دولة القانون أم قانون القبيلة

رافق التشريع ؛ تطور الإدراك الإنساني وسيظل يرافقه ، لأنه قاعدة وجوهر حياة أو مجموع حيوات الإنسانية بأكملها ، وبحسب السياق المنطقي فأن القوانين المعاصرة ستصبح قانونا تاريخيا بالنسبة للمستقبل فى حال خضوعها للتعديل بما يتلاءم مع متطلبات التطور والحراك الاجتماعي ولأجل ذلك يقول أوجست كونت إن أي نظام لا يمكن فهمه جيدا إلا من خلال تاريخه.
وهو ما أكده أفلاطون فى كتابه القوانين ؛ الذي حث فيه على ضرورة احترام الأعراف والتقاليد والعقائد والطقوس الدينية لأنها فى مجموعها تمثل منظومة القوانين غير المكتوبة أو ما عبر عنه بالدستور غير المدون حينذاك .

وقيمة التشريع لن تتأتِ إلا باحترام أحكامه من قبل الجميع لإرساء دعائم العدالة والمساواة أمام القانون والمحافظة على التماسك الاجتماعي الذي أراد المجتمع تحقيقه بإقراره ، وله وحده – نقصد المشرع – أن يحدد آلية تعديل أحكامه أو يخلق بدائل تمكن المخاطب بأحكامه من إيجاد سبل عديدة لتسوية الموضوع الذي ينظم التشريع أحكامه ، التي لا يقلل من شأنها أن تستمد مصدرها من الأعراف والتقاليد أو عادات الجماعة ، التي تشكل الأسرة أصغر تنظيم اجتماعي فيها ، ومنها تتشكل القبيلة .

ونواجه فى ليبيا تحدى العلائق الاجتماعية القبلية ؛ التي تفرض هيمنتها على المجتمع بقوانينها الخاصة التي لم تنصهر فى قواعده القانونية ، مما قد يعطل تشريع أو يقر بدائل لم تنص عليها القاعدة القانونية ، وهو ما يخل بمبادئ المساواة والعدالة ، لأن تلك البدائل خارج السياقات المحددة بموجب النص القانوني النافذ ، لذلك تبقي المعالجات القبلية ضمن الحدود المكانية لهذه القبيلة ، بل وقد تتجاوزها فى حال كانت قوة القانون معطلة لغلبة وتفوق قوة القبيلة .فهل نقبل بالسياقات التبادلية التي تقرها القبيلة وأن تجاوزت أحكام التشريع ؟ كأمر واقع ونغض النظر عن سلبياتها على الوحدة الوطنية .

ورغم أهمية العلاقات الاجتماعية وأهمية احترام الحق فى الخصوصية إلا أن تدخل القبيلة فى نظام العدالة وعلى وجه الخصوص العدالة الجنائية يتسبب فى خلق فوضي عارمة قد لاتكون ظاهرة للعيان ممن ارتضوا بهذا النظام ووجدوا فيه شعورا بالأمان والقوة إلا أن تطور الحياة والمجتمعات كان الدافع الرئيسي إلى انصهار هذه المجتمعات الصغيرة تحت مظلة الثقافة العامة وذلك لايعني التخلي عن ثقافتها الخاصة إلا أنه وفى إطار السياسة الجنائية يجب أن لايطبق فى الدولة إلا قانون الدولة الذي تسنه سلطتها التشريعية أما أن ننادي بحقوق الإنسان ونرتضي بالتصالح فى جرائم قتل رغم أهمية التصالح فى مسائل العدالة الجنائية ولقد كتبت بحثا بهذا العنوان ، إلا أن إقرار ذلك يجب أن يكون ضمن نصوص قانون العقوبات التي تطبقها محاكم الدولة لا قانون القبيلة – ومجازا نقول محكمتها – الذي يجب أن يقتصر على تسوية المسائل الاجتماعية الخاصة ، إذ ليس من العدالة أن من يرتكب جريمة قتل فى مدينة طرابلس يحاكم بالسجن المؤبد والدية فى حال تنازل أولياء الدم ، فى حين لا يودع من يطبق عليه قانون القبيلة السجن لأنه وبمجرد التصالح يكون بصحبة عائلته ، وهو ما يستدعي تطوير قانون العقوبات فى هذا الخصوص اتفاقا مع مبادئ العدالة والمساواة أمام القانون ، وكيف يعقل أن يحتكم القضاة أنفسهم إلى مثل هذا القانون – القبيلة – هل لغياب الدولة أم ماذا ؟ بل ويخدم نظام العدالة الجنائية فى مختلف مراحله السياسات القبلية فى بعض المناطق ، لا تلك النافذة بموجب أحكام القوانين التي يفترض أن تطبق على كامل تراب الوطن .

ولقد أدى ذلك إلى تطبيق عقوبات جماعية أقرتها القبيلة أخطرها تهجير عائلة الجاني من بيئتها لا لمدة قصيرة ، وإلى أن تهدأ النفوس بل قد يستمر ذلك إلى ماشاء الله ، ودون أية ضمانات ، لان العائلة المنكوبة قد تشرد وتنتزع من جذورها وتحرم حقوقها دون ذنبت اقترفته ، وهو ما يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية التي رسخها قانون العقوبات فى مبدأ شخصية العقاب ، ويضرب بعرض الحائط سيادة القانون ، وسيهدد مستقبلا وحدة الدولة وتماسكها وشعور أفرادها بالعدالة ، خاصة وأن بعض الواقع يؤكد أن تلك السياسات لم تؤدى فى الحقيقة إلى انخفاض معدلات الجرائم الخطيرة وفى مقدمتها القتل العمد بل إلى تزايدها لانعدام الردع أو للمغالاة فى استعمال قوة القبيلة ؛ التي تشعر احد الأطراف بالظلم والتهميش .
وختاما يتعين الذكر أن العديد من السياسات الإدارية والتشريعية غير المستقرة قد ساهمت فى ترسيخ وتعميق الثقافة القبيلية وهيمنتها وتطاولها فى أحيان كثيرة على قانون الدولة ، ومن أبرز تلك السياسات القبول بالتفتيت الإداري حتى أن المؤتمر الشعبي الواحد قد يضم إداريا أفراد قبيلة واحدة