الاضراب جريمة تأديبية :

الإضراب لغة هى الكف والإعراض عن العمل , ويرجع الأصل التاريخي لكلمة الإضراب la gréve إلى مكان بالعاصمة الفرنسية باريس يطلق عليه “Place de greve”، وهذا المكان يقع بجوار دار البلدية “Hotel de vellé “، حيث كان العمال العاطلون يجتمعون في هذا المكان للبحث عن عمل، ومن ثم اصطبغ الأمر بهذه التسمية ، ووجدت عبارة Fait de gréve وكان يقصد بها السيطرة على مكان ما؛ وذلك انتظار للحصول على فرصة عمل، ومن هذه التسمية التاريخية انشق مصطلح الإضراب .

فالإضراب باعتباره من الوسائل التي يلجأ إليها العمال في حالة تعسف رب العمل ضدهم وحرمانهم من بعض الامتيازات المهنية، فيلجئون إلى الإضراب لحمل رب العمل على إجابتهم إلى مطالبهم، امر قد يكون مستساغا فى علاقات العمل التعاقدية التى تقوم على اتفاق بين رب العمل و العامل على شروط العمل , و هو الامر الذى لا يتحقق على الاطلاق فى علاقات العمل التنظيمية كالعمل فى اجهزة الدولة الحكومية المختلفة , فقد يترتب على الإضراب الإضرار البالغ بالمصلحة العامة ، لذا فهو بحسب الاصل حق مقيد بشروط ، وإلا انقلب إلى فوضى , و لا يقدح فى تجريم الاضراب عن العمل كجريمة تأديبية ما استند اليه الحكم محل الطعن من ان الاضراب جائز للعامل طبقا للاتفاقيات التي صدقت عليها مصر، والتى لا يجوز بمقتضاها تجريم الإضراب , بحسبان انه فى 1/10/1981 صدر القرار الجمهوري رقم 537 لسنة 81 بالموافقة على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي 8/12/1981 تم تصديق رئيس الجمهورية على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونشرت بالجريدة الرسمية بتاريخ 8/4/1982 ، وأصبحت نافذة بتاريخ 14/4/1982, اذ نصت المادة الخامسة منها على أن ” ليس في الاتفاقية الحالية ما يمكن تفسيره بأنه يجيز لأية دولة أو جماعة أو شخص أي حق في الإشتراك بأي نشاط أو القيام بأي عمل يستهدف القضاء على أي من الحقوق أو الحريات المقررة في هذه الاتفاقية، أو يعتبروها لدرجة أكبر مما هو منصوص عليه في الاتفاقية الحالية “, ونصت المادة الثامنة من ذات العهد على أن “تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تكفل… الحق في الإضراب على أن يمارس طبقًا لقوانين القطر المختص”. , فاتفاقية العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفقًا للفقرة الثانية من المادة الثامنة، اكتفت بعدم حظر هذا الحق، وإن نصت على إمكانية تقييده , و ليس ادل على ذلك من ان المشرع المصرى نظم حق الاضراب فى نصوص قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 , بينما لم ينظم حق الاضراب فى قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 , اذ نصت المادة 192 من قانون العمل 12 لسنة 2003م على أن ” للعمال حق الإضراب السلمي، ويكون إعلانه وتنظيمه من خلال منظماتهم النقابية دفاعًا عن مصالحهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك في الحدود وطبقًا للضوابط والإجراءات المقررة في هذا القانون…” , ونصت المادة 193 من ذات القانون على أن “يحظر على العمال الإضراب أو إعلانه بواسطة منظماتهم النقابية بقصد تعديل اتفاقية العمل الجماعية أثناء مدة سريانهم، وكذلك خلال مراحل وإجراءات الوساطة والتحكيم” , ونصت المادة 194 من ذات القانون على أن “يحظر الإضراب أو الدعوة إليه في المنشآت الاستراتيجية أو الحيوية، التي يترتب على توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي أو بالخدمات الأساسية التي تقدمها للمواطنين، ويصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بتحديد هذه المنشآت , و هو ما يبين منه ان المشرع فى قانون العمل رقم 13 لسنة 2003 نظم الحق في الإضراب ، ووضع عليه بعض القيود ، ومن أهمها إبلاغ السلطات المختصة من خلال اللجان النقابية، وحظر الإضراب في بعض المنشآت الاستراتيجية والحيوية، التي يترتب عليه توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية، التي تقدمها للمواطنين، وفوض بخصوصها المشرع رئيس مجلس الوزراء في تحديد هذه المنشآت، على أنه يلاحظ أنه في حالة مخالفة ذلك، وهو القيام بالإضراب , يقع مرتكب هذا تحت طائلة الجزاء التأديبي دون ان يعد ذلك اخلالا بالاتفاقية الدولية على الاطلاق .

هذا فيما يخص العاملين الخاضعين لعلاقات العمل التعاقدية , اما العاملين بالدولة , فلقد نصت المادة الرابعة صراحة من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 على انه لا تسرى أحكام هذا القانون على العاملين بأجهزة الدولة بما فى ذلك وحدات الإدارة المحلية و الهيئات العامة , و الذين يسرى عليها بحسب الاصل قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 و قد نصت المادة 76 من نظام العاملين المدنيين بالدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1978 المعدل بالقانون رقم 115 لسنة 1983 على ان الوظائف العامة تكليف للقائمين بها، هدفها خدمة المواطنين تحقيقا للمصلحة العامة طبقا للقوانين واللوائح والنظم المعمول بها , ويجب على العامل مراعاة أحكام هذا القانون وتنفيذها وعليه:

(1) أن يؤدى العمل المنوط به بنفسه بدقة وأمانة وأن يخصص وقت العمل الرسمى لأداء واجبات وظيفته، ويجوز تكليف العاملين بالعمل فى غير أوقات العمل الرسمية علاوة على الوقت المعين إذا اقتضت مصلحة العمل ذلك.
…….
(4) المحافظة على مواعيد العمل واتباع الإجراءات التى تحددها اللائحة الداخلية للوحدة فى حالة التغيب عن العمل أو التأخير عن المواعيد.

و لما كان من المستقر عليه ان علاقة الموظف العام بالدولة علاقة تنظيمية , تستند الى نصوص قانونية عامة و مجردة موضوعة من قبل التحاق الموظف بالخدمة فى الوظيفة العامة , و انه يترتب على ذلك اثر قانونى انه لا يجوز للموظفين الاضراب او الامتناع عن العمل حتى لو كانت هناك اجراءات غير مشروعة اتخذتها الادارة ضد الموظف , لان سبيل مقاومتها لا يكون بالاضراب و انما بالالتجاء الى القضاء الادارى , اما الاضراب او الامتناع عن العمل فهو اجراء يخالف القوانين و اللوائح التى حددتها واجبات الموظف العام
( الاستاذ الدكتور / محمد رفعت عبد الوهاب , القانون الادارى , دار المطبوعات الجامعية , 1995 , ص 39 )

فلا يجوز للموظف العام بحسب الاصل ان يعطل اعمال المرفق العام , اذ ان ذلك يتعارض و مبدأ دوام سير المرافق العامة بانتظام و اطراد , و هو ما يتعارض و المصلحة العامة , و لذلك الزم القانون الموظف المستقيل بالاستمرار فى اداء اعماله حتى يتم قبول استقالته , فالاضراب جريمة تأديبية اذا توافرت اركانها

( الاستاذ الدكتور / ماجد راغب الحلو , القانون الادارى , دار المطبوعات الجامعية , 1994 , ص 370 )

ومبادىء الشريعة الاسلامية و هى المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر وفقا لحكم المادة 2 من الدستور الحالى الصادر عام 2012 , لم يرد بها ذكر لما يجيز إضراب الموظفين بدواوين الدولة المختلفة عن العمل سواء في القرآن الكريم اوالسنة النبوية الشريفة.

و لا يقدح فيما تقدم القول بأن الاتفاقية الدولية نسخت احكام قانون العاملين المدنيين بالدولة , اذ ان أن إلغاء القانون بحسب الاصل قد يكون صريحًا، وقد يكون ضمنيًا، ويشترط في هذه الحالة وجود تعارض حقيقي بين القانونين اللاحق والسابق من نفس القوة، بمعنى أن يكون صادرًا عن السلطة الموازية، فلا يلغي النص الأدنى النص الأعلى، فلا يلغي القانون الدستور، وإن كان يصح العكس، وأن يتعذر إعمال أحدهما دون تطبيق الآخر، وبذلك يتتبع إلغاء نص تشريعي بموجب التشريع اللاحق في حالة ورود النصين على محل واحد، ويكون من المحال إعمالهما معًا , وبناءً على ذلك فإن القانون رقم 47 لسنة 1978 باصدار قانون العاملين المدنيين بالدولة لا يتعارض مع ما تضمنته الاتفاقية الدولية , وذلك لاختلاف المحل في كلا القانونين، فالاتفاقية اجازت تنظيم حق الاضراب عموما , و قد اباحه المشرع المصرى بضوابط فى علاقات العمل الفردية وفقا لاحكام قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 , و اعتبره مخالفة تأديبية للعاملين الخاضعين لعلاقات العمل التنظيمية و اللائحية وفقا لاحكام قانون العاملين المدنيين بالدولة , و قد خلصت الجمعية العموية لقسمى الفتوى و التشريع مؤخرا الى عدم مشروعية اضراب الاطباء عن العمل و اجازت مساءلتهم تأديبيا عن ذلك (الجمعية العموية لقسمى الفتوى و التشريع , ملف رقم 86/6/681 , جلسة 21/11/2012 ) بما يؤيد صحة ما ذهبنا اليه فى رأينا المتقدم.

فلا يجوز الإضراب عن العمل , أو الدعوة إليه بشكل جماعي في المنشآت الحيوية أو الاستراتيجية او فى المرافق العامة و فى الوظائف الحكومية ، التي يؤدي توقف العمل بها إلى إضراب في الحياة اليومية لجمهور المواطنين، أو الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية، التي تقدم للمواطنين، وتعتبر من قبيل هذا المنشآت ما يلي: منشآت الأمن القومي والإنتاج الحربي، المستشفيات والمراكز الطبية والصيدليات، المخابز، وسائل النقل الجماعي للركاب (النقل البري والبحري والجوي)، وسائل نقل البضائع، منشآت الدفاع المدني، منشآت مياه الشرب والكهرباء والغاز والصرف الصحي، منشآت الاتصالات، منشآت الموانئ والمنائر والمطارات، العاملون في المؤسسات التعليمية و و هو ما خالفه الحكم محل الطعن الذى قضى ببراءة المطعون ضده رغم انه يعمل خفير منفذ سيدى عتمان التابع لمحطة سكة حديد شبين القناطر , و هى من الوظائف الحكومية التى لا يجوز لشاغلها الاضراب عنها .

كما لا يقدح فيما تقدم عدم تجريم الاضراب من الناحية الجنائية , اذ لا اثر لذلك على تجريمه من الناحية التأديبية بحسبان ان الاصل المقرر قانونا ان استقلال الجريمة التأديبية عن الجريمة الجنائية , و عدم جواز رد التأثيم التأديبى الى التجريم الجنائى لما فى ذلك من اهدار لاستقلال الدعوى التأديبية التى تختلف فى اغراضها و مراميها عن الدعوى الجنائية .

بقلم المستشار / اسلام احسان الوكيل العام بهيئة النيابة الادارية

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .