رئاسة المجلس ومبدأ الاستقلال

ناصر الداوود

لا تزال الأوامر الملكية المعممة تؤكد على جميع الجهات الحكومية عدم التدخل في القضاء، وأن القضايا من حين دخولها مكتب القاضي وحتى صدور الحكم من اختصاص القاضي وحده، وكل ذلك يعزز مبدأ الاستقلال المقرر
كان أول تشكيل للسلطة القضائية في المملكة عام 1343، بأمر من المؤسس الملك عبدالعزيز غفر الله له، باستحداث إدارة للقضاء في مكة المكرمة ثم إلحاقها بأخرى في مدينة الرياض، وبعد ست وثلاثين سنة قام الملك سعود يرحمه الله بتوحيد القيادة القضائية تحت مسمى (رئاسة القضاة) عام 1379هـ، واختار لها رئيساً فذاً هو الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فقامت الرئاسة بواجبها على نحو ما تقوم به وزارة العدل نحو القضاء اليوم، وما يقوم به المجلس الأعلى للقضاء نحو القضاة في هذه الأيام، مع فارق الإمكانات والكوادر والقدرات الفنية والإدارية، ثم تلا ذلك سبع مراحل منظمة لشؤون القضاء والقضاة على النحو التالي:-

المرحلة الأولى/ ابتدأ الملك فيصل غفر الله له تحديث رئاسة القضاة عام 1390هـ، بأن قسم ـ رحمه الله ـ اختصاص الرئاسة إلى شقين؛ القضائي منهما: أسماه (الهيئة القضائية العليا)، وجعل رئاستها إلى الشيخ محمد بن جبير يرحمه الله، والإداري منهما: أسماه (مجلس القضاء الأعلى)، وأسند رئاسته إلى أول وزير للعدل في المملكة الشيخ محمد الحركان غفر الله له، فترأس معاليه المجلس تعييناً لا تكليفاً.

المرحلة الثانية/ في أواخر عام 1395هـ وبعد صدور نظام القضاء السابق وتعديلاته عين الملك خالد يرحمه الله الشيخ عبد الله بن حميد أول رئيسٍ متفرغٍ للمجلس، بعد ضم الهيئة القضائية العليا إليه، واستبدال مسماها بالهيئة الدائمة؛ لتكون نواةً للمحكمة العليا المستحدثة في نظام القضاء الحالي.

المرحلة الثالثة/ قبل منتصف عام 1402هـ أصدر الملك خالد أمره بتكليف وزير العدل الثاني الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ برئاسة المجلس؛ فكان أول وزيرٍ للعدل (يكلف) بالرئاسة بعد وفاة سلفه يرحمهما الله.

المرحلة الرابعة/ عام 1407هـ أصدر الملك فهد غفر الله له تكليفه وزير العدل الثالث الشيخ محمد بن جبير برئاسة المجلس، ليكون ثاني وزيرٍ للعدل (يكلف) برئاسته.

المرحلة الخامسة/ عام 1413هـ عين الملك فهد يرحمه الله الشيخ صالح اللحيدان ثاني رئيسٍ متفرغٍ للمجلس بشقيه القضائي والإداري.

المرحلة السادسة/ عام 1430هـ عين الملك عبد الله وفقه الله الشيخ صالح بن حميد ثالث رئيسٍ متفرغٍ للمجلس، بعد فصل الشق القضائي عنه وتسميته (المحكمة العليا).

المرحلة السابعة/ في أول هذا الشهر كلف الملك عبد الله أيده الله وزير العدل الخامس د. محمد العيسى برئاسة المجلس؛ فصار ثالث وزيرٍ للعدل يرأس المجلس تكليفاً بعد استقلال الشق القضائي عن الإداري.

وإذا تأملنا الفوارق بين وزراء العدل الخمسة في مراحل رئاسة المجلس السبع ندرك الآتي:-
أ/ الوزير الأوحد الذي لم يتول رئاسة المجلس هو الوزير الرابع د. عبد الله بن محمد آل الشيخ.
ب/ الوزير الأوحد الذي تولى رئاسة المجلس وهو من غير القضاة هو الوزير الثاني (إبراهيم آل الشيخ).
ج/ وزراء العدل الثلاثة؛ الأول(الحركان) والثالث (الجبير) والخامس (العيسى) كلهم من القضاة الشرعيين.
د/ الوزير الأول (الحركان) قاضٍ عدليٌ بحت.
هـ/ الوزيران الثالث (الجبير) والخامس (العيسى) نشآ في القضاء العدلي، وترعرعا في القضاء الإداري، ثم عادا إلى القضاء العدلي بعد أن بلغا أشدهما.
و/ الوزيران الثاني (إبراهيم آل الشيخ) والثالث (الجبير) كلفا برئاسة المجلس قبل الفصل بين شقيه القضائي والإداري، ومع ذلك لم يكن لهما سلطان على الشق القضائي (الهيئة الدائمة)؛ لأنها كانت مستقلةً عن رئاسة المجلس برئيسٍ خاص؛ هم على التوالي (العقيل، اللحيدان).
ز/ الوزيران الأول (الحركان) والخامس (العيسى) كلفا برئاسة الشق الإداري للمجلس فقط؛ لأن الشق القضائي لم يكن مضموماً إلى المجلس إبان رئاسة الأول، ولأن تكليف الخامس جاء بعد استقلال المحكمة العليا عن المجلس.
من كل ما تقدم نعلم يقيناً: أن الدولة أعزها الله لم تنتهك مبدأ استقلال القضاء في تكليفها أياً من وزراء العدل الأربعة برئاسة المجلس، خصوصاً: أن أمانة المجلس بيد القضاة بناءً على المادة (8) من نظام القضاء، وأن أغلبية أعضاء المجلس اليوم من القضاة، وقرارات المجلس تصدر بالأغلبية بحسب المادة (7) من النظام دون تمييزٍ لجانب الرئيس، بل إن حرص الدولة على سلامة ودعم مبدأ استقلال القضاء تمثل في مواضع عدة، منها:-

1/ النص على استقلال سلطة القضاء في المادة (46) من (النظام الأساس للحكم)؛ ونصها [القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية].
2/ التأكيد على استقلال القضاة في المادة الأولى من نظام القضاء؛ ونصها [القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء].
3/ النص على أن التدخل الشخصي في شؤون القضاء من الجرائم التي يعاقَب عليها كبار رجالات الدولة؛ كما في المادة (5) من نظام محاكمة الوزراء، وفيها: النص على توقيع عقوبة السجن لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات على أي وزير في الدولة يرتكب هذه الجريمة.
4/ لا تزال الأوامر الملكية المعممة تؤكد على جميع الجهات الحكومية عدم التدخل في القضاء، وأن القضايا من حين دخولها مكتب القاضي وحتى صدور الحكم من اختصاص القاضي وحده، وأن على القاضي عدم الاستجابة لطلبات سحب المعاملات من المحاكم قبل الحكم فيها من أي مسؤولٍ، وكل ذلك يعزز مبدأ الاستقلال المقرر.

أما ما يلتبس على الكثير حول سلامة تطبيق هذا المبدأ من كون تعيين القضاة لا يكون إلا بأمر ملكي: فلاشك أن ذلك من باب إعلاء شأن القضاء؛ حتى لا يدخل حماه من لا يستحقه، بل إن النظام أوجب في المقابل أن لا يكون عزل القاضي إلا بأمر مماثل؛ حتى لا يساء استخدام الحق من نواب ولي الأمر على القضاء، ولولا هذا التحوط لكان التعيين في القضاء مغنماً والعزل عنه مغرماً ممن لا خلاق لهم، وما دام أن القاضي ليس له أن يولي نفسه، ولا يوليه من لا ولاية له؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فقد وجب أن تكون توليته من ذي ولاية عامة.

أما ما يثار حول اشتراط إذن الإمام في نظر بعض أنواع القضايا: فذلك من التنظيم الذي لا يمكن إهدار سببه، وإلا صار الأمر هملاً، ومآله إلى الفوضى، وذلك ما تنأى عنه الحكومات المنظمة على مر العصور.
أما ما يشكل على البعض بشأن الميزانية الخاصة للمجلس: فهو – لو يعلمون – خير للمجلس ولرئاسته ولاستقلال القضاء من الميزانية المستقلة المماثلة لأي دائرة أخرى؛ لأن المجلس سيخضع بسببها للتدقيق والمحاسبة من ديوان المراقبة العامة، وذلك عامل انتهاك لمبدأ استقلالية القضاء.