المعيار القانوني

مقدمـة:

الانسان كائن فذ ومتميز ويتمتع عموما بقدرة ذهنية تجريدية ونظرة مستقبلية وقابلية ومرونة عقلية تُمكنه من اتخاذ مواقف اَنية فيمواجهة ظروف او وقائع آنية لم تكن في الحسبان ، فضلا عن انه قادر على خلق وابداع افكار جديدة دائما لتلبية حاجاته وحل مشاكله ، كما انه يتمكن في الغالب من تمييز الخطأ والصواب والحسن والقبح بعقله وحدسه او تجربته على اضعف الإيمان.

الا انه قد يستخدم هذه القابليات استخداما سلبيا عندما تتعارض مصالحه مع مصالح غيره فيقع في الخطأ واللامشروعية ، سواء اكان ذلك وهو يمارس حقا من حقوقه او حين يتجاوز حدود حقه الى حدود حق غيره .
ذلك ان سلوكيات سلبية مثل الخطأ والاهمال والرعونة وعدم التبصر والكسب غير المشروع …. عندما تبرز كوقائع للعالم الخارجي وتؤثرفيه مادياً او معنوياً، تكون سببا للنيل من القيم الاجتماعية وعاملا من عوامل انعدام الثقة والائتمان بين افراد المجتمع الواحد . انها المشكلة الازلية ، الصراع بين الخيـر والشـر، ومعايير التقييم احدى الابتكارات الانسانية المعنوية للفصل بينهما .
ان معايير مثل الاخلاق والعدل والعقل والضمير والذوق السليم ، هي ضوابط عامة للسلوك البشري لانها تضع ضوابط مثالية لما ينبغي ان يكون عليه سلوك الانسان في حياته عموماً، ماهي الا مصادر للمعيارالقانوني. الا ان هذه المعايير الاخلاقية، وهي تدخل في رحاب القانون، يمسها تعديل او تحوير، لان وضع القانون يتأثر بمبدأ مهم هو امن واستقرار المراكز القانونية والسعي لتحصيل العدل المجرد لا العدالة.

والمعايير القانونية من حيث وظيفتها في الحياة القانونية ، هي ادوات معنوية وفكرية وعقلية وتعتمد على الحدس احياناً، تُوجه المشرع وهو بصدد صياغة القواعد القانونية، وهي توجه القاضي ايضا في عمله القضائي حينما ينزل حكم القانون على الوقائع المعروضة امامه وبالذات حين يُقوم سلوك الافراد.

وهي توجه رجل الادارة حينما يتصدى للحالات الواقعية وحاجات الناسفيصدر قرارارته الادارية تنظيمية كانت ام ف ردية مهتدياً بمعاييرالقانون والعدل والانصاف.

اهمية البحث :

تعـد معاييـر التقويـم او التقييـم من المسائل الجوهرية التي اعتنى بها الفلاسفة والحكماء على مر التاريخ ولا غرابة فهي اسس وضوابط علمية للتمييز بين ما هو عادل او ظالم ، او ماهو حسن او قبيح ،او ماهو خطأ او صواب . سواء في المجال الاخلاقي او الديني او القانوني او القضائي، وكان لهذه المعاييرعند التطبيق العملي اثر بالغ على نهضة الشعوب و في رسم صورة مستقبلها على اسس علمية راسخة . فالمعيار يضع الاشخاص والاشياء في اماكنها الصحيحة.
اما في البلاد العربية فأن الموضوع لايكاد يذكر في الغالب بل ان صورته باهتة وغامضة سواء على الصعيد الرسمي او الثقا في او العملي .

وترتب على ذلك ان التقييم يقوم في الغالب على اساس التصور الشخصي لما يجب ان تكون عليه احوال الاشخاص او الاشياء وهذا الاساس ذو طبيعة مدمرة في النهاية على مصير العلم والمعرفة وشخوصهما والحق واصحابه ومصير العدالة في المجتمع عموما .وعلى سبيل المثال لاتوجد لدينا معايير محددة وموضوعة سلفا للتقييم العلمي في العملية التربوية سوى المدرس او الاستاذ شخصيا ونتج عن ذلك مايعرف (بالاستاذ الصعب) و(الاستاذ المتساهل) ومن ثم يتراوح معدل الدرجات والتقييم هبوطا وصعودا في شعبتين من قسم علمي واحد لاختلاف الاساتذة .

كما تلعب عوامل الواسطة والنفوذ والسياسة والوضع الاقتصادي دورهافي هذا النوع من المعايير الشخصية البحتة ، ولهذا لجأت الدول المتحضرة بعد دراسة تجارب انسانية متنوعة وعوامل النجاح والفشل الى معايير موضوعية ثابتة تتحمل شيئا من المرونة وهذه تسرى على كل من يتواجد في اقليم الدولة و في كل مجالات النشاط الانساني ولاتتأثر هذه المعايير بالعوامل والظروف الشخصية البحتة ولا بأشخاص القائمين على التقييم او مزاجهم او وضعهم النفسي .
واذا استخدمنا المثال السابق مرة اخرى فأن وضع الاسئلة الامتحانية مثلاً ،يكون عن طريق الاجابة بعلامة صح او خطأ او ملء الفراغات مع حيز لاسئلة ذات طابع فكري وضعت اجاباتها سلفا اكثر مما تعتمد على مج رد الحفظ وان كان هذا لايترك بالمرة . وحسب علمنا ان هذه التجربة نجحت تماما في العديد من الدول ومنها اليابان ومن ثم استفادت منها العديد من الولايات الامريكية والدول الاوربية .

خطة البحث:

نتناول دراسة المعيار القانوني في اربعة مطالب.
المطلب الاول: ماهية المعيار القانوني.
المطلب الثاني ـ فصل المعيار عما يتصل به من اوضاع قانونية،
المطلب الثالث ـ الاساس التاريخي ونسبية المفاهيم ومعياريتها
المطلب الرابع : انواع المعايير القانونية في العصور الحديثة
خاتمة البحث: مقارنة بين المعيار الموضوعي والمعيار الذاتي.

المطلب الاول: ماهية المعيار القانوني

تمهيد وتقسيم: نتناول بيان ماهية المعيار القانوني في اربعة فروع،
الفرع الاول : في معنى المعيار. الفرع الثاني ـ تعريف المعيار. الفرع الثالث ـ خصائص المعيار القانوني. الفرع الرابع ـ نقد المعيار.

الفرع الاول : في معنى المعيار
معيار كل شيء ومقياسه هو الذي يعرف به الشيء معرفة مزيلة للبس والابهام. (1)
ولكل علم غايته ومعياره ، فغاية علم المنطق التفكير السليم ومعياره الحق والصواب ، وغاية علم الجمال تربية الشعور على تذوق الجمال وتمثله ومعياره الذوق السليم ، وغاية علم الاخلاق ضبط سلوك الانسان ومعياره العدالة والخير والفضيلة (2) ، وغاية القانون تحقيق العدل وضبط سلوك الافراد وربط ذلك بأمن واستقرار ومصلحة الجماعة ومعياره القاعدة القانونية سواء كانت وضعية او عر فية ،وايا كان مصدرها التشريع او المباديء العامة للقانون او القانون الطبيعي او قواعد العدالة او احكام القضاء او اراء الفقهاء وحسب طبيعة فرعالقانون من حيث المرونة او الجمود.
ولما كانت تلك الغايات مثلا عليا ينشدها او يتمناها الانسان في كل مكان وزمان ، فانها في نفس الوقت معايير راسخة لما ينبغي ان يكون عليه من الفكر والسلوك.
و في ضوء ما تقدم وصفت تلك العلوم بأنها علوم انسانية معيارية، تمييزا لها عن العلوم الطبيعية التقريرية الوص فية ، كال فيزياء والكيمياء،التي تبحث في ما هو كائن ( Sein ) باكتشاف قوانين الطبيعة التي تعمل وفقا لمبدأ السببية، فكل سبب يحقق حتماً نتيجة معينة،ولذلك فأن قوانين الطبيعة لا يمكن ان تخرق ،ومن ثم لم تكن حاجة فيها لمعيار يقوم نتائجها وفقاً لما ينبغي ان يكون،لاننا لا نستطيع ان نجعل مما هو كائن ما لا يكون،وجزاء مخالفتها يتحقق الياً دون تدخل احد،فالذي يلقي بنفسه في النار لابد ان يحترق.
اما العلوم المعيارية فتبحث فيما يجب ان يكون ( Sollen ) ويحكمها مبدأ الاسناد لا السببية الطبيعية، أي علاقة بين قاعدة اجتماعية وجزاء ينبغي ان يوقع عند مخالفتها، فالقواعد المعيارية يمكن ان تخرق، مما وجب ان يوضع جزاء لذلك الخرق ، لان الجزاء هنا لا يتحقق الياً بمج رد المخالفة ، فالقاتل والسارق والمهمل ، لا تنزل عليهم العقوبة بفضل الطبيعة،والمعيار هو ال فيصل في تحديد وجود الخرق من عدمه، ومن هنا كانت اهمية وجود معايير للتقييم في كل علم من هذه العلوم، ولذلك سميت ايضاً علوماً تقويمية.
و القانون علم معياري، وي فيد لفظ القانون في العربية معنى المعيار والمقياس ، يقول ال فيروز ابادي في قاموسه المحيط ( القانون مقياس كل شيء ). (3)
ف القانون هو المعيار الذي يقاس به السلوك والافعال بغية التحقق من عوارضها واثارها والتمييز بين صحيحها وباطلها وما الى ذلك من احوالها، ولهذا عرف القانون بانه ( مجموعة قواعد معيارية تبين ما هو جائز وماهو غير جائز )
والمعيار القانوني ( Legal Standard ) وسيلة استمدتها التقنية التشريعية الحديثة من القانون الانكلوسكسوني، وكانت معروفة لدى البريتور الروماني واول من وضع يده عليها ارسطو.(4)

الفرع الثاني ـ تعريف المعيار
يعرف المعيار بأعتباره اداة لتقويم السلوك الفردي بصفة عامة ، بانه مجموعة القواعد التي يضعها المجتمع ايا كان مصدرها ويتحدد فيضوئها السلوك الذي يتوقعه المجتمع من افراده في المواقف المختلفة.
و في ضوء المعنى المتقدم فانه يقصد بالنمط المعياري (Normative Pattern ) وصف الشيء او الموقف بانه ما ينبغي ان يحتذى به . بمعنى ما يجب ان يكون لا ما هو كائن بالفعل ، وهذا نوع من الحكم التقويمي لا التقريري، وتلك في الواقع هي الخاصية الذاتية للمفهوم ، حيث يراد به تلك المقاييس او القواعد الاجتماعية الاخلاقية او الدينية التي تحددها جماعة معينة كي يتمثلها افرادها بوصفها غايات او نماذج للفعل والسلوك، بحيث تؤثر في سلوكهم وتجعله يتميز بالتطابق والتشابه مما يساعد على وحدة الجماعة.(5)

و في مجال علم القانون وفلسفته، فانه يراد بالمعيار القانوني معنى اخص مما تقدم ، الا وهو تقويم السلوك الف ردي وفقاً لنموذج قانوني يُنشأ على اساس معطيات اجتماعية وتاريخية واخلاقية محددة ، على اعتبار ان القيم الاجتماعية والاخلاقية اوسع من نطاق القيمالقانونية،مع الاخذ يالاعتبار عوامل الاستقرار والملائمة والمرونة كخصائص يتميز بها المعيار القانوني عن ادوات التقنية القانونية الاخرى، وهي القاعدة القانونية والمبدأ القانوني والمفهوم القانوني.
فالمعايير القانونية تحدد انماطاً نموذجية ( Type Modele ) للسلوك القانوني في ضوء المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية المتغيرة دوماً ، وتواجه معياراً نموذجياً متوسطاً، له صفة العمومية لكنه خالٍ من التجريد لتأكيد اعتبارات الملائمة التي تقوم عليها فكرة المعايير.(6)
ويعرف الاستاذ السنهوري المعيار القانوني بقوله ( المعيار القانوني هو عبارة عن اتجاه ( Directive ) عام لا يقيد القاضي ، يهتدي به عند الحكم ، ويعطيه فكرة عن غرض القانون وغايته ) ومع ذلك فان الاستاذ السنهوري يلاحظ ان كلمات فرنسية مثل ، اتجاه (Directive ) ، وميزان ( (Critcrium ، يمكنها اعطاء فكرة ولكنها فكرة ناقصة. (7)
وقد اعترض العلامة هوريو ( (Hauriou على تعريف العلامة السنهوري في مقالة كتبها بمناسبة مؤلف (رسالة الدكتوراه) الاستاذ السنهوري.

فبالنسبة للعلامة هوريو، فأن المعيار ( Standard ) والاتجاه (Directive ) هما امران مختلفان، يجب عدم الخلط بينهما مطلقاً، فالمعيار برأيه هو الوسيلة لمعرفة الاتجاه ، وهو يشبه المعيار بمزولة الملاح (Sextant ) وهي الة تتيح للملاح تحديد مركز الس فينة بالنسبة لخطوط الطول والعرض، فاذا ما حدد موقعه كان عليه ان يأخذ الاتجاه الملائم.

فالمعيار برأي العلامة هوريو،اداة ذات اسلوب تحضيري وتنظيم قانوني من اجل وضع معطيات المشكلة المراد حلها بثقة وتأكد فياماكنها.ووفقاً لهذا المعنى يكون (الاتجاه) عبارة عن النتيجة التي يؤدي اليها تطبيق المعيار فيكون المعيار عنصراً من عناصر الطريقة (Methode ) التي يتبعها القاضي لكي يقف على معرفة العوامل المختلفة والمصالح المتعارضة في النزاع المعروض عليه.
و في ضوء ما تقدم يعرف العلامة هوريو المعيار بقوله ( المعيارالقانوني هو وسيلة تحضيرية للتنظيم القانوني تتيح للقاضي معرفة وتنظيم كل المعطيات الخاصة بالمسألة المطلوب حلها ووضعها بثقة وتأكد في اماكنها). (8)
ونرى ان كلا التعري فين االتي او ردها كلا من العلامة السنهوري والعلامة هوريو، غير دقيقين ، وكل منهما تعريف غير جامع وغير مانع.
فتعريف الاستاذ السنهوري للمعيار لم ي رد فيه اهم خصيصة للمعيار الا وهي انه مقياس او ميزان للسلوك ، وان اشار الاستاذ السنهوري للميزان في معرض تعليقه على تعريفه، فكان تعريفاً غير جامعاً ويكاد يقترب تعريفه من تعريف المبدأ القانوني العام او حكمة التشريع وغرض التشريع فكان تعريفاً غير مانعاً.
اما تعريف الاستاذ هوريو فيكاد يقترب من تعريف التكييف القانوني ، حيث يُعرف التكييف القانوني في فقه القانون بصورة عامة بانه (تحديد طبيعة الواقعة القانونية ونسبتها الى نظام قانوني يحكمها).
ونرى ان ذلك يعود الى ان فكرة المعيار القانوني كانت غير محددة بدقة في الفقه و القانون الفرنسي حتى وقت قريب من ذلك العهد الذي وضعا فيه التعريف، عام 1925،وان الترجمة من اللغة الانكليزية الى اللغة الفرنسية قد خانتهما بسبب عدم دقتها ، كما يبدو.
بينما يعرف العلامة العميد روسكو باوند ، وهو امريكي يكتب بلغته الانكليزية الام ، المعيار القانوني بانه ( المعيار هو مقياس للسلوك موصوف في القانون من خلاله يتجنب الشخص مخاطرة المساءلة عن احداث ضرر او خسارة ).

ونص التعريف بالانكليزية:
( A standard is a measure of conduct prescribed by Law from which one depart at his peril of answering for damage or loss )
ويرى باوند ان هناك عنصراً موصوفاً للعدل والمعقولية في المعايير تجعلها نقطة اتصال بين القانون والاخلاق، وهذا هو مصدر صعوبة تعريفهما ، فكما يقول ، ليس هناك مبدأ يعرف ما هو معقول وما هو ليس بمعقول. فضلا عن ان المعيار يرتكز على افكار عامة متعلقة بالاداب وبأصول التعامل المدني والتجاري الجاري، وهذه غير محدودة ويصعب حصرها وتعريفها عن طريق الاساليب الدقيقة والمؤكدة للمنطق القانوني.
ويستعرض العميد باوند نماذج للمعايير في القضاء الانكليزي مثل معيار السلوك العادل ومعيار الرجل المعقول ومعيار الخدمة المعقولة ، ثم يقرر ان القاعدة في هذه الحالات جميعاً هو ان سلوك الذي يجب ان يقوم بالعمل يجب ان ي في بمتطلبات المعيار، ومع ذلك كما يقول العميد باوند، فالامر المهم هنا ليس المعيار الثابت بل مجال التقدير الذي يتضمنه المعيار واعتبار ظروف كل حالة على حدة. (9)
ويرى الاستاذ مارسيل ستاتي ( M.O.Stati ) ان المعيار القانوني من وجهة نظر التقنية المعاصرة للقانون هو ( الاسلوب الذي يفرض على القاضي ان يأخذ في اعتباره النوع المتوسط من السلوك الاجتماعي الصحيح بالنسبة لفئة التصرفات التي يراد الحكم عليها) (10)
ويرى د.محمد شريف ان المعايير القانونية هي عبارة عن ( صيغ غامضة يقتضيها فن الصياغة التشريعية لحكم حالات معينة ولكي تؤدي مهمتها بشكل سليم لابد من الرجوع في تفسيرها الى المنهج الاجتماعي السائد والى روح القانون وهدفه لا الى قواعد اللغة والمنطق فحسب ) (11)
ومن الواضح ان هذا وصف لا تعريف.
ولعل اوضح صورة للمعيار القانوني هي تلك التي رسمها ارسطو، تلك الصورة المعلقة فوق رؤوس القضاة في دور العدل في مختلف ارجاء المعمورة ، انها صورة الفتاة المعصوبة العينين وهي تحمل بيدها الميزان أي المعيار.
فارسطو يري ان العدالة لكي تكون صادقة وغير متحيزة، يجب ان تكون عمياء ، وكانه اراد ان يقول ليكن كل من القريب والغريب والصديق والعدو في ميزان واحد.

الفرع الثالث ـ خصائص المعيار القانوني
خصائص المعيار القانوني ، هي مجمل عناصر تكوينه وصفاته التي تميزه عن غيره من ادوات التقنية التشريعية ، ان خصائص المعيارالقانوني هي في الواقع الخصائص الثلاثة الاتية:
اولاًـ تتضمن جميع المعايير القانونية شيئاً من الحكم الاخلاقي على السلوك الشخصي ونهجه في التصرفات القانونية او الاعمال المادية، وفقاً للملابسات والظروف المكانية والزمانية فهي تستلزم تارة ان يكون الشخص معقولا ( Resonable ) في تصرفه او اميناً (Fair ) او حكيماً (Diligent ) ، ولذلك قيل ان المعيار يمثل الصلة بين القانون والاخلاق.
ثانياًـ لا يستلزم تطبيق المعايير القانونية معرفة قانونية دقيقة ، ولكنها تستوجب ادراكاً سليماً بالامور العامة ، يرتكز على التجربة المسبقة لكل شخص ، او تقديراً حاذقاً للامور في المواقف المختلفة المتجددة مع مراعاة القيم الخلقية السائدة في المجتمع .
ثالثاًـ لا يُعبر عن المعايير القانونية بصورة مطلقة او قاطعة ، وليس لها مضمون محدد مسبقاً ، في القانون او القرارات القضائية ، فهي نسبية يتغير مضمونها بتغير الاحوال والازمان ، ويجب ان يتم تطبيقها طبقاً لوقائع القضية المطروحة امام القضاء ، وتعترف هذه المعايير بان كل قضية تعد ضمن حدود معينة فريدة الى حد ما في نوعها . (12)
يتضح مما تقدم ان المعيار القانوني لا يعبر بالضرورة عن مقدمات منطقية تؤدي الى نتائج موحدة كما هو حال القاعدة القانونية، انه يتخذ شكل الحياة التي هي ليست منطقية دائماً، انه متغير ونسبي كما هي مفردات الحياة ، فيأخذ حيناً شكل الاوضاع المستقرة كالعرف ومجريات التعامل ، وحينا اخر شكل الاوضاع المستجدة، وحيناً اخر شكل الظروف الطارئة. ومعيار اليوم ليس هو بالضرورة معيار الغد ، ومثلما تتغير المعايير الاجتماعية والتربوية والاقتصادية تتغير المعايير القانونية لتلائم بين القانون الثابت والحياة المستمرة في تطوراتها ومفاجأتهافيكون عاملا من عوامل تطوير القانون وملائمته مع الواقع .

الفرع الرابع ـ نقد المعيار
رغم ما قيل عن مزايا المعيار كأداة من ادوات التقنية التشريعية ودوره الايجابي في التو فيق بين القانون والواقع الا ان وسيلة المعاييرالقانونية لا تخلو من خصوم هاجموا فكرتها واعترضوا عليها ، واهم تلك الاعتراضات هي مايلي:
1ـ الاعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات ،فقد قيل ان الاباحة للقاضيفي تطبيق المعايير القانونية ، معناها اعطائه سلطة تشريعية ، وبالتالي تجتمع بيديه السلطتان التشريعية والقضائية ، و في هذا مخاطرة كبيرة بحقوق وحريات المواطنين.
2ـ انه يؤدي الى تحكم القضاة : فقد وصفت السلطة التقديرية التي تنطوي على استخدام المعايير بانها بمثابة قانون طغاة ، وبأنها هوائية تختلف من شخص الى اخر وبانها متقلبة ومتوقفة على المزاج.
3ـ وقيل ايضا انه يؤدي الى انعدام الانتظام والانسجام اللازمين فيالحياة القانونية ، حيث يؤدي الى حلول كلها خاصة باحوال معينة بالذات وبعيدة بعضها عن البعض وتتأثر كل منها بظروف كل حال على حدة، ونتيجة لذلك فأن الافراد لن يستطيعوا التعرف على مدى سلامة تصرفاتهم مقدماً ، فهذا يتوقف على قرار القاضي.
4ـ وقيل ايضاً انه وسيلة معقولة في البلاد ذات القانون غير المكتوب ، لان القاضي فيها يتولى ادارة القضاء و القانون ، وهي غير مناسبة فيالبلاد ذات القانون المكتوب لان مهمة القاضي فيها هي تطبيق القانونواختلاف طبيعة العملين يستتبع حتماً اختلافهما في الوسائل التي يعتمد عليها كل منهما في تقرير العدالة.
5ـ كما وصفت المعايير بانها غامضة ومرنة وقابلة لتفاسير متعددة.(13)
و في معرض ال رد على هذه الانتقادات العلمية نقول:
1ـ ابتداءاً ،ان هذه الانتقادات لم تكن حاسمة في الخيار بين اعتماد المعايير القانونية كأداة من ادوات التقنية التشريعية من عدمه ، فقد انتشرت ظاهرة الاخذ بالمعايير القانونية في اغلب القوانين المقارنة الحديثة . كما اعتمدها القضاء في حالات عديدة دونما نص يقررها بأعتبارها وسيلة عقلية لتقدير القيم السائدة. فالقاضي ورجل الادارة انما يستخدمان المنطق السليم وموجبات العقل دون حاجة الى امر من المشرع بهذا الصدد.
2ـ الحال ان المعايير القانونية انما مستمدة من قواعد الاخلاق وقيم التعامل المدني والتجاري ، فالاشخاص على علم مسبق بها خاصة فيما يتعلق بالمعايير الموضوعية ، كما ان القاضي انما يأتمر بأوامر المشرع ولا يقوم بمهام المشرع الا اذا ارادت الارادة التشريعية ذاتها في احوال دقيقة ومحسوبة سلفاً من المشرع ، في حالة ان احال المشرع القاضيالى معيار معين، فالمعيار في مثل هذه الاحوال انما هو من خلق المشرع ، سواء كان المشرع قد احال القاضي الى معايير مرنة عامة كقواعد العدالة او القانون الطبيعي ، او كان معياراً محدداً على وجه العموم كمعيار المعقولية او معيار الرجل المعتاد، و في كلتا الحالتين فان المشرع قد منح القاضي سلطة تقديرية في الاحوال التي يقدر عندها ان ذلك افضل لتحقيق العدالة.
3ـ ان الغموض والمرونة وقابلية التفسير ،كما يؤكد اغلب فقهاءالقانون، ليست عيوباً تؤخذ على اسلوب المعيار ، لان الصياغة المرنة الغامضة ، تستجيب لحلول متنوعة وتترك المجال مفتوحاً لاستجابةالقانون لظروف الواقع وملابساته فيتنوع الحكم وفقاً لكل حالة وما يحيط بها من ظروف ، فليس الوضوح ودقة العبارة مقياساً للصياغة الناجحة في كل الاحوال ، لان الصياغة الجامدة التفصيلية قد تؤدي الى التضحية بالنية الحقيقية للمشرع وبالتطور العقلي للقانون بسبب استبداد الكلمات وطغيانها.

المطلب الثاني
فصل المعيار عما يتصل به من اوضاع قانونية

تمهيد وتقسيم: لتحديد طبيعة المعيار القانوني بصورة واضحة ينبغي تمييزه عما يتصل به من اوضاع قانونية تشتبه به او تتداخل معه او تشكل جزءاً من عناصره دون ان تتحد معه في المفهوم،ونتناول دراسة ذلك في ثلاثة فروع:
الفرع الاول ـ المعيار والقاعدة القانونية، الفرع الثاني ـ المعيار والعدالة، الفرع الثالث ـ المعيار القانوني ومعايير اخرى.

الفرع الاول
المعيار والقاعدة القانونية
هناك عدد من الفروق الجوهرية بين القاعدة القانونية والمعيارالقانوني ، من حيث الفكرة الفلس فية التي يرتكزان عليها ومن حيث طبيعة كل منهما ومجال تطبيق كل منهما ، وعلى النحو الاتي:
اولاً ـ من الناحية الفلس فية ، يرتكز تطبيق القاعدة القانونية على الذكاء ( العقل ) بينما ترتكز سلطة التقدير التي تنطوي على تطبيق المعايير على حسن الادراك ( الحدس ) ، وعلى حد قول ال فيلسوف برجسون ، يناسب الذكاء اكثر ما يناسب الجمادات ، رياضيات ، معادلات ، منطق …، بينما يكون حسن الادراك اكثر مناسبة للحياة.
حيث يتميز الذكاء بقدرته على فهم العامل العام في وضع من الاوضاع وربطه بالاوضاع السابقة ، فالذكاء يقدم لنا معرفة بأعم صفات الاشياء ، وهو يج رد موضوعاته من مضمونها الحي الملموس لكي يحولها الى صيغ وارقام ومعادلات تتسم بالتجريد الشديد ، وتنطوي هذه القدرة على فقدان القابلية على معرفة الحالات الخاصة معرفة تامة ، ان مثل هذه المعرفة يتحكم فيها حسن الادراك اوالحدس لانه ينفذ بنا الى العمق الباطن للاشياء لنعرف بذلك ما هو فريد منها.
ثانياً ـ من حيث الطبيعة ، تتسم القاعدة القانونية بالتحديد والثبات لانها تنطوي على فرض محدد يتضمن واقعة يفترض انها ستقع في الحياة الاجتماعية وحل او حكم هو عبارة عن الاثر المترتب على حدوث الواقعة.
وبفضل هذا التحديد فان القاضي حينما يطبق القاعدة القانونية يقوم بعمل منطقي يكاد يكون الياً ، اذ ما عليه سوى التحقق من ان الوقائع المطابقة لفرض القاعدة قد حدثت فعلاً في الحياة الاجتماعية ليطبق عليها الحكم الذي وضعته القاعدة ، وهذا ما ينطبق على القاعدةالقانونية الجامدة بصفة خاصة.
اما المعيار فهو فهو خاص باحوال حقيقية متف ردة، فهو موجه عام يضع الخطوط العريضة التي توجه سلوك القاضي ويتيح له سلطة تقديرية واسعة عند اعمال القاعدة القانونية.
وعلى هذا النحو فانه ليس للمعيار نفس تحديد القاعدة ، اذ يكتفيالمشرع في تقريره بالاحالة الى اصل خارج عن القانون يسترشد به عند الحكم ، مثل سلوك الرجل المعتاد او النظام العام والاداب العامة او العدالة ، كما هو الامر في التعويض العادل او المألوف في مضار الجوار. ،وعليه فان المعيار لا يمنح القاضي سوى عامل مساعد للوصول الى الحكم الواجب بالنسبة لفرض القاعدة القانونية وهو فيهذا الوضع يعتمد على ظروف كل حالة على حدة.
ثالثاًـ من حيث المجال القانوني ، حيث تكون الاجراءات آلية ، وحيث تتغلب دواعي الاستقرار والثبات للمراكز القانونية عن طريق توحيد الحلول فانه يلجأ الى القاعدة القانونية العامة المج ردة التي تطبق الى حد ما تطبيقاً الياً منطقياً فتعطي حلاً موحداً لحالات غير متناهية متى ما انطبقت عليها شروط القاعدة ، مما يفضي الى تحقيق عدالة مج ردة ، كما قيل عدالة بالجملة ، بمعنى اخر انها تعطي حلاً موحداً بالنسبة لكل الاشخاص والظروف في مركز قانوني معين مثل حقوق المالك والحصص الارثية وسن الرشد والاوراق التجارية …
اما تطبيق المعايير فيعتمد على التجربة وينحو نحو تفريد العدالة، التي عن طريق مرونة مصطلحاتها وتنوع حلولها تسمح بتلطيف القانونوتَضمِن قابليته الكاملة على التكيف مع الاوضاع المتبدلة دائماً للحياة الاجتماعية والحالات الخاصة الفريدة من نوعها والتي تتطلب حلاً يكون مختلفاً مع النوع ومتحركاً مع الظروف.
ان عمل القاعدة القانونية مثل عمل الآلات والمكائن، نموذج صناعي متكرر، فكل سفتجة هي كأي سفتجة اخرى وكل سند ملكية هو كأي سند ملكية اخر من حيث حقوق المالك ، ونجد في توزيع الحصص الارثية تكراراً للاوضاع والظروف منذ ان وجد قانون الارث.
اما عمل المعيار فهو مثل عمل الايدي ، يد العامل الحاذق، و في القانونتتطلب بعض الحالات عمل الايدي وليس نتاج المكائن والالات ، ذلك ان عمل الايدي لا ينطوي على تكرار بل على امور فريدة ودقيقة تكون الاهمية فيها للظروف الخاصة ، لانه في اطار السلوك الف ردي لم تتماثل حالة اهمال مع حالة اهمال اخرى ولن تتماثل ابداً. (14)

الفرع الثاني
المعيار والعدالة
هناك صلة وثيقة بين فكرة المعيار وفكرة العدالة ، فالمعيار وسيلة من وسائل تحصيل العدالة، وتاريخ فلسفة القانون يؤكد ذلك.
اَمن الفلاسفة الاغريق عموما ، بوجود نظام عقلاني للكون تحكمه قوانين تسير على نسق واحد ، يمكن ادراكها بالبحث العقلاني ، تتكشف لذوي العقول النيرة ،وبأن هذه القوانين الابدية الخالدة هي معيار صلاحية او فساد اي فعل انساني، ومنها القوانين الوضعية والاحكام القضائية والعلاقات الاجتماعية .
ولم تشغل رواد الفلسفة اليونانية الاوائل المسائل القانونية، الا ان مفهوم القانون فلس فياً بدأ يتبلور لدى المدرسة ال فيثاغورية ، وتقوم العدالة عندهم على اساس معيار عددي حسابي ،فهي علاقة حسابية ومساواة ومن ثم لزم الثواب والعقاب على اساس التعادل التبادلي والتناسب بين الفعل والمعاملة التي يلقاها، وهذه فكرة تعود بجذورها الى البابليين.
اما السفسطائيون فقد عنوا بمسألة المعرفة والاخلاق وتبنوا معايير ذاتية في الحكم على الاشياء والظواهر، ويرون ان لكل انسان نظرة خاصة للحقيقة ،و يقول ( بروثاغوس ) وهو سفسطائي في عبارة شهيرة ( ان الانسان معيار كل شيء ) ومن ثم انكروا كل حقيقة موضوعية ونفوا وجدود عدالة مطلقة ، بل هي نسبية ومتغيرة وكذلكالقانون ، ويعرف ثراسماخوس، وهو سفسطائي اخر ، العدالة بانها ( هي في صالح الاقوى) . بينما قال كانت ( Kant ) فيما بعد( ان العقل البشري معيار الاشياء).
ويعد سقراط اول من حول ايجاد معيار ثابت تقاس به خيرية الافعال او شريتها عندما حاول رد الاحكام الانسانية الى مباديء عامة موضوعية تصدق في كل مكان وزمان ، مستمدة من الطبيعة ويمكن الوصول اليها اهتداءاًَ بالعقل ، وبحسب وجهة نظر سقراط فان القوانين العادلة انما تصدر من العقل ومطابقة للطبيعة الحقة ، فكانت حقائق ثابتة مطلقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة نقشتها الاله على قلوب البشر ، طاعتها واجبة لانها رمز للعقل الذي ينبغي ان تكون له السيادة .
اما ارسطو فقد اناط بالقاعدة القانونية علاج ادران المجتمع ، ويسموالقانون عنده على ارادة الافراد والحكام ، ويؤكد ان نصوص القانونيجب ان تكون عامة لا توضع لحالات خاصة ولا تنطبق حصراً على افراد معينين، ليكون العدل للجميع.
تناول ارسطو فكرة العدالة بالتحليل وهو يرى ان مضمون القوانين هو العدالة ، وان اساس العدالة هو المساواة ، وميز ارسطو بين صورتين اساسيتين للعدالة ، الاولى هي العدالة التوزيعية ، وهو العدل الذي يسود علاقة الجماعة بالافراد باعتبارهم اعضاء في جماعة سياسية هي الدولة وتطبق على الاموال والحقوق والواجبات العامة ، وتهدف الى ان يحصل كل عضو من اعضاء الجماعة على قدر مناسب لاستحقاقه بحسب كفائته او قابلياته او ماقدمه من تضحيات .
فما دامت العدالة هي المساواة والظلم هو عدم المساواة ، فان العدالة التوزيعية تقتضي ان تعالج الحالات المتساوية معالجة متساوية ، ويترتب على ذلك انه اذا وجد شخصان غير متساويين ، وجب ان لا يحصلا على ما هو متساو . وهذا الحكم هو تأكيد لمبدأ المساواة.
ومنبع الشكوى والشجار حسب ارسطو ان تعطي المتساويين حصص غير متساوية ، او ان تمنح غير المتساويين حصص متساوية . ويلاحظ ارسطو ان الناس جميعاً يتفقون على ان العدالة في التوزيع يجب ان تجري وفقاً للاستحقاق ، الا انهم يختلفون في فهم المقصود من الاستحقاق . وعبر الرومان عن هذه الصورة من العدالة كما و ردت فيمدونة جستنيان بالقول ان ( مساواة غير المتساويين ظلم ) .
ويعبر عنها في الفقه القانوني المعاصر بفكرة المراكز القانونية التي تقوم على اساس التمييز بين المساواة القانونية ، وهي المقصودة فيهذا المقام ، والمساواة الفعلية.
وطبقاً للمساواة القانونية فان ليس كل الناس متساويين امام التعيينفي الوظيفة العامة مثلاً ، بل يتساوى منهم فقط من يحمل نفس الشروط والمؤهلات ، وباختلاف المؤهلات يختلف الراتب والمزايا الوظي فية. وتعود فكرة معيار التمييز بين الناس على اساس التعليم الى سقراط.
ومن جانب اخر فأن العدالة التوزيعية تمثل وجه من اوجه حقوق الانسان في العصر الحديث كما و ردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان .
وسمي هذا العدل توزيعياً لانه يتولى توزيع خيرات الجماعة والواجبات تجاه الجماعة بين افراد تلك الجماعة . وحين يطالب الف رد بحصته العادلة من خيرات الجماعة فأنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في تلك الجماعة. (15)
مع مراعاة كفائته العلمية والفنية او مقدار ما يقدم او قدم من خدمات للجماعة.
اما الصورة الثانية للعدالة بحسب تصوير ارسطو فهي العدالة التبادلية اوالتعويضية ، فهو العدل الذي يسود علاقات الافراد فيما بينهمفيوازن بين المنافع اوالاداءات المتبادلة ، وهي تخضع لمبدأ المساواة ايضاً ولكن المساواة هنا فعلية وليست قانونية. فتقدر الافعال او الاشياء بالنسبة الى قيمتها الموضوعية طبقاً لمعادلة حسابية ، بغية وضع كل طرف في مركز مساو تجاه الاخر ، ولايعتد هنا بالاعتبارات الخاصة بكل ف رد كما هو الحال في العدل التوزيعي ،وتطبق في حالات العقد والفعل الضار واية رابطة خاصة اخرى . فمركز المتعاقدين مثلا ، متساو من ناحية العدل التبادلي ، فاذا استلم احد الطر فين المتعاقدين اكثر مما يستحق او اقل وجب ال رد وايجاد التوازن لتحقيق العدل ، واذا الحق احدهم بآخر ضرراً وجب عليه التعويض ايا كان مركز كل منهم الاجتماعي او العلمي .
ولا شك في ان الحاجة الى معايير للتقييم تبدو في العدل التوزيعي من خلال الحاجة الى المفاضلة بين كفاءة او اداء شخص واخر بينما تبدوفي العدل التبادلي من خلال الحاجة الى تقييم اداء المدين سواء كان ذلكفي نطاق العقد او الفعل الضار .
الا ان ارسطو وضع يده على فكرة المعيار عندما اهتم بصعوبة تطبيق التشريعات المج ردة على الحالات الواقعية المستعصية ، وهي تلك الحالات التي يؤدي تطبيق القاعدة العامة اليها الى نتائج ظالمة. كتطبيق عقوبة السرقة على ام تسرق من اجل اطعام اطفالها الذين كادوا ان يموتوا جوعاً.
فنبه الى مصحح لجمود العدل القانوني، الا وهو العدل الخاص، ويعطي ارسطو للعدل الخاص اسماً مختلفاً هو الـ ( Equite ) أي الانصاف او الملائمة اوالعدالة.
وتعني الـ ( Equite ) بالذات ايجاد التوازن ، أي المعاملة المتساوية للاشياء والعلاقات المتساوية ، انها معيار يفرض الاعتراف بما هو واحد في جوهر الاشياء بصرف النظر عما هو عرضي ومتغير. فأذا ما عرضت حالة خاصة استعصى تطبيق القانون عليها تعين على القاضي حين عدم كفاية النص او حين وجود غلط فيه ان يصحح ذلك الغلط او يسد ذلك النقص فيقضي بما كان لينص عليه المشرع لو كانت الحالة امامه حين وضع التشريع.
وهكذا فان الملائمة (الانصاف) عند ارسطو هي معيار لتطبيق القوانين ويمكن من تناسبها في كل حالة على حدة ان تخفف من حدة القاعدة العامة، ولايضاح الفكرة شبه ارسطو العدالة بمقياس من المقاييس يحتوي على مادة لزجة تسمح بمتابعة تعاريج الاشياء التي يراد قياسها ،فالقوانين شكلية وعامة ومج ردة وتطبيقها بعدالة يحتاج الى قدر من الملائمة والانصاف في الحالات التي لم يعالجها المشرع معالجة مناسبة.
من اجل تشذيب عدم التناسق وعدم المساواة وايجاد التوازن والتساوي، ومن اجل اقتراح قواعد جديدة.
ومن هذه الفكرة التي اتى بها ارسطو كانت انطلاقة المعايير بعد ذلك.(16)
ويميز الفقه القانوني الحديث كذلك بين العدل الشكلي ( القانوني) والعدالة ( العدل الجوهري او الانصاف).
فالعدل ( Justice ) ي فيد معنى المساواة ، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، فالمفروض ان يطبق القانون بمساواة جميع الاشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي اليه. وهذا هو مفهوم المساواة القانونية التي قد لا تكون مساواة فعلية ، فالمثل يعامل كمثله ، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، وقد عبر جستنيان عن ذلك قديما في مدونته بالقول ( مساواة غير المتساويين ظلم كبير ) ، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة ومج ردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة، ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الاجراءات كانت عادلة لان احدا لم يستثنى او يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون ، لا فرق بين ام تسرق لأطعام اطفالها الجياع وبين من يسرق لأرضاء ملذاته وشهواته،مثلا،لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه .
ولذلك شكك فلاسفة القانون في اعتبار العدل الشكلي وسيلة للحكم العادل بين انسان واخر ،لان الطبيعة العامة والمج ردة للقاعدة القانونية تعني انه لايمكن ادراك كل حالة ف ردية بخصوصياتها ، ولهذا فان العدل الشكلي بما يحققه من مساواة شكلية قد يضغط على الحالة الف ردية فتكون ضحية من ضحايا ذلك العدل الشكلي.
اما العدالـــــــة ( Equity ) فت فيد معنى الانصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف بأسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف الى خير الانسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم.
ويقتصر هدف القانون على تحقيق العدل وليس تحقيق العدالة ، فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس، الا ان المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مج ردة تعتد بالوضع الغالب دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس ، اما العدالة ( الانصاف ) فتقوم على مساواة واقعية على اساس التماثل في الاحكام المنصرفة للحالات المتماثلة شروطها أو الاشخاص المتشابهة ظروفهم مع مراعاة البواعث الخاصة وتفاصيل الظروف .
وعلى النحو يذهب اغلب فلاسفة القانون الى انه اذا اعتبر العدل كتجسيد لقاعدة المساواة الشكلية الصرفة فانه يعبر عن حكم منطقي يقوم على المساواة المج ردة ، وهذا ما يلائم القاعدة القانونية العامة المج ردة ، واذا ما طبق بانتظام فانه لا يمكن ان يتناقض مع نفسه .
اما العدالة فتناسبها فكرة المعايير لانها لا تعمل بصفتها تعبيرا عن حكم منطقي بل بتشكيل ذاتها في صورة القضية الف ردية ونظرا لعدم وجود شكل محدد لها فانها تشبه العمل الاخلاقي الذي هو عفوي وغير محسوب له بعناية ويهدف الى اغاثة شخص يتألم دون اعتبار لقواعد محددة .ويمكن ان ينظر الى العدل الشكلي كأمر غير عادل اذا ما استجاب لمقتضياته ولكنه يفشل في اتخاذ قراراته بروح العدالة فيكون تجسيدا لظلم فادح ومن هنا لا يك في ان يتفق نظام قانوني مع خصائص العدل الشكلية وان كان هذا القانون يطبق بمساواة وبروح النزاهة ، ذلك ان القانون يحتاج ان يكون محتواه عادلا اي ان يعبر عن روح العدالة.
ان التمييز بين فكرتي العــدل والعدالــة ،هو السبب في ان كل الانظمةالقانونية شعرت بالحاجة الى اصلاح صرامة القانون من خلال اعتماد المعايير القانونية والدعوة الى تفسير القانون بروح العدالة بدلا من التركيز على حر فية النصوص عندما يشعر القاضي ان الظلم بعينه يتحقق لو طبق القانون بحذا فيره وهذه الحالة نجد تعبيرها في القول المأثور( الرحمة فوق القانون ) الذي لايعني الا أن على القاضي ان يطبق القانون بروح العدالة . (17)

الفرع الثالث
المعيار القانوني ومعايير اخرى
ونتاول دراسة ما يميز المعيار القانوني عن كلا من المعيار الاخلاقي والمنطق والمعيار الصناعي في ثلاث فقرات.

اولاـ المعيار القانوني والمعيار الاخلاقي
من الثابت ان فكرة المعيار القانوني تمثل الصلة بين القانون وعلم الاخلاق ،ومن الثابت ايضاً ان الكثير من المعايير القانونية قد استمدت من قواعد الاخلاق وقيم التعامل المهني المدني والتجاري ، كمعيار التعويض العادل ومعيار حسن النية في تن فيذ الالتزامات ومعيار الخطأ وسوء النية وقصد الاضرار ومعايير التعسف في استعمال الحق ومعايير الغلط والاكراه والتدليس وغير ذلك من معايير اخلاقية تحولت بعد التعديل الى معايير قانونية، فما هو مدى الصلة بينهما واين يلتقيان واين يفترقان ؟
انهما يلتقيان في النواحي التالية :
1ـ يشترك كل من المعيار القانوني والمعيار الاخلاقي في ان محل كل منهما هو تقويم السلوك الف ردي استناداً الى قيم وقواعد اجتماعية معترف بها من قبل جماعة معينة في زمن معين ، تؤثر فيهم ويشعرون ذاتياً بالزامها ، وتوجههم نحو الامتثال للمعايير السائدة ، وهذا هو معنى القول ان تطبيق المعايير القانونية لا يستلزم معرفة قانونية دقيقة، ولكنه يستلزم معرفة بقواعد الاخلاق وقيم التعامل.
2ـ كلاهما معايير نسبية ومتغيرة ، يتغير مضمونها بتغير المكان والزمان ، فالامتثال لمعايير لم تعد سائدة في المجتمع او الامتثال لمعايير جماعة أجنبية داخل الجماعة الام ، يشكل انحرافاً عن مستوى المعيار القائم.
وعلى هذا النحو فان معايير القيم والاخلاق في المجتمع العربي هي غيرها في المجتمع الغربي ، ومضمون معيار الرجل المعتاد او الحريصفي فرنسا هو غير معيار الرجل المعتاد في العراق.
3ـ ان اساس كل منهما هو فكرة ما يجب ان يكون ( Sollen ) لا تقرير ما هو كائن (Sine )، وعلى هذا لحال فانهما معايير هد فية لا حتمية تتسم بقابليتها على التخلف والمخالفة دون ان تفقد اهميتها او صحتها .
ذلك ان هذه المعايير انما تُقوم ارادة الانسان ، وهذه الارادة حرة وليست مقيدة حسب الاصل، وكقاعدة اخلاقية وقانونية يجب على الف رد ان لا يسرق الا ان البعض يفعلها ، وهذه القواعد والمعايير لا تحمل في ذاتها ايقاع الجزاء على مخالفتها ، بخلاف القواعد الطبيعية ، بل يأتيها الجزاء من الخارج ، من المجتمع او السلطة العامة.
الا ان المعيار القانوني والمعيار الاخلاقي يفترقان عن بعضهما فيالنواحي التالية:
1ـ من حيث النمط النموذجي : المعيار الاخلاقي يتخذ من الانسان الكامل المثالي نموذجاً للتقييم.
اما المعيار القانوني فيضع تقييمه كأصل على اساس صفات الشخص العادي المتوسط القدرات.
2ـ من حيث النطاق : مجال عمال المعيار الاخلاقي اوسع نطاقاً، لان مجال عمله يشمل نوعين من العلاقات علاقة الشخص بنفسه وعلاقة الشخص بغيره ، اما مجال المعيار القانوني فيتحدد بالمجال الاخير.
3ـ من حيث الطبيعة : المعيار الاخلاقي ، تغلب فيه العوامل الذاتية والنفسية على العوامل الموضوعية، وللنية دور بارز في نتيجة التقييم ، ولذا كان في الغالب معياراً ذاتياً ، اذ يعتبر القصد اوالباعث على السلوك معياراً اساسياً للحسن والقبح طبقاً لاغلب النظريات الاخلاقية .
اما المعيار القانوني فتغلب فيه العوامل الموضوعية على العوامل الذاتية، ويعتد بالوضع الظاهر لمسلك الشخص الذي برز للعالم الخارجي ، ولذا كان في الغالب معياراً موضوعياً.
الا ان هذه الاحكام نسبية وليست مطلقة ، فالمعيار الاخلاقي يمكن ان يبرز للعالم الخارجي لتقييم السلوك الخارجي الظاهري لبيان كي فية تنفيذ النية .
ويمكن ان ينزل المعيار القانوني الى الدواخل لبيان اثر النية المترتب على المظهر الخارجي للادارة كحسن النية او سوء النية او نية الاضرار او سبب العقد وباعثه.
ومع ذلك فان المعيار القانوني حين يعول على القصد او الباعثفيكون معياراً ذاتياً ، فان طبيعة القانون تأبى الا ان يضبط المعيار والنزعات الذاتية بضوابط موضوعية في الغالب . فالكذب لا يكون تدليساً الا اذا دعم بمظاهر خارجية تلونه بلون الحقيقة حسب الاصل مثلاً. كان يدعي شخص انه مهندس ويبرز وثائق مزورة لتأييد ذلك .
4ـ من حيث الحماية : المعيار القانوني تحميه السلطة العامة وتفرض تطبيقه بالقهر والارغام كايقاع العقوبة او فرض التعويض عن الضرر ، اما المعيار الاخلاقي فيحميه ضمير الف رد وتأنيب الجماعة.

ثانياًـ المعيار القانوني وعلم المنطق
تعود جذور علم المنطق الى ارسطو ، حيث اعتبره فنا واداة في خدمة المعرفة ، و في ضوء ذلك عرفه الفارابي بانه ( مجموعة قوانين تستخدم لقياس المعقولات كما تستخدم الموازين والمكاييل في قياس الاجسام ) . بينما عرفه الغزالي على انه ( القانون الذي يميز الحد والقياس من غيره ، كإنه الميزان او المعيار للعلوم كلها ، وكل ما لم يوزن بالميزان لا يتميز فيه الرجحان من النقصان ولا الربح من الخسران ) .
وعلى النحو يشتبه كل من المنطق والمعيار القانوني، من الناحية الشكلية ، في ان كلاهما بمثابة ميزان معنوي وفكري لقياس المعنويات ، كالصواب والخطأ .الا انهما يختلفان في ان محل القياس والنتائج المترتبة على كل منهما .
ويتكون القياس المنطقي من ثلاث مقاطع ، مقدمتين كبرى وصغرى ، اي عبارتين تؤكدان او تن فيان شيئا ما ، ثم نتيجة تتكون من رفع العبارات المشتركة (الحد الاوسط) ومن ثم اعطاء الحكم للمقدمة الصغرى لاتحاد العلة ، وتطبيق القياس في مجال القانون يقتضي اعتبار القاعدة او المبدأ القانوني مقدمة كبرى ، واعتبار الواقعة محل الدعوى مقدمة صغرى ، لنحصل على الحكم متمثلا بالنتيجة.
فالقياس المنطقي يبحث عن علة الحكم لانزال حكمه على حالات تتشابهفيها علة الحكم ، فالخمر يذهب بالعقل (مقدمة كبرى تتضمن علة الحكم ) فهو حرام (حكم) ، والمخدرات تذهب بالعقل (مقدمة صغرى تتضمن علة الحكم ) فتأخذ المخدرات حكم الخمر لاتحاد العلة ، لان الشارع الحكيم نص على تجنب الخمر ولم ي رد نص بشأن المخدرات. ، ومن التطبيقات القديمة ، انه اذا اشتكى المدين بان تن فيذ الالتزم العقدي مرهقا له ، وعند استخدام القاضي القياس المنطقي تكون النتيجة كالاتي : (المقدمة الكبرى التي تمثل المبدأ العام وهي ، العقد شريعة المتعاقدين) .. ( المقدمة الصغرى التي تمثل الواقعة المطلوب الفصل فيها وهي ، (الالتزام المرهق ناتج عن عقد ) نحصل على النتيجة برفع العبارة المشتركة ( الحد الاوسط) وهي كلمة (عقد) التي تكررت في العبارتين فتكون النتيجة المنطقية هي ( الالتزام المرهق شريعة المتعاقين ) و في ضوء هذه النتيجة المنطقية يَجبر المدين على تن فيذ التزامه ولوكان مرهقا .
ويُعطي استخدام القياس المنطقي في مجال علم القانون بطريقة آلية ، نتائج جامدة وحلولا منسقة ، ثابتة ، متكررة ، قابلة للتوقع مسبقا ،كما ان اعمال القياس في حد ذاته محفوف بالمخاطر و في مقدمتها التسليم باطلاق المقدمة الكبرى وافتراض صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان ، في حين ان الحقائق نسبية.
ويذهب ال فيلسوف برتراند رسل الى انه لا يمكن الوثوق بالنتيجة التي يؤول اليها القياس ، الا اذا كنا واثقين تماماً من صحة المقدمات ، وبالتأكيد يجب التأكد من علة الحكم لانها لا تذكر في النص ، ولهذا يعطي هذا ال فيلسوف مثالا عن خطورة القياس بالقول، البشر عقلاء – مقدمة كبرى -، الاطفال بشر – مقدمة صغرى -، النتيجة بعد رفع الحد الاوسط تكون (الاطفال عقلاء).(18)
ويعد استخدام القياس المنطقي في علم القانون من اهم تعليمات مدرسة الشرح على المتون او ماتسمى ، مدرسة تقديس النصوص، حيث رأت هذه المدرسة في تقنين نابليون المدني
انه قد جمع فأوعى وأحاط بكل شيء ، فهو بناء منطقي متكامل ، وما على القاضي الا ان يلجأ للقياس المنطقي لتطبيقه ، سواء كانت النتيجة عادلة اوغير عادلة ، ف القاضي ينبغي ان يخضع للمشرع ويتقيد بالنص . وهكذا استبعد انصار هذه المدرسة عامل التقدير القضائي تماما كعامل من عوامل الحكم القضائي ، وجُ رد القانون من مضمونه الانساني .
ادى التوسع في استخدام القياس المنطقي ، وخاصة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، الى نتائج مجحفة تأباها العدالة الحقة ، فحق الملكية مطلق ومن يستخدم حقه لا يمكن ان يعتبر مسيئا تحت اية ظروف ، وما بني على باطل فهو باطل وان منطق البطلان هذا مطلق لايقبل تعديلاً او انحرافاً ، فعقد الزواج الباطل لايرتب اية آثار او حقوق للزوجة المسكينة او الاولاد ، وعقد العمل الباطل يلقي العامل فيالشارع دون اية حقوق ، ولا مسؤولية بلا خطأ ولو مات العامل وهو يقدم خدماته لصاحب العمل ، ذلك ان المنطق يُبرز الشكل ويُغفل الواقع .

لقد شكك رجال القانون في تلك الفترة بالمعايير القانونية ولم يثقوا بقيمتها وسعت بعض المحاكم الى تحويل تلك المعايير الى مجموعة ثابتة من القواعد ، فأصبح معيار العناية المعقولة بالنسبة لعابر خط السكة الحديد ( التوقف ، الالتفات ، الانصات ) ، كما اصبح النزول من السيارة المتحركة هو الاهمال بعينه ، وكذلك ترك جزء من الجسم خارج عربة السكة الحديد وما شابه ذلك ، غير ان هذه المحاولات لالغاء سلطة التقدير التي تنطوي على استخدام المعايير تهاوت جميعاَ بفضل سُنة التطور الحتمية.

وعليه فان المنطق يبرز الشكل ويغفل الواقع وهذا بخلاف سلطة التقدير التي تنطوي على استخدام المعايير.
لان التقدير ينطوي على معنى التقييم الذي يجمع بين جملة حقائق واقعية متغيرة دوماً وقناعة القاضي الذاتية، وهذه تعطي حلولاً متغيرة ومتحركة مع الظروف. وتتلخص في الحكم على صفة من صفات السلوك ضمن ظروفه الخارجية الخاصة او الداخلية وحسب طبيعة المعيار ، ووفقاً لافكار العدالة التي يؤمن بها الاشخاص العاديون ، او وفقاً لما يعتبر معقولاً وفقاً للتصرف العام المستخلص من قبل القاضي ، ويكون الاعتماد في كلتا الحاتين على الادارك السليم والخبرة والمهارة وليس على القاعدة الفنية وتطبيقها تطبيقاً الياً. ومن هنا ذهب المحدثون من رواد الفكر الحديث الى ان القياس عقيم ومجدب لايكشف لنا عن معرفة جديدة ، حقيقية انه يفيد في تنمية القدرة على الجدل الا انه يفسر لنا ما نعلمه ولا يكشف لنا عما نجهله لان نتائج القياس متضمنة دائما في مقدماته ، فالنتيجة هي تحصيل لما سبق ان عرفناه ، ولذا قيل ان القياس يفضي بالتفكير الى العقم ويؤدي بالحياة العقلية الى الاضمحلال ، اذ ان الاصل في التفكير العلمي انه اداة لكسب معرفة جديدة عن طريق الانتقال من معلوم الى مجهول .(19)

ثالثاً ـ المعيار القانوني والمعيار الصناعي
كثيراً ما توصف السلع والمنتجات الصناعية في عالم اليوم بأنها (Standard ) ،بمعنى انها صنعت وفق نموذج صناعي معياري.
والنموذج الصناعي عبارة عن شكل او ترتيب معين يراد منه اتخاذه اساساً لتصنيع سلعة معينة ، كنماذج السيارات والساعات والطائرات وغيرها .
واول تطبيقات كلمة معيار ظهرت في الصناعة عندما كان يراد تحقيق انتاج متكرر النموذج يقدم ميزات اكيدة بدلا من النماذج المتنوعة بمواصفات مختلفة لمنتوج معين والمخصصة في مجموعها لنفس الاستعمال والصادرة من جهة صناعية واحدة . وعلى هذا النحو يتم تجميع شروط الاتقان والخبرة الفنية في ذلك النموذج الموحد وفقاً لمواصفات متوسطة واقتصادية متاحة للجميع ، وبذلك يتم التوصل الى منتوجات معيارية ( Standard ) .وعليه فان المعايرة الصناعية اذاً تعني اقامة نموذج متوسط موحد ، محل النماذج القديمة المتنوعة والمتعددة بمعنى التبسيط والتوحيد ثم التسوية.
فهل يمثل استخدام المعيار في التقنية القانونية نوعاً مماثلاً لظهوره فيالصناعة ؟
يذهب الاستاذ ستاتي ( M.O.Stati ) الى القول ، الواقع انه اذا كانت نتيجة ادخال هذا الاسلوب في القانون تعني حلاً موحداً بالنسبة لكل الاشخاص ولكل الظروف ، فان معايرة القانون ستكون متحققة اصلاً بقاعدة القانون البسيطة العامة والموحدة القابلة لتطبيق ميكانيكي. والحال انه لم يقع شيء من ذلك ، ذلك ان العدالة لا تستعار من نموذج متماثل النتائج ، بل على العكس من ذلك فان تطبيق المعيار في القانون يؤدي الى تفريد الحلول. فالمعيار القانوني ، في الواقع ، هو نموذج متوسط للسلوك الاجتماعي السليم ، الا انه ليس نموج موحد لكل مجالات النشاط الانساني وبالنسبة لكل الاشخاص الذين يعملون في ظروف مختلفة ، على العكس يوجد بالنسبة لكل فئة من العلاقات القانونية المحددة ولكل ظرف محدد نموذج متوسط للسلوك الاجتماعي السليم يختلف عن نموذج الفئات الاخرى.
وعموماً، مع ان اسلوب المعيار يتماثل بحد ذاته في هذين التطبيقين ، التصنيع حسب نموذج متوسط في الصناعة وتقدير سلوك شخص حسب نموذج متوسط محدد في القانون، فان النتائج رغم ذلك ستختلف ، توحيد في الصناعة وتفريد في القانون.(20)

المطلب الثالث
الاساس التاريخي ونسبية المفاهيم ومعياريتها

تمهيد وتقسيم: نتناول دراسة الاساس التاريخي ونسبية المفاهيم وتطورها عبر الزمن في فرعين الفرع:
الاول ـ نسبية المفاهيم ومعياريتها ، الفرع الثاني ـ الاساس التاريخي والفكري الذي يقوم عليه المعيار. و نبدأ بدراسة نسبية المفاهيم ومعياريتها لاسباب موضوعية تتعلق بازالة الغموض عن بعض الافكار قبل الخوض فيها.

الفرع الاول
نسبية المفاهيم ومعياريتها
الخطأ والصواب والحسن والقبح ، مفاهيم نسبية ومعيارية ، فهي نسبية لان مضمونها يتأثر بعوامل الزمان والمكان ، فما يعتبر خطأ في مجتمع معين قد لايعتبر كذلك في مجتمعات اخرى ، فالزيارة بلاموعد سابق تعتبر في المجتمعات المتحضرة خطأ كبيرا ، بينما لا تعتبر كذلك فيمجتمعات اخرى ، وكذلك يعتبر التهرب الضريبي جريمة تمس الشرففي بعض المجتمعات تثير غضب الناس على مرتكبها وتحثهم على ابلاغ السلطات ولو تعلق الامر بقريب او صديق ، بينما يتفنن ابناء مجتمعات اخرى في وسائل التهرب الضريبي وتعتبر نوعا من الشطارة ، وكذلك الامر بالنسبة للعلاقة بين الجنسين والعلاقات المهنية والالتزام بحدود الواجب ومسائل الاغاثة والمعونة .
ومن الناحية الزمانية ، فان ما يعتبر خطأ في زمان معين قد لايعتبر كذلك في ازمنة لاحقة ، فقد كان معيار الحشمة بالنسبة للمرأة العراقيةفي اواخر القرن التاسع عشر وحتى اوائل القرن العشرين ان ترتدي عباءتين وتضع نقابا على الوجه بينما من ترتدي العباءة من دون نقاب تكون محل تجريح ، و في وقت لاحق تغير معيار التقييم ليصبح بين المرأة التي ترتدي عباءة واحدة ولو بدون نقاب والاخرى المنتقدة وهي ( السفور ) ولو كانت محتشمة ، ثم تغير لاحقا لتصبح (السفور) هي الافضل بالمقارنة بمن ترتدي البنطال الذي اصبح مقبولا ايضا قياسا بالملابس الفاضحة التي تكشف اجزاء واسعة من جسم المرأة ، وهكذا تتغير المفاهيم لانها نسبية من حيث المكان والزمان .
كما ان الخطأ مفهوم معياري ، اي انه يحدد بالقياس الى معيار (نموذج) والغالب انه معيار موضوعي بالنسبة للقوانين الوضعية الحديثة بعد ان تخلت نوعا ما عن فكرة المعايير الذاتية الشخصية .
والمعيار نموذج يهتدي به القاضي او المحكم او رجل الادارة او اي شخص وهو بصدد الحكم على سلوك معين بالصواب او بالخطأ او بصدد تقييمه لواقعة معينة اوشيء من الاشياء المادية او المعنوية بالحسن او القبح كمنتوج صناعي او قصيدة او لوحة او نظام سياسي او تربوي وغير ذلك .