تقنية التجريم الاقتصادي في سورية

إن المتعمق في الأصول التاريخية لتدخل قانون العقوبات لحماية الأوضاع الاقتصادية, يلحظ أن هذا التدخل عُرف منذ عهد سحيق من التاريخ القانوني وظهر في جميع أحقاب التاريخ في قوانين مختلف البلدان. فقد عرفته تشريعات مصر الفرعونية وحمورابي والإغريق والشريعة الإسلامية. كما عرفته تشريعات مختلف الدول في العصور الوسطى والحديثة. ولكن الظروف الإقتصادية في القرنين الأخيرين قادت إلى توسيع نطاق التشريعات الإقتصادية, وبالتالي توسيع نطاق النصوص الجزائية المؤيدة لها.

وقد أثار تدخل الدولة في الحياة الإقتصادية عدداً من الأصوات المعارضة وذلك بحجة أن التدخل في النشاط الاقتصادي ينتج آثاراً سلبية في المبادرة الفردية وحرية المزاحمة ويعيب إجراءات السوق ويعطلها. ولكن هذا الاتجاه لم يلق نجاحا ً كافياً وظلت الغلبة للاتجاه المؤيد للتدخل والتوجيه الاقتصادي؛ فقد تبنى الاتجاه الأخير مقولة جوهرية مفادها: إنْ لم تكبح السلطة البرجوازية الحاكمة جماح الحرية الفردية التي عرفها القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فسوف تؤدي هذه الحرية إلى أن يدمر النظام الرأسمالي نفسه بنفسه, ويهيئ أسباب فنائه.

ونتيجة لذلك فإن إقرار التشريعات الإقتصادية لم يتوقف منذ القرن التاسع عشر إلى أن بلغ أوجّه في العقود الأخيرة من القرن الحالي. ويمكن القول إن الحديث لم يعد شائعا ً في الأيام الحاضرة عن تجريم أو عدم تجريم المخالفات الاقتصادية، بل حل محله الحديث عن تطوير “تقنية التجريم الاقتصادي” بوضع تعريف مناسب ومحدد للجرائم الإقتصادية، وتحديد نطاقها واصلاح مفاهيمها وتحسين أجهزة مكافحتها, واختيار العقوبات والتدابير والإجراءات الملائمة لها؛ فهي جرائم حضارية أي مرهونة بنظام الدولة عندما تبلغ درجة معينة من الخطورة والتهديد.

وسورية، عبر تاريخها الطويل ليست غريبة عن التقنيات الاقتصادية والجرائم الاقتصادية؛ ففي عام 1966 صدر لأول مرة قانون أطلق عليه “قانون العقوبات الإقتصادي” (المرسوم التشريعي رقم 37) وجاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون: “أن هذا القانون جاء ليحمي أمن وسلامة المرافق الإقتصادية في سيرها وتطورها المتحول نحو الاشتراكية, وليشدد عقوبات الأفعال الجرمية التي تقع على المرافق والمنشآت الإقتصادية باعتبارها أصبحت ملكاً للشعب… وعلى ذلك فقد جاءت مواد هذا (القانون) تعالج مختلف الحالات التي يمكن أن يتعرض لها الإقتصاد القومي… وأنزلت بكل فعل جرمي ما يستحقه من العقاب”.

وفي عام 2013 ألغي هذا القانون وتعديلاته وصدر القانون رقم 3 الذي تضمن نصوصاً جزائية توسّع من نطاقه، حيث يطال جميع الأفعال التي من شأنها إلحاق الضرر بالأموال العامة وبعمليات الإنتاج وتوزيع وتداول واستهلاك السلع والخدمات. ويهدف القانون إلى حماية الأموال العامة والاقتصاد القومي والسياسة الاقتصادية كالتشريعات المتعلقة بالتموين والتخطيط والتدريب والتصنيع ودعم الصناعة والائتمان والتأمين والنقل والتجارة والشركات وحماية أموال الجمعيات التعاونية والأحزاب السياسية المرخصة قانوناً والمنظمات الشعبية والأموال المودعة لدى أي من الجهات العامة وأموال الوقف وضمان السير الطبيعي للنشاط الإقتصادي في إطار النزاهة والشفافية وسيادة القانون.

لذلك يمكن القول إن قانون العقوبات الإقتصادي لا يشمل النصوص التي تحمل عنوانه فحسب, بل يشمل بالإضافة إليها، جميع القوانين الاقتصادية التي تتضمن عقوبات جزائية, رغم عدم النص صراحة على أن هذه القوانين تعدّ جزءاً من قانون العقوبات الاقتصادي, أو أن الجرائم المنصوص عليها فيها جرائم اقتصادية. فقد نصت المادة 26 منه: “إذا كانت العقوبة المنصوص عليها في هذا القانون أدنى من العقوبة المفروضة في القوانين الأخرى لجريمة مماثلة تطبق العقوبة الأشد” على اعتبار أن القانون يهدف بحسب ما جاء في المادة 3 منه إلى مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية وحماية الإقتصاد الوطني والمال العام.

وفي ضوء ذلك يمكن القول إن الجريمة الإقتصادية في هذا القانون هي كل فعل (أو امتناع) يعاقب عليه القانون ويخالف السياسة الاقتصادية للدولة. والسياسة الإقتصادية ترسمها الدولة بقوانين أو مراسيم أو قرارات إذا نُص على تجريمه سواء في قانون العقوبات الإقتصادي أو القوانين الخاصة بخطط التنمية الإقتصادية والصادرة من السلطة المختصة لمصلحة الشعب.

وقد حدد دستور الجمهورية العربية السورية المبادئ الاقتصادية في الفصل الثاني من الباب الأول في المادة الثالثة عشرة منه، والتي تنص على أن:

“1ـ يقوم الإقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الإقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الإقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل.

2ـ تهدف السياسة الإقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الإقتصادي والعدالة الإجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

3ـ تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنع الاحتكار في مختلف المجالات الإقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل بما يخدم الإقتصاد الوطني”.

وبناء على أهمية الجرائم ذات الطابع الإقتصادي وضرورة مكافحتها وذلك في مجال وضع أسس سليمة تهدف إلى تنمية أسباب الرخاء في المجتمع، وتمنع العابثين بقوت الشعب واستغلال معاناة المواطنين والاستفادة من ظروف الأزمة الحالية, وإيماناً بضرورة إقامة هذه الأسس على مبدأي الشرعية والعدالة وضمان تطبيقها بروح حريصة على العدالة الإجتماعية والمساواة، وبالنظر إلى أهمية الوقاية في هذا المجال من ناحية، وأهمية بيان الجزاءات المفروضة في هذا القانون من ناحية أخرى، والحرص في الوقت ذاته على توفير الضمانات للأفراد وتهيئة الحماية الضرورية لسلطات الدولة،

وواجبات الدولة والمصالح العامة للجماعة، لذلك كلّه لا بد من تعميق الوعي ولاسيما في هذه الظروف التي تشهدها البلاد حول فكرة الجرائم الإقتصادية وطبيعتها وصورها وحول الوقاية منها ووسائل الإعلام عنها والرقابة الكفيلة بتلك الوقاية، وحول إجراءاتها والمحاكمة فيها وجزاءاتها وتدابيرها المختلفة الأكثر ملاءمة في مكافحتها وفي علاجها.