عند قيام الثورة الفرنسية عام 1789 اخذ رجال هذه الثورة بمفهوم الفصل المطلق بين السلطات ، وكان ذلك الفهم لتبرير منع القضاء من التدخل في شؤون الإدارة وعرقلة عملها. وعلى الرغم من المزايا العديدة التي يحققها مبدأ الفصل بين السلطات فانه لم يسلم من الانتقادات شأنه في ذلك شأن أي مبدأ آخر ، وان أهم هذه الانتقادات ارتكزت على عدم إمكان تحقيق الفصل المطلق والتام بين السلطات من الناحية العملية(1). إن نظام الفصل التام بين السلطات يقوم من الناحية النظرية على ثلاثة أركان هي(2):-

1.عدم تغليب سلطة على سلطة أخرى: أي لا تكون السلطة التنفيذية أقوى من السلطة التشريعية والعكس صحيح وهذا الأمر يؤدي إلى إن تكون هناك مساواة تامة بين السلطتين ، مع التسليم بحق السلطة القضائية في الاستقلال بالوظيفة القضائية.

2.التخصص الوظيفي: فيجب إن تتخصص كل سلطة في إدارة وظيفة معينة ، فالبرلمان يتخصص بالتشريع والحكومة تتخصص بالتنفيذ والسلطة القضائية تتخصص بالقضاء .

3.الاستقلال العضوي: ويعني إن لايكون لأية سلطة من سلطات الدولة أي تأثير في السلطة الأخرى، ولا يحق لأية سلطة مشاركة سلطة أخرى في أداء واجباتها نفسها ولأي سبب كان، فالحكومة مثلا لا يحق لها حل البرلمان ، أو تأجيل اجتماعاته أو حتى الدخول فيه للاشتراك في المناقشات ، وفي المقابل لا يحق للبرلمان استجواب الوزراء أو سؤالهم أو مساءلتهم سياسيا.

غير إن رجال الفقه الدستوري ورجال السياسة أيضا قد توصلوا إلى نتيجة منطقية هي عدم إمكانية تطبيق نظام الفصل المطلق أو التام بين السلطات من الناحية العملية، وذلك لأسباب كثيرة أهمها تعقد الحياة وازدياد المهام الملقاة على عاتق الدولة (3). لذا فإن النظم التي حاولت أن تطبق نظام الفصل المطلق بين السلطات قد واجهت صعوبات عملية كثيرة أدت إلى انهيار النظام وخير مثال على ذلك دستور فرنسا (1791) الذي جرى إلغاؤه في 10 آب 1792 (4). وفي احيان أخرى يحدث نوع من التعاون بين السلطات للتغلب على مشاكل الفصل التام ولمواجهة متطلبات الحياة المعقدة، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية(5). كما انه يتعذر الفصل المطلق بين الهيأت التي تباشر وظائف الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وذلك لأن هذه الوظائف متصلة ببعضها اتصالا وثيقا وعلى فرض إمكان تحقيق الفصل المطلق بين السلطات فان تعدد السلطات مع استقلال بعضها عن البعض الأخر يؤدي إلى توزيع المسؤولية عليها توزيعا لا يمكنها من أداء واجباتها، كما إن تعدد السلطات وتوزيع المسؤولية تبعا لذلك يؤدي إلى تعطيل أعمال الحكومة تعطيلا خطيرا، ولاسيما وقت الأزمات إذ تحتاج الدولة عند تعرضها للأزمات إلى سرعة اتخاذ القرارات وهذا لا يتم إلا إذا كانت السلطة التنفيذية تستطيع إصدار قرارات لها قوة القانون أما استنادا لتفويض من البرلمان أو استنادا إلى نصوص الدستور مباشرة. كما يترتب على الفصل المطلق بين السلطات ، توقف عمل الأجهزة الحكومية في حالة حدوث أي خلاف بين هذه الأجهزة، إذ إن الخلاف بين أجهزة الدولة كثير الوقوع ،مما يؤدي إلى الفوضى، وتعطيل مصالح الدولة، أو تحكم أحد الأجهزة بباقي أجهزة الدولة(6).

إن هذه الانتقادات قد وجهت إلى مبدأ الفصل التام أو الجامد بين السلطات، ولم توجه إلى مبدأ الفصل المرن المشبع بروح التعاون بين السلطات فمازال هذا المبدأ مقررا في العديد من الدساتير الديمقراطية ومسلما به فقها وقضاء(7). لقد رفض الواقع العملي مبدأ الفصل المطلق بين السلطات فكان لابد من إضفاء نوع من المرونة في فهم هذا المبدأ وتطويره نحو الفصل المشبع بروح التعاون بين السلطات(8). إذ إن الفصل المطلق بين السلطات يؤدي إلى تعدد الهيأت التي تمارس السلطات العامة نتيجة لتطبيق مبدأ الفصل التام بين السلطات إلى إضعاف سلطة كل منها في مباشرة وظيفتها كما ينتج عن ذلك تجزئة المسؤولية فيما بينها على عكس الوضع في حالة تركيز السلطة إذ تكون الهيأة التي بيدها السلطات جميعها ذاتها التي يقع على عاتقها كل المسؤولية(9). فضلا عن ذلك إن مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ نظري بحيث لا يمكن تحقيقه في الواقع العملي لأن هناك استحالة في الفصل بين الهيأت المختلفة في الدولة عن بعضها ، فهي بمثابة الأعضاء في الجسم البشري أو الأجزاء المكونة للآلة(10).

_________________________

1- وسام صبار عبد الرحمن: الاختصاص التشريعي للإدارة في الظروف العادية دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه. مقدمة إلى كلية القانون. جامعة بغداد. 1994.ص 216

2- مصطفى ابو زيد: مبادئ الانظمة السياسية : منشاة المعرف، الاسكندرية ،1984 ص .216

3- عبد الحميد متولي: الوجيز في النظريات والانظمة السياسية. القاهرة. 1966. ص264

4- لقد نظم مبدأ الفصل بين السلطات في دستور 1791 بالمواد من( 1-5) من القسم الثالث كذلك المواد من (24-25) من القسم الرابع للفصل الثاني، راجع اندريه هوريو، ج2، ص 249، وما بعدها.

5- فالرئيس يتدخل في العمل التشريعي من خلال اقتراح القوانين بصورة غير مباشرة عبر رسالة الاتحاد وله الحق في الاعتراض على القوانين . مجلة مصر المعاصرة ، ع356، س 67 يوليو 1976، راجع د. محمد كامل ليلة، النظم السياسية الدولة والحكومة القاهرة ، 1971، ص 584

6- محمد طه بدوي و د. محمد طلعت الغنيمي، النظم السياسية والادارية، ص 323.

7- حمدي ياسين عكاشة، القرار الاداري في قضاء مجلس الدولة، منشأة المعارف بالإسكندرية 1987، ص15.

8- عبد الحميد متولي: القانون الدستوري والأنظمة السياسية المقارنة بالمبادئ في الشريعة الإسلامية ج1،1989 ص168، ص253 و د. ثروت بدوي، تدرج القرارات الإدارية ومبدأ الشرعية، موسوعة القضاء والفقه للدولة العربية ج11، القاهرة، 1964 ، ص13. .

9- عبد الحميد متولي: المصدر السابق . ،ص21.

10- د. منذر الشاوي: نظرية الدولة ، مركز البحوث القانونية، بغداد 1981، ص177.

المؤلف : خلدون ابراهيم نوري سعيد العزاوي
الكتاب أو المصدر : مدى سلطة قاضي الالغاء في اصدار الاوامر للإدارة

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .