العدالة ورمز المرأة معصوبة العينين ..!‏
القاضي ناصر عمران
لا توجد فكرة أو رؤية لها صياغة نهائية كما لا يمكن ان تستأثر فكرة بالتعبير النهائي للحقيقة او تعبر عن كنهها او مغزاها وفكرة العدالة لها معانٍ متعددة بحسب الرؤية الزمانية والمكانية والعقائدية فما كان يعتقد ويراه الملك البابلي العادل حمورابي وهو يقول : (أحمل في جوانحي هموم الناس من ارض سومر واكد ، صاروا يتنعمون بالثراء بفضل روحي التي تحرسهم ، انني احمل أوزارهم بسلام ، أحميهم بحكمتي التي لا تُسبر اغوارها، حتى لا يضطهد الأقوياء غيرهم من الضعفاء ولكي أهب العدالة للإيتام والارامل ..) يختلف عما كان يراه اليونانيون القدماء من معنى وبالتأكيد اختلف المعنى بعد ذلك عند افلاطون وبعده سقراط والفلاسفة الاخرين وبضمنهم الفلاسفة المسلمين وظلت العدالة فكرة متغيرة قادرة على التطور متعكزةً على سؤال جدلي يتفاعل على الدوام مثل فكرة الوجود والعدم والموت والحياة، فالشعور والإحساس بالعدالة طبيعة ام تطبع، فطري ام مكتسب ..؟

هي أسئلة ازلية قابلة للتجديد والتغيير والميل عند الاجابة لاحدها له منتجاته ومخرجاته والتي تثير جدلا فلسفيا واجتماعيا على الدوام اغنى المنظومة الفكرية العالمية كثيراً وكل ذلك ليس خارج مديات الراهن المعاش بل هو منطلق من مكنوناته ومشاعره ورؤاه فثنائية (الظلم والعدالة) ظلت على الدوام سعيا مهما لدى الحاكم والمحكوم للتشبث باحدهما وكلما تحققت تلك الثنائية صارت العدالة معشوقاً حقيقيا تهفو اليه النفوس وتتشبث به حتى يغدو حلماً ورؤى وحياة.

أما المفهوم العام للعدالة فهي تصوُّر إنساني يُركز على تحقيق التوازن بين جميع أفراد المُجتمع من حيث الحقوق، وتحكُم هذا التصوُّر أنظمة وقوانين يتعاون في وضعها أكثر من شخص بطريقة حُرة دون أي تحكُّم أو تدخُّل، حتى تضمن العدالة تحقيق المساواة بين جميع الأشخاص داخل المُجتمع. ومنذ فجر التاريخ كان يرمز للعدالة بامرأة معصوبة العينين تحمل ميزاناً بيد وسيفاً باليد الاخرى ، استخدم هذا التعبير عبر قرون عديدة وحضارات مختلفة ، فالمرأة رمز للعدالة لم يأت من فراغ فالمرأة مستودع لعاطفة والرحمة وكذلك العدالة حيت تتحقق ، وتحمل ميزاناً دلالةً على الحكم العادل الذي يوافق حجم الجرم المُرتكب فلا هو أزيَد ولا هو أقل، أما معصوبة العينين فدلالةً على النزاهة، أي أن العدل لا يقف بجانب أحد أو يميل لآخر طبقاً لأهوائه الشخصية.

ويرى الفيلسوف الالماني (إرنست كسيرير) في الحديث عن دلالة الرمز: ان الرمز هو محاولة لتحديد طبيعة العلاقة القائمة بين الانسان وعالمه الخارجي فعلاقتنا بهذا العالم، كما يرى هذا الفيلسوف، ليست مباشرة، ولا يمكن أن تكون مجرد رابط آلي يجمع ذاتا بموضوع. فما يفصل الإنسان عن عالمه ليس حواجز مادية تتشكل من الأشياء والموضوعات، بل هو الطريقة التي تتم بها صياغة الواقع صياغة ثقافية تنزع عنه أبعاده المادية لتكسوه بطبقة من الرموز وهي ما يسميها ارنست كسيرير ( الوظيفة الرمزية) هذه الوظيفة الرمزية المتبناة هي الرابط المشترك الانساني بغض النظر عن الاساس الميثولوجي للرمز، لذلك يحظى نصب سيدة العدل من بين التماثيل الأعظم المعترف بها عالمياً ومن المثير للاهتمام أن هذا التمثال موجود في معظم المباني القانونية وبيوت العدل في العالم؛ وهذه هي الحقيقة وراء شعبية هذا النحت بالإضافة الى رمزية الفكرة التي يحملها وهي العدالة وعلى اساسه تشكل الرابط الانساني ،ان العدالة في اي شق منها سواء اكانت طبيعة او التطبع هي منتج واقعي وسلوك حياتي انساني لا يختصر بالتطبيق الالي للنصوص القانونية دون الوقوف على فحوى وكنه وروح ومدلول التشريع التي تستقر العدالة بين جوانبه ولا يمكن الوصول اليها الا من خلال الذوبان في مكنوناتها الروحية فالعدالة احساس وشعور يتجسد في نظرات المظلومين حين يعانقون حقوقهم وهم يشعرون بالمساواة والانصاف والعدل .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت