مناقشة قانونية للعوامل الاجتماعية للجريمة

العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتكاب الجريمة

دراسة ميدانية لأثر العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى ارتكاب الجريمة في مدينة الرمادي

م.م. نوري سعدون عبد الله

جامعة الأنبار/ كلية الآداب

قسم علم الاجتماع

تمهيد:

العوامل الاجتماعية هي مجموعة من الظروف التي تحيط بشخص معين وتميزه عن غيره فيخرج منها تبعا لذلك سائر الظروف العامة التي تحيط بهذا الشخص وغيره من سواء الناس، بهذا المعنى تقتصر الظروف الاجتماعية هنا على مجموعة من العلاقات التي تنشأ بين الشخص وبين فئات معينة من الناس يختلط بهم اختلاطا وثيقاً سواء كانوا أفراد أسرته أو مجتمعه أو مدرسته أو الأصحاب والأصدقاء الذين يختارهم.

1.الأسرة:

هي المؤسسة التربوية الأولى التي تتلقى المخلوق البشري منذ ان يفتح عينه على النور، فهي الوعاء الذي يشكل داخلها شخصية الطفل تشكيلا فرديا واجتماعيا كما أنها المكان الأنسب الذي تصرح فيه الأفكار الآباء والكبار ليطلقها الصغار وعلى مر الأيام فتنشئهم في الحياة

فالأسرة عبارة عن جماعة من الأفراد تربطهم بروابط قوية تاريخية من صلات الزواج، الدم والتبني، وهذه الجماعة تعيش في دار واحدة وتربط أعضاءها الأب، الأم، الابن، وغيرها من العلاقات الاجتماعية متماسكة في أساسها للمصالح والأهداف المشتركة. وتلعب الأسرة الدور القيادي في تهيئة وإعداد الطفل لمجابهة الأمور الاجتماعية المعقدة وتدريبه على إشغال الأدوار الاجتماعية المناسبة التي تستطيع من خلالها تقديم الخدمات التي يحتاجها المجتمع

ولقد تقلصت وظيفة الأسرة في الوقت الحاضر وتحولت بعض وظائفها إلى مؤسسات وغيرها نتيجة لاتساع المعرفة وتنوع المفاهيم وتعدد الوسائل والطرق وهذا أدى إلى عدم استطاعة الأسرة القيام بكل وظائفها وذلك لإمكانياتها المحددة ولتعدد الاختصاصات وظهور العلوم المختلفة والمعارف الجديدة ومتطلبات الحياة الكثيرة والتي لا تستطيع أي مؤسسة الإلمام بها جميعاً

لقد كانت الأسرة قديما تكفي نفسها بنفسها في مختلف الأنشطة الاقتصادية والدينية والاجتماعية والتربوية والترفيهية وبدأت الأنشطة تتقلص شيئا فشيء وينتقل بعضها إلى مؤسسات أخرى كالقبيلة أو الدولة، فمن وظائف الأسرة هي التربية الجسمية والصحية التي من خلالها تقوم الأسرة برعاية وعناية أطفالها وتربيتهم تربية جسمية وصحية وذلك بتقديم المأكل والمشرب والغذاء الصحي والنفسي لتنمية أجسامهم وإيجاد المبادئ لهم وتوفير وسائل الراحة، وعلى الوالدين تزويد أبنائهم بالثقافة التي تلائم العصر الذي يعيشون فيه ومن واجب الوالدين كذلك ان يتجاوبوا مع أبنائهم ويفتحوا لهم صدورهم لسماع مشكلاتهم وتعاونهم معهم على حلها وتفهمها.

فيعتقد معظم علماء الاجتماع ان الأسرة من أقدم المؤسسات الاجتماعية وأول خلية أساسية يتكون منها البناء الاجتماعي وعندما تتعرض الأسرة إلى أي خلل في البناء الاجتماعي فقد تؤثر على بقية المؤسسات الاجتماعية وتتعرض الأسرة إلى الانحلال في بعض المجتمعات واهم أشكال هذا الانحلال هو الانحلال الأسري التي ترجع ظاهرة إلى تأثير القيم الجديدة عليها ومن هذه المظاهر على ملئ أوقات الفراغ والتسلية والقيم التربوية الحديثة والاجتماعية التي لها تأثير كبير على الأسرة، وهناك ميول فردية وتوجهات موجودة عند الشخص والاتصال بالعالم الخارجي والتعرف على ما هو جديد من قيم كالميول الفردية نحو السعادة والرغبة في الضمان الاجتماعي والاقتصادي ومعرفة التمايز الاجتماعي وأشكاله لظهور الانحلال الأسري عندما تدخل تعديلات في مواقف وإدخال ومواقف غير موجودة سابقا

فالأسرة من وجهة نظر المفكرين الاجتماعيين فقد اهتموا بها منذ أقدم العصور وذلك للوقوف على طبيعة بنائها ووظائفها والمشاكل التي تواجهها محاولة منهم إصلاح المعتل من شؤونها ولأنها اصغر وأدق جهاز في المجتمع ولا يمكن ان تستقيم شؤون المجتمع وتتخلص من مظاهر الانحلال والتصدع إلا إذا استقر البناء الاجتماعي العائلي وفق قواعد وضوابط تنضم سير شؤون هذه المنظمة. ولم تكن الدراسات التي قام بها المفكرين قائمة على البحوث التجريبية والتحليلية بقدر ما كانت فلسفية وشخصية في معظمها لذا نجد البعض في هذه الدراسات هي اقرب إلى حقل الفلسفة وبعيدة في بعض الأحيان عن الاجتماع العائلي، فمن المفكرين الذين اهتموا بدراسة الأسرة وأعطوا آراء وأفكار مهمة هم (أفلاطون، ارسطو، اوكست كونت….) الخ من العلماء المفكرين الذين كان لهم دور كبير في تنظيم حياة الأسرة في الوقت الحاضر مراكز تنظيم التي تعتبر ظاهرة حديثة العهد حيث كانت تقوم بتعاون من وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية وجمعية تنظيم الأسرة

فقد كان هدف الأسرة الرئيسي العناية بالأمومة وتحديد النسل وفقا للظروف الاجتماعية والاقتصادية وبالشكل الذي تتلائم مع عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات فمن هذه المراكز هي مراكز رعاية الأحداث الجانحين والإصلاحيات الذي ازداد بدرجة كبيرة منذ السنوات الأخيرة حيث تعمل هذه المراكز بمفهوم تربوي إصلاحي حيث يسعى إلى تأهيل الحدث والجانحين اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وإصلاحه ليصبح عضوا فعالا صالحا في خدمة المجتمع وتعتبر هذه التجربة من التجارب الإصلاحية البناءة الرائدة في المجتمعات النامية سواء كان من حيث الأساليب التربوية والنفسية والإصلاحية أم من حيث المباني التي يقيم بها المنحرفين والجانحين

وعلى ضوء أهمية موقع الأسرة ووظائفها الاجتماعية ودورها الحيوي في تنشئة الفرد، فإننا نستطيع ان ندرك الآثار المترتبة على التحليل الذي يصيب بناء الأسرة ووظائفها في مجال الضبط الاجتماعي وانعكاساتها الخطيرة على مستقبل الفرد واستقراره النفسي والاجتماعي ويظهر بوادر الانحلال الوظيفي الأسري من مصدرين أولهما التفكك الأسري وثانيهما عدم انجاز الأسرة لوظائفها الأساسية

2.المدرسة والتعليم:

ان المهام والواجبات التي تضطلع بها المدرسة يمكن ان تجعل منها مؤسسة وقائية تحمي من خلالها الطفل أو الشاب من ضمنها المدرسة مهمتها التربوية والتعليمية على أكمل وجه، وتتمثل الوظيفة الأساسية للتعليم في توصيل المعارف والمهارات لأشخاص في تدعيم الاتجاهات والقيم المرغوبة. والنظام التعليمي الذي يواجه الماضي عندما ينقل التراث الثقافي إلى الطلاب ويواجه المستقبل عندما يهتم بتطوير خبرات الطلاب ومهاراتهم وسلوكهم الاجتماعي واهم هدف لها هو ان يضع الفرد في وضع يتسم بالثقة والضبط العقلاني الذاتي

وبجانب التعليم والتدريس التي تقوم به المؤسسة التربوية فإنها تقوم بإعداد الشباب من الناحية الشخصية أيضا بالرغم من تأكد عدد كبير من الباحثين على دور العائلة في بلورة شخصية الفرد وتكوين طبيعته الأصلية وهذا واضح في آراء العالم (براوت) في كتابه الأمراض وكذلك فوليوم الاجتماعية إلا ان هؤلاء الباحثين لم يهملوا المؤسسات الأخرى التي لها دور في تكوين وبلورة شخصية الشباب

فقد تقوم المدرسة في تكوين وتهذيب سلوك الأفراد وفي تكوين وتظم الكائن الإنساني بصورة صحيحة ووقائية من المخاطر التي تشتت أفكاره وإرادته وتسبب الضعف في شخصيته. كما تساعد على زيادة وعي الأفراد واستثمارهم للموارد المتاحة وتعميق إدراكهم ودورهم في المسؤولية تجاه الجماعة التي ينتمون إليها وعلى هذا الأساس فإنها تغرس منظومة من القيم الأخلاقية والسلوكية

وللمدرسة نظام معين في العملية التربوية لذا لابد من تقديم رعاية مناسبة إلى التلاميذ والشباب في هذه المرحلة لكي يستطيعوا مواصلة العملية التربوية وغالبا ما يرجح زيادة تسرب الأطفال من المدارس إلى إهمال طرق الرعاية في هذه المدارس وعدم فهم المدرسين لطلابهم وسوء المعاملة من قبل المدرسين والمعلمين في بعض الأحيان.

فالعراق من بين الدول النامية التي بدأت تدرك خطورة هذه المرحلة فقد شكلت منظمات مهنية تهتم بشؤون الطلبة وهي المنظمة الطلابية التي بدأت تهتم وتركز على شؤون الطلبة وساعدت الشباب الذين هم بحاجة إلى المساعدة من الناحية المادية والمعنوية فقد سعت إلى حل المشاكل الشبابية وتنظيم الوسائل الترفيهية للشباب.

واهتمت أيضا بنشاطات وفعاليات وطموحات الشباب ومحاولة تنميتها والاستفادة من هذه المواهب

ان دور المدرسة في إحداث السلوك الإجرامي يتبين في قول العالم (فكتور هيجو) “ان كل مدرسة تفتح بقابلها سجن مغلق” ولكن هذا لا يمنع ان يكون للتعليم أثره العكسي في زيادة معدلات الجريمة، صحيح ان التعليم كثير ما يقضي على أنواع من الجرائم بقضائه على ما يصحب الجهل من الإيمان بخرافات مختلفة من وجهة نظر الفرد تصدر عنها الجريمة بما يفتحه من سبل جديدة لارتزاق كانت مغلقة في وجه الفرد، وبما قد يعطيه من مكانة اجتماعية ربما يحاول المتعلم الحرص عليها وبما قد يبذله المتعلم من وقت وجهد في الدراسة ربما كان سيضيفان من المفاسد والشرور إلا ان انتشار التعليم على نطاق واسع قد أضفى على إجرام العصر إذ حوله من إجرام عنف وعدوان على الأشخاص إلى إجرام مدروس بمنطق وذكاء.

مع ذلك فان هناك مسألة ليست محل نزاع وهي ان التعليم يصقل الشخصية ومعها الميول الإجرامية ان وجدت وهذا يؤدي إلى تخفيف حدة بعض الجرائم المرتبطة بالأمية والجهل مثل الاعتداد على الأشخاص والسرقة ويحولها نحو أنواع أخرى من الإجرام المنتظم والمتمدن مثل النصب والتزوير والاختلاس، ونحو وسائل أكثر أحكاما مثل القتل بالسموم والأسلحة المتقدمة التي لا تحدث صوتا وفي النهاية إلى الرسائل أكثر مهارة من غيرها

حيث تعتبر المدرسة من أهم عوامل البيئة الخارجية للصغير والحدث فمن أهم العوامل المؤثرة في سلوك الأحداث في المدرسة هي علاقة المدرسين بالطلاب ونوع البرامج الدراسية والترفيهية وقرب وبعد المدرسة عن محل سكن الطالب وبيئة المدرسة وموقع المدرسة ايكولوجيا (ريف أو مدينة) وهذه بعض العوامل المدرسية وهناك بعض العوامل في البيئة الخارجية كالتغيرات المختلفة التي تحدث في المجتمع (سياسية، أو طبيعية (عوارض أو فيضانات أو زلازل)) اجتماعية (الهجرة من الريف إلى المدينة) والحروب والثورات وغيرها من العوامل التي لها اثر مباشر وغير مباشر على سلوك الحدث والتي تدفع به إلى الجنوح

3.الصحبة السيئة:

ان من أهم أسباب المهمة التي تدفع الفرد إلى ارتكاب الأفعال السلوكية الإجرامية اختلاطه وتجاوبه وتفاعله مع رفاق السوء لاسيما رفاق المنطقة السكنية ورفاق المدرسة من المنحرفين والأشرار فالفرد يتأثر بسرعة بأصدقائه ورفاقه الذين لا يختلفون عنه بمزايا العمر والثقافة والميول والاتجاهات والأذواق حيث انه يتأثر برفاقه أكثر مما يتأثر بابيه أو أمه أو مدرسته. وعندما تكون الخصائل وتستحكم به تتجه إلى الاختلاط والتفاعل بحيث تجعله شاذ ومنحرف في أفكاره وممارسته اليومية وهنا لا تستطيع العائلة ولا أية مؤسسة أخرى في المجتمع من إصلاحه وتقويم أخلاقه المنحرفة وممارسته الخاطئة وأمر كهذا يؤدي إلى أخطار التفكك والتصدع بحيث لا تستطيع العائلة هنا القيام بوظائفها ومهامها تجاه الفرد والمجتمع

إذن الرفاق يعملون على إشباع ميول الحدث ورغباته وتأكيد وجوده ضمن الجماعة، كما تساعده الجماعة على إقامة علاقات اجتماعية قوية مع من هم في سنه، حيث ان رفاق اللعب لهم دور كبير في التأثير بشخصية الحدث فلعب من المفاهيم التي كانت سائدة عنه انه نشاط يقصد به الاستمتاع بقضاء أوقات الفراغ وقد تبلورت هذه المفاهيم فلم تعد مجرد طريقة لتمضية الوقت، فقد أصبح ينظر إليه كجزء من العمليات التربوية التي ترمي إلى الحد من خطر السلوك الإجرامي لدى الحدث ويقول العالم (بياجيه) في ذلك (ان اللعب عملية تمثل العمل على تحويل المعلومات الواردة لتلائم حاجات الفرد فاللعب والتقليد والمحاكاة جزء لا يتجزأ من النمو العقلي والذكاء).

ولقد درس الكثير من علماء الإجرام تأثير الجماعات المنحرفة السلوك على الأشخاص أو الشباب الذين يتصلون بها أو يصاحبونها لاسيما إذا كان عند هؤلاء الأفراد استعدادا نفسياً للإسهام في السلوك الانحرافي، وكل فرد في المجتمع معرض للسقوط في الجريمة إذا اتخذ أصدقائه من الأفراد الذين ينتمون إلى مثل هذه الجماعات، ولكن الأبحاث دلت على ان استجابة الفرد لمثل هذه الجماعات تتوقف إلى حد كبير على شخصية المستجيب ومقدار تأثيره في الآخرين وعلى تنشئته الاجتماعية ومقدار رقابة الأسرة على سلوكه وأخلاقه

وعلى هذا فان الرفقة السيئة تحطم أو تضعف الروادع تحت تأثير المثل المستمرة من رفاق السوء هذه المثل التي تنتقل بعدوى الإيحاء والحث والتقليد وبما يبثه المجتمع من اطمئنان في النفوس، كما تعمل الرفقة السيئة على تعريف الشاب بالعادات السيئة كالإدمان على الخمر وتعاطي المخدرات والمقامرة والرهان وغيرها من الأمور السيئة التي تجلبها رفقة السوء

ومن علماء الإجرام الذين اهتموا بدراسة اثر الصحبة في ارتكاب الفرد للسلوك الإجرامي العالم (سذرلاند) الذي وضع نظرية (الاختلاط المغاير) وينطلق سذرلاند في نظريته هذه من فرضية أساسية مفادها ان السلوك الإجرامي سلوك مكتسب غير موروث يتعلمه الفرد من خلال اختلاطه بأفراد آخرين وذلك لعملية التواصل أو التفاعل الاجتماعي بين الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة الواحدة في المجتمع الواحد، وان مثل هذا الاتصال لا يتم إلا بين الأشخاص على درجة متينة من الصلة الشخصية أو على درجة واضحة من الصداقة والزمالة، وهذا يعني ان يكون بين هؤلاء الأفراد وعلاقات أولية مباشرة ويرى ابراهمسن ان بعض الشباب يرتكبون جرائم تحت ضغط وظروف معينة أو نتيجة لشعورهم بحاجة معينة تدفعهم إلى ارتكاب الجريمة ومن هؤلاء المجرم بالمخالطة الذي يقع ضحية الرفقة السيئة التي تدفعه إلى التقليد في ارتكاب أنماط سلوكية إجرامية

4.البيئة السكنية:

ان اغلب الدراسات الاجتماعية التي اهتمت بموضوع الجريمة والجنوح تؤكد على أهمية البيئة السكنية بوصفها عملا مساعدا في عملية الإجرام فالمسكن الذي يؤطنه الشخص له دور في هذا المجال ونعني بالمسكن من الناحية المورفولوجية الخصائص المعيارية والشكلية التي تشكل بنية الوحدة السكنية لأسرة، كما ان المسكن ذاته من حيث ضيقه أو اتساعه ومن حيث فخامته وتهويته ومن حيث مرافقه ومن حيث ارتفاعه أو انخفاضه ومن حيث قدمه أو حداثته والى ذلك من الخصائص الذاتية للمسكن التي تلعب دور واضح في مجال تماسك جماعة الأسرة أو تفككها في شكل الترويح الغالب

لذا فالإنسان يكتسب قيمه الشخصية ويكتسب عادته وسلوكه من الجماعات التي يعيش بقربها لان تأثيرها يرجع بالأساس إلى طبيعة الإنسان بكونه كائن اجتماعي يعتمد في حياته على الجماعة في إشباع حاجاته وعن طريقها يكتسب مهارته وخبرته، لأنه بطبيعتها لا يمكن من الاستغناء عنها ووجوده يتوقف عليها وتأثير الجماعة على نحوه أمر يفرضه الواقع والجماعة، فمن هنا يتضح ان البيئة لها دور واثر على الفرد من نحوه وتطوره ورعايته فمنها ينقل العادات والتقاليد وعنها يأخذ الكثير من الانطباعات والميول سواء كانت هذا المسكن مريح أم غير مريح فهو يتأثر به بكل الحالات، فالبيئة بمعناها العام هي مدرسة طبيعة لا حدود لها لذلك كان لزاما عليه ان يسعى لان يكيف نفسه لها

ويرى (جس تايلر) ان الجريمة المنظمة والعصابات يكون مصدرها الأحياء المختلفة، وفضلا عن توافر العوامل المساعدة لنشوء مثل هذه المنظمات الإجرامية، فان المنتمين إليها يعتقدون ان المجتمع ساهم بشكل أو بآخر في جعل أحياؤهم متخلفة وفي كونهم فقراء لذا فإنهم ينتقمون من المجتمع بتكوين هذه العصابات التي تقوم بارتكاب مختلف أنواع الجرائم خارج مناطق سكناهم

فالبيئة السكنية لها اثر واضح في ظهور الجريمة لدى الفرد لأنها تكون مرتبطة بمجموعة من العوامل والمؤثرات المادية والبيئية المحيطة بالفرد من سكنه والذي له أثره جسماني ونفسي وبالتالي في طريقة سلوكه مع الأفراد المحيطين به.

5.البيئة الترويحية وأوقات الفراغ:

البيئة الترويحية هي البيئة التي يقضي فيها الشخص معظم أوقات فراغه وذلك بممارسته بنشاط معين يبعث في روحه البهجة والسرور كالذهاب إلى الحدائق والمتنزهات الموجودة والتي تكون قريبة في محل سكناه أما مفهوم الترويح من الناحية العلمية فهو: نشاط اختياري يقوم به الفرد أثناء وقت الفراغ وان دوافعه الأولية هي الرضا والسرور والبهجة الناتجة من هذا النشاط والترويح الذي يتعلق بألوان الأنشطة التي يقوم بها الفرد والتي يمارسها خارج ساعات عمله حيث ان الفرد اختار بضعة أنشطة لممارستها طوعا نتيجة لرغبة داخلية دافعة فالترويح نشاط اختياري يحدث ويمارس في وقت الفراغ وينتج عنه شعور أو إحساس ذاتي بالغبطة أو السرور والراحة والرضا النفسي.

أما وقت الفراغ فهو وقت الحر المتيسر للفرد والذي من خلاله يستطيع ممارسة أنشطة الفراغ الذي يختارها والتي تتلائم مع أذواقه واتجاهات وموضوعاته وأهدافه ومصالحه، أما في وقت الحاضر أصبح مقدار الوقت ليس مجرد دقائق أو ساعات أو أيام عند الفرد والتي يصرفها ويمضيها كما يشاء وإنما هو الوقت المهم الذي ينبغي تخطيطه وبرمجته واستثماره بطريقة تساعد على تنمية الفرد وتطوير قدراته الفكرية والجسمانية والإبداعية

وقد اهتمت النظرية الاجتماعية المعاصرة بمسألة الفراغ وكيفية استثماره وذلك لما لها من أهمية في تطوير الإنسان وزيادة طاقاته الإنتاجية ودفع عجل المجتمع إلى التقدم والنهوض بحيث يستطيع تحقيق أهدافه المصيرية وطموحاته المشروعة، وذلك لكي يستثمر الشاب أو الشابة وقت الفراغ بالأشياء المفيدة حتى لا ينصرف في تيار الجريمة والسلوك المنحرف الذي يدفع إلى ممارسة الأفعال المشينة والمسيئة بحق الأفراد والمجتمع بصورة عامة حيث تدرس النظرية نشوء ونمو وتوزيع أوقات الفراغ للفئات والجماعات الاجتماعية والمهنية التي يتكون منها المجتمع إضافة إلى اهتمامها بمسائل تنظيم الفراغ والاستفادة منه في سد الحاجات والنجاح وطموحات الشباب في الشيء السليم والمفيد للمجتمع(55).

كما ان سياسة الفراغ في المجتمع المتحضر تعتمد على مبدأ إنساني الذي يطمح بتحويل وقت الفراغ إلى وقت الترويح يستفاد منه الإنسان وتستخدمه في تطوير قدراته وإمكانياته الجسمانية والعقلية والمهنية ووقت الفراغ في المجتمع يتيح أمام الإنسان الاحتمالات والإمكانيات التي من شانها ان تنمي الشخصية طالما انه يستهدف ترسيخ التربية الإنسانية الفاضلة والتنمية الروحية عند الأفراد والجماعات، فانغماس الإنسان في مجال العمل وعدم مشاركته في نشاطات الفراغ لابد ان يقتل عنده آجلا أم عاجلا روح العمل المبدع الذي يستفيد منه المجتمع مما يجعله عرضة لارتكاب الجريمة واندفاعه نحو السلوك المنحرف

ان من المشكلات الاجتماعية التي ظهرت في المجتمعات في الوقت الحاضر هي مشكلة الإدمان على المخدرات التي تعتبر آفة من آفات أوقات الفراغ حيث كانت اقل انتشارا من الخمر في بلادنا إلا أنها اشد منها فتكا والمدمن على المخدرات سيصاب بانحلال عقلي وخلقي وجسمي فيضعف نشاطه وتقل حيويته وينحط مستواه الاجتماعي فيهمل أسرته وعمله وسائر حياته كما يصبح قلق المزاج وضعيف الذاكرة والإدمان على المخدرات له صلة وثيقة بالإجرام إذ أنها تشل المراكز العليا للدماغ وتطلق الغرائز على حالتها البدائية بحيث يصبح الفرد عاجزاً عن ضبط نفسه وعن التميز بين الخير والشر، وهناك نقطة مهمة ينبغي الإشارة إليها وهي ليس كل نشاط ترفيهي هو ايجابي وإنما قد يتحول إلى نشاط سلبي إذا أسيء استغلاله وخير مثال على ذلك العاب التسلية الالكترونية (الاتاري) وهو فضلا عن فوائده التربوية والنفسية والتقنية إلا أنها لا تخلو من بعض السلبيات، إذ يمكن ان يكون بداية الانحراف وتعلم السلوك الإجرامي إذا ما أدمن على ممارسة اللعب.

وبهذا يظهر ان طبيعة النشاط الترويحي الذي يقضيه الشخص له علاقة مباشرة أو غير مباشرة في اتجاهه نحو الجريمة مما يحتم على المجتمع ممثلا في هيئاته الاجتماعية والرياضية ان يشرف على تنظيم أوقات الفراغ لشرائح الشباب المختلفة وتوجههم إلى حسن استغلاله وحين يعمل ذلك فيه يهيئ لنفسه الحماية الأزمة ضد الشرور والآفات الاجتماعية ومنها الجريمة

6.بيئة العمل :

ان بيئة العمل هي الوسط أو المجتمع الذي ينتقل إليه الفرد لمزاولة مهنة أو حرفة أو وظيفة، وقد يتكيف الفرد لهذا المجتمع أو الوسط وقد يواجه إخفاقاً أو فشلاً في التكيف مع هذا الوسط أو المجتمع مما يترتب عليه تأثير ايجابي أو سلبي على نفسية الفرد وعقليته الاجتماعية.

ويحصل تكيف الشخص مع بيئة العمل عندما يحصل على عمل مناسب يكون ملائماً لقدراته الجسمية والعقلية ومنسجماً مع رغباته الشخصية التي حققها من خلال اجتيازه للمرحلة الدراسة التي أهلته للحصول على العمل المناسب له، مما يساعده على انجازه بإتقان وتطويره وتحسينه فيفوز بتقدير رؤسائه وزملائه في العمل.

وقد تدفع عوامل عديدة بالأشخاص إلى ممارسة الأعمال غير المناسبة منها ضغط الحاجة الاقتصادية للأسرة، إذ ان المستوى المعاشي الواطئ والدخل المنخفض غالباً ما يؤدي إلى عدم استطاعة الوالدين الاستمرار في الإنفاق على أبنائهم لإكمال تعليمهم، فأرباب الأسر الفقيرة يفضلون غالباً اشتغال أبنائهم على استمرارهم في الدراسة، لان ذلك الاستمرار غالباً ما يؤدي إلى اقتطاع جزء ليس باليسير من دخل الأسرة

وبيئة العمل كغيرها من البيئات الاجتماعية تهيء الفرصة للأشخاص لإقامة علاقات اجتماعية مع العاملين أثناء الذهاب إلى العمل أو العودة منه أو في أثناء العمل أو في أوقات الراحة فتتأثر سلوكيات الأشخاص وبالذات الشباب ايجابياً أو سلبياً تبعاً لسلوكيات أصدقائه في العمل، كما ان ظروف العمل قد تفرض على الشباب الصلة بأفراد لا خيار له في انتقائهم أو ان بعض الأعمال تفرض على من يمارسها التعرف والاحتكاك بأنماط كثيرة من الناس كالعمل في الأماكن العامة أو المقاهي وتجارة الأرصفة وغيرها تتيح لمن يعمل فيها ولاسيما الأحداث والشباب في تعلم السلوك الإجرامي.

ومن زاوية أخرى فان أساليب بعض المهن قد تدفع أحياناً ممارسيها إلى احتراف السلوك الإجرامي فمثلاً التعامل مع بيوت الدعارة والحانات والملاهي الليلية الموبوءة يكون جواً مناسباً لأعمال انحرافية غير مشروعة كتعاطي المخدرات

7.ضعف التربية الدينية:

ان للجانب الديني الأثر الفاعل في تدعيم الأمن الاجتماعي داخل المجتمع ومحاربة الظواهر الانحرافية التي قد تطرأ على نفوس الناس وعلاجها من اجل الوقاية منها. ودور الدين يفوق دور أية مؤسسة تربوية وقانونية كونه يخاطب الضمير الإنساني الذي هو مركز الثقل في توازن الطباع البشرية وتربيتها على حب الخير والحق والجمال.

في حين تعجز الإبداعات الإنسانية بعلومها وأنظمتها وفلسفتها ان تنفذ إلى الضمير الإنساني ويقتصر دورها فقط في التحكم بالحياة الظاهرة للإنسان فتسن له الطريق، وتراقب سيره عليه وتردعه بالعقوبة الشديدة إذا حاد عنه

وأشار بعض علماء الإجرام إلى أهمية الدين في وقاية المجتمع من السلوك الإجرامي وفي هذا الصدد يرى العالم (دي بيتسDepets) ان ضعف الوازع الديني هو العامل الرئيس المؤدي إلى هذه الزيادة المفزعة في الإجرام.

أما العلامة (كراوسKraues) فقد وضح رأيه في العبارة الآتية ” ان الابتعاد المتزايد عن الله الذي يحتاج أكثر فأكثر طبقات كثيرة من الناس وكذلك النظرة اللادبية إلى الحياة والعالم التي هي نتيجة للابتعاد عن الله تكون الأرضية الخصبة التي تزدهر فيها الرذيلة والجريمة وان الروح الأدبية الصحيحة غير ممكنة بلا دين”.

ومن هنا يتضح لنا ان للدين الأثر الفاعل في تقويم النفس البشرية نحو ما هو صحيح حيث ان الدين ينهي عن كل ما هو فاحش وغير مرضي لله وللناس جميعاً. وان الدين الإسلامي بطبيعته الحال ينهي عن أي عمل لا يرضي الله والناس وينهي عن القيام بالجرائم التي لها مساس بحياة الأفراد