الحصانة المدنية للدبلوماسيين

لقد ظل المبعوثون الدبلوماسيون يتمتعون بالحصانة القضائية المطلقة جنائية ومدنية منذ القرن السابع عشر واستمر ذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر . ففي إنجلترا قرر القضاء الإنجليزي عدم خضوع الدبلوماسي للقضاء المحلى بشقيه الجنائي والمدني ، ولقد سارت فرنسا على نفس المنوال حيث حاولت بعض المحاكم الأدنى التفرقة بين التزامات المبعوث الدبلوماسي المتصلة بمهنته والالتزامات الخاصة به خارج نطاق المهنة وقررت خضوع الدبلوماسيين للقضاء المحلى في الحالة الثانية وقد أصدرت محكمة أول درجة حكماً غيابياً في عام 1891م ضد مستشار السفارة البلجيكية في باريس وألزمته بأن يدفع للمدعى ديناً عليه خاص بشئون مسكنه إلا أن محكمة النقض قد ألغت ذلك الحكم وجاء في حيثيات قرارها بأن خضوع الدبلوماسي للقضاء المدني في هذه الحالة يؤدى إلى ملاحقته من قبل دائنيه الأمر الذي يعطله عن القيام بمهامه الرسمية وهذا هو أيضاً ما استقر عليه العمل في الولايات المتحدة الأمريكية وفى ألمانيا وهولندا والبرتغال وأسبانيا والنمسا وإيطاليا وغيرها من الدول الغربية.

ولقد ساد مبدأ الحصانة المدنية المطلقة في جميع المسائل والأعمال التي يقوم بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها ويرجع الفقهاء تبرير ذلك لسببين أو اعتبارين :
أولهما: إن إقامة المبعوث الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها إقامة مؤقتة مهما طال أمدها ، ومحل إقامته الثابت هو دولته (الدولة المعتمدة) باعتبارها وطنه ومقره الأصلي لذلك يجب أن يقاضى ويحاسب أمام قضاء دولته
ثانيهما: أن طبيعة عمل الدبلوماسي تقتضي المحافظة على استقلاله وعلى هيبته المستمدة من هيبة واستقلال الدول المعتمدة .

إلا أنه وفى أواخر القرن التاسع عشر بدأت الدول في التراجع عن مبدأ الحصانة المدنية المطلقة بعد أن أقدم عدد كبير من الدبلوماسيين إلى إبرام تصرفات وتعاقدات تجارية ومالية لا علاقة لها بمهامهم الدبلوماسية حيث أدى الإسراف في تلك التصرفات إلى تراجع الدول الغربية عن مبدأ الإعفاء الكامل من القضاء المدني الإقليمي ولقد عضد ذلك أيضاً أن المجامع العلمية الدولية قد بدأت هي الأخرى ومنذ أواخر القرن التاسع عشر تنادى وتقرر في مشروعات قوانينها مبدأ تقييد الإعفاء من القضاء المدني واستثناء بعض الأعمال من هذا الإعفاء . ففي عام 1895م أقر معهد القانون الدولي في اجتماعه ذلك المبدأ حيث نص في المادة (16) من مشروعه على أنه (لا يجوز التمسك بالحصانة القضائية والمدنية في حالة المقاضاة بسبب التزامات تعاقد عليها المبعوث الدبلوماسي خلال قيامه بممارسة مهنة أخرى بجانب مهامه الدبلوماسية في البلد المعتمد لديه كما لا يجـوز التمسك بهذه الحصانة في الدعاوى العينية ومنها دعاوى الحيازة الخاصة بمال موجود في الدولة المعتمد لديها الدبلوماسي سواء كان هذا المال عقاراً أو منقولاً) .

وفى عام 1929م قرر هذا المعهد نفسه في اجتماعه المنعقد بنيويورك أن الإعفاء من القضاء المدني الإقليمي لا يشمل الإعفاء من الحالات الآتية:
1- إذا كانت الدعوى تتعلق بأموال عقارية يملكها المبعوث الدبلوماسي في إقليم الدولة المعتمد لديها.
2- إذا كانت الدعوى ناشئة عن أعمال تجارية أو ما شابهها قام بها المبعوث لحسابه الخاص دون أن يكون لها علاقة بمهام وظيفته.
3- إذا كانت الدعوى متفرعة من دعوى أصلية تقدم بها المبعوث بنفسه إلى قضاء الدولة باعتباره مدعياً.

ولقد أبدت الدول الغربية وجهة نظرها بصورة رسمية للجنة القانونية التي كلفت من قبل عصبة الأمم بتدوين القواعد المتعلقة بالحصانات والامتيازات الدبلوماسية , ولقد بدأ اتجاه الفقهاء يميل بوضوح شديد وكذلك القضاء في الدول الغربية وفى الولايات المتحدة الأمريكية نحو تقييد الإعفاء من القضاء المدني والإداري لا سيما بعد أن ظهرت نظرية ضرورات أو مصلحة الوظيفة كأساس لمنح الحصانات والامتيازات الدبلوماسية .

وعندما شرعت هيئة الأمم المتحدة بتدوين قواعد القانون الدولي الدبلوماسي من خلال اللجنة القانونية التي أنشأتها لهذا الخصوص وبعد دراسة المشاريع التي اقترحها الفقهاء والمجامع العلمية القانونية الدولية وبعد استطلاع رأى الدول قررت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة بعدم الأخذ بمبدأ الإعفاء المطلق من القضاء الإقليمي المدني وصاغت الإستثناءات في المادة (29) من مشروعها الذي قدمته لمؤتمر فيينا لعام 1961م حيث اعتمدته الاتفاقية في مادتها رقم 31 والتي نصت على انه :
1- يتمتع المبعوث الدبلوماسي بالحصانة ضد الاختصاص القضائي الجنائي للدولة المضيفة ويتمتع كذلك بالحصانة ضد الاختصاص القضائي والمدني والإداري فيما عدا الحالات الآتية :
(أ ) الدعاوى العينية المتعلقة بعقار خاص كائن في إقليم الدولة المضيفة ما لم تكن حيازته له بالنيابة عن الدولة الباعثة وذلك لأغراض البعثة.
(ب) الدعاوى المتعلقة بميراث يكون المبعوث داخلاً فيها كمنفذ أو مدير أو وارث أو موصى له وذلك بوصفه شخصاً عادياً وباسمه الخاص لا بالنيابة عن الدولة الباعثة.
(ج) الدعاوى المتعلقة بأي نشاط مهني أو تجارى يمارسه المبعوث الدبلوماسي في الدولة المضيفة خارج نطاق مهامه الرسمية.
2- لا يكون المبعوث الدبلوماسي ملزم بأداء الشهادة كشاهد.
3- لا يجوز اتخاذ إجراءات تنفيذية إزاء المبعوث الدبلوماسي إلا في الحالات الواردة في البنود (أ) و (ب) و (ج) من الفقرة (1) من هذه المادة وعلى أن يكون الإجراء التنفيذي المعنى يمكن أن يتم دون المساس بحرمة شخصه أو مسكنه.
4- لا تعفى الحصانة التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي في الدولة المضيفة من خضوعه لقضاء دولته (الدولة المعتمدة).

وبذلك يتضح لنا أن اتفاقية فيينا قد أخذت بالحصانة القضائية المطلقة في المسائل الجنائية أما في المسائل المدنية والإدارية فقد أوردت الاتفاقية الإستثناءات المتقدمة الذكر والتي يخضع بمقتضاها المبعوث الدبلوماسي للقضاء المدني المحلى للدولة المضيفة . وبطريقة أخرى أيضاً نستطيع أن نقول بأن اتفاقية فيينا قد ميزت بين الأعمال التي يقوم بها المبعوث الدبلوماسي بصفته الخاصة والشخصية خارج إطار وظيفته الرسمية وبين الأعمال التي يقوم بها بالنيابة عن دولته وأخضعت الأولى لأحكام القضاء المدني المحلى.