الذاكـرةُ القضائيـَّـة

فإنَّ الحديثَ عن ذاكرتنا القضائيَّة يطرقُ سمعَ الكثير بجديدٍ؛ فهي تختزنُ سجلاً حَافلاً بسير الرِّجال ومنجزاتهم، وكان من بَركة تحكيم الشَّريعة الإسلاميَّة التي قام على أُسسها كيانُ المملكة العربية السعودية، الأثرُ البيّن في نجاح مَسيرتنا القضائية، وتميّز رجالها، وحضورهم المؤثر في المناشط العدلية في الداخل والخارج.

لقد أصبحَ القاضي السُّعودي أكثرَ جذباً؛ بما يتميزُ به من سَعَةِ أفقه المستمدة من آفاق شريعته الغَرَّاء، وعظمةِ مقاصدها ومُرونة نصوصها، وما نالهُ من إِرْثٍ قَضَائيّ، وبيئةٍ علميةٍ خصبةٍ، في سياق الطائفة الطيبة التي ارتوت بغيث الشريعة فأنبتت بسخاء، ولاسيما رسوخ علمائها في مقاصد الشريعة، وفقه الموازنات باختيار الواجب أو الأولى في منظومةِ مباحث: المصالح والمفاسد.

إن القاضي السُّعُوديّ هو مَنْ يستصحبُ نصوصَ الكتاب والسنة في كل شأن من شؤونه، ويقف في معترك عصره موقفَ الواثق بشريعته، المُصلحة لكُل زمانٍ ومكانٍ، وما ينبغي لمن هذه أسُسُه أن يرضَى بمرتبة دون الطليعة، في حضور وتأثير دائمين.
لقد يسَّرَ اللهُ لنا حضورَ العديد من المؤتمرات والملتقيات والنَّدَوَات والمحافل الدَّوْليَّة فكانَ القضاءُ السُّعُوديّ فيها أكثرَ تأثيراً ولفتاً للأنظار، بما يُقدِّمُهُ من نَظريَّاتٍ قضائية وحقوقية يستند فيها إلى أصولها الشرعية، فمتى أسهب المنظِّر في التوازن المالي في العقد، ورد الالتزام المرهق إلى حده المعقول، جاء القاضي السعودي ليقول: هذه نظرية صحيحة، أجد أُساسها في أصلٍ من أصُول شريعتنا الغَرَّاء: ” الأصلُ في العُقود العَدْلُ”.

ومتى نظَّر الآخرُ عن: “التعسُّف في استعمال الحقَّ”، جاء ليقول: قد نطق بذلك التنزيل الحكيم:{ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا”231”}[ البقرة ]، وعلى مثلها تأسست قواعدُ رفع الضَّرر.
وإذا تُحدِّث عن نظريَّة: الظُّروف المخففة والظروف المشددة، قال: أجدها في أحكام الشريعة؛ فالنية لها أثر في تشديد العقوبة أو تخفيفها، فعندما أسقط عمر-رضي الله عنه-حَدَّ السَّرقة عامَ المجاعة اعتبر الظَّرْفَ الطَّارئَ ظرفاً مخففاً.
ويُضيف: بأن هذه النَّظريةَ، بألفاظها ومعانيها ذاتِ الصِّلة، يكونُ لاجتهاد القاضي فيها(سُلْطَتِهِ التَّقْديريَّة)مجالٌ وَاسعٌ، وإنَّ مثلَها يصعبُ أن تحكمَهُ المبادئُ القضائيَّةُ إلا في كُلياتها.
ومتى تُحدِّث عن: “الظُّروف الطَّارئة” أو “القاهرة”، قال: أجدُها في قواعد: “رفع الضرر”، ومنها قاعدة: “وضع الجوائح”، أو عن: “الإثراء بلا سبب”، قال: أجدها في قول الحق جل وعلا:{لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”29″}[النساء]، وفي كليات الشريعة تحت:”لا ضرر ولا ضرار”، و”الغنم بالغرم”.

وإذا تحُِدِّث عن:”العلاقةِ السببية” في أركان المسؤولية التقصيرية، قال أجدها في مُصْطلح:”الإفضَاء”الأسبكِ لفظاً والأقوى معنىً وَدلالة، وعن الخطأ وهو أحدُ أركانها، قال هو الاعتداءُ، وهو الأليق بالوصف في الوضع اللغوي، تأسيساً على وحدة المقصد.

ويضيفُ أيضاً: بأن منطقةَ العَفو في الشريعة الإسلامية رحبة المساحة، وأنه يجد في رحاب مدونات أهل العلم حلولاً تعتمد أصول الشريعة، وتبحر في أدلة ما لا نص فيه، وفي قواعد مهمة كقاعدة: عموم البلوى، ورفع الحرج، لمراعاة الضرورات والأعذار،”الظروف الاستثنائية”، باعتبارها من مقررات الشريعة، على قاعدة:” الضرورات تبيح المحظورات”، و”الضرورة تقدر بقدرها”و”إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق”، ولن نجد أرحب في هذا مما قرره أهل العلم بأنه:”لا يُنكَر تغير الأحكام بتغيرالأزمان”، طرداً لقاعدة:”تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد”(1)، وعلى هذا حُمِلَ كثيرٌ من اختلاف أهل العلم في بعض المسَائل، كما قيل في الخلاف بين أبي حنيفةَ وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.

وعندما أثير مؤخراً موضوع زواج الصغيرات”القاصرات”، وتتبعنا أقوال أهل العلم، وقفنا على قول الشيخ محمد بن عثيمين-رحمه الله :”الذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقا، حتى تبلغ وتُستأذن … ولا مانع من أن نمنع الناس من تزويج النساء اللاتي دون البلوغ مطلقا، فها هو عمر-رضي الله عنه-منع من رجوع الرجل إلى امرأته إذا طلّقها ثلاثا”في مجلس واحد”، مع أن الرجوع لمن طلّق ثلاثا”في مجلس واحد” كان جائزا في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-وأبي بكر-رضي الله عنه-وسنتين من خلافته، ومنع من بيع أمهات الأولاد … في عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-وأبي بكر-رضي الله عنه-، تباع أم الولد، لكن لما رأى عمر أن الناس صاروالا يخافون الله، يفرِّقون بين المرأة وولدها، منع-رضي الله عنه-من بيع أمهات الأولاد، وكذلك أيضا: أسقط الحد عن السارق في عام المجاعة العامة.”أهـ.

لا شك أن هذه الروحَ العلمية المنفتحة لتتبع مقاصد الشريعة هي السعدى بركب أهل العلم والإيمان، وحراسة الشريعة، ودلالة الناس إلى الخير على هدى وبصيرة، والبعد عن جمود الظاهر، والتَّكلف في فرضياته، والتعسُّف في تأويلاته؛ فالعبرةُ بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فلو قال المحسن: وَقَفْتُ داري بعد مماتي على الفقراء والمساكين، كانت وصية بالتصحيح؛ باعتبار مقصده، وإن أسماها وقفاً، وفي هذا السياق يسوغ للقاضي ردُّ المدعي والمدعى عليه إلى الاستدلال الصَّحيح دُون تلقينهما أصلَ الحجة.
والقاضي السعودي على كلمةٍ سواء، في انتظام حكمه، سالكاً في تسبيبه جادة الصواب، ولا مسلكَ أسلم من العمل بالقاعدة القضائية في مبدئها المستقر عليه، وإن تضاربت الاجتهادات، إذ لا يتأتى القول بوجود أكثر من مبدأ قضائي في الواقعة الواحدة، في آن واحد.

والشطط في هذا الأخير له سلبيات عدة، ولنا أن نتصور-مثلاً-توريث المتسبب في موت مورثه خطأ، فلا يسوغ أن تتضارب الأحكام: بجعل قتل الخطأ من موانع الإِرث مطلقاً، وعدم اعتباره مانعاً مطلقاً، واعتباره مقيداً بقيام التهمة بتعجّل الوارث موتَ مورثه، كما هي الآراء الفقهية، ثم إمضاء كل قضاء، تأسيساً على أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وهي قاعدة قضائية فهمت من قبل بعض الباحثين على غير ما وضعت له، إذ المقصود منها أن القاضي الخلف لا ينقض قضاء السلف، وذلك أن الإقليم في الزمن السابق لا يكون فيه إلا قاض واحد، فإذا أتى خَلَفه أمضى أحكام سلفه على اجتهاده، ولا يجوز له التعرض لها، هذا هو المراد من القاعدة، وعلى هذا المفهوم درجت القوانين الوضعية إن في سوابقها القضائية، أو في تقنيناتها الإجرائية، حسب نموذج كل دولة؛ حفظاً للأحكام بعد أن استقرت الحقوق على إثرها.

والأحكام القضائية والنظم الحقوقية اهتمت بمبدأ استقرار الأوضاع والمراكز الشرعية والنظامية، ومن ذلك أخذ القضاء الإداري بمبدأ تحصن القرارات الإدارية حتى في مواجهة الإدارة.
لقد سعدنا بطلائع قضائية هي امتداد مبارك لرواد المدرسة الأولى في القضاء والفُتيا، تضلعت من علوم الشريعة، وسلكت جادة الحق، فأنارت السبيل، على محجة بيضاء، يُصدِّق عملُها قولهَا، تحتسبُ على الله ما تبذلُ من الجهد والنصح، لا مطمع لها سوى الاضطلاع بما حُمِّلت من أمانة، إنْ في الحراسة أو الساقة، مؤيدة بتأييد الله لها، ثم بدعم ولاة أمرها، وإكرامهم لها وحفاوتهم بها.
وعلى هذا النهج القويم سار ركب العلم والإيمان تحتضنه قيادة موفقة مسدَّدة، تسير بالناس على هدى وبصيرة، لا تزايد على ثوابتها، ولا تتبدل معادلاتها، تجلت فيها عظمة الدولة ومكونات قوتها، وهي من ترى أن هيبة القضاء من هيبتها، وأن المساس به يمس كيانها، لتجعله في نظام حكمها الأساسي طليعة سلطاتها الثلاث(2).
وسيضلُّ قضاءُ المملكة-بتوفيق الله-صفحةً مضيئة في تاريخها الممتد، وسيبقى قضاتها على العهد بهم منارةَ علم وفهم، يضطلعون بمسؤولياتهم الشرعية بكل قوة وأمانة، وكان لحضورهم العلمي وأدائهم الفني المتميز وما لمسه الجميع من منجزاتهم وتفاعلهم مع الحراك العصري؛ ثقةً بما منحهم الله من مقدرة، مع الاعتزاز بثوابتهم الشرعية أثرٌ بالغ في معادلة الرقم الصعب الذي وصلوا إليه بكل جدارة، مع الضرب صفحاً عن كل جاهل أو مغرض أو مفتون.

لقد اطلعتُ على نتائج العَديد من الزيارات والمشاركات التي قامت بها وفودٌ قضائيةٌ للعَديد من المؤسّسات القضائية والحقوقية في الخارج، فضلاً عن الإنتاج العلمي، وسبك الأحكام وقائعَ وأسباباً ومنطوقاً، فوجدتُ ما يسرُّ الخاطرَ، خاصة التعاطيّ الإيجابي المتبادل، والتنويه من قبل الآخرين بالمبادئ الشرعية والنظريات القضائية والمفاهيم المتجددة المؤصلة شرعاً، القادرة على النقاش والحوار والطرح البناء وابتكار الحلول، ولاسيما في الجوانب الإجرائية، وضمانات العدالة الخارجة عن الشق الفني من عمل القاضي، وهذه-كما لا يخفى-منوطة بقواعد الاستصلاح، و”الحكمة ضالة المؤمن فحيثُ وجدها فهو أحق بها”(3).

بقي أن أُشيرَ إلى أن أصواتاً-أُحادية الجانب-كثيراً ما تلقي باللوم على بعض الإجراءات القضائية، وتتعاطف معها بعض وسائل الإعلام، وتبرزها باعتبارها من ضحايا العدالة، وفضلاً عما في نشر وقائع القضايا أثناء نظرها من مخالفة نظام المطبوعات والنشر، وعما في الاعتماد على شكوى فردية بعيداً عن استطلاع الحقيقة الكاملة، من الجهة المختصة قبل النشر، وعما في هذا من الإخلال بمعيار العمل المهني المنصف والمتحفظ على أي خبر من شأنه التشكيك في صدقية الوسيلة الإعلامية، وعما يجب أن نستصحبه دوماً من أن القضاء لا يمكن أن يُرضِي الجميع، وأن التجاوز على السلطة القضائية يمثل بعداً خطيراً، فضلا عن ذلك نجد بعض الوسائل الإعلامية وبخاصة المقروءة لا تتحفظ في هذا ، كل هذا مع التسليم بتأثر عموم المتلقين في بادئ الأمر، خاصة مع قلة الوعي الحقوقي.
القاضي السعودي هو من يمتلك ملكة قضائية واسعة، استطلعت العديد من التجارب والقوانين المقارنة، على خلاف غيره ممن يدور في فلكه، لتكون الاستطلاعات العلمية والتجارب القضائية والحقوقية-لدى غيره-حصراً على الأكاديمين والباحثين.
القاضي السُّعُودي أكثرُ ترحيباً بالتغيير الإيجابيّ، وقد تفاعلَ مع التَّحول الكبير في الهيكلة والميكنة القضائية بما فاق التَّوقعات، بالرّغم من متلازمة الطبع البشري المقاومة للتغيير في الجملة.
القاضي السعودي تميز بتحكيم الشريعة الإسلامية، واستطاع من خلال سعتها أن يُكَوِّن رصيداً قضائياً يستمده من أصولها وقواعدها السمحة.

القاضي السعودي دخل حقل القضاء في سن مبكرة لم تستطع قوانين غيره أن تجعل منها سناً أولى في القضاء، فأبدع وتألق.
القاضي السُّعودي يمتلك بيئةً خصبة متطلعة نحو آفاق رحبة إجرائياً وفنياً، ويمتلكُ في ذات الوقت مكنوزاً معرفياً لا يجارى فيه، ولا تكادُ تجد قاضياً لا تنطوي مادتُه العلميّة على مكتبةٍ ثرية تزخرُ بالعلوم الشرعية وآلاتها، وبالعلوم
النظامية ونظرياتها.

القاضي السعودي أدهشَ النُظارَ بتفوقه في علم الأنظمة بعد أن اتجه للتزود منها؛ لخدمة قضائه وتحريك ملكته، حتى جارى في مناظراته وطُروحاته، ذوي الاختصاص الدَّقيق، ولا نجدُ تفسيراً لذلك إلا حُسنَ النِّية، وبركة عُلوم الشريعة، ونقصدُ بالأنظمة هنا عِلْمَهَا، لا مادتها النظامية، فعندما يدفعُ في تسبيبه لائحة الادعاء بتطبيق عقوبة مشمولة بنظام لاحق للجرم، وقبل الحكم، ما لم يكن للمتهم مصلحة في التطبيق، يستند في ذلك على قاعدة نظامية مطردة، لها أصلٌ في عَدْل الشَّريعة، وهو عدمُ أخذ المتهم بنصٍ غير نافذ وقتَ الجريمة، فالمدان يُشمل بالنص عندما يباشر جريمته بعد نفاذه، لتقوم الحجة عليه؛(عدم رجعية النص الجنائي مالم يكن أصلحَ للمتهم)، وفي التنزيل الحكيم:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً”15″}[ الإسراء ]، ونظائر هذا عديدة، مما تظهر منه إيجابية الإفادة من علم الأنظمة؛ الأمر الذي حفل به نظام القضاء الجديد في فصل تعيين القضاة، مع الإبقاء على شرط الحصول على شهادة إحدى كليات الشريعة.

القاضي السُّعودي واثقٌ بالله جلَّ وعلا، ثم بما منحَهُ من قُدرةٍ على الإبحار في عُلوم الشريعة، وقدرته على التصدي للنوازل والمنازلات العلمية، والتميز في تأسيس فقهه القضائي بمقدمات ونتائج يحار لها النظار، فعندما يُنَظِّرُ-مثلاً-في أن الدية في قسم العقوبات لا التعويضات، وعندما ينبري ليدلل بأنَّ الشَّريعة تعرفُ:”التعويضَ بغير خطأ” مع جهة الإدارة-بوصفها مسؤولية من مسؤوليات الدولة تجاهَ رعاياها بسنده الشرعي-، يملأُ سمعك ووجدانَك بحجج تأتي على نظريَّة الاتجاه الآخر بالبطلان، وهكذا في كل ما هُدي إليه من فهمٍ في علوم الشريعة، لتبقى ذاكرتنا القضائية على العهد بها، وبالله التوفيق.
وزير العدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
الهوامش
(1) على هذا سياق القاعدة، والصحيح: أن العوائد جمع عائدة وهي المعروف والصلة، وجمع العادة عادات، ومنهم من أجاز العوائد للمعنيين، ومع التحفظ عليه ففيه لبس، وهذه القاعدة ليست على إطلاقها بل لها ضوابط.
(2) السلطة القضائية: هي سلطة الفصل والبت ، المشمولة بنظام السلطة القضائية-نظام القضاء-في المواد والسلك، وطبيعة العضوية لكافة أعضائها، بدءاً من المحاكم الابتدائية، وانتهاء بالمحكمة العليا-محكمة النظام والمبادئ-، وقد ضمِنت أنظمة الدولة لسلطة القضاء الاستقلالَ والحياد منذ تأسس كيانها، ومن الخطأ الاعتقاد بأن نظام القضاء الجديد الصادر عام 1428هـ، قد رسخ مفاهيم جديدة في هذا الاستقلال؛ إذ هذه المفاهيم من مسلمات نظام الحكم في المملكة، وجاء تحريره بنظام بدءاً من صدور نظام القضاء عام 1395هـ وأكد عليه النظام الأساسي للحكم عام 1414هـ.
وليس لأي سلطة التدخل في العمل الفني للقاضي، ولا سؤاله عنه؛ لكونه مضموناً بدرجات تقاض تكفل مراقبته، أما التفتيش على أعمال القضاة فهو لقياس الأداء الفني، للوصول إلى بيانات تؤدي إلى معرفة كفايتهم، ومدى حرصهم على أداء واجباتهم الوظيفية، وليس التدخل في عملهم القضائي وتسيير منظومته، بما يؤثر في استقلاله وحياده، وليس هذا من صلاحية المجالس القضائية في الإشراف على المحاكم والقضاة وأعمالهم ؛ باعتبار هذا الإشراف مقيدا بالحدود المبينة في النظام كما هو نص المادة (6/هـ) ، ولا يعدو الإشراف في مجمله كونه معيناً على إيجاد قاعدة معلومات لاختصاصه الأصيل، ومن ذلك: إسناد المجلس بالمعلومات عند نظره في إنشاء المحاكم وتكوينها، وتعادلها نسبة وتناسبا.
ويزيد من الثقة بقرار المجالس القضائية في هذا الشأن أن أي قرار يصدر منها لا يعد قرارا فرديا، بل إنه يصدر بقرار مؤسَّسي من المجلس يصوت عليه من رئيسه وأعضائه، كما هي طبيعة العمل المؤسسي ، ولذا فصوت المجلس يعبِّر عن إرادة أعضائه إجماعاً أو أكثرية، إلا ما كان لرئيسه بانفرادٍ وفق أحكام النظام “ولانعني بالقرار الفردي هنا ما يقابل القرار التنظيمي”، وأي مفهوم يخرجُ عن هذا الإطار المتبادر من أحكام النظام، “دون حاجة لتفسير؛ لوضوحه وتبادره” من شأنه أن يعود بالنقض على المادة الأولى من نظام القضاء التي رسخت مبدأ استقلال السلطة القضائية في عملها الفني، وناطت شؤونها الوظيفية بمجلس له اختصاص إداري تفرغ له، بعد أن سلخ الشق القضائي منه، حيث كان المجلس في السابق يقوم بدوره الإداري تحت مظلة الهيئة العامة، وبدوره القضائي تحت مظلة الهيئة الدائمة التي كانت تقوم-إلى حد كبير-بدور المحكمة العليا، وقد استوحت التسمية الأولى لمجلس القضاء الإداري هذا المعنى، حيث كان باسم:”لجنة الشؤون الإدارية لأعضاء الديوان”، على اعتبار أن مجلس القضاء في اصطلاح الفقهاء هو مجلس الحكم لا غير ، لكن لا يمنع السياق الحديث من تطوير دلالته وشمول الشؤون الوظيفية للقضاة بهذا الاسم، ولا مشاحة في الاصطلاح، وبخاصة أنه قد اكتسب وضعه النظامي بمسوغات مقبولة، ونظائر مماثلة، فضلاً عما في تقديم كلمة:”الأعلى” في النظام الجديد من معنى آخر يؤخذ منه أنه مجلس أعلى للقضاء-أي لشؤون القضاء التي نص عليها النظام-وليس مجلس قضاء الذي كان له في السابق ما يسوغ تسميته بذلك باعتبار هيئته الدائمة، ولعل المنظم يُلحق هذا المفهوم بمجلس القضاء الإداري عند قيام المقتضى النظامي بالمراجعة والتعديل، وبخاصة أن في إضافة كلمة: “الأعلى” لمجلس القضاء الإداري ما يفيد باستقلاله عن المجلس الأعلى للقضاء؛ فضلاً عن الملحظ المشار إليه في تقديم كلمة “الأعلى”.
وتبعاً للترتيب السابق لا يجوز-على سبيل المثال-لوزارة العدل التدخل في أي إجراء فني للقاضي، لكن لها بحكم ما يحال لها من ولي الأمر، وتأسيساً على مهماتها في الرقابة على أعمال المنظومة العدلية باعتبارها عضواً في مجلس الوزراء، ومسؤولة مسؤولية مباشرة أمام رئيس مجلس الوزراء وفق صلاحيات المجلس المشمولة بأحكام المادتين: (19، 24) من نظامه، والتزام رئيس المجلس المنصوص عليه في المادة (29)من نظامه، الخاص بتنفيذ الأنظمة واللوائح والقرارات، المنسحب على مكونات السلطة التنفيذية مشمولة بوزارة العدل المنطوية ضمن المنظومة العدلية، لوزارة العدل والحالة هذه أن تستطلع من المحاكم عن أي إجراء من شأنه التأثير في سلامة تطبيق أنظمة القضاء ولوائحه وضمانات المرفق العدلي، ولذا يعهد المقام السامي الكريم إلى وزير العدل بإصدار قرارات تتعلق بالمرفق، ومن ذلك العهد له بندب بعض القضاة في حالات معينة مما لا علاقة له بإسناد ولاية قضائية، آخرها ما قضى به الأمر الملكي الكريم ذوالرقم(6098/ب) في 6/6/1430هـ.
ولا يفوت أن جهات الإدارة التي ليس لرؤوسائها مقعد في مجلس الوزراء تمثل فيه عن طريق رئيس المجلس؛ بحكم الارتباط المباشر، مما يلغي تصور وجود فراغ في التمثيل الحكومي لجهة إدارة.
ومن الدول التي صدرت عنها نظريات الفصل بين السلطات فرنسا، وهي من تعاملت مع هذا المفهوم وفق تكييفه الوضعي الصحيح الذي اعتبر مفهوم الفصل تكامليا-لا اتحاد سلطات-، حتى جعل من وزارة عدلها رئيساً لمحكمة التنازع “بين القضاء الإداري والعادي”المشكّلة من ثلاثة مستشارين من مجلس الدولة”رأس هرم القضاء الإداري”، وثلاثة من مستشاري محكمة النقض، وهذا المفهوم في الفصل بين السلطات هو ما رسخته أحكام النظام الأساسي للحكم في المملكة حيث نصت المادة:”الرابعة والأربعون”من النظام على تكوين سلطات الدولة من السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، والسلطة التنظيمية، وقضت بتعاونها فيما بينها، ولم يكن في سياق حكم المادة ما يشعر بالخروج عن المفهوم السائد دوليا في الفصل، الأمر الذي قررته قواعد القانون الدستوري.
(3) “الحكمة ضالة المؤمن ..” لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن معناه صحيح؛ تشهـــد لــه عموم النصوص.
والكــلمــة المفيدة، التي لا تتعارض مع نص شرعي، وإن صدرت من غير مسلم، فعلى المؤمن أن يستفيد منها، مــن غـيــر التــفـات إلـى قــائلهــا، وقد استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال حكيمة قيلت قبل إسلام أصحابها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:”أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:” ألا كل شيء ما خلا الله باطل”، وقد أقر رسول الله صلى عليه وسلم لسلمان الفارسي-رضي الله عنه-حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وكان أمراً تفعله الروم وفارس، فاستفاد من علومهم فيما ينفع.
وفي سياق استعمال:”حيث” في النص المنوه عنه، نشير إلى أنه من الخطأ التعليل بها، كما هو شائع في صياغة الأحكام في غالب البلاد العربية-بأسلوب سرديّ متكرر-، والعربُُ لا تستعملها إلا ظرف مكان، وقد تأتي للزمان.
“المصدر : افتتاحية مجلة العدل الفصلية الصادرة من وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية” .