مدى توافق غاية العقوبة في الشريعة الاسلامية والقانون الوضعي

أصبح هاجس كل مسلم متعلم يريد الكلام عن الإسلام وصلاحية أحكامه لكل مكان وزمان, هو القول المنكر المتردد على كل لسان من المخالفين لشريعة الرحمان, هذا القول هو : قساوة الحدود ومرور الزمن عليها, حيث لا يمكن العودة إلى القديم, وكيف يعقل أن ترى إنسانا بدون يده اليمنى بعد السرقة, أو كيف تسمح برجم الزاني والزنا أصبح في الفقه الجنائي الدولى حق شخصي لا جريمة أخلاقية ولا عقاب, وكيف يقتل متمرد على الحاكم كما يسمى عندكم المحارب وعندنا يمنع سجنه لكونه حر في معارضة الحكام وحرية الرأي مقدسة في عقيدة الحضارة الحديثة، وكيف يجلد شارب خمرهوعندنا حلال وفي حضارتنا يمنع جلد حتى الحيوان .

وبناء على هذا التحليل المبسط لا يمكن لنا مناقشة الحدود بنصوصها لكوننا سبق لنا ذلك في الفصل الأول من الباب الثالث من هذه الرسالة, لكن مانناقشه هنا هو مدى صلاحية العقوبة في الشريعة الإسلامية, ثم نتمم ذلك بنتائج تطبيق القانون الوضعي وعدم ملاءمته للمجتمع المسلم لكون الجريمة زادت عن الحد المقبول حتى في غيره من المجتمعات وقد أصبحت الحياة شبه مستحيلة, للإنتشار المذهل للجريمة المنظمة والفساد الإداري والإقتصادي والفوضى العارمة كما سيأتي بيانه فيما بعد.

فبالنسبة للمجتمع الإسلامي الذي بقي محافظا على العبادات كما هو مأمور بها شرعا وبقيت بعض المساجد تعلم فقه العبادات دون سواها, أما ما سوى ذلك من جوانب الحياة الأخرى فهو منظم بقوانين مستنبطة من غير الشريعة الإسلامية, فأصبح المسلم في عبادته خاضعا لأحكام الشريعة الإسلامية وكذا في بعض الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كأحكام الزواج , الميراث والوصية أما في غيرها من المعاملات فهو خاضع لغير شريعة ربه, حيث أصبح جامعا لكل المتناقضات يسمع في قراءة القرآن في صلاة الجهر بحرمة الخمر والميسر في قوله تعالى ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾ الآية 90 من سورة المائدة,

لكن إذا خرج من باب المسجد وجد السكر أمامه والمخامر في كل مكان محمية بقوانين وضعية لا ينهى فيها عن منكر فيصبح المسلم مضطرب الأحوال متقلب المزاج لما يعيش فيه من فساد, ولقد بين بعض العلماء المخرج من هذه الحال بقولهم (( ولا نجاة من تلك الإزدواجية إلا بالتطبيق الكامل لشريعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها وتغيير القوانين الوضعية, وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والإنحراف وإثبات الذات ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والإقتصادي والإجتماعي والعسكري, لتحطيم قيود الذل والهوان ودحر العدوان بمختلف أشكاله ومحاربة الإستغلال بكل أصنافه والإعتماد على النفس وجمع المسلمين تحت راية القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين )).

مما سبق ذكره يتبين بأن الشريعة ليست مرفوضة كنظام للحياة أو أنها لم تصلح للتطبيق منذ 14 قرنا خلت, إنما رفضت جملة وتفصيلا لكونها ربانية المصدر من جهة وكذلك لم تدرس دراسة علمية من طرف الكثير من أبنائها المتعلمين . فالرفض سببه الجهل في الأصل لكل أحكام الشريعة الإسلامية سواء كانت عبادات ومعاملات أو حدودا وتعازير واقتصر علم الرافضين لها على ما كتبه الأعداء الغير العلميين أصلا ولا الموضوعين قطعا, لأنهم كتبوا افتراءات على الشريعة ما قال بها أحد في كتب الأصول. ولهذا سنعالج بشيء من التفصيل حكمة تشديد العقوبة في أمهات المفاسد والتخفيف في غيرها .

فأول عقوبة شددت فيها الشريعة هي:

-01 الردة : وقد سبق تعريف بهذا الحد والعقوبة المقدرة له شرعا وهي القتل بعد الإستتابة.

و لكي نعرف خطورة هذه الجريمة علينا أن نستقرأ آراء العلماء في النقاط التالية :

أ- الردة وترك الإسلام بعد الدخول طواعية فيه والإلتزام بأحكامه يؤدي حتما إلى التشكيك فيه علانية ونشر الشكوك بين المسلمين, خاصة وأن الردة عادة تكون عمالة لعدو محدد وتارة تكون لعدو مستور لغرض محاربة الإسلام بفعل الردة, وقد ثبت هذا في كثير من الوقائع حتى وصل بعض المرتدين إلى شتم الرسول “صلى الله عليه وسلم” في كتب تنشر تحت حماية الدولة المعادية للإسلام علانية وتوزع على كل الجمعيات الخيرية والمستشفيات والإدارات والمكتبات بل حتى القرى والمدن الصغيرة للإطلاع عليها مجانا.

من هذا الباب حافظ الإسلام على الدين ورفض رفض اليقين أن يتلاعب به العملاء والأعداء وأعوانهم, لذا فرض عقوبة القتل لمن لا كرامة له ولا ضمير, ولو إرتد في سره وترك الواجبات دون إعلان ولم يطلع عليه أحد فهل يطبق عليه الحد؟ طبعا كلا وكثير من النصارى عاشوا في بلدان إسلامية وأظهروا إسلامهم علانية وارتدوا مباشرة بعد الإعلان لأجل جمع المعلومات عن حقائق الإسلام والمسلمين للقضاء على المسلمين, فما تجرأ أحد عن البحث عن ردتهم رغم الدلائل الواضحة في حقهم حتى أدو الرسالة التي جاءوا من أجلها وخرجوا من تلك الدول سالمين وعند عودتهم إلى أوطانهم كتبوا كل ذلك في كتب مازال بعضها إلى يومنا هذا, مما يبين أن حقيقة الردة لا تكون إلا من عميل للعدو جند لأجل إفساد دين الناس ونشر الشبهات والشكوك حتى لا تقوم قائمة للمسلمين, وهذا الأمر معاقب عليه في كل القوانين الوضعية العالمية بلإعدام ولم يتجرأ أحد بقول بعكسها إلا عن الإسلام.

-02 جناية القتل وما يلحقها : عالج الإسلام جرائم القتل والإعتداء على النفس عامة بشدة لغرض التقليل منها في وسط المجتمع وكان هذا الهدف معروفا حتى في الجاهلية, حيث كانت العرب تقول (( القتل أنفى للقتل وبسفك الدماء تحقن الدماء )).

وقد قال ابن القيم الجوزية رحمه الله (( فلولا القصاص لفسد العالم وأهلك الناس بعضهم بعضا إبتداء واستيفاء فكان في القصاص قطع لمفسدة ( التجرء على الدماء بالجناية والإستيفاء )) .

-لقد استوفى هذا الكلام جوانب الحقيقة التي أصبحت مجهولة عند الكثير من المعارضين لتطبيق أحكام الشريعة وخاصة الحدود, والعجيب والأعجب في هذا الموضوع أن الجمعيات العالمية والوطنية وكثير من الدول تدعي التي العدالة النسبية أو حتى العدالة المطلقة حسب تعبيرها أنها ترفض قتل القاتل بحجة إزهاق روح إنسان لأنه عمل غير حضاري ويجب الإكتفاء بالسجن المؤبد ونسيت هذه الجمعيات والدول أن هناك نفسا أزهقت روحها دون عدل ودون حكم قضائي بل لا ربما ببرودة دم أو مع سبق الإصرار والترصد ولا ربما بسبب كلمة قالها للقاتل عبر بها عن شيء خاطره, هذه النفس لا تساوي عندهم شيئا ونفس مثلها ملطخة بدم الجناية يدافع عنها جاهل للصواب والمنطق والمعقول.

كما أن القود في الشريعة الإسلامية جعله الله تعالى اختيارا لذوي حقوق المقتول فلهم حق الدية مقابل العفو عن القاتل بالقود, وتعني هذه التدابير أنه إذا رضي أهل المقتول بالمال أي بدفع الدية فإن القاتل مؤمن على نفسه من الإستيفاء منه إنتقاما نظرا لرضى المتضررين بالعفو أو بالدية عوضا عن الثأر.

وصدق الله العظيم إذا قال في محكم تنزيله: ﴿ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون ﴾ .

حد شرب الخمر

الإنسان بعقله سمي إنسانا فإذا ذهب عقله أدمج في عالم الغير العاقل من الحيوان, ولذلك فكل من اعتدى على عقله بالسكر أي شرب المسكرات خمرا أو مخدرات, فإنه خرج عن المعقول الواجب عليه بقاءه عليه ويكون قد اعتدى على حرمة العقل وسلامته إضافة إلى النتائج الوخيمة التي تحدث للإنسان عندما يفقد عقله ولذلك سميت الخمر بأم الخبائث ولقد ظهرت هذه المفاسد للعلانية جراء شرب الخمر حديثا في الأرواح التي تزهق يوميا بسبب سياقة السيارات من طرف السائقين في حالة سكر, إضافة إلى الإعتداء على العرض والمال والنفس من طرف المتناولين لهذه المسكرات, ومما لا شك فيه أن المجتمع أصبح يخاف من المتناولين لهذه المواد المسكرة أكثر من المجرمين العاديين, وعلى هذا الأساس حرم الإسلام تناول ما يسكر العقل ويفقده توازنه وسيرته الطبيعية بجلد الشارب 40 أو 80 جلدة أو غيرها حسب الآراء الفقهية المذكورة في الفصل الثاني حتى لا يتسبب الإنسان في هلاك نفسه وهلاك غيره.

جريمتا الزنا والقذف : عالج الإسلام موضوع المحافظة على العرض والنسل معالجة شديدة نظرا لبشاعة المعصية وضررها على النسل والعرض اللذان يتميز بهما الإنسان عن غيره من المخلوقات الكونية, فلا كلام عن عرض الحيوان أو نسله وسلالته بل هذه خاصية للبشر دون سواهم, لكون جريمة الزنا تفقد المجتمع تماسكه فقد حرم الشارع الحكيم ممارسة الرذيلة لغرض التمتع بالشهوة في الحرام, حيث أن باب الحلال مفتوح على مصراعيه, فكل من أراد أن يمارس حياته الجنسية في ظل الشريعة والعفاف و الحلال لغرض التناسل وتربية الأجيال حتى لا تزول سلالة البشر وهو أمر طبيعي مرغب فيه بسنة المصطفى محمد “صلى الله عليه وسلم” في قوله :(( يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )) .

و قوله “صلى الله عليه وسلم: (( تزوجوا الودود الولود فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة )) .

و لكون الترغيب في الزواج مأمور به شرعا, فإن الترهيب في موضع الفساد مأمور به, فكل من سولت له نفسه ممارسة الزنا المحرم شرعا وعلانية أما الناس ولكون هذه الجريمة لا يمكن أن تثبت إلا على من مارسها بصفة دائمة, حتى أصبحت عنده عادية فيمارسها جهارا ويكشف أمره بشهادة أربعة ” 04 ” شهود يرون الفعل المحرم علانية, وسبب رؤية الزانيان معا وهذا أمر شبه.

مستحيل لا يمارس الزنا أمام أربع ” 04 ” شهود إلا إذا أراد بفعله نشر الرذيلة وليس أمرا آخر, وعلى هذا, إن كان محصنا فلا حجة له في التخفيف أصلا ويقتل رجما حتى نحافظ على المجتمع في نبله وحرمته وشرفه وهم حكم سليم وفريد للقضاء على هذه الفاحشة وإن كان غير محصن فإنه يجلد حتى لا يعود إلى ممارسة الحرام ويجتهد في إيجاد زوجة صالحة تحفظ له شرفه.

( قال تعالى: ﴿ولاتقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا ﴾. و قد نهى الإسلام عن قذف المحصنات المؤمنات بكلام يوحي إلى الزنا وجعل عقوبته شديدة حتى لا يهتك عرض ولا يتهم بريء ذكرا كان أو أنثى, فكل من سولت له نفسه إتهام الغير بالزنا يجلد مائة جلدة ولا تقبل له شهادة لغرض إزالة المنكر والكلام الفاسد في المجتمع الإسلامي الذي من المفروض أن يكون نظيفا طاهرا لا تسمع فيه ولا عليه إلا ما يسر.

المحافظة على المال المحروز : عالج الإسلام مرض حب المال في غير طرقه الشرعية علاجا فريدا من نوعه, وعندما طبقت هذه الحدود نسي الناس الإعتداء على أموالهم لانعدام الجرم بالمال لحكمة الله تعالى في خلقه وكيف لا وهو القائل في كتابه الكريم ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.

فالكثير من الناس وخاصة غير المسلمين يرى حكم قطع يد السارق وبترها أمرا غير معقول حسب تصوره و لكون حد السرقة محدد فقها وبيناه في الفعل الثاني مع تحديد السرقة بما يؤخذ من مال مملوك للغير خفية, وعليه فالمختلس للأموال العامة أو خزائن الأمانة أو غيرها لا تقطع يده وإنما حكمه في التعزير حسب ما يراه الحاكم رادعا للفاعل ولغيره على ضوء الأحكام الشرعية العامة و قد حرم الله السرقة لكون المال هو أساس الحياة, فمن إعتدى على مال الغير فهذا يعني أنه إعتدى على حيام, وعادة ما يكون السارق معتد على المال ثم إن وجد من يمنعه إعتدى على حياته و لأجل ذلك عالجت الشريعة الإسلامية هذه الظاهرة المخيفة علاجا قطعيا, بحيث لا يستطيع السارق التقرب إلى مال غيره إلا نادرا لكون عقوبة قطع اليد جديرة بحرمة المال وصاحبه وتغليظ الحرمة مال الغير لقول الرسول “صلى الله عليه وسلم” لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )).

و بهذه الشدة عالج الإسلام أخذ أموال الغير خفية والإستيلاء عليها مع ترك العمل والإسترزاق لكونه متعب, فإذا علم السارق بأن اليد التي تعمل يبارك الله فيها وجزاء صاحبها في الدنيا معزة بين أهله وقومه وفي الآخرة جنة الرحمان لأهل الإيمان, كان هذا حافزا له على العمل المشروع, أما إذا فكر في الربح السريع دون عناء ولا مشقة فإنه سيفكر في كل لحظة جزاء فعلته إذا انكشف أمره, بحيث تصبح يده معدومة فلا يستطيع العمل بعد ذلك ويعرف في كل مكان ومدى الحياة على أنه سارق غير صالح للمجتمع.

ذا العلاج تم القضاء الشبه ائي في الأمة الإسلامية على ظاهرة السرقة ولمدة ” 14 قرنا ” وإلى غاية اليوم في بعض الدول, حيث الأموال متروكة في الأسواق ولا يمد أحد يده عليها إلى يومنا هذا لكوا تطبق الحدود الشرعية .

وبهذا تكون غاية العقوبة عامة في الشريعة الإسلامية هي القضاء على الإجرام قضاء شبه نهائي.

ومن رحمة الله تعالى أنه جعل ما دون هذه الحدود جرائم يعزر عنها حسب الشخص وأحواله وظروفه, فهناك كثير من المعاصي إذا عثر الصالح فيها ووصل إلى علم الحاكم فقد يوبخ بكلام أو ينصح بعدم العودة لمثله ثم تخلى سبيله، أما المعتاد عن المعاصي فقد يحبس أو يجلد أو يقتل سياسة إن كان صلاحه مستحيلا وفساده في المجتمع مستعصيا.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت