هل تصلح ديمقراطية الغرب للتطبيق عالميا؟

إشكالية الكذب وإخفاء المعلومات وعالمية الديمقراطية الغربية على المحك ومهمة إنهاء الاستبداد الدولي والمحلي معا، ثلاثة مشاهد تطرح التساؤل عن الأرضية التي تقوم عليها الدعوات القائلة بعالمية الصيغة الغربية لتطبيق الديمقراطية، أو ما بات الحديث عنه كالحديث عن بديهيات بشأن “وجوب” نشر هذه الصيغة إلى درجة التفكير باعتبار مخالفة تطبيقها في دولة من الدول كافية لتغيير القانون الدولي باتجاه انتهاك سيادة الدولة.

ثلاثة مشاهد معاصرة، هي قليل من كثير من الأمثلة التي تؤكد أنها ليست “استثناء” مخالفا لقاعدة سارية المفعول، وهي :

– تعليل استقالة وزير الدفاع الألماني السابق فرانز جوزيف يونغ من منصبه يوم 27/11/2009

– وقبل ذلك بأيام الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق حيادية حول كيفية صناعة قرار دخول بريطانيا في عهد رئيس الوزراء السابق توني بلير في حرب احتلال العراق عام 2003

– وقبل ذلك بعام سقوط شعبية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى حضيض غير مسبوق في تاريخ الدولة المتزعّمة للعالم الغربي الديمقراطي.

إشكالية الكذب

النظام الديمقراطي الغربي بجميع آلياته وضوابطه، لا يمنع الكذب السياسي واعتماده في صناعة القرار، وهو ما يدخل في نطاق السؤال عن صلاحية النظام بحد ذاته داخل حدود بلد معين، إنما السؤال المطروح أعلاه هو عن مدى متانة الأرضية التي تقوم عليها دعوات اعتباره “عالميا” يجب تعميمه في كل مكان من الأرض

العنصر المشترك هو الكذب السياسي داخل الحدود، فسقوط وزير الدفاع الألماني كان وفق التعليل المعلن رسميا، والمنتشر إعلاميا، هو مسؤوليته السياسية عن “أخطاء السياسة الإعلامية” لوزارته تجاه أهل بلاده من الألمان، أي عن إخفاء معلومات عنهم حول حقيقة ما جرى!.

وتشكيل لجنة تحقيق بريطانية حول خلفيات ما جرى عند اتخاذ القرار بالمشاركة في حرب احتلال العراق عام 2003 يدفع إلى السؤال عن سبب تشكيلها، وعمّا ينتظر منها، والمؤكد أن نتائج عمل اللجنة ستكشف ما لم ينقطع ذكره إعلاميا، وهو أن بلير اعتمد في قراره تجاه “ناخبيه” أو تجاه المواطن البريطاني عموما، على افتعال الأكاذيب الاستخباراتية ترويجا لتعليل يجد -وفق المنطق الاحتكاري الغربي لقوة التسلح- رواجا وهو الحيلولة دون امتلاك العراق أسلحة متطورة. ومن قبل كان لسقوط شعبية بوش إلى الحضيض أسباب كثيرة، في مقدمة عناوينها: الحروب العدوانية، وغوانتانامو، وأبو غريب، والقوانين الاستثنائية، والنفقات المالية الباهظة، والقاسم المشترك بينها هو أن بوش أساء عبر منصب الرئاسة إلى السمعة الأميركية، وإلى مكانة بلاده الدولية، وأخفق في تحقيق أهداف أميركية من حروب خاضها وسبب فيها مقتل الألوف من الجنود الأميركيين.

ويمكن المضي طويلا مع أمثلة أخرى توصل إلى نتائج مشابهة.

النظام الديمقراطي الغربي بجميع آلياته وضوابطه، لا يمنع الكذب السياسي واعتماده في صناعة القرار، وهو ما يدخل في نطاق السؤال عن صلاحية النظام بحد ذاته داخل حدود بلد معين، إنما السؤال المطروح أعلاه هو عن مدى متانة الأرضية التي تقوم عليها دعوات اعتباره “عالميا” يجب تعميمه في كل مكان من الأرض، ويلاحظ على ردود فعل من يتبنى هذه الدعوات من خارج نطاق الدول الديمقراطية الغربية، أن محورها الرئيسي:

إن سقوط المسؤولين في دول غربية بسبب ارتكاب الكذب السياسي، عن طريق كشف إعلامي، أو حكم قضائي، أو اقتراع انتخابي، يثبت ميزة كبرى أخرى في النظام الديمقراطي بصيغته الغربية، وهو رسوخ مبدأ المحاسبة.

وتمضي ردود الأفعال شوطا أبعد حول محور آخر هو:

إن النظام الديمقراطي بصيغة تطبيقه الغربية لا يقبل مجرد المقارنة بما هو سائد في كثير من البلدان النامية لاسيما العربية والإسلامية، حيث أصبح الأعم السائد هو تشبث كل صاحب سلطة بسلطته (بل وسعيه لتوريثها لأبنائه) وحظر محاسبته، إلى درجة حظر نقده أصلا، سيّان كم يصنع من كوارث ونكبات وأزمات، وكم يمارس من ألوان الخداع والكذب والتمويه والفساد، بل وما يرتكب من آثام القمع، فضلا عن صناعة العجز والتخلف والوصول بسياساته إلى المهالك، فليس المهم مصير البلد ولا ما تعانيه الشعوب، ما دامت السلامة وما يزيد على السلامة من نصيب الفئات التي ينتمي إليها أو يعتمد عليها في السلطة، عبر قرابة ومحسوبية وحزبية ومنفعية انتهازية وتملّق.

الديمقراطية على المحك

ثمة أمثلة كثيرة تكشف التراجع عن تطبيق قوانين غربية للمحاسبة القضائية على جرائم حرب خارج الحدود، عندما كادت هذه القوانين تطال مَن لا يراد أن تصل إليهم، كما هو معروف على الأقل عمّا بين مذابح صبرا وشاتيلا والحرب ضد غزة
مع التسليم بجميع ما سبق، لا يمكن الاعتماد في الدعوة إلى “عالمية النظام الديمقراطي الغربي” على الميزات المذكورة بل على ما يعنيه “التعميم” على الأسرة البشرية بكافة شعوبها ومجتمعاتها ودولها، فالميزان هنا هو: الكرامة الإنسانية وعالميّة مبدأ العدالة والحقوق والحريات والإنسانية، وما تحتاج إليه من ضوابط داخل حدود كل دولة على حدة، ليكون للنظام الديمقراطي داخل الحدود، أثره المنظور على العلاقات الدولية خارج الحدود أيضا. وهنا نعود إلى الشواهد الثلاثة المذكورة فنجد في الوعي المعرفي الغربي في ظل الديمقراطية القائمة، المحاسبة على “الكذب السياسي” داخليا، ولا نجد في استقالة الوزير الألماني مفعولا للمحاسبة على سقوط عشرات الضحايا من الأبرياء المدنيين في أرض أفغانستان، ولا في مراجعة صانعي القرار البريطاني أثرا للمحاسبة على مقتل مئات الألوف وتشريد الملايين وتدمير بلد آخر وتغيير معالم الجغرافيا السياسية والأمنية في منطقة إقليمية بأكملها، ويسري شبيه ذلك على سقوط شعبية بوش مع أعوانه.

والأمثلة كثيرة يكشف عنها التراجع عن تطبيق قوانين غربية للمحاسبة القضائية على جرائم حرب خارج الحدود، عندما كادت هذه القوانين تطال مَن لا يراد أن تصل إليهم، كما هو معروف على الأقل عمّا بين مذابح صبرا وشاتيلا والحرب ضد غزة.

إن الجوانب الإيجابية المتميزة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، بآلياتها وضوابطها ومعاييرها القيمية، تبقي على قدر معين من مفعول إرادة الشعب على صناعة القرار السياسي (بغض النظر عن سلبيات مفعول مراكز القوى وليس هذا موضع الحديث عنها) إنما يقابل ذلك الافتقار المخزي للمعاني التي يرددها الغربيون والمتغربون حول “عالمية” القيم والمناهج السائدة باسم الأنظمة الغربية!..

لا مساواة بين إنسان وإنسان، أي في الشاهد الأول بين أفغاني وألماني، وفي الشاهد الثاني بين عراقي وبريطاني، وفي الشاهد الثالث بين أميركي وسواه.. بل إن قيمة ما يصيب ناخبا غربيا عبر “الكذب السياسي” أعلى شأنا من حيث مفعولها في عالم تطبيق القيم في النظم الديمقراطية الغربية، على ما يصيب إنسانا غير غربي عبر الغزو والاحتلال والقتل والتشريد وجميع ما ينبثق عن ذلك من مآس لا نهاية لها كما ونوعا!..

لا أثر لقيمة الحياة كقيمة بشرية واحدة دون اعتبار الجنس أو اللغة أو الديانة أو سوى ذلك من عوامل التمييز..

ولا أثر للمساواة في قيمة كرامة الإنسانية باعتبارها القيمة المشتركة العليا في حياة “أسرة بشرية” على مستوى عالمي.. ولا أثر لعولمة القيم والمواثيق والحقوق والحريات..

بل يمكن أن تتحول مسؤولية سياسي غربي كبوش وأعوانه، عن إنسانية الإنسان المعتقل والمعذب في غوانتانامو، والمهان والممتهن في أبو غريب، والمستباحة دماؤه وأعراضه وثرواته وسائر حقوقه في أكثر من مكان من أنحاء الأرض، إلى مجرد المسؤولية عن “كيفية” ممارسة السلطة داخل الحدود، وبالتالي إلى اختزال ذلك كله بعيدا عن أرضية إنسانية عالمية مشتركة، في حدود الحساب عليها تبعا لتقلبات تطبيق الحق السياسي الداخلي للناخب الأميركي، الذي يرفض أن يكون ضحية مكر سياسي، ويرفض إساءة رئيسه لسمعة بلاده، دون أن يكون لذلك علاقة مع قرارٍ يصنع ما يصنع من تقتيل وتشريد وتدمير في أنحاء المعمورة.. فيبقى دون محاسبة!

إن جميع ما تنطلق منه دعوات عالمية الأنظمة الغربية تحت عناوين الديمقراطية والحقوق والحريات الإنسانية، وسيادة القانون والقضاء، وفصل السلطات والمحاسبة.. جميع هذه الإيجابيات، يفقد قيمته على أرض الواقع عند التأمل فيه بمنظور “أسرة بشرية” و”عالم متحضر”، ويستحيل أن يكون تبعا لذلك هو المطلوب تعميمه وعولمته ونشره وتطبيقه، بواقعه المنحرف، والانحراف قائم نتيجة روح عنصرية ومع سيادة قيمة المادة على قيمة الإنسان فيه.

لا يكفي هذا الواقع “الرهيب” في مجرد التنديد بكلمات مثل ازدواجية تطبيق المعايير، بل يوجد ما يستدعي النظر في “علة” الانحراف من الجذور وليس من حيث النتائج والأعراض فحسب.

إنهاء الاستبداد
هل يعني ما سبق تبرئة المسؤولين في البلدان الأخرى، لاسيما العربية والإسلامية، عن انحرافات استبدادية وغير استبدادية قائمة؟..

النظام الذي يستحق صبغة “العالمية” والذي ينبغي العمل على إقراره في بلد ما، يجب أن يعتمد على محورين متلازمين متكاملين، (أولهما) ما يُصنع داخل البلد لتحقيق الإرادة الذاتية والتطور الذاتي، ورسوخ تطبيق القيم والمعايير الأساسية في إنسانية الإنسان، و(ثانيهما) انعكاسات ذلك خارج الحدود على المستوى البشري المشترك، لرسوخ ذات التطبيق للقيم والمعايير الأساسية في إنسانية الإنسان

المقارنة القويمة ليست بين هذا وذاك، بل بين المرفوض هنا وهناك معا، وبين ما ينبغي العمل من أجل ترسيخه بديلا عن الوضع السيّئ والأسوأ على السواء.

إن العمل من أجل إنسانية الإنسان بوصفه إنسانا، يشمل العمل على تحقيق هذا المعنى على صعيد ضحايا إجرام عدواني أجنبي يصنعه استبداد دولي، وعلى صعيد ضحايا قمع وفساد يصنعهما استبداد محلي، وهو ما يسري على أفغانستان، والعراق، وفلسطين، والصومال، وبقاع أخرى، لا نحتاج إلى تعدادها جميعا، فالمآسي الفردية والجماعية ظاهرة للعيان، والكرامة والحقوق والحريات قيم لا ينبغي حصرها ما بين حدود الجنسيات والسياسات والأنظمة.

وإن النظام الذي يستحق صبغة “العالمية” والذي ينبغي العمل على إقراره في بلد ما، يجب أن يعتمد على محورين متلازمين متكاملين، (أولهما) ما يُصنع داخل البلد لتحقيق الإرادة الذاتية والتطور الذاتي، ورسوخ تطبيق القيم والمعايير الأساسية في إنسانية الإنسان، و(ثانيهما) انعكاسات ذلك خارج الحدود على المستوى البشري المشترك، لرسوخ ذات التطبيق للقيم والمعايير الأساسية في إنسانية الإنسان.

ليس المطلوب تعميم الدعوة إلى عالمية نظام ديمقراطي غربي، إيجابي داخليا مع سلبيات فيه، منحرف إنسانيا على أوسع نطاق بشري..

وليس المطلوب اتخاذ انحرافات ذلك النظام ذريعة لاستمرارية أنظمة استبدادية، سلبية محليا ومنحرفة إنسانيا، على أوسع نطاق شعبي، وعلى أوسع نطاق بشري.. بل المطلوب تعميم الدعوة إلى عالمية نموذج حي بديل، للحياة والحكم، داخليا على أسس العدالة والحرية والشورى والكرامة والحقوق، وعالميا على أسس المساواة بين عناصر الأسرة البشرية، أفرادا ودولا.

لهذا نرى المدخل إلى إنهاء استبداد دولي هو إنهاء حالة الاستبداد المحلي، والمدخل إلى إنهاء هذه الحالة هو كسر أغلال الاستبداد الدولي.

أمران متلازمان أو وجهان لعملة واحدة، يستدعيان أن تكون الرسالة المطلوب حمل أمانتها هي رسالة التغيير المحلي والتغيير الدولي معا، أما انتظار أن يحاسب الغربيون بعضهم بعضا، وأن يتساقط المسؤولون عن الحروب العدوانية نتيجة تلك المحاسبة، فإنها ولو وصلت إلى آخر مدى تسمح به الأوضاع المحلية الغربية، فلن تتجاوز في نهاية المطاف المحاسبة على ما يصنعه بعضهم ببعضهم الآخر، ولن تشمل محاسبةَ أصحاب القرار السياسي والعسكري والاقتصادي من الزعماء “المنتَخبين” ديمقراطيا في بلادهم.. على ما يصنعونه ببلادنا وشعوبنا وثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا.

إن المسؤولية التاريخية الفاصلة هي مسؤوليتنا نحن، عن صناعة التغيير، في الوقت المناسب، وبالشكل المناسب.. بل إنها المسؤولية التي تمتد بآفاقها البعيدة إلى ما نحمله على عاتقنا من رسالة وأمانة، تجاه الأسرة البشرية ومستقبلها وتجاه إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه وحرياته على المدى القريب والبعيد.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت