المقصد القانوني من الشرائع القانونية الكبرى

يقصد بالشرائع القانونية الكبرى les grands systèmes juridiques جميع النظم القانونية الرئيسة التي تحكم العلاقات الاجتماعية المختلفة ضمن مجتمعات عالمنا المعاصر بشكل مباشر أوغير مباشر، وفي الحقيقة فإن طرح مشكلة الشرائع القانونية الكبرى، إنما يتم من خلال تسليط الضوء على نظم قانونية قديمة مارست تأثيراً في نظم أخرى حالية من جهة، ومن خلال التطرق إلى ملامح النظم القانونية السائدة في العالم المعاصر من جهة أخرى.
هناك شريعتان رئيستان شكلتا أرضية فكرية قانونية خصبة للنظم القانونية الحالية، هما: الشرائع العراقية القديمة ولاسيما شريعة بابل، والشريعة الرومانية.

الشرائع العراقية القديمة

إذ نشأ في منطقة ما بين النهرين منذ أواخر الألف الثالثة قبل الميلاد قانون مشترك بين سكانها، على درجة كبيرة من الرقي والتقدم، حيث ظهرت حضارات على أكتاف عدة شعوب في أزمنة مختلفة أسهم كل منها بنصيب وافٍ في سبيل بناء صرحها، وما تولد عنها من قوانين، غير أننا نستطيع أن نطلق على هذه الشريعة اسم: شريعة بابل، ذلك أن قانون حمورابي (1728ق.م ـ1686ق.م) في بابل هوخاتمة المطاف في تطور النظم القانونية التي سادت كل بلاد ما بين النهرين بعد أن وحدّها حمورابي، كما ظل هذا القانون ذاته مطبقاً ليس في بابل وحدها بل في كل بلاد ما بين النهرين في العهود التالية لحكم حمورابي أكثر من ألف عام.

وقانون حمورابي عبارة عن مدونة مؤلفة من 282 مادة مسبوقة بديباجة وتليهاخاتمة، وتدل نصوص هذه المدونة على اهتمام حمورابي بالإصلاح الاجتماعي، فهو يحمي الضعيف من القوي، ويضمن حريات الأفراد، وإن تميزت في نفس الوقت بقسوة أحكامها الجنائية. ومن ناحية الصياغة تميز قانون حمورابي بأسلوبه الموجز، وصياغة أحكامه في صورة حالات فردية حقيقية أومفترضة، وعدم احتوائه على مبادئ وقواعد عامة إلا فيما ندر، وقد سارت المدونة على خطة منطقية تقوم على أساس الجمع بين الحالات التي ترتبط فيما بينها بوحدة الفكرة التي تدور حولها.

الشريعة الرومانية

يقصد بالشريعة الرومانية ذلك القانون الذي نشأ وطبق في المجتمع الروماني منذ نشأة مدينة روما في القرن السابع قبل الميلاد حتى تقنينه في مجموعات الامبراطور جستنيان في القرن السادس الميلادي.

ويدرس القانون الروماني عن طريق تقسيمه إلى ثلاث مراحل تاريخية تتميز كل منها بخصائص معينة، وأول مرحلة من هذه المراحل هي العصر الملكي الذي يبدأ مع نشأة روما حتى قيام النظام الجمهوري عام 509ق.م، ويمثل هذا العصر دور الطفولة بالنسبة للقانون الروماني، فمصادر القانون انحصرت في العرف والتشريع، وإن كان المصدر الثاني ثانوي الأهمية، كما تميزت هذه المرحلة بأن رجال الدين هم الذين كانوا يتولون تفسير القانون وتطبيقه. وثاني هذه المراحل هي مرحلة العصر العلمي، والذي بدأ مع صدور قانون إيبونيا في منتصف القرن الثاني ق.م، وينتهي في أواخر القرن الثالث ب.م، وهذا العصر هو أزهى وأرقى عصور القانون الروماني، وتميز هذا العصر من ناحية مصادر القانون بتعددها وخصوبتها، فظهرت، بجانب العرف والتشريع، مصادر جديدة هي قانون الشعوب، والقانون البريتوري الذي أنشأه البريتور(أي الحاكم القضائي). أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة عصر الامبراطورية السفلى، والتي بدأت بتولي الامبراطور دقلديانوس السلطة عام 282م وانتهت بوفاة الامبراطور جستنيان عام 565م، وهذا العصر يمثل الفترة التي تدهور فيها القانون الروماني وآل إلى الجمود، وإن تميز هذا العصر نفسه، من جهة أخرى، بتقنين قواعد القانون الروماني، والذي قام به بشكل أساسي الامبراطور جستنيان.

وعلى العموم، فإن القانون الروماني أحدث نُظُماً قانونية أصيلة ومبتكرة، سواء على مستوى نظم القانون العام، وما جسدته من نظم دستورية ذات طابع تمثيلي، فكانت الرائدة في هذا المجال، لا سيما في ظل الجمهورية (509ق.م ـ 27ق.م)، أم على مستوى نظم القانون الخاص، لا سيما في نطاق مفاهيم جوهرية، مثل الذمة المالية، والشخصية القانونية، ومصادر الالتزام، وعيوب الإرادة…الخ.
أما في العصر الحالي، فيلاحظ وجود أربع شرائع قانونية كبرى تسير عليها الدول المختلفة في عالمنا المعاصر، وهي الشريعة اللاتينية والشريعة الأنكلوساكسونية والشريعة السوفييتية والشريعة الإسلامية[ر].

الشريعة اللاتينية

ويسود هذا النظام القانوني في الدول التي تسير على نمط النظام القانوني السائد في فرنسا أساساً، ولاسيما من حيث تأثرها بالتقنين المدني الذي صدر في عهد نابليون بونابرت سنة 1804م، والذي يعدّ أول تقنين ظهر في العصر الحديث، ويتميز هذا النظام القانوني بخصائص معينة هي: التقنين والتأثر بالقانون الروماني والازدواج القضائي:

ـ التقنين la codification: هو إدماج القواعد الخاصة بفرع من فروع القانون بعد أن تُرَتب وتُبوّب ويرفع ما بينها من تناقض في مدونة واحدة، تصدر عن الهيئة صاحبة الحق في التشريع في شكل قانون، ويعد التقنين ضرورة تدعوإليها الحاجات العملية في عصرنا الحالي، لأنه يسهل تطبيق القواعد الخاصة والقواعد القانونية ومعرفتها، وإلى جانب ذلك فقد يحقق التقنين في بعض الظروف أغراضاً أخرى، فقد يقصد به توحيد القانون في الدولة، كما حدث في فرنسا حين تحققت الوحدة القانونية بصدور التقنينات بعد أن كانت مبعثرة في العديد من القوانين، كما أن من شأنه أن يحقق المساواة بين الأفراد في المجتمع حسبما رأى رجال الثورة الفرنسية عندما نادوا بفكرة التقنين، لأنه يقدم قواعد قانونية واضحة المعالم بإمكان كل فرد الاطلاع عليها، فلا تحتكر فئة دون أخرى معرفته والاطلاع عليه.
وللتقنين أصول، حيث يجب أن يتجنب الخوض في التعريفات العلمية، كما يجب أن يترك الخوض في التفصيلات الجزئية، فيقتصر على وضع قواعد عامة ومعايير قانونية تكون من المرونة بحيث تترك للقاضي عند تطبيقها مجالاً لوضع الحلول المناسبة لظروف كل قضية.

ـ التأثر بالقانون الروماني: الواقع أن القانون الروماني ظل يحكم أوربا الغربية دون منازع حتى سقوط الدولة الرومانية الغربية في أواخر القرن الخامس الميلادي، وخلال العصور الوسطى بدأ القانون الروماني يدخل في زاوية النسيان، غير أن بعث القانون الروماني ـ متمثلاً في دراسة مجموعات جستنيان، في أوربا الغربية منذ القرن الثاني عشر الميلادي قد أدى إلى العودة إلى تطبيق القانون الروماني، مع إدخال بعض التعديلات على بعض نظمه، وقد ساعد على ذلك أن القاضي في العصور الوسطى، وعصر النهضة والعصور الحديثة حتى صدور قانون نابليون، لم يكن يصدر أحكامه وفق تقنينات ملزمة، بل كان يعتمد على العدالة، وسادت آنذاك فكرة مقتضاها أن العدالة لا يمكن أن تستمد إلا من القانون الروماني، وساعد على ذلك أيضاً أن المشرّعين، فيما كانوا يصدرونه من قوانين، كانوا يعتمدون بصفة أساسية على القانون الروماني، سواء من حيث الشكل أومن حيث الموضوع. وهكذا كتبت الغلبة للقانون الروماني في أوربة منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وحتى صدور المجموعات القانونية الحديثة في فرنسا والبلاد التي أخذت عنها في أوربا، وصدور هذه المجموعات لم يقض على تأثير القانون الروماني، فقد تبنت مجموعة نابليون شروحات وكتابات شراح القانون الروماني الذين سبقوا الثورة الفرنسية مباشرة، ومن أشهرهم الفقيهان الفرنسيان الشهيران دوما Domat وبوتييه Pothier، فتحول القانون الروماني إلى مصدر تاريخي لقانون نابليون، ولقوانين الدول التي أخذت عن هذا الأخير، ومنها دول الوطن العربي.

ـ الازدواج القضائي: حيث يوجد في الدول التي تأخذ بالنظام القانوني اللاتيني جهتان قضائيتان متميزتان، الأولى تفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد، والأخرى تبت في المنازعات التي تنشب بين الإدارة العامة والأفراد، تسمى الأولى بجهة القضاء العادي Judiciaire، والثانية بجهة القضاء الإداري Juridiction administrative، وتقترن هذه التفرقة بين جهتي القضاء المذكورتين، بالتفسير الخاص الذي طرحه رجال الثورة الفرنسية لمبدأ الفصل بين السلطات.

الشريعة الأنكلوساكسونية

وهونظام قانوني مطبق أساساً في إنكلترا، ثم امتد ليطبق في الدول التي تأثرت بنظمها مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا ونيوزيلندا، ويطلق على الأنظمة القانونية التي تأثرت بالنهج القانوني الإنكليزي تسمية: نظم الشريعة العامة (أوالقانون العام) common law systems وتتحدد خصائص النظام الأنكلوساكسوني، بالخصائص التالية:

ـ القدم والاستمرارية antiquity and continuity: حيث يلاحظ أن القانون في دول أوربة قاطبة تقريباً ينفصل عن الماضي بثورة أو بإعلان استقلال، أو بالتقنين، إلا أن للقانون في إنكلترة، وهي مهد الشريعة الأنكلوساكسونية، تاريخاً مستمراً يعود بجذوره إلى القرن السادس الميلادي، والقانون الإنكليزي بهذه الخصوصية فريد من نوعه، فقواعده قديمة لا يمكن أن تفقد قوتها بمرور السنين، لدرجة أن هناك قضية تم الفصل فيها سنة 1946 استناداً إلى قانون صادر سنة 1381.

ـ عدم التقنين Uncodification: فالقانون الإنكليزي والنظم التي حذت حذوه قانون غير مقنن، في حين أن قوانين القارة الأوربية، كما سلف، لها تقنيناتها المعروفة، غير أن هذا القول يجب ألاّ يؤخذ على إطلاقه، إذ نلاحظ أن بعض القوانين الفرنسية ـ وهي مهد التقنين ـ غير مقننة، كالقانون الإداري، في حين أن بعض موضوعات القانون الإنكليزي مقننة، كقانون السرقة مثلاً، غير أن الطابع الغالب على القانون الإنكليزي أنه قانون غير مقنن في مدونات قانونية تشتمل على مبادئه العامة.

ـ الطابع القضائي Judicial character: فلا يزال القانون الإنكليزي معتمداً على أحكام السوابق القضائية precedent كمصدر أساسي ورسمي لمبادئه ونظرياته، ومما ساعد القضاء الإنكليزي على أداء هذا الدور الإنشائي الأسباب التالية:

أ ـ تأخر ظهور التشريع كمصدر أساسي للقانون الإنكليزي حتى القرن التاسع عشر، فقبل ذلك كان لا بد أن يسد القضاء هذا النقص، وحتى عندما أصبح التشريع مصدراً أساسياً للقواعد القانونية، فإن الغالب عليه هو كثرة التشريعات الجزئية، التي لا تشتمل على مبادئ عامة، مما أدى إلى بقاء الدور الإنشائي للقضاء الإنكليزي.
ب ـ عدم تقنين القانون الإنكليزي: لأن التقنين ينصب عادة على كل من القواعد الجزئية، والمبادئ الكلية، وبإتمام التقنين يتقيد الدور الإنشائي للقضاء إلى حد كبير.
ت ـ الأخذ بنظام السوابق القضائية: ترتب على الأخذ بنظام السوابق القضائية الملزمة، أن أصبح القضاء الإنكليزي مصدراً رسمياً للقواعد القانونية، فالمحاكم الدنيا تتقيد بأحكام المحاكم الأعلى منها درجة، كما تتقيد المحاكم العليا بما سبق أن قضت به في القضايا المماثلة.

غلبة الطابع الإجرائي influence of procedure: من بين الملامح الهامة للشريعة العامة في القرون الوسطى غلبة الطابع الإجرائي على قواعدها، والتأكيد على أن التدبير القضائي هو الذي يخلق الحق، وليس العكس، وبذلك فإن الشريعة العامة تبدأ من الإجراء لتصل إلى الحق. لذلك كانت الدعاوى في المحاكم الملكية تبدأ بواحدة أو بأكثر من صيغ الدعاوى المحددة، فإذا عجز المدعي عن إيجاد صيغة مقبولة لدعواه، فإن ذلك كان يعني ضياع حقه.

عدم التأثر بالقانون الروماني no reception of Roman Law: فالقانون الإنكليزي لم يتأثر بالقانون الروماني، على خلاف معظم قوانين الدول الأوربية، وذلك لأن القانون الروماني خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر قد تطور تطوراً ذاتياً متحرراً من ربقة القانون الروماني.

القضاء الموحد: فالدول التي تأخذ بالنظام القانوني الأنكلوساكسوني يسود فيها نظام القضاء الموحد، فلا يوجد فيها قضاء متخصص في المنازعات الإدارية إلى جانب القضاء العادي، وذلك على أساس أن القضاء العادي بتكوينه واختصاصاته يحقق ضماناً أكبر للأفراد، إذ لا سلطان للإدارة عليه، وهو لا يخضع إلا لحكم القانون.

الشريعة السوفييتية

وكانت أفكار هذه الشريعة تسود الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية سابقاً، والشريعة السوفييتية هي نظام حقوقي يستجيب للمتطلبات الموضوعية للمجتمع الاشتراكي الذي يتبنى الشيوعية، ويحقق الانتقال إلى المجتمع اللاطبقي.
والشريعة السوفييتية هي من حيث الجوهر إرادة الشعب السوفييتي بقيادة الطبقة العاملة (البروليتارية)[ر]، مرفوعة إلى مصاف القانون، وبنتيجة ذلك قامت الشريعة السوفيتية على أساس الجوهر الشعبي الشامل. وإذا كانت القوانين نابعة عن الشعب بأسره، لا عن طبقة دون أخرى، فإنها تكتسب صفتها الآمرة والإلزامية بشكل مشروع، وتستطيع الدولة أن تلجأ إلى الإكراه في سبيل تنفيذها.

وقد نظر فلاسفة الشيوعية إلى القانون باعتباره جزءاً من البناء الفوقي المستقر على البناء التحتي الاقتصادي للمجتمع الطبقي، أي على مجمل علاقات الإنتاج التي تقوم بين الناس في سياق الإنتاج المادي، والتي تستند إلى علاقات الملكية السائدة لوسائل الإنتاج، وعلى هذه العلاقات يتوقف في المقام الأول وضع مختلف الطبقات في الإنتاج، والبنية الطبقية للمجتمع، وبذلك يكون النظام الاقتصادي للمجتمع التربة الفعلية التي تحدد في نهاية المطاف مجمل البناء الفوقي المتكون من المؤسسات الحقوقية والسياسية والدينية والفلسفية وغيرها لكل مرحلة تاريخية معينة، ومن ثمَّ فإن القانون في نهاية الأمر يعتمد بوجوده وتطوره مآلاً على الظروف الاقتصادية للحياة الاجتماعية.

الشريعة الإسلامية

وتعتبر الشريعة الإسلامية إحدى الشرائع الكبرى في العالم المعاصر، فهي مطبقة في كثير من دول العالم كليّاً أو جزئيّاً، ولاسيما على مستوى الأحكام القانونية المتعلقة بالأسرة، والمواريث، والوصية، والمعاملات المدنية.

منقول