جرائم العنف الجنسي في القانون الدولي

العنف الجنسي من الممارسات الجرمية الموغلة في التاريخ، التي كانت تمارس بالأساس في الحروب، دون أن تكون هناك عوائق خلقية أو عرفية تمنعها. ولكن مع تطور الحسّ الإنساني، وتقنين الممارسات التي يسمح بها في الحروب، وتلك التي يمنع قيامها، أصبحت ممارسات العنف الجنسي من الممارسات المرفوضة. ورغم ذلك لم تتم معالجة ممارسات العنف الجنسي في القانون الدولي بشكل جدّي، واعتبرت من ممارسات التعدّي أو الاضطهاد، دون أن يتم التعامل معها على أنها فعلاً ممارسات جرمية مستقلة، ذات خصوصية في أركانها. ولعل سبب هذا التغاضي عن معاملة هذه الجريمة بمثل الجدية التي تمت فيها معالجة جرائم الاستعباد أو التعذيب أو غيرها من الجرائم، هو أن القوانين المحلية والأنظمة القضائية الوطنية لم تتمكن أساساً، وحتى وقت قريب، من التعامل مع هذه الجريمة بشكل جدّي ومستقل عن أركان الجرائم الأخرى، وخاصة أن قضايا العنف الجنسي تتعلق عموماً بقضايا الاغتصاب ضد المرأة، التي لم تكن الأجهزة القضائية والتنفيذية منصفة بحقها حتى الأزمنة الحديثة.

وفي القرن السابع عشر اعتبر قاضي القضاة البريطاني السير ماثيو هيل أن “الاغتصاب اتهام من السهل توجيهه ومن الصعب إثباته، ومن الأصعب الدفاع عن المتهم فيه […]. وفي حالة الاغتصاب، فإن الضحية هو الذي يحاكم وليس المدّعي عليه”. ولأن المؤسسات الحاكمة بطابعها السائد هي مؤسسات ذكورية، وخاصة في مجال القضاء والتنفيذ القضائي، كالشرطة وأجهزة الأمن، فإن معاملة اتهامات الاغتصاب لم تعالج بما تقتضيه من رصانة يتطلبها العمل القانوني، بل تم التغاضي عنها بشكل عام، إلا إذا كانت ممارسات قامت بشكل فاضح. ولهذا السبب ظلت وضعية إلقاء اللوم على الضحية مستمرة حتى القرن العشرين، عندما بدأت محاولات إصلاح الأجهزة القضائية الخاصة بالعنف ضد المرأة، وخصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومع تطور وإصلاح الأجهزة القضائية الوطنية، بدأ التطور في القانون الدولي، باعتبار قضايا العنف الجنسي، وخاصة الاغتصاب، قضايا جرمية يعالجها الكثير من المواثيق الدولية باعتبارها جرائم دولية، إن كان ذلك ضمن جرائم الإبادة أو ضمن الجرائم ضد الإنسانية أو ضمن جرائم الحرب. وعلى هذا الأساس، رأينا أن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا مثلاً تعتبر الاغتصاب إحدى الوسائل المرفوضة في الحرب، وهي التي ترقى إلى مستوى الجريمة الدولية في ممارسات الإبادة الجماعية. ومع كل هذا، ما تزال هناك ثغرة واسعة في معالجة قضايا العنف الجنسي في القانون الدولي، نظراً إلى أن الملاحقات القضائية الدولية حديثة العهد، وتظل قضايا العنف ضد المرأة فيها في مرتبة ثانوية، وخصوصاً لنقص الكادر النسائي الذي يمكن أن يتولى هذه القضايا ويعالجها، في الوقت التي تتردد فيه النساء المغتصبات عن الحديث عن معاناتهن من الرجال، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التحيز ونقص مقدرة فهم هذه المعاناة من قبل الرجال، أبقت العنف الجنسي في الكثير من الحالات بعيداً عن ساحات المحاكم، ولم يحدث التغير إلا تدريجياً، وفي نهايات القرن العشرين. وفي كل الأحوال، تظل معالجة الاغتصاب والأشكال الأخرى المختلفة من العنف الجنسي تدخل في باب الاعتداء على شرف المرأة عموماً، دون أن تتطرق إلى أن هذه الاعتداءات هي تعديات على الخصوصية الجسدية للمرأة. ومعالجة قضايا العنف الجنسي باعتبارها مجرد اعتداء على شرف المرأة يقلّل من خطورتها الجرمية، ويضعها في مرتبة أقل من مرتبة باقي الجرائم الدولية.

ومهما كانت طريقة معالجة جرائم العنف الجنسي، تظل هذه الجرائم من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي يحاسب عليها القانون الدولي ويلاحقها القضاء الجنائي الدولي، حيث إن جرائم العنف الجنسي في حالات النزاع المسلح الدولية وغير الدولية تعتبر خرقاً واضحاً للقانون الدولي، ويحاسب مقترفوها إما على أساس ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، أو حتى جرائم إبادة جماعية، حسب الحالة التي قامت فيها الجريمة والأركان التي شملتها عند اقترافها. ففي بعض الحالات، تعتبر هذه الجرائم ضمن جرائم الإبادة الجماعية، وذلك حسبما تنصّ عليه “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. وما يميز اعتبار هذه الجرائم كجرائم إبادة جماعية هو سوء النية والقصد الجرمي لدى مقترفيها، وليس اتساع نطاق ممارستها أو تكرارها بشكل كبير، أي إذا اقترفت بقصد القضاء الكلي أو الجزئي على جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها تلك. وإذا تم إثبات أن مقترفي جرائم الاغتصاب أو أي من جرائم العنف الجنسي الأخرى، ارتكبوا هذه الأفعال بقصد التسبب بأذى جسدي أو ذهني من أجل القضاء على الجماعة كلياً أو جزئياً، فإن هذه الجرائم تعتبر بشكل فوري جرائم إبادة جماعية، وهذه الأفعال تشمل الاغتصاب أو استئصال الأعضاء التناسلية والجنسية أو الاستعباد الجنسي، وذلك تفسيراً لنصّ الفقرة (ب) من المادة (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تعتبر أن “إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة” هو من بعض الأفعال التي تقوم عليها جريمة الإبادة الجماعية. ولكن حتى يمكن اعتبار أن هذه الممارسات تقوم على أساس الإبادة الجماعية، يجب أولاً إثبات أن هناك نية وخطة لهذه الإبادة، وأن هذه الأفعال من العنف الجنسي اقترفت بهذا القصد بالذات، وليس مجرد اقتراف هذه الأفعال بشكل عشوائي واسع، في الوقت التي كانت تجري فيه ممارسات أخرى ضمن خطة ونية جريمة الإبادة الجماعية.

ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون الانتشار الواسع في اقتراف هذه الأفعال من جرائم العنف الجنسي هو جزء من منهجية اضطهاد جماعة ما، دون قصد القضاء الكلي عليها، بل بقصد التطهير العرقي مثلاً، أو إخضاع الجماعة لسيطرة جماعة أخرى أقوى منها. وهنا تعتبر هذه الجرائم من ضمن الجرائم ضد الإنسانية، لأن سوء النية والقصد الجرمي اختلفا عما هو مطلوب لاعتبار هذه الأفعال من جرائم الإبادة الجماعية. ويمكن اعتبار هذه الجرائم من الجرائم ضد الإنسانية بغضّ النظر إن كانت قد اقترفت في زمن الحرب أو السلم. فالجرائم ضد الإنسانية هي الجرائم التي تقترف ضمن مخطط الاضطهاد ضد جماعة عرقية أو قومية أو دينية أو إثنية، أو حتى سياسية، في أي زمن كان، سواء كان ذلك في أوقات النزاعات المسلحة، أو ضمن مخططات السلطة القائمة ضد أقليات تقع تحت سيطرتها وتكون خاضعة لسيادة دولة تلك السلطة في زمن السلم. وفي هذه الحالة يعتبر الاغتصاب أو أي فعل آخر من أفعال العنف الجنسي جريمة ضد الإنسانية، مثله مثل القتل والإبادة والاستعباد وحجز الحريات والتعذيب والاضطهاد، سواء اقترفت هذه الجرائم على خلفية سياسية أو عرقية أو دينية، طالما أن هذه الأفعال تقترف بشكل منهجي واسع ضد جماعة ما من السكان.

ولم تكن جرائم العنف الجنسي على الدوام من ضمن الجرائم ضد الإنسانية، ففي الفقرة (ج) من المادة (6) لميثاق لندن الذي أقيمت على أساسه المحكمة العسكرية الدولية في نورمبورغ، وكذلك في الفقرة (ج) من المادة (5) لميثاق طوكيو للمحكمة العسكرية الدولية هناك، وهي المادة التي تتحدث عن الجرائم ضد الإنسانية في كلا الميثاقين، تم الحديث بشكل عام عن “الأعمال اللاإنسانية الأخرى”، دون الإشارة إلى جرائم العنف الجنسي بوضوح. ولكنها اعتبرت ضمناً من الجرائم ضد الإنسانية، باعتبار أن “المبادئ العامة للقانون” تعتبر أن الاغتصاب وباقي أشكال العنف الجنسي تشكّل بوضوح أعمالاً لاإنسانية، تتم المحاسبة عليها.

أما في حالات الحرب، فإن جريمة الاغتصاب لم تكن دوماً تعتبر من جرائم الحرب، إذا اقترفها الجنود في أثناء العمليات الحربية أو بعد توقفها. ولكن مع مرور الزمن أصبحت تدريجياً خارج نطاق أعراف القتال، وأصبح الاغتصاب من الجرائم التي يعاقَب عليها مقترفوها. وحتى توتيلا الأستروغوتي الذي احتل روما سنة 546م منع جنوده من اغتصاب نساء روما، وكان عمله هذا مميزاً وفريداً من نوعه في ذلك العصر الذي كان الاغتصاب يعتبر من حق الجنود المنتصرين، مثله مثل السلب واقتسام الغنائم والسبايا. وقد تطور الأمر لاحقاً، حتى أصبحت عقوبة الجنود الذين يقومون بالاغتصاب في إنكلترا هي الإعدام أيام الملك ريتشارد الثاني (1385م) والملك هنري الخامس (1419م). ومع ذلك، لم يصبح هذا عرفاً دولياً في أثناء الحروب، ولم يتم تقبل تجريم الاغتصاب في الحروب حتى القرن السابع عشر، ولم تتم عملية تقنين هذه الأعراف الخاصة بالحرب، بما في ذلك منع الاغتصاب، إلا في القرن الثامن عشر. وفي سنة 1863 جاءت لائحة “ليبر” الأمريكية لتعتبر الاغتصاب من الجرائم الكبرى. ورغم أن لائحة “ليبر” كانت لائحة وطنية وليست دولية، إلا أنها كانت أحد الأسس المهمة لاحقاً لتقنين الأعراف الدولية ولصياغة القانون الدولي الخاص بالحرب، وخصوصاً اتفاقيات جنيف لاحقاً. وقد نصّت المادة الرابعة والأربعين من لائحة “ليبر” على أنه “يمنع كل عنف مفرط ضد الأفراد في البلاد التي يتم غزوها… [وكذلك] أي اغتصاب أو جرح أو تشويه أو قتل لمثل هؤلاء السكان، تحت طائلة عقوبة الإعدام أو عقوبة قاسية أخرى مماثلة”.

ورغم أن الاغتصاب أصبح يعتبر جريمة طبقاً للقانون العرفي الدولي، إلا أنه لم يتم تحديده أو أي من جرائم العنف الجنسي الأخرى كجرائم حرب ضمن اتفاقيتي لاهاي لسنتي 1899 و1907، ولكن لاحقاً أصبحت من الجرائم التي شملتها اتفاقيات جنيف سنة 1949. كما أن الاغتصاب وجرائم العنف الجنسي الأخرى وردت ضمناً وحرّمت في العديد من الاتفاقيات الدولية بعد اتفاقيتي لاهاي، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية الخاصة بالرق والممارسات الشبيهة بالرق، واتفاقية استئصال كافة أشكال التمييز العنصري، واتفاقية استئصال التمييز ضد المرأة، واتفاقية منع التعذيب. واعتبر الاغتصاب على أنه نوع من أنواع التعذيب الجسدي أساساً، ولكن كذلك على أنه من أنواع المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، مما يسبب معاناة كبيرة وألماً وأضراراً جسدية وصحية ونفسية. كما أن اتفاقية حماية حقوق الطفل تنصّ على حق الطفل بالتحرر من التعذيب والاستغلال الجنسي، وهو ما يشمل ضمناً الاغتصاب وباقي أشكال العنف الجنسي. وعلى هذا الأساس، يعتبر القانون الدولي الإنساني تحديداً أو ضمناً أن الاغتصاب وكافة أشكال العنف الجنسي الأخرى هي جرائم حرب إذا ما اقترفت في أثناء النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، دون أن تكون هناك منهجية وقصد جرمي لاقتراف هذه الأفعال، لاعتبارها جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية. وهذا ما نصت عليه بوضوح اتفاقيات جنيف لسنة 1949 وبروتوكولاتها التكميلية.

وليس هناك مبرر عسكري لجرائم العنف الجنسي، لا في زمن الحرب، ولا في زمن السلم، وهي تعتبر دائماً جريمة في اللوائح القانونية الوطنية، وبالتالي أصبحت جريمة دولية من ضمن القانون العرفي الدولي. ولأنها أصبحت من ضمن الجرائم الدولية، نصّ القانون الدولي على أن على قوات الاحتلال واجب الحفاظ على النظام العام ومنع الجرائم والمحافظة على سلامة السكان واحترام حقوقهم الأساسية، ومن ضمنها منع الاغتصاب وباقي جرائم العنف الجنسي في المناطق التي تحتلها، حتى لو اقترف تلك الجرائم أفراد من المجتمعات المحلية الخاضعة للاحتلال. واتفاقية جنيف الرابعة تنصّ بوضوح على مسؤولية قوات الاحتلال في المناطق المحتلة، ومنها الحفاظ على النظام العام ومنع الجرائم، فهي المسؤولة دولياً عما يجري في تلك المناطق المحتلة، بغضّ النظر عمّن يقترف الجرائم. وعلى هذا الأساس نصّت اتفاقية جنيف الرابعة على مسؤولية قوات الاحتلال في منح الحماية بشكل خاص للنساء من التعرّض لشرفهن، وخصوصاً عمليات الاغتصاب أو البغاء القسري أو أي شكل آخر من العنف الجنسي.
ومسؤولية القوات المحتلة أن ترى أن النظام العام قائم، وأن لا تتم أية تعديات على النساء، ضمن هذه المسؤولية الملقاة على عاتق قوات الاحتلال في كل المناطق المحتلة الخاضعة لسيطرتها. وليس هناك ما يبرر عدم قيام قوات الاحتلال بواجبها بمنع الاعتداءات على الأفراد، وخصوصاً على النساء.

وإذا ما رجعنا إلى المذكرة التفسيرية لأركان الجرائم لنرى ماذا تقول عن الجرائم الخمس للعنف الجنسي، نرى أنها تأخذ هذه الجرائم بتسلسلها كما وردت في الفقرة (1/ز) من المادة (7) من نظام روما، وتعرّف أركان الجرائم لكل منها، فتبدأ بالاغتصاب أولاً الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية، فتحددت في “1- أن يعتدي مرتكب الجريمة على جسد شخص بأن يأتي سلوكاً ينشأ عنه إيلاج عضو جنسي في أي جزء من جسد الضحية أو جسد مرتكب الجريمة، أو ينشأ عنه إيلاج أي جسم أو أي عضو آخر في الجسد في شرج الضحية أو فتحة جهازها التناسلي مهما كان هذا الإيلاج طفيفاً [؛] 2- أن يرتكب الاعتداء باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها أو بالقسر، من قبيل ما ينجم عن الخوف من تعرض ذلك الشخص أو الغير للعنف أو الإكراه أو الاحتجاز أو الاضطهاد النفسي أو إساءة استعمال السلطة، أو باستغلال بيئة قسرية، أو يرتكب الاعتداء على شخص يعجز عن التعبير عن حقيقة رضاه”. وهنا نرى أن التحديد تصويري دقيق، وعام ليشمل الاعتداء على الأنثى أو الذكر من قبل أنثى أو ذكر. ولكن الأهم هو تحديد كيف يرتكب هذا الاعتداء، وكيف يمكن أن يعتبر الاعتداء جريمة اغتصاب، وتحديد ذلك باستعمال القوة أو التهديد أو بالقسر، واعتبار أن القسر يشمل الخوف من الاعتداء على الضحية أو على الغير ممن لهم علاقة بالضحية ليكون ذلك سبباً لاعتبار العمل اغتصاباً، ومن ثم اعتباره جريمة ضد الإنسانية إذا ما توفر ركنا المنهجية وسوء النية.

والجريمة الأخرى من جرائم العنف الجنسي هي جريمة الاستعباد الجنسي. ورغم أننا أوضحنا أكثر عن الاستعباد عندما تحدثنا عن العبودية بشكل عام، باعتبار الاستعباد الجنسي شكلاً حديثاً من أشكال العبودية المعاصرة، إلا أننا هنا نربط هذا الاستعباد بركني المنهجية ضد جماعة ما، وبسوء النية لاقتراف العمل ضمن هذه المنهجية. وتوضح المذكرة التفسيرية لنظام روما الاستعباد الجنسي كجريمة ضد الإنسانية على أنها تعني “1- أن يمارس مرتكب الجريمة إحدى أو جميع السلطات المتصلة بالحق في ملكية شخص أو أشخاص كأن يشتريهم أو يبيعهم أو يقايضهم أو كأن يفرض عليهم ما يماثل ذلك من معاملة سالبة للحرية [؛]
2- أن يدفع مرتكب الجريمة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص إلى ممارسة فعل أو أكثر من الأفعال ذات الطابع الجنسي”. وكما هو واضح، فهذه المادة تتحدث بوضوح عن العبودية بمعناها المتعارف عليه دولياً، ولكنها تضيف إليها الممارسات الجنسية بالتحديد، وهو ما يمثل عادة التعريف العام للعبودية. وما يميّزها من الممارسة العادية للعبودية هما ركنا المنهجية في اقتراف العمل ضد الجماعة، وسوء النية بمعرفة أن هذا العمل ضمن المنهجية ضد الجماعة. وهذا الاستعباد الجنسي لا يختلف عن العبودية الجنسية الحديثة المعروفة، التي تحرّمها المواثيق الجنسية وتعتبرها من الجرائم الدولية.

ولعل جريمة الاستعباد الجنسي المعرّف دولياً تظهر أكثر في الجريمة الثالثة من جرائم العنف الجنسي، وهي جريمة الإكراه على البغاء، التي حدّدت المذكرة التفسيرية أركانها بالإضافة إلى الركنين الموحّدين، على أنها بغاء منظم بالإكراه ويأخذ شكل العبودية، ولكن يزيد في أركان جريمته ركني المنهجية وسوء النية، فيقول التفسير إن هذه الجريمة تعني

“1- أن يدفع مرتكب الجريمة شخصاً أو أكثر إلى ممارسة فعل ما أو أفعال ذات طابع جنسي، باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها أو بالقسر، من قبيل ما ينجم عن الخوف أو الإكراه أو الاحتجاز أو الاضطهاد النفسي أو إساءة استعمال السلطة، أو باستغلال بيئة قسرية أو عجز الشخص أو الأشخاص عن التعبير عن حقيقة رأيهم [؛]
2- أن يحصل مرتكب الجريمة أو غيره أو يتوقع أن يحصل على أموال أو فوائد أخرى لقاء تلك الأفعال ذات الطابع الجنسي أو لسبب مرتبط بها”. وإن أركان هذه الجريمة باختصار تشمل أركان جريمتي الاستعباد الجنسي والاغتصاب، ولكنها تضيف إليهما الفائدة المادية التي يحصل عليها مقترف الجريمة من جراء الإكراه على البغاء، فهي جريمة بغاء بكل معنى الكلمة، ولكنها مرتبطة بالبغاء الذي يمارس قسراً ضمن الاستعباد الجنسي المعروف حديثاً، وهنا تأخذ طابع العمل المنهجي ضد جماعة ما.
الجريمتان الأخيرتان من جرائم العنف الجنسي هما جريمتان مترابطتان، إذ إنهما من الجرائم التي تتعلق بالتناسل. والجريمة الرابعة هي جريمة الحمل القسري، وتشمل الإجبار على الحمل والولادة، وقد رأينا لها تعريفاً في نظام روما. أما الجريمة الأخرى (الخامسة) فهي عكس ذلك، وهي جريمة التعقيم القسري لمنع الحمل أو الإنجاب للذكور والإناث. وبالنسبة إلى الحمل القسري لا تزيد المذكّرة التفسيرية كثيراً على تعريف نظام روما، فتقول إنه يعني “أن يحبس مرتكب الجريمة امرأة أكرهت على الحمل بنّية التأثير في التكوين العرقي [لأية] مجموعة من المجموعات السكانية”. أما جريمة التعقيم القسري، فهي تسعى إلى التأثير في التكوين العرقي بمنع الإنجاب، فتقول المذكرة التفسيرية بهذا الخصوص إن التعقيم القسري يعني
“1- أن يحرم مرتكب الجريمة شخصاً أو أكثر من القدرة البيولوجية على الإنجاب [؛]
2- ألا يكون لذلك السلوك مبرر طبي أو يمليه علاج في أحد المستشفيات يتلقاه الشخص المعني أو الأشخاص المعنيون بموافقة حقيقية منهم”. وحتى يصبح الأمران، الحمل القسري والتعقيم القسري من الجرائم ضد الإنسانية يجب أن يتوفر في كل منهما الركنان الأساسيان المتعلقان بالمنهجية في العمل ضد الجماعة، وبسوء النية من خلال معرفة أن هذا العمل جزء من خطة منهجية ضد الجماعة.

ورغم أن تحديد جرائم العنف الجنسي قد أشارت في آخر الفقرة (1/ز) من المادة السابقة إلى إمكانية ورود جرائم عنف جنسي أخرى، تمثل درجة خطورة هذه الأفعال الخمسة نفسها، إلا أن هذه الجملة مطاطة وقابلة للتأويل، ولا يمكن الاعتماد عليها كثيراً في الإفتاء القانوني لاعتبار أي فعل آخر، عدا الأفعال الخمسة المشار إليها، على أنه من جرائم العنف الجنسي المحددة في الجرائم ضد الإنسانية، ولكن ورود هذا الحكم جاء للتوضيح أن القائمة قد تتسع مستقبلاً، تماماً كما سبق أن ذكرنا بالنسبة إلى الفقرة العامة حول الأعمال اللاإنسانية التي يمكن اعتبارها مستقبلاً جرائم ضد الإنسانية إذا ما توفرت فيها الأركان الثلاثة الأساسية: المنهجية، وسوء النية، والضرر البالغ، ولكن مع ضرورة اعتراف المجتمع الدولي بشكل تعاقدي أو عرفي بأن هذه الأفعال تشكل بالفعل جرائم ضد الإنسانية، ولا يكفي إفتاء الفقهاء في القانون الدولي بذلك، أو التفسير الذي يخرج عن نطاق الصورة التعاهدية أو العرفية. وقد أضافت المذكرة التفسيرية إلى أركان الجرائم توضيحاً لهذه الفقرة، لا لتتحدث عن جرائم أخرى ذات طابع عنف جنسي، بل لتتوسع في الحديث عن المقصود بالعنف الجنسي، باعتباره جريمة ضد الإنسانية ذات طابع عام من العنف الجنسي تترك الباب مفتوحاً للمستقبل، فتقول المادة إن العنف الجنسي يعني “1- أن يقترف مرتكب الجريمة فعلاً ذا طبيعة جنسية ضد شخص أو أكثر أو يرغم ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص على ممارسة فعل ذي طبيعة جنسية باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها أو بالقسر, من قبيل ما ينجم عن الخوف من تعرّض ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص أو الغير للعنف أو الإكراه أو الاحتجاز أو الاضطهاد النفسي أو إساءة استعمال السلطة أو باستغلال بيئة قسرية أو عجز الشخص أو الأشخاص عن التعبير عن حقيقة رضاهم [؛] 2- أن يكون السلوك على درجة من الخطورة يمكن مقارنتها بالجرائم الأخرى المنصوص عليها في الفقرة (ز) من المادة 7 من النظام الأساسي”. وهذا التوضيح يربط بين العمومية الشاملة التي تشمل كل الجرائم ضد الإنسانية، والعمومية المحصورة التي تشمل كل جرائم العنف الجنسي، فهي غير محددة ولا تتحدث عن فعل بعينه، وبالتالي فهي مجرد حكم قانوني

ينقصه الإقرار الدولي.