الغلط في تقدير جسامة النتيجة

المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

النتيجة هي ثمرة عوامل تسهم في بلوغها، تعمل باتجاه مضاد للعوامل الحائلة دون بلوغها؛ فتتفاعل العوامل الأولى ومن بينها سلوك الجاني بغية الإنتهاء من صوغ نتيجة اجرامية معينة. وطبقاً للحالة والقدرة التي تكون عليها العوامل الأولى المسهمة أو العوامل المضــــادة الحائلة تكون النتيجة محتملة أو ممكنة أو اكيدة الحدوث (1) .وسلوك الإنسان يكون سبباً لحدوث نتيجة ما اذا ما توافرت فيه وقت اتيانه، فضلاً عن الظروف السابقة أو المعاصرة له أو المتوقع ان تكون لاحقة عليه، صلاحية احداث هذه النتيجة، أي أن يتضمن سلوكه ((خطر)) وقوعها. وعلى ذلك يكون المعيار الذي يصلح أن يتخذ أساساً للحكم على احتمالية وقوع النتيجة ((موضوعياً)) (2) ،مع النظر الى القدرات والقابليات التي يتمتع بها الشخص الاعتيادي من الطبقة التي ينتمي اليها الجاني نفسها(3) .بالقياس الى الظروف والملابسات التي أحاطت بالاثنين (4) . و

إن النتيجة بعد ذلك ماهي الا حدث منظور اليه من زاوية السببية، تنبثق من سلوكٍ يعد ((سبباً)) بالمعنى القانوني، ولما كانت الرابطة التي تربط مابين الفعل أو الامتناع والنتيجة الجسيمة لابد من أن تكون رابطة سببية ينظر اليها بمعيار ((الاحتمال)) أو ((الاعتيادي)) من الأمور – على وفق نظرية السببية الكافية- فإنه يمكن القول بأن النتيجة الجسيمة في الجريمة ذات النتيجة التي تتعدى حدود القصد قد وقعت نتيجة لارتكاب ذلك الفعل أو الامتناع، ومن ثم يمكن نسبته الى الجاني على اساس اتصاله بسلوكه برابطة السببية المادية (5) . والحقيقة، أن النتيجة الجسيمة التي تتعدى قصد الجاني تكون في أغلب الأحيان ((نتيجة محتملة)) يمكن ويفترض توقعها، ترتبط بسببية مادية مع السلوك لاسيما في حالة المساهمة الجنائية، ولا تنصرف الارادة الى تحقيقها. أما ((القصد الاحتمالي)) وهو ما ذاع الخلط بينه وبين النتيجة المحتملة، فهو أمر شخصي يقدره ويتوقعه الفاعل لحظة الواقعة ولا يتعداه الى غيره، وهو صورة من صور العمد يتعلق بارادة الجاني وانصراف قصده الى تحقيق النتيجة الجسمية على نحو غير مباشر. وبمعنى أكثر وضوحا أن الفرق بين ((النتيجة المحتملة)) و((القصد الاحتمالي)) هو الفرق بين ((وقوع الشئ)) على وفق معيار الاحتمال و((ارادة وقوع الشئ)) على وفق معيار العمد (6).الأمر الذي نستظهر منه أن النتيجة المحتملة التي استحالت الى نتيجة جسيمة إنما ترتبط بسببية مادية مع سلوك الجاني ولا علاقة لارادته أو توقعه في وقوع تلك النتيجة الجسيمة. ومن ثم فإن الغلـــــــــــــــط فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي تقدير النتيجة التي أرادها واستحالت الى نتيجة جسمية لم يتوقعها ولم يقصدها لا يؤثر في قيام القصد الجرمي بين فعله والنتيجة الأولى التي أرادها، إنما يؤثر في قيام القصد بين فعله والنتيجة الجسيمة التي حصلت ولم يتصورها، ومع ذلك فان ذلك الغلط لايؤثر في تحميل الفاعل مسؤولية غير عمدية عن تلك النتيجة الجسيمة التي أساء تقدير وقوعها وغلط في تخمين حصولها أثراً لفعله نتيجة إندفاعة وقلة احترازه.

وعلى الرغم من الاتفاق على صحة الرأي القائل بأن القانون يحمل الفاعل عبء المسؤولية عن النتائج المتجاوزة قصده، لمجرد ثبوت السببية بين السلــوك الذي ارتكبه وتلك النتائج (7) ،الا أن ذلك لا يعني أن أساس المسؤولية عن هذا النوع من النتائج هو رابطة السببية، لأن ذلك يعارض المبادئ التي يقوم على أساسها الفكر الجنائي الحديث، اذ يقيم المسؤولية دائماًُ على أساس الخطأ والعمد تحقيقاً للعدالة (8) .وهكذا يعد القصد ((المتعدي))، بصفته صورة من صور النتيجة المحتملة وليس القصد الاحتمالي، خليطاً من القصد الجنائي أو العمد و الخطأ.

وهذه هي ((نظرية اجتماع القصد والخطأ))، وتتلخص في أن هناك جرائم محددة يتحد فيها القصد الجرمي مع الخطأ في سلوك إنساني واحد، حين تتجه ارادة الفاعل الى احداث نتيجة اجرامية معينة فتحدث نتيجة أشدّ جسامة مما أرادها، فيقوم العمد في الأولى، ويقوم الخطأ في الأخرى (9) ؛ فالقصد ((المتعدي)) يمثل اتجاهاً ارادياً لاحداث نتيجة اجرامية معينة اتّحد به خطأ في تجنب حدوث نتيجة اجرامية تتجاوز ما اتجهت ارادة الفاعل الى تحقيقه أصلاً (10) ؛فالفاعل قد اعتقد على سبيل الغلط في التقدير والتنفيذ أن فعله لن يفضي الى تلك النتيجة الجسيمة. وهذا الاتحاد بين القصد الجرمي والخطأ تتولد عنه صورة جديدة من صور الرابطة النفسية تسمى القصد ((المتعدي)) (11) ،يكون أقل من العمد، لأن ارادة الفاعل لم تتجه الى احداث النتيجة الجسيمة، وأكبر من الخطأ، لأن ارادة الفاعل قد إنصرفت الى تحقيق نتيجة أقل جسامة من النتيجة التي حصــــــلت (12) .

على الرغم من الاتفاق على أن أساس المسؤولية الجنائية عن النتائج المتجاوزة قصد الفاعل يرجع الى اجتماع القصد – في النتيجة التي استهدفها الفاعل بسلوكه الاجرامي – والخطأ – في النتيجة التي حدثت تجاوزاً لما قصد – الا أن الاختلاف والخلاف يكمن في تحديد مصدر ((الخطأ)) في النتيجة التي تجاوزت قصد الفاعل. وقد كان في الأمر عدّة آراء نقتضبها كما يأتي:-

الرأي الأول – يرجع مصدر الخطأ الى اهمال الفاعل في عدم اتخاذ الاحتياطات الكافية لمنع حدوث النتيجة الجسيمة على الرغم من ادراكه لرابطة السببية بين السلوك الذي ارتكبه وتلك النتيجة (13) .وهو رأي منتقد لانه اهمل الصورة الثانية للخطأ وهي (الخطأ بدون توقع)، كما إنه لم يحدد الموقف النفسي للفاعل بازاء ذلك التوقع (14) .

الرأي الثاني – يذهب الى ارجاع مصدر الخطأ الى عدم توقع الفاعل للنتيجة، بالرغم من قدرته على توقعها. على اعتبار أنه ليس هناك الا صورة واحدة للخطأ هي الخـطأ بدون توقع (15) .وهو رأي منتقد يقصر الخطأ على حالة واحدة خلافاً لما استقر عليه الفقه والقضاء.

الرأي الثالث – ذهب هذا الرأي الى ارجاع مصدر الخطأ الى مخالفة الفاعل للقوانين، وتتحقق المخالفة بمجرد قيام الفاعل بارتكاب السلوك الاجرامي مستهدفاً تحقيق النتيجة الاجرامية البسيطة، دون عناء البحث في مدى توافر الخطأ في النتيجة المتجاوزة، والاكتفاء بتوافر السببية بين سلوك الفاعل وهذه النتيجة (16) .ويرد عليه بأن القواعد الجنائية المتعلقة بالنتيجة البسيطة في حالة القصد ((المتعدي)) هي قواعد ذات وظيفة جزائية عقابية تتعلق بجرائم عمدية تقرر جزاءً لمن ارتكب تلك الجرائم بوصف العمد ولا تنحصر في القوانين الوقائية (17) .

الرأي الرابع – ويعزو مصدر الخطأ هنا الى عدم قيام الفاعل بواجب التحرز الممكن والكافي لتجنب حدوث تلك النتيجة، فعلى الرغم من أن الفاعل لا يريد احداث تلك النتيجة، بل إنه قد لا يتوقعها أصلاً، الا أن السلوك الذي ارتكبه يتضمن خطر حدوثها، وثم إن هذه النتيجة تسند الى خطأ الفاعل الكامن في ارادة السلوك الخطر الذي ارتكبه الفاعل تحقيقاً للنتيجة الاجـــــرامية البسيـــــــــــــــــــــــــــــــطة (18) .

وبالرغم من إنسجام الرأي الأخير مع روح النصوص التشريعية التي تحمل الجاني عبء المسؤولية عن هذه النتائج من دون أن تتطلب اثبات توافر الخطأ في حقه، على اعتبار أن معيار اثبات توافر الخطأ هو نفسه معيار اثبار توافر رابطة السببية، وثم إن الخطأ لا ينتفي الا في حالة إنقطاع السببية أو إنتفائها. والبحث عن رابطة السببية يسبق البحث عن الخطأ، ومن ثم فلا حاجة للبحث عن توافر الأخير (19) .

نقول على الرغم من كل ذلك، فإن مصدر الخطأ في النتائج المتعدية قصد الفاعل على وفق تصوّرنا يمكن ارجاعه الى تقصير الفاعل في تقدير عدة أمور مصاحبة لفعله، كالوسيلة المستعملة في الاعتداء ومكان الاصابة وتكرارها وشدتها ووقتها وحالة المجني عليه وغيرها، الأمر الذي قاد الى تقصير في تقدير الاصابة برمتها وغلط في توقع النتيجة حين اعتقد بناءً على الطيش وقلة الخبرة وعدم الدراية وعدم التحوّط بأن النتيجة ستقع بسيطة ويسيرة مثلما توقعها فوقعت جسيمة. وهنا اختلّت واختلفت المصلحة التي وفّر لها القانون حمايته من ((الحق في سلامة الجسم)) الى ((الحق في الحياة)) الأمر الذي اختلّت معه المسؤولية ونقصت من العمد عن الجريمة برمتها الى العمد مع الخطأ عنها في (النتيجة متعدية القصد).

وفي هذا السياق قضت محكمة التمييز في العراق أنه ((يعتبر ضرب المتهم المجني عليه بحجر على خاصرته دون قصد قتله ووفاة المجني عليه جراء ذلك ضرباً مفضياً الى الموت))(20) ،و((اذا كانت الاضرار التي أنزلت بالمجني عليه لم تنتج الموت بل انها أدت الى اضعاف مقاومته والتعجيل بوفاته لما صاحبها من إنفعال واضعاف في المقاومة الجسمية بسبب سبق اصابته بالمرض فإن الجريمة ليست قتلاً عمداً بل ضرباً افضى الى الموت))(21) و((إن ضرب المجني عليه بطابوقة من مسافة بضعة امتار ووفاته بسبب ذلك يعتبر ضرباً مفضياً الى الموت))(22) ،و((اذا لم يحدث الموت من الاصابة مباشرة بل من التهاب السحايا الذي أعقب الاصابة كأختلاط لها فتكون الجريمة ضرباً مفضياً الى الموت))(23) و((اذا سببت الضربة باليد على الرأس الوفاة نتيجة حدوث نزف في السحايا وبطبقات الدماغ فيسأل الفاعــل عن الضرب المفضي الى الموت وإن أهمل المجني عليه العلاج بصورة غير عمدية))(24) ،و((اذا قرر الأطباء أن الضرب باليد قد يسبب وفاة المجني عليه المصاب بأمراض قلبية فإن المتهم يسأل عن جريمة الضرب المفضي الى الموت اذا أحدث الضرب موت المجني عليه المصاب بتلك الأمراض (المادتان/29 و 410 عقوبات) ))(25) ،و((اذا رفس المتهم الطباخ النفطي والقدر الذي كان عليه باتجاه أمّه فأدى ذلك الى موتها دون أن يقصد قتلها فيكون فعله ضرباً مفضياً الى الموت ينطبق على المادة/410 عقوبات))(26) ،و ((اذا اعتدى المجني عليه على أخته المتهمة بالضرب أثناء قيامها بتقطيع اللحم في المطبخ فطعنته بسكين صغير في صدره طعنة واحدة لرد اعتدائه دون أن تقصد قتله فأدى ذلك الى وفاته فيعتبر فعل المتهمة ضرباً أفضى الى الموت وفق المادة /410 من قانون العقوبات))(27) .

______________________

1- د. محمود نجيب حسني-النظرية العامة للقصد الجنائي-دار النهضة العربية-القاهرة-1978 ص222 ومابعدها.

2- د. رؤوف عبيد–السببية الجنائية بين الفقه والقضاء–ط/4–مطبعة الاستقلال الكبرى/القاهرة–1984–ص127 ومابعدها.

3- د. عبد المهيمن بكر- القصد الجنائي في القانون المصري والمقارن-كلية القانون في جامعة عين شمس-1959– ص 6 ومابعدها.

4- د. رمسيس بهنام – نظرية التجريم في القانون الجنائي – معيار سلطة العقاب تشريعياً وتطبيقياً – منشأة المعارف / الاسكندرية – 1971 – ص145.

5- د. جلال ثروت-نظرية الجريمة المتعدية القصد في القانون المصري والمقارن-دار المعارف-مطبعة معهد دون بوسكو/الأسكندرية – ص 198.

6- المصدر السابق – ص 201

7- Soccoro (E.L.):”Le de’lit preterintentionnel et son application en driot penal venzuelien”- these pour le Doctoral de 1’Universite’ de Paris،Section Dorit penal،juin،1962-p.35.

ويُنظر د. عمر سعيد رمضان – شرح قانون العقوبات القسم العام – دار النهضة العربية /القاهرة – 1995-ص172

8- د. أبو المجد على عيسى – القصد الجنائي الاحتمالي – دراسة تحليلية تأصيلية مقارنة-ط/1-دار النهضة العربية /القاهرة -1988-ص386.

9 Jean Pradel- driot penal-Tom1-Introduction generale-q edition- Editions Paris-1994–P.490.Soccoro(E.L.)-OP.cit.-P.69.

10- د.– قانون العقوبات ،المصدر السابق – ص 826.

11- د. احمد فتحي سرور–الوسيط في قانون العقوبات القسم العام–ط/6– دارالنهضة العربية/القاهرة–1996–ص360.

12- Soccoro(E.L.)-OP.cit.-P.69-

13- Soccoro(E.L.)-OP.cit.-P.69-70 –

14- Jimenez de Asua (Luis):”L’infraction preterintentionnelle-Revue de Science –

Criminelle et de Droit penel Compare-t،xv-Toulouse-F.Boisseau 1980-P.571

15- -Luis Jimenez de Asua-OP.cit.-P.574

16- د. جلال ثروت – نظرية الجريمة المتعدية القصد – ص309 ومابعدها.

17- د. مأمون محمد سلامة-قانون العقوبات/القسم العام/الجريمة-ط2-ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي ودار غريب للطباعة-القاهرة-1976.وللمؤلف نفسه-شرح قانون العقوبات/القسم العام-دار النهضة العربية-القاهرة-1991- ص346.

18- د. رمسيس بهنام – قانون العقوبات القسم العام – ص824

19- مجيد خضر أحمد-الرابطة السببية في القانون الجنائي-رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون في جامعة بغداد-آب-1999– ص275.

20- قرار رقم 2360/جنايات/72 في 12/10/1972 – النشرة القضائية – العدد الرابع – السنة الثالثة – ص241

21- قرار رقم 2531/جنايات/72 في 23/12/1972 – النشرة القضائية – العدد الرابع – السنة الثالثة – ص241

22- قرار رقم 1007/جنايات/73 في 8/8/1973 – النشرة القضائية – العدد الثالث – السنة الرابعة – ص373 والقرار رقم 28/جنايات/76 في 22/2/1976 – مجموعة الأحكام العدلية–العدد الأول– السنة السابعة– ص301

23- قرار رقم 3863/جنايات/72 في 12/8/1973 – النشرة القضائية – العدد الثالث – السنة الرابعة– ص374

24- قرار رقم 2698/جنايات/73 في 22/12/1973 – النشرة القضائية – العدد الرابع – السنة الرابعة– ص459 وقرار رقم 2857/جنايات/74 في 1974 – مجموعة الأحكام العدلية– العدد الثاني – السنة السادسة – ص267

25- قرار رقم 2793/جنايات/75 في31/3/1976–مجموعة الاحكام العدلية–العدد الأول–السنة السابعة– ص302

26- قرار رقم 876/جنايات/76 في 28/2/1977 – مجموعة الاحكام العدلية–العدد الأول-السنة الثامنة– ص254

27- قرار رقم 395/جنايات أولى/77 في 24/12/1977 – مجموعة الاحكام العدلية – العددان الثالث والرابع – السنة الثامنة– ص259.