مقال قانوني بعنوان نشر الأحكام والتعليق عليها جائز

مقال حول: مقال قانوني بعنوان نشر الأحكام والتعليق عليها جائز

نشر الأحكام والتعليق عليها جائز

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

بقلم ذ أبو مسلم الحطاب

دكتور في الحقوق رئيس غرفة سابق بمحكمة النقض قاض شرفي من الدرجة الاستثنائية محام بهيأة الدار البيضاء
يرى الرافضون أن نشر الأحكام من شأنه أن يمس باستقلال القضاء، وأن يفتح الباب على مصراعيه لمراقبة عمل القضاة. في حين أن هذه المراقبة ينبغي حصرها في المحاكم العليا كمحاكم الاستئناف، ومحكمة النقض، وبطرق الطعن بالاستئناف أو بالنقض. أما المؤيدون فيرون العكس ، ويعتقدون أننشر الأحكام لا يمس باستقلال القاضي إطلاقا، وإنما يحثه على المزيد من الاهتمام بالقضايا المعروضة عليه وبالأحكام التي يصدرها، وتؤهله جودتها إلى الترقية وتحسين وضعيته ماديا ومعنويا…

والحقيقة أن نشر الأحكام عمل جار منذ زمن بعيد، وعابر للحدود، وأنه ولولا نشر الأحكام – غثها وسمينها – لما تطور الفقه والتشريع، مؤثرين ومتأثرين، وأن نشر الأحكام مستفاد ضمنيا من علنية الجلسات وعلنية صدور الأحكام (هذه العلنية التي لم تعد محكومة بالتشريع العادي فقط، بل أصبحت أيضا، وفوق ذلك، محكومة بالدستور الذي نص عليها في فصليه 123 و125(
وأن الأحكام تخرج، وبمجرد صدورها، من ولاية المحاكم التي أصدرتها، حيث تصبح ملكا للعموم، وأن نشرها لا يمس باستقلال القاضي لأن استقلال القاضي – بمفهومه الجوهري الضيق – هو ما عبر عنه الدستور الجديد لسنة 2011 في فصله 109 الذي ينص على أنه «يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط».يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد، خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.

يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. (مع ضرورة الانتباه إلى أن هذه الفقرة – وبالمفهوم المخالف – تجيز التأثير، إذا كان بكيفية مشروعة، وتفتح نافذة للتأطير والتوجيه، وتصحيح الأخطاء بالطرق الملائمة)، وفي فصله 110 الذي ينص على أنه « لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون ولا تصدر أحكام القضاة إلا على أساس التطبيق العادل للقانون. »فالاستقلال لا يعني التحلل من باقي الالتزامات، سيما ما يتعلق منها بسير الإجراءات، وبصدور الأحكام داخل اجل معقول لأن «العدل البطيء نوع من الظلم.»
والأحكام التي تنشر لا تعني الاقتصار على منطوقها، وإنما تعني نشرها كاملة بوقائعها، وتعليلاتها، ليتأتى استيعابها وتقييمها لتتحقق الفائدة من نشرها، كما هو الحال (مثلا) بالنسبة لنشر أحكام محكمة النقض، والدور الهام الذي تقوم به في توحيد الاجتهاد، والإشراف على حسن تطبيق القانون.

وغير خاف أن تعليل الأحكام – وهو أشق المهمات الملقاة على عاتق القاضي – يجب أن يكون واضحا، وبعبارات، ومفردات لغوية مألوفة، وبأسلوب خال من الإطناب الممل والإيجاز المخل، بعيد عن الاضطراب والتناقض. وقد صدق من قال: «إن نصوص الأحكام كنصوص التشريع»، لأنها تقرأ منطوقا ومفهوما.

ولأهمية تعليل الأحكام، وباعتباره أيضا أهم وسيلة يستطيع بها القاضي أن يقنع المتقاضين أولا، وكل من يطلع على أحكامه ثانيا، رسخه الدستور الجديد في الفصل 125 منه، وذلك لترى كل تلك المقتضيات محترمة ومطبقة في الأحكام.
وبقطع النظر عن كل ما ذكر، وعن كل ما قيل هناك وهنالك من آراء حول نشر الأحكام، فإن القانون – وعلى ما يبدو – قد حسم في الموضوع، قبل إثارة ذلك الجدل بشأنه، إذ أجاز نشر الأحكام أحيانا، ولو تعلقت بالأخلاق أو الآداب العامة، أو تعلقت بالأسرة، وأوجبه أحيانا أخرى.

فمن حيث الجواز، نص الفصل 55 (كما غير من قانون الصحافة)، بعد أن قصر منع النشر على بيان ما يدور حول قضايا القذف أو السب. وكذا عن المرافعات المتعلقة بدعاوى إثبات الأبوة والطلاق وفصل الزوجين – نص على أن «هذا المنع لا يطبق على الأحكام، حيث يسوغ نشرها دائما”، كما قصر الفصل 54 قبله، المنع على نشر وثائق الاتهام وغيرها من الوثائق المتعلقة بالمسطرة الجنائية أو الجنحية قبل مناقشتها في جلسة عمومية… ولم ينص هذا الفصل على منع نشر الأحكام. مع العلم أن الأصل في الأشياء هو الإباحة والجواز، إلى أن يثبت المنع.

وفيما يخص الوجوب، نص الفصل 48 من القانون الجنائي على نشر الأحكام، كعقوبة إضافية، طبقا للفصل 36 من القانون نفسه، متى أمرت به المحكمة في الأحوال التي يحددها القانون.

والخلاصة: أن نشر الأحكام والتعليق عليها، وبكيفية موضوعية (لا شخصية للاستفادة منها، أو للفت الانتباه إلى ما قد يشوبها من خلل، لتداركه بالوسائل القانون، أو لتجنبه استقبالا، جائز ولا غضاضة فيه، بل مرغوب فيه، وغير مخالف لا لنصوص الدستور ولا لروحه. فهو حق مشاع لا تجوز مصادرته، وهو ما نراه ونقرؤه في مختلف المجالات المتخصصة وعلى أعمدة الجرائد، لكن دون همز أو لمز، ومع الاحترام التام الواجب لأولئك القضاة الذين يصدرون تلك الأحكام ويبذلون جهودا مضنية في تجهيزها والمداولة بشأنها قبل النطق بها، إذ تصبح بعدئذ، ملكا للعموم، وعنوانا للحقيقة، وذات حجية، ويكون نشرها- وهذا هو الأهم – باعثا للقضاة على مزيد من الاعتناء بأحكامهم، وضمانة للمستثمر الوطني، وأداة لجذب الاستثمار الأجنبي، لأن الأحكام مرآة تعكس سيادة الحق والقانون في الدول الديمقراطية، ولأن نشرها قد يتجاوز الحدود الوطنية وبدون جواز مرور. وعندئذ تكون أحكامنا سفراء لدولتنا لدى أعرق الدول الديمقراطية.

فليكن سفراؤنا رسلا مبلغين عن استقلال قضائنا وجودة أحكامه وعن حمايته للحقوق دون أن يخاف فيها لومة لائم، وعن تمسكه بحسن تطبيق القانون. وتلك إحدى الغايات المثلى التي نسعى جميعا لتحقيقها في وطننا إن شاء الله، تحت قيادة الملك محمد السادس رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وضامن استقلالها، والحامي لحقوق أعضائها.

بقلم ذ أبو مسلم الحطاب
دكتور في الحقوق رئيس غرفة سابق بمحكمة النقض قاض شرفي من الدرجة الاستثنائية محام بهيأة الدار البيضاء

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.