حقــوق الأجــراء
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل

حقوق الأجراء

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70- 71].

أمَّا بَعْدُ: فإنَّ القُوَّةَ ليست في التسلُّط على الضعفاء والمساكين، وبَخْس حقوقهم، وأَكْلِ أموالهم بالباطل، والولوج من كل بابٍ يُؤَدِّي إلى مال ودنيا، دون النظر إلى حلِّه وحرمته؛ إنَّما القُوَّةُ الحقيقيَّة هِيَ في السَّيْطَرَةِ على النفس وشهواتها، وكبح جماحها، أن تظلم الآخرين أو تبخس حقوقهم، في مراقبة دائمة لله عز وجل مع استحضار قوة الله وبطشه، وسرعة انتقامه من الظالمين.

وهذا تذكيرٌ بلزوم أداء الحقوق إلى أهلها، في زمن تهاون فيه كثير من الناس بحقوق الأجراء والعمال؛ يستأجر الواحد منهم أجيرًا فيؤدي عمله كاملاً، فيدفع الطمعُ صاحبَ العمل إلى المُمَاطَلَة والتأخير في دفع الأجرة، ولقد ازْدَحَمَتِ المحاكم بكثرة الدعاوى، واشتكت المكاتب المسؤولة من كثرة الشكاوى. وهذه الظاهرة الظالمة تَنُمُّ عن قسوة قلوب كثير من المستقدمين والمستأجرين للأجراء، وتظهر مدى جشعهم وطمعهم واستبدالهم شكر نعمة المال كفرًا، فنعوذ بالله من نفوس لا تشبع، ومن قلوب لا تخشع.

أيها الإخوة: إن من أعظم الظلم في الاستئجار والاستقدام أن يُفضَّل الكافر على المسلم، فيستقدمُ صاحبُ العمل خدمًا أو عمالاً كافرين، رجالاً كانوا أم نساءً من بلاد فيها مُسْلِمون محتاجون إلى هذا العمل، لا يراقب الله في صنيعه هذا، ولا يهتم لمسألة الوَلاء والبَرَاء، ويتذرَّعُ بِحُجَجٍ واهية من دعوى أن الكافر أتقنُ لعمله من المسلم، وأحفظُ للأمانة، وأوفى بالعهد، وغير ذلك مما يردده وللأسف بعضُ المسلمين.

وما عَلِمَ هؤلاءِ أن الأصلَ في الكافر الخيانة والغَدْر؛ لأنَّ مَنْ خانَ اللَّهَ في عبادته، وخان رسوله في اتباعه فهو أَوْلَى بِكُلِّ خيانة.

لكن تأبى بصائرُ هؤلاءِ إلا أن تَعْمَى عن الحق، ويأبى نظرُهم إلا أن يكون ضيقًا محدودًا، ينخدع بتمسكنِ الكافر، وإظهار إخلاصه وإتقانه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا الإعجاب بالكافر وبيَّن أنَّ الخيريَّة هي في المؤمن مهما بلغ الإعجاب بالكافر، فقال عز من قائل: ﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ [البقرة: 221] نعم والله، ولو أعجبكم شكله ومظهره، وما يظهر من أمانته وإتقانه؛ فإنَّ المؤمِنَ يَبْقَى خيرًا وأفضل ولا سيَّما أن الله تعالى قد خَوَّن الكافرين.

روى عياضٌ الأَشْعَرِيّ: “أن أبا موسى رضي الله عنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني، فأعجب عمرَ رضي الله عنه ما رأى من حفظه فقال: “قل لكاتبك يقرأ لنا كتابًا، قال: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمرُ رضي الله عنه، وهمَّ به وقال: “لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنوهم إذْ خَوَّنَهُمُ الله عز وجل”. وفي رِوَاية قال أبو موسى: “فانتهرني عمر وضرب فخذي، وقال: “أخرجه”، وقرأ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51] قال أبو موسى: “والله ما توليته، إنما كان يكتب، قال: “أمَا وجدت في أهل الإسلام من يكتب لك؟ لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأمنهم إذ خانهم الله، ولا تعزَّهُمْ بعد إذ أذلهم الله فأخرجه”؛ أخرجه البيهقي بإسناد صحيح[1].

ويكون الأمرُ متناهيًا في الإثم حينما يكون عند صاحب العمل أجراءُ مسلمون يُرَئِّسُ عليهم كافرًا يضطهِدُهم ويُهينهم ويمنعهم من أداء شعائر دينهم بحُجَّةِ العمل؛ بل يُكْرِهُهُم على الردة والكفر بأفعاله وتصرفاته، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141]. وبعض المسلمين يأْبَوْن إلا أن يجعلوا للكافر على المؤمن سبيلاً وفي بلادِ المسلمين!!

وبعض أرباب العمل – هداهم الله – يظلمون الأجراء فيكلفونهم من العمل ما لا يطيقون، أو ما لم يتفق عليه في عقد العمل، وهذا مُخَالِفٌ لأمر الله بالوفاء بالعقود: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، أو يكتب العقد بعبارات واسعة فَجَّة تَحْتَمِل جميع الأعمال؛ لئلا يُحتج عليه بالعقد؛ ظانًّا أنه بهذه الحِيَل يخرج من الإثم، جاهلاً أو متجاهلاً وجوب أن يكون العقد بينه وبين الأجير واضحًا لكل مِنْهُمَا.

قال المُوفقُ ابنُ قُدَامَة رحمه الله تعالى فيمَنِ اسْتُؤْجِرَ لحفر أرض: “ويحتاج إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها… لأن الأرض قد تكون صُلْبَة فيكون الحفر عليه شاقًّا، وقد تكون سهلة فيسهل ذلك عليه. وإن قدَّره بالعمل فلا بد من معرفة الوضع بالمشاهدة؛ لأن المواضع تختلف بالسهولة والصلابة ولا ينضبط ذلك بالصفة… وإن وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره؛ لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض، وإنما اعتبرت مشاهدة الأرض؛ لأنها تختلف، فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له الخيار في الفَسْخِ، فإذا فسخ كان له من الأجر بحِصَّة ما عَمل” ا.هـ[2]

فما موقع هذا الكلام الدقيق من قلوب أقوام يتسلطون على الأجراء، ويُكَلِّفُونَهم من العمل ما هو خارج عنِ الاتّفاقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُجَرائِهِمْ، ويهددونهم بتأخير أجورهم أو منعها إذا لم يعملوا لهم ما يريدون مما لا يلزم الأجراء؟!

ومن ظواهر تقديم الدنيا على حق الله تعالى والدار الآخرة: ما يفعله بعض المسلمين من منع عُمَّالهم من أداء الصلاة في الجماعة؛ حتى صلاة الجمعة، وربما اضطروهم إلى تأخير الصلاة عن وقتها، أو ألزموهم بالفطر في الصيام الواجب، أو منعوهم من الحج مع اشتراطه في عقد العمل، وكثير من العُمَّال قد يجدون أعمالاً في بلادهم؛ لكن يحفزهم إلى العمل في هذه البلاد المباركة التَّمَكُّنُ من أداء الحج، فيشترطونه في العقد؛ ومع ذلك لا يُمَكِّنُهم أصحاب الأعمال منه، وإن كانوا لا يتضررون بذلك، فضلاً عن منعهم من نوافل العبادات.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: “أجير المشاهرة – أي: الذي استؤجر بالشهر – يشهد الأعياد والجمعة ولا يشترط لذلك” – أي: أنه من لوازم العقد بلا شرط – قيل له: فيتطوع بالرَّكْعَتَيْن قال: “ما لم يُضرَّ بصاحبه”، قال ابْنُ قُدَامَةَ: “إنما أباح له ذلك؛ لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة”. وقال ابن المبارك: “لا بأس أن يصليَ الأجيرُ ركعات السنة”، وقال أبو ثور وابنُ المُنْذِر: “ليس له مَنْعه منها”[3].

أيها الإخوة: ومن عظيم الظلم والإثم تأخيرُ دفع مستحقات الأجير والمُمَاطَلَةُ فيها، وتوقيعُه مكرهًا على استلامها وهو لم يتسلمها، وتهدُيده عند التذكير بحقه بإلغاء عقده وتسفيره، وكم في هذا الصنيع وما جرى مجراه من الظلم والبغي والعدوان، يمنعُ ضعيفًا حقه، ويأكل ماله بالباطل!!

ضعيفٌ تَغَرَّب عن بلاده، وفارق أهله وأولاده، واحتمل المكاره من أجل الرِّزْق الحلال، ربما كان أهله وأولاده جَوْعَى يطعمهم من أجره كل شهر، فكيف يُمنعُ أجره، ويُجوَّعُ أولادُه؟! ربما كان يبعث المال لعلاج والِدَيْن مَرِيضَيْن، فيُؤخرُ حقه فيتأخر الدواء عنهما!! ربما كان يدفع بهذا الأجر عن أولاده خطر التنصير والكفر!!

إنه لم يخرج من بلاده، ويفارق أولاده إلا من حاجة، فكيف تستغلُ حاجته، وتؤخرُ حقوقه؟! وإذا كان تأخير الحق أو منعُه مع عدم حاجة الأجير إلى حقه ظلمًا، فكيف مع وجود الحاجة؛ بل الحاجةِ الملِحَّة.

عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال: “جاء أعرابِيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينًا كان عليه، فاشتدَّ عليه؛ حتى قال له: أحرِّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك! تدري من تكلم، قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هلا مع صاحب الحق كنتم” ثم أرسل إلى خَوْلَة بنت قيس فقال لها: ((إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيَكِ))، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته، فقضى الأعرابيَّ وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال: ((أولئك خيار الناس، إنه لا قُدِّسَتْ أمةٌ لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه غير مُتَعْتَعٍ))؛ أخرجه ابن مَاجَهْ بإسناد صحيح [4]

وعن أبي حُميد السَّاعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمُسْلِم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه))، قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم؛ أخرجه أحمد وابن حبان[5]

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله – تعالى -: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمَه خصمته يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثُمَّ غَدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره))[6]، قال ابن التين: “هو سبحانه خصم لجميع الظالمين إلا أنَّه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح”، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “هو في معنى من باع حرًا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ؛ لأنَّه استوفى منفعته بغير عوض وكأنه أكلها، ولأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده” ا.هـ[7].

ولعظيم حق الأجير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعْطَى أُجْرَتَهُ فور استحقاقه لها من دون تأخير ولا مُمَاطَلَة؛ قال عليه الصلاة والسلام: “أَعْطُوا الأجيرَ أَجْرَهُ قبل أن يجفَّ عرقُه”؛ أخرجه ابن مَاجَهْ[8].

وتأخيرُ إعطاء الأجير حقه مُخَالِفٌ لأَمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلم وبَغْي حتى ولو كانَ العامِلُ الأجير كافِرًا؛ لأنَّ كُفْرَهُ ليس مسوِّغًا لِظُلْمِهِ وأَكْلِ حَقِّهِ، لِذا عَدَّهُ بَعْضُ العُلَماءِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنوبِ[9] التي لا يَقْوَى الاستغفار على رفعها، وإنما تحتاج إلى تَوْبة تامة الشروط وأهم شرط فيها أداء حقوق أجرائه الذين ظلمهم، والاستباحةُ وطلبُ العفو منهم، مع الإقلاع عن الظلم فورًا، والندم عليه، والعزم على عدم تأخير أداء الحقوق إلى أهلها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 26 – 28]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المؤمنون: يجب على مَنْ كان عنده أُجَراءُ كُفَّار دعوتهم إلى الإسلام، والاجتهادُ في ذلك.

فالدعوةُ إلى الإسلام، وهدايةُ العباد من أعظم القرب عند الله تعالى، فإن امتنع الأجير الكافر عن الإسلام وجب على صاحب العمل عدمُ تجديد عَقْده، وتسفيرُه بعد أداء حقه؛ لما في بقائه على الكفر مع تشغيله في بلاد المسلمين من المفاسد العظيمة يكفي منها: إقراره على الكفر، بل مكافأته عليه، وربما كان سببًا في ردة بعض المسلمين منَ العاملينَ معه، مع ما فيه من دَعْمٍ لاقتصاد الكفار على المسلمين، وطولُ مُعَاشَرَةِ الكافر في العمل أو المؤسسة أو الشركة تهوّن أمر الكفر في نفس المسلم، ولما في تشغيل الكافر في بلاد المسلمين من تشجيعٍ له على البقاء على كُفْرِه؛ لأنه إذا علم أن بقاءه على الكفر لن يؤثر على عمله فَسَيَبْقَى عليه؛ بخلاف ما إذا علم أنه سيتأثر فلربما أسلم من أجل العمل أولاً، ثم يحسن إسلامه بعد ذلك حينما يجد حلاوة الإيمان.

ويجب على صاحب العمل أن يُعلِّم أجيره الضروريَ من دينه؛ كقراءة الفاتحة والوضوء والصلاة وغير ذلك مما يحتاجه من ضروريات دينه، وكم من أُجَرَاء مسلمين عملوا عند مسلمين، جاؤوا من بلادهم لا يفقهون شيئًا من دينهم، ومكثوا سنوات عدة ثم رجعوا كما هم، وهذا تقصير من مشغِّلِيهم.

وعِرْضُ الأجير محفوظ لا يجوز لصاحب العمل أن يحتقره أو يزدريه أو يغتابه أو يشتمه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه، بحسب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أن يحقر أخاه المسلم))[10]. وبعض الناس يتساهل في هذه القضية فتجده يُخَاطِبُ خادِمَهُ أو أجيره بالعبارة التي يحقره بها في لونه أو جنسه أو جسمه أو لسانه.

وإذا أخْطَأَ الأجير حاسبه صاحب العمل على قَدْر خَطَئِه وفق المشروع من المُحَاسَبَة، ولا يَتَعَدَّى عليه أو يظلمه أو يبخسه حقه بسبب خطئه، وقد ذَكَر الفُقَهَاء ذلك، وذكروا أحكام العقود وشروطها وما يعمل عند اختلال شيء منها، فلا يعذر أصحاب العمل بجهلهم أو تجاهلهم؛ لأنَّ العلماء موجودون، وسؤالهم عما يحدث ممكن، وسبل العلم مُيَسَّرَة؛ لكن نحتاج إلى شيء من الاهتمام والجِدِّيَّة.

فاتقوا الله ربكم، اتقوه في حقوق العباد، فالمعصية بينك وبين الله تعالى يغفرها الله لك بتوبة أو رحمة منه تعالى؛ لكن حقوق العباد لا بد من أدائها حتى تقبل التوبة، وحقوق الله تعالى تبنى على المسامحة أمَّا حُقُوقُ العِبادِ فَتُبْنَى على المشاحَّة، وإذا دعتك نفسك إلى ظلم الضعيف حينما نَظَرْتَ إلى ضَعْفِه وَعَجْزِه وَقِلَّةِ حِيلَتِه فَتَذَكَّرْ أنَّ الله سبحانه أقوى مِنْكَ، وأنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وأنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ تَرْتَفِعُ إلى عنان السماء ليس بينها وبين الله حجاب، ثم صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبدالله؛ كما أمركم بذلك ربكم.

[1] أخرجه البيهقي في “السنن الكبرى” بالروايتين المذكورتين (10/ 127)، وصحح الألباني الرواية الأولى، وحسن الثانية؛ كما في “إرواء الغليل” (8/ 255).

[2] “المغني” لابن قدامه (8/ 37).

[3] “المغني” (8/ 43).

[4] أخرجه ابن ماجه في الصدقات؛ باب لصاحب الحق سلطان (2426)، وقال البوصيري في “مصباح الزجاجة”: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه أبو يعلى ورواته رواة الصحيح (2/ 249).

[5] أخرجه أحمد (5/ 425)، والبزار وحسنه (2/ 234)، والبيهقي في “الكبرى”

(6/ 100)، وابن حبان واللفظ له (5946)، قال الهيثمي في “المجمع”: رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح (4/ 171)، وصححه الألباني في “غاية المرام” (456).

[6] أخرجه أحمد (2/ 358)، والبخاري في البيوع باب إثم من باع حرًّا دون زيادة ((ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)) (2227)، وابن ماجه والزيادة له في الرهون باب أجر الأجراء (2442).

[7] “فتح الباري” (4/ 488).

[8] أخرجه ابن ماجة في الرهون باب أجر الأجراء (2443)، من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -، وضعفه البوصيري ثم حسنه (2/ 259)، والطبراني في “الصغير” (34)، وأبو يعلى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (6652)، والحكيم الترمذي من حديث أنس ؛كما في “الجامع الصغير” للسيوطي وضعفه، انظر: “فيض القدير” للمُنَاوِيّ (1/ 562)، وضعفه الهيثمي في” المجمع” (4/ 98)، قال الزَّيْلَعِيّ: وكل طرقه ضعيفة، انظر: “نصب الراية” (4/ 129)، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع” (1055)، و”الإرواء” (1498)، وانظر الحديث في “السنن الكبرى” للبيهقي (6/ 120)، و”الحلية” لأبي نُعَيْم (7/ 142)، و”مشكل الآثار” للطحاوي (4/ 142)، و”تاريخ بغداد” (5/ 33)، و”تهذيب تاريخ دمشق” (1/ 406)، و”الكامل” لابن عدي (4/ 1352)، و”تلخيص الحبير” لابن حجر (3/ 59)، و”المطالب العاليه” له أيضًا (1421)، و”المقصد الأعلى” للهيثمي (693).

[9] ممن عدّه في الكبائر ابن حجر الهيتمي في “الزواجر عن اقتراف الكبائر” باب الإجارة (1/ 506)، وابن النحاس في “تنبيه الغافلين” (132).

[10] أخرجه البخاري في النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه؛ حتى ينكح أو يدع (5143)، ومسلم في البر والصلة باب تحريم ظلم المسلم وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله، (2564) واللفظ له.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت