته ونواياه نحو شعبه فينقلب عليه ويحطمه، ويعرف بعد ذلك أن ثقته به كانت في غير محلها.

وكم استطاع الرأي العام بحسب اعتقاده أن يحدث التغيير والتبديل على أساس ما علم وفهم من أخبار السلطات العليا، وقد يكون علمه غير صحيح وفهمه غير صحيح، وكم عدل الرأي العام ولم يكن عادلاً في عدله، وكم ظلم الرأي العام ولم يكن عادلاً في ظلمه، وكم رفع الرأي العام أناساً ولم يكن موفقاً في رفعهم، فإذا كانت هذه «الفوضى» الخطيرة في العلاقات الاجتماعية موجودة، فكيف تكون في المسائل العلمية البحتة التي لا يدركها إلا أصحاب الشأن فيها؟ !

قرأت حادثة وقعت أثناء الاضطرابات في مصر بعهد المرحوم سعد باشا زغلول تصح حجة للتدليل على صحة نظريتي، وهي أن اثنين يحمل كل منهما أشد العداوة والبغضاء للآخر ضمتهما –عن غير قصد- تظاهرات كبيرة مرت من شارع الملك فؤاد وبينما كان المتظاهرون يرددون الألفاظ الحماسية التي تستفز أبناء البلاد على أعدائها الخارجين، صاح واحد من ذينك الاثنين – وهو أحمق ووقح: «اقتلوا هذا عدو البلاد وخادم الأجنبي» – وأشار إلى عدوه- وقال: «هذا هو الذي قتل الوطن» وما كاد ينتهي من كلامه إلا وهجم عليه المتظاهرون بالضرب والكم حتى كادوا يمزقونه إرباً إرباً وهو يصيح ويستنجد بقوله والله أنا ما قتلته، فأجابه الأول أنك قتلته وهذه آثار دم القتيل على ثيابك، فأتت قوى الأمن وقبضت عليه وعلى فئة من ضاربيه الذين شهد بعضهم في القسم أب مخفر البوليس «بتعريف المصريين» بأنه شاهد المتهم يطعن الوطن المغفور له بالخنجر.

هذه الحادثة تدلكم على مبلغ تهوس الرأي العام حين الهياج وعلى حكمه الظالم في ساعة الغوغاء.
ولذلك يجب على المحامي الذي واجبه وعلة وجوده في المجتمع أن لا يعبأ بحكم الرأي العام مطلقاً وأن يتغلب على نفسه وعلى رأي الأمة ويدرس القضية من جميع نواحيها ومتى اعتقد أن القضية عادلة يتحتم عليه أن يلبي نداء الواجب بقبول مهمة الدفاع فيها، بحزم ونشاط، وأن لا يرده عنها أي سلطان أو قوة. وإذا أحجم يسيء لأسرة المحاماة لأنه يكون قد انتزع ضميره بيده، وحل عليه الحرمان من تعاطي المحاماة، ولا يليق به أن يرتدي ثوب الشرف ما دام حياً.

***

المحامي عون كبير للقضاء في فريضة إحقاق الحق

ومرافعة شهيرة في قضية خطيرة

ويجب أن لا ننسى أن المحامي يكون في بعض القضايا عوناً للقضاء على إحقاق الحق وكشف القناع عن بعض ملابسات الجريمة، فيظهرها، ويسكب عطف الرأي العام الذي تقلب ضده يوم أن قبل مهمة الدفاع، ويكون بذلك آلة خير للمجتمع لا آلة شر، وهذا من أهم واجبات المحامي الشريف، وإليكم الحادثة الآتية التي تنبئكم عن نبالة قصد المحامي الطاهر الذمة:
حدث في 20 سبتمبر سنة 1869 أن اكتشف رجال الشرطة حفرة بضواحي مدينة باريس دفنت فيها امرأة حبلى بلغ حملها الشهر السابع وخمسة أطفال أكبرهم لا يتجاوز عشرة من عمره وجميع الجثث مشوهة الخلقة تبدو على أجسامها علائم الجرم والتمثيل، وقد عم الهلع جميع سكان البلاد الفرنسية وتولى الفرع أهل المسكونة ممن وصل إليهم خبر هذه الحادثة الفظيعة، ولا تسأل عن حقد الناس وامتلائهم بالغيظ من القاتل، وكان الغضب يستولى على السكان كلما تقدم التحقيق في اكتشافاته ثم اشتد الأمر وقام الناس جميعاً يطلبون رأس الأثيم. ومنهم من رأى الإعدام عقاباً يسيراً وطلب اختراع عقوبة أشد إيلاماً وأكبر تأثيراً وبعضهم ذهب إلى عدم التصديق بتفصيلات تلك الواقعة وعزاها إلى حكومة الإمبراطور طلباً للخروج من مضيقها السياسي، وإن هذه الحالة العامة التي استولت على الناس وفظاعة الجرم وصحة إسناده إلى «تربمان» كل ذلك من شأنه أن يجعل الدفاع عنه مستحيلاً، وكان لا بد في هذه الأحوال الحرجة من وجود مدافع كبرت منه الهمة وعظمت فيه الشهامة حتى يتمكن من مغالبة نفسه ومن التغلب على رأي الأمة بتمامها فيقف موقف المحاماة عن ذلك الرجل الذي ملأ القلوب حزناً وغضباً، وكان «تربمان» نفسه شاعراً بمصيره فكتب إلى المسيو «لاشو» ليدافع عنه يوم التقاضي، وكان هذا الاختيار من موجبات الزيادة في مقت الناس لذلك القاتل، وخطر بالبال أن المسيو «لاشو» وهو أشهر المحامين في عصره وأعلاهم مقاماً لن يقبل الدفاع عن قتال الأطفال وسلاب الأموال على ذلك المنوال، غير أن المحامي أجاب الدعوة من فوره وما لبث أن تقاطرت عليه الجموع يثنونه عن عزمه، وتوالت عليه الرسائل غير ممضاة، وبالتهديد والوعيد، قد جاء في إحداها «أنه يجب على المسيو (لاشو) أن يتذكر أن الله رزأه قريباً بابنه فلا حق له أن يترافع عن خطاف أرواح البنات» أما الرجل فلم يقبل رجاء ولم بخف وعيداً ولم يسمع غير نداء الواجب فثبت على عزمه وجاء يوم التقاضي إلى موقف الدفاع كعادته هادئ البال مطمئن الحركات لا يبدو عليه إلا علائم الاشتغال بما فرضه القانون وأملاه عليه حب القيام بالواجبات فكان حائلاً بين القضاة وبين زمجرة الجماهير المتكاثفة وساعد المحكمة على إصدار حكمها كما يليق بوقار وحشمة واعتبار بعد أن استوفى الدفاع حقه وبان العدل واشتهر.

فلما سكن من في الجلسة دخل القضاة يتقدمهم الرئيس وتربع النائب العام بنفسه في مجلس النيابة، فزادت الجلسة بحضوره احتفالاً وكان بجانبه أحد المحامين العامين بصفته مساعداً له في إدارة أعماله في الجلسة.

وبعد تلاوة ورقة الاتهام وشرح وقائع الدعوى واستجواب المنهم واعترافه بما جنته يداه، وسماع شهود الإثبات وشهود النفي قدم النائب العام طلباته وتلاه المسيو ( لاشو) فدافع عن المتهم مدافعة فاقت الوصف وبهرت عقول الحاضرين قال في مطلعها:
حضرات القضاة وحضرات العدول
«طلب مني ترمان أن أدافع عنه أؤدي هذا الواجب بين يديكم ولست لغافل عما قام بأولئك الذين لا يعرفون من القانون شيئاً من الدهشة والاستغراب، فمن الناس من يرى أن من الجرائم ما اشتدت شناعته وعظمت فظاعته حتى أنه يستحيل أن يتوجه الفكر إلى طلب التخفيف عن مرتكبها. أولئك قوم في رأيهم مخطئون لأنهم مندفعون بدافع النظر والامتعاض الصادرين عن رقة العواطف والحنان فخلطوا بين العدالة وبين الغضب والانتقام ونسوا أن انسياقهم بعامل تلك الشهوة القوية وشدة انعطافهم نحو الذين جنى الجناة على أرواحهم عبارة عن الدعوة إلى ارتكاب جريمة أكبر شناعة من التي هاجت ضمائرهم وأعظم خطراً في الهيئة الاجتماعية (أريد نصيحة القانون) أما أنا فأخالفهم في معرفة واجبات الدفاع لأن الشارع أراد أن يكون لكل منهم مهما كانت جريمته نصير من قول الصدق ولفظ الحق يوقف ثورة الجمهور ويحول بينه وبين تأثيراته فإنها تكون في أقصى درجات الشدة إن كان سببها الميل والحنان ولذلك يخشى منها أن تطفئ نور الحق وتصمت صوت العدالة.

«أيها السادة: إن القانون ثابت الجأش رزين الضمير لا يتأثر بشيْ حتى ولو كان عطفاً وإشفاقاً، ويقول أن الحق لا يتمحص إلا بين الاتهام والدفاع علماً منه بأنه لا بد في حريمه من زمن يجب فيه طرح مناظر الجناية والتباعد عن مكان ارتكابها إذ ليس كل الحق من جانب المصاب، بل لا بد من الالتفات أيضاً إلى الأثيم، فمن واجبات القضاء أن يتعرف المجرم وطبيعته وأمياله، وعقله، وحالته النفسية، لهذا كله قال للمحامي كن في موقف الدفاع وانطق بما يليه عليك الوجدان، هذه أول كلمة تقدمت مرافعتي على لسان حضرة الرئيس حيث قال يخاطبني (ليكن كل ما تقوله عن المتهم راجعاًَ إلى وجدانك الذاتي) ذلك أن القانون قد وكل حقوق الدفاع وحريته إلى عهدة المحاماة وشرفها وهكذا نراه وفق بين حقوق الهيئة الاجتماعية المقدسة وحقوق الدفاع التي لا تقل عنها احتراماً، فثقوا أيها السادة بأننا إنما جئنا أمامكم طوعاً لإشارة شرف حرفتنا وأننا من الصادقين في بحثنا أمامكم عن الحقيقة كما ندريها.

«إذا كانت المحاماة لازمة في القضايا فهذه القضية أولها. الجرم فظيع والحقد على جانبه عظيم. وأحوال الزمان والمكان غضبي. وكل من في الوجود وما في الوجود يطلب صرامة القانون. ووظيفة الدفاع في هذا المقام حمايتكم أن تنجروا مع ذلك السيل المنهمر. وقد حلفتم أنكم لا تفرطون في مصالح الأمة ولا في مصالح المتهم ووعدتم أن تكونوا مطمئنين وأن تطلبوا الحق غير ناظرين إلى حركات الجموع وضوضاء الممتعضين وجهرتم بأنكم لن تقولوا إلا بما تليه عليكم ضمائركم حينما تنفردون في حجرتكم فأرجوكم رجاء لا رجاء بعده أن تتلمسوا من الشجاعة ما تسكتون به ثورة الضمير فتبصروا وتسمعوا.
«سادتي
سأبحث معكم عن الحق كما أرى ولست مقتفياً أثر المتهم في دفاعه. فلا تظنوا أنني جئت في هذا المكان لأعيد على مسامعكم ما قاله بنفسه. إن كان هذا فقد ظننتم سوءاً بمهمتي وأراها من أخس المهن إن كانت عبارة عن نقل كل شيء دافع به المتهم عن نفسه خطأً كان أو صواباً. ليهدأ بالكم أيها السادة فما أتيت أماكم إلا لأدافع عن المتهم كما أعتقد وبالكيفية التي أراها واجبة، فقد عاشرته وسألته وخاطبني وحكمت في جريمته قبل أن آتي للدفاع عنه. ولست صاحب الفصل في القضاء إنما أنا رجل لي رأي جئت لأبديه وأرى من الواجب علي في هذه الظروف الحرجة أن أشافهكم بما أعتقد في هذه الدعوى.

لي زمام الدفاع في هذا المقام وأنا صاحبه ولست سدى المتهم . أنا رجل من ذوي الصدق أقول ما أعتقد قولاً صحيحاً صادقاً فاسمعوا ما أريد أن أقول واسمحوا لي أن أدخل باب المناقشة».

ثم جعل يترافع فأتى على سيرة المتهم وكيف تربى وإلى أي عمل كان يميل وجعل وجهة الدفاع إقامة البرهان على أن المتهم لم ينفرد بالجريمة بل له شركاء وأنه لذلك لا يستحق عقوبة الإعدام.

ومن ألطف ما في هذه المرافعة أن المسيو (لاشو) لم ينكر عملاً واحداً ما أثبته التحقيق ولم يصف المتهم بما ليس فيه، وأحسن من هذا كله ذكره القتلى بكل تكريم وتبجيل قال:
«ذهب المتهم إلى (روبكس) واختلط بعائلة (كنك) – المتهم بقتلها – وهي من أعظم العائلات سيرة وأسوائها مالاً . وكأني بكم كنتم تنتظرون مني أن أفوق سهام الطعن والملام إلى حنا كنك وزوجته وأولادها التعساء. كلا فإنما احترامي لتلك العائلة لا يقل عن احترام حضرة النائب العام لها.

وفي الواقع أن تلك العائلة نشأت غير مسرعة في ظهورها وقد بارك الله فيها كأن القدر قضى لها بأكمل المزايا قبل أن يقتضي عليها بأكبر البلايا. كان الرجل وزوجته من الصناع وعاشا مقتصدين في حالة نظام تام ووصلا بجدهما إلى اكتساب ما ليس بالقليل فجمعا مائة ألف فرنك. ولا تسل عن حنان الوالدين على الأبناء، وحدث ولا حرج عن بر الأولاد بالآباء. وحيث أني تدرجت إلى هذا المكان فاسمحوا لي أن أقف هنيهة بجانب أولئك المساكين الذين قتلوا، لأقدم لهم خالص احترامي وأعظم دلائل ميلي وانعطافي» اهـ.

ثم انتقل إلى دفاعه وأخذ يخوض في الموضوع بلسان فصيح وقول تلذ له الأسماع حتى استرعى القلوب وخلب الأذهان وقال في الختام:
«وأنا أرجو أن لا تحكموا على المتهم بالإعدام فإن الحياة هنية لديه كما أعلمه وكما لا تجهلونه من واقعة هافر لما أراد أن يقتل نفسه إغراقاً وكأن الله نجاه من الغرق ليقف هذا الموقف بين يديكم غير أنه لم يرد أن يموت مرتين.

إلى هنا أمسك عن الكلام فقد أتممت هذا الواجب الثقيل الذي قبلته كما هو الواجب وأديته بالصدق والأمانة وقلت لكم كيف أنني كنت أفهم الحق في هذه الدعوى. ودافعت عن المتهم دفاع العقل، وأعلنت أنني قضيت في الدعوى. ودافعت عن المتهم وأنا أصرح بأنني أعتبره مجرماً كبيراً.غير أنه لم يكن بمفرده بل كان معه آخرون، وقد أديت واجبي من غير تأثر من الخارج ولا تطويل في العمل. أديته في حضرة العدالة ولا نصير لي إلا ما انتزعته من وجداني. وأنا موقن بأنكم مثلي لا تتأثرون بالعوامل الخارجية ولي رجاء في ضمائركم وفطنتكم. وأجلس خلواً من ذلك اليأس العظيم الذي أدخله في ذهني ختام ما قاله حضرة النائب العام»ا هـ.
وقد حكم على المتهم بالإعدام.

كذا فلتكن شجاعة الضمائر وسمو الأفكار وهكذا تصان الحقوق وتؤدى الواجبات.
أخلاق المحامي واستقامته في معيشته الخاصة:
بقي علينا أن نذكر شيئاً عن أخلاق المحامي وحياته الخاصة، وهذا موضوع خطير له أهميته في الهيأة الاجتماعية بصورة عامة وفي طائفة المحاماة بصورة خاصة يجدر تحليله بدقة تامة.
نص قانون المحاماة الألماني الصادر عام 1879 أن طلب الانتساب إلى المهنة برفض لسببين: الأول إلزامي والثاني اختياري، فيرفض وجوباً في ست أحوال:
أولاً: إذا فقدت أهلية التوظف بالوظائف العامة بسبب حكم جزائي.
ثانياً: إذا كان الطالب محامياً سبق طرده من الطائفة.
ثالثاً: إذا فقد حق التصرف في أمواله لإفلاسه وللحجر عليه.
رابعاً: الاحتراف بحرفة لا تليق بشرف المحاماة أولا يصح الجمع بينهما.
خامساً: (وهو موضوع البحث) سوء السيرة.
سادساً: العاهة الجسمية أو العقلية التي تمنع من القيام بواجبات الصناعة.

ورأي دائرة المحاماة في ألمانيا أن عدم قبول الطالب بإحدى الأحوال الثلاث الأخيرة إلزامي يجب العمل به وإن من واجبات المحامي أن يكون سيره خارجاً عن صناعته ملائماً لما وجب لها من المكانة والاعتبار.

وأوجب قانون روسيا بأن يكون الطالب حسن الأخلاق مستقيم السيرة وكذلك القانون العثماني المؤرخ بسنة 1876 فقد اشترط لقبول الطالب في التمرين أن يبرز شهادته وتذكرة ميلاده ويثبت أن له مسكناً في باريس، وأنه يقطنه بأثاث من عنده أو أنه يعيش مع عائلته لكن بمسكن خاص به، وأنه ليس بحالة تمنعه من الاحتراف بالمحاماة، ولا يدرج اسمه في الجدول إلا إذا كان شريف النفس طاهر السمعة، وانتحلت رومانيا قانون فرنسا وخاصة في هذه الأسس العامة. والقانون المصري الصادر في 18 ديسمبر سنة 1888 اشترط أيضاً أن يكون الطالب حسن السير والسيرة.

مع العلم بأن قوانين محاماة بعض الدول قد تعدلت تبعاً للتطورات الزمنية ولكن المبادئ الأساسية المشار إليها ما زالت موجودة إلى يومنا هذا.

أما القانون السوري ذو الرقم 2117 المؤرخ في 1 حزيران سنة 1930 فقد أوجب بمادته الثالثة على من يطلب تسجيله في جدول المحامين أن يكون من ذوي السيرة الحسنة والأخلاق الطيبة وأن لا يكون محكوماً بجناية أو بجنحة تمس بالشرف كالسرقة والاحتيال والتزوير وإساءة الائتمان وشهادة الزور واليمين الكاذب وما أشبه ذلك من الجنح، حتى أن المادة 13 منه نصت على وجوب حذف اسم المحامي ولو كان مسجلاً في الجدول.

فيتحصل من هذه النصوص إن المشترعين متفقون على أنه من الشروط الرئيسية الأولى لقبول الطالب في المحاماة أن يكون من ذوي السيرة الحسنة والأخلاق الفاضلة وغير محكوم بجناية أو بجنحة تمس في الأخلاق، والمفهوم الموافق لهذه المبادئ أن الطالب إذا كان على نقيضها يمتنع قبوله في المحاماة مطلقاً، ويؤخذ من ذلك أيضاً أن من يتقرر قبوله بعد ثبوت كفاءته الأخلاقية، إذا ارتكب جرماً من الجرائم السالفة الذكر وحكم من أجله أو قام بعمل شخصي يسيء للأخلاق والآداب العامة وشاع ذلك العمل حتى خدش شرف المحاماة، فحقت عليه العقوبة التأديبية في مجلس تأديب المحامين لأن ضرر ذلك في حالة تعاطيه المحاماة أكثر منه قبلها، لأنه حينما يكون غريباً عن المهنة لا تشوبها عيوبه باعتباره فرداً عادياً بقدر ما تشوبها عيوبه باعتباره فرداً عادياً بقدر ما تشوبها حين يكون عضواً فيها، وبذلك تتأثر أسرة المحاماة وأعضاؤها ولو كان ذلك العيب لا علاقة له بالمهنة وقد جاءت المادة (29) من قانون المحاماة المصري المؤرخ في 16 سبتمبر سنة 1893 مؤيدة ذلك بقولها: «من أخل بواجباته من المحامين أو خدش شرف طائفته، أو حط من قدره بسبب سيره في أعمال حرفته (وفي غيرها) يحاكم في المجلس التأديبي…

وقد اطلعت بهذا الصدد على ما قرره المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا من كبار قضاة مصر السابقين في مؤلفه (المحاماة) إذ قال ما نصه:
«ينبغي للمحامي أن يكون عفيف النفس حسن المعاشرة بعيداً عن مواقع التهم وموارد الشبه في سيره الخاص. ولا يقال أن معيشة المرء الخصوصية متعلقة به دون غيره ولا سبيل لأحد أن يخوض فيها حيث أن أبوابها مغلقة على المنقبين والنافذين لأن ذلك تسليمه إذا كان السر مكتوماً لكن لا يجوز التسليم به إن خرج المحامي في المخالفة إلى درجة الظهور والانتشار. فإذا وقع منه ما يحط بقدره عياناً وارتكب من الهفوات في سيره الذاتي ما يخدش شرفه ويوجب له الاحتقار وجب الاهتمام بأمره واستعمال ما يحفظ على صناعته مكانتها فإنه يستحيل في هذه الحالة أن يميز بين الرجل وبين المحامي لأن عمل الأول يشين شهرة الثاني بلا شبهة ولا ريب».

وقد جاء في أحكام مجلس النقض والإبرام «في مصر» ما يأتي: (المحامون لفيف من المشترعين تجمع بينهم روابط الشرف خصصوا أنفسهم تحت حماية القانون والقضاء للدفاع عن مواطنيهم فلا يكون منهم ولا من يعيش معهم إلا من احترم القانون ولم يعلم عنه ما يشين صناعتهم الشريفة والسبب في أن عمل الواحد يرجع بالأثر على الطائفة جميعها، أنه واحد منها، وشأنه مستمد من شأنها، فالمحامون أشبه بأفراد عائلة واحدة كلهم متضامنون قي شرف مهنتهم، وهي لطيفة سريعة التأثر، فمن خرج من أفرادها عن جادة الاستقامة فقد أهانها وحط من قدرها وانقطعت بذلك صلته الأدبية مع زملائه لأنه لا يليق بالفضل أن يخالط الرذيلة، وهنا سبب الطرد وعلة الانفصال).

وقد قال المرحوم زغلول باشا أيضاً: «إن هذه النسبة موجودة أيضاً في جميع الناس الذين لهم شأن مخصوص نخص بالذكر منهم القضاة والحكام على اختلاف طبقاتهم والمعلمين وأمثالهم فلا يكمل الرجل في وظيفة إلا إذا حاز الكمال لنفسه ولا يحترم عامل في عمله إذا احتقره الناس خارجاً عنه، ألا ترى أن الإنسان يحترم دائماً من لم يعرفه أصلاً ثم هو يسقط من نظره إن عرف منه ما يوجب الاحتقار، وما سببه إلا مظنة الكمال أولاً وزوال هذا الوهم أخيراً».

وقد جاءت الأحكام في مصر مؤيدة لهذا الواجب ومنها أن حق التأديب لا يقف إلا حيث لا يظهر للناس أي عمل مخل بشرف المحامي محط بقدره وإن معيشة المحامي الخاصة لا تدخل تحت نقد بشرط أن تبقى مستورة عن أعين الناس.

وقد شددوا في وجوب مراعاة مقتضى الحشمة والوقار في المعيشة الخاصة وعاقبوا على الخروج عن ذلك الواجب عقوبة صارمة فقالوا بوجوب طرد المحامي من المهنة إذ كدر صفو الراحة العامة بأعمال علنية تأباها الآداب.
* وإذا جلس في المقاهي بحالة جلبت عليه انتقاد المارة.
* وإذا تنزل في المآدب العامة فرافق من لا تليق به مخالطتهم
* وإذا شكته زوجته أمام القاضي وظهرت أوراق توجب العيب عليه
* وإذا حكم عليه في خصومة بناء على عمل لا يليق بالكرامة ولا يوافق مقتضى الصناعة.
* وإذا عوقب بسبب فعل فاضح
* وإذا أقيمت عليه دعوى وثبت فيها أنه أتى عملاً يخالف الشرف وإن لم يحكم عليه.
* وإذا سعى في أمر يخالف الصدق أو عرض على أحد أمراً يغاير الحق.
* وإذا سعى في نيل رتبة أو وسام سعياً لا يتفق مع الكرامة.
* وإذا سعى لغيره في نيل ذلك بطرق تخالف الاعتبار.
* وإذا قبل أن يكون مديراً لشركة تجارية.
* وإذا أسس شركة وإن تحايل أو أخفى اسمه ومنافعه فيها.
* وإذا حكم عليه في مسألة تجارية.
* وإذا بيع متاع بيته قضاء، وإذا صرف بالإسراف مع عدم كسبه.
* وإذا اختلت أعماله واضطربت أشغاله فصار محلاً للشك والظنون.

أما في سوريا فبالنظر لتساهل القائمين على الأمر في المحاماة وانصرافهم للشؤون السياسية وحدها وعدم وجود مراقبة دقيقة من شأنها المحافظة على مبادئ المحاماة السامية، فقد أصبحت المحاماة في الأدوار الماضية – بكل أسف – غير داعية لاطمئنان النفوس ورضاء الهيئة الحاكمة والحكومة، وكثيراً ما علا صراخ الشكوى من الأعمال الشاذة حتى بتنا نرى النصوص والأحكام والاجتهادات لم تعد تؤثر مطلقاً وأمست حبراً على ورق بلا عمل، ومجالس النقابة التي تعرف واجبها وتحترم نفسها لا تتردد في معاقبة المسيء إلى هذه المهنة الشريفة.

أحمد فؤاد القضماني

***

كان بريه (( Berryer )) قديماً من أكبر محامي فرنسا في أيامه ومن أعظم الخطباء ، وعندما سئل لماذا لم يجمع ثروة قال ( إنه لا بد لجمع الثروة من الخضوع ) …

وهكذا كان المحامون قديماً ، فرسالة المحاماة تفرض على حاملها شروطاً ترفعه إلى مصاف القدوة ولن تستقيم هذه المهنة بدون هذه الشروط ، وهذه الشروط هي :
1- الكرامة والاستقلال :
إن كرامة المحامي تنبع من استقلاله . ويقصد باستقلال المحامي قيامه بأداء دوره في خدمة موكله ، على نحو مستقل ونزيه متحرر من كل تأثير أو ضغط أو تدخل من أي جهة أوطرف كان ، وفقاً لما يمليه عليه ضميره وأخلاقيات المهنة ، وبشكل يزرع الثقة والاطمئنان في روح موكله وبالتالي فإن كرامة المحامي منوطة باستقلاله ، والاستقلال يعني أيضاً الحيدة والالتزام بالقانون .

ومن مظاهر ومقتضى الكرامة أن لا يسعى المحامي إلى زبائنه وأن لا يقابلهم إلا في مكتبه حصراً ، وقد نصت المادة /90/ من النظام الداخلي للمهنة أنه لا يجوز أن يستقبل المحامي مراجعيه في منزله أو منازلهم إلا في ظروف استثنائية .

كما توجب الكرامة على المحامي أن لا يفتش عن الزبائن بالذات أو بالواسطة ، وقد عاقبت المادة / 77 / من قانون تنظيم المهنة المحامي الذي يقبل الوكالة عن طريق التعامل مع السماسرة بالشطب من الجدول ، كما عاقبت نفس المادة بالحبس من يمتهن أعمال السمسرة .

كما يفرض الاستقلال على المحامي أن لا يكون مستخدماً ، وأن لا يقبل وظيفة عامة أو خاصة ، وأن لا يكون مديراً لشركة. وقد عددت المادة /11/ من قانون تنظيم المهنة الأعمال والوظائف التي لا يجوز الجمع بينها وبين مهنة المحاماة .
2- الاحترام :
ويجب على المحامي احترام نفسه من خلال سلوكه وتصرفاته أمام المجتمع وبين الناس . فعليه أن يكون مثلاً يقتدى به في الآداب والأخلاق والمظهر، وأن يحسن التعامل مع الآخرين وأن لا يتعالى ولا يتكبر . وعليه أن يراعي مفاهيم وعادات وأعراف المجتمع ، فهو يظهر ويبرز ويتحرك ويترافع تحت السمع والبصر ، وبهذا تتميز المحاماة بعلنيتها ويتميز المحامي بكونه رجل عام وهو مسؤول عن العموم مسؤوليته عن نفسه ، ولا غرابة أن تجتذبه الحياة العامة في وطنه ، ولا عجب أن تشغله هموم بلده وأمته ، والمحامون على مدى العصور كانوا دائماً في الطليعة يتبؤون المناصب العليا ويحملون المهام الجسام .

وفي فرنسا القديمة استحصل المحامون على قرارات من المحاكم تتضمن حقهم في التقدم على النواب العامين وكتاب العدل والأطباء ومعاوني نائب الملك ، انطلاقاً من أنهم أصحاب مهنة نبيلة فمن حقهم أن يكونوا في صف النبلاء وسلوكهم في مستوى سلوك النبلاء .

وقد صدر في مصر عدد من الأحكام التي تؤيد مبدأ احترام المحامي لنفسه، وهي تقتضي بوجوب مراعاة الحشمة والوقار في الحياة الخاصة ، وعاقبت بعض تلك الأحكام على الخروج على هذا الواجب بعقوبات صارمة، فقالوا بوجوب طرد المحامي من المهنة إذا كدر صفو الراحة العامة بأعمال علنية تأباها الآداب .
3- الوجدان والإخلاص :
إن الوجدان والإخلاص هما الصفتان الأساسيتان اللتان ينتظرهما الموكل من المحامي عند قيامه بتوكيله . فعلى المحامي أن يبذل نفسه في الدفاع عن القضايا التي يعهد بها إليه ، وأن يكون نشيطاً في دراسة القضية دراسة دقيقة تساعده على تحضير دفوعه فيها ، فاختزان العلم والمعلومات ليست بالعدة الكافية للمحامي ، بل يجب عليه الاستمرار في الدراسة والبحث عند كل قضية بحيث يعتبر نفسه طالباً من جديد أمام كل دعوى تكون بين يديه .

كما يجب عليه أن يكون نشيطاً ودقيقاً في التحضيرات والإجراءات التي يمارسها في معرض ممارسته للمهنة ، حتى لا تفوت على موكله فرص الدفوع والطعون .

تركت المادة / 57 / من قانون تنظيم المهنة للمحامي أن يحدد أسلوب عمله عندما قررت بأنه : للمحامي أن يسلك الطريق التي يراها ناجعة في الدفاع عن موكله . لكن المادة / 58 / عادت واعتبرت زلة مسلكية كل إهمال غير مبرر أو جهل فاضح من المحامي يسبب الضرر لموكله ، مما يستلزم تضمينه بالتعويض .

والحقيقة فإن المحامي الناجح ليس لديه وقت فراغ ، فهو ينصرف إلى العمل بمهنته ليل نهار، فصباحه في المحاكم أمام القضاء ومساؤه في المكتب مع المراجعين وليلاً يسهر حتى ساعات متأخرة مع الملفات وبين النصوص القانونية وكتب الفقه ، فمهنة المحامي هي مهنة شاقة بل هي أشق مهنة ، إنها مهنة غيورة آسرة كاسحة لا تترك للمحامي وقت فراغ ولا راحة ولا هناء
4- التجرد والإعتدال :
لا يصح أن تكون العدالة موضوع تجارة ، وعليه فإن المحامي يجب أن يكون معتدلاً في تحديد أتعابه ، لأن رسالة المحاماة أسمى من أن يكون هدفها الرئيسي الكسب المادي . والمحامي مبدئياً حر في تحديد أتعابه لكن هناك عدة عوامل تلعب دوراً في تحديد هذه الأتعاب وهي :
صعوبة العمل – أهمية القضية – شهرة المحامي . وهناك عامل رابع ينبغي للمحامي أن يأخذه بالاعتبار وهو حالة الموكل المادية ، فيمكن للمحامي أن يأخذ أتعاباً رمزية في قضية مهمة أو صعبة .

لقد ألزمت المادة /60 / من قانون تنظيم المهنة في فقرتها الأولى أن يتفق المحامي مع موكله على أتعابه خطياً ، كما حظرت عليه في الفقرة الثانية ابتياع الحقوق المتنازع عليها أو أخذ أسناد بها .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت