حقوق الإنسان في ظل القانون الدولي العام والمعاهدات الدولية
يقيناً سيظل موضوع(ثقافة حقوق الإنسان)أحد أهم المواضيع الأساسية،التي تستوجب إعمال الجهد والفكر وإبتداع أساليب جديدة لنشرها وترويجها وتعزيزها،ليس على صعيد النخب السياسية والثقافية والفكرية فحسب،بل على صعيد المواطن الإعتيادي،في المدرسة،الجامعة،الحقل،المصنع،والوظيفة الأهلية والحكومية؛بحيث تغدو في متناول الجميع،وبذلك يمكن حماية حقوق الإنسان وتعزيز حرياته الأساسية،والدفاع عنها ضد أيّ إنتهاك أو تجاوز.

لم ينقطع الجدل والنقاش حول فكرة ومفاهيم حقوق الإنسان،منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في(10/11/1948)خصوصاً في فترة الصراع الآيديولوجي المحتدم والحرب الباردة،ومازال الحوار يرتفع ويثور حول الكثير من المفردات،التي تدخل ضمن نطاق حقوق الإنسان؛فحرية الفكر والعقيدة وحق التنظيم والإعدام خارج القضاء وحالات الإختفاء والعزل السياسي،والحق في محاكمة عادلة والإمتناع عن التعذيب،

كلّها مصطلحات لها دلالات مختلفة لدى شتى الحكومات والآيديولوجيات والسياسات،كما أن مشكلات مثل المجاعة والبطالة وتلوث البيئة ونتائج الحروب والوجود العسكري الأجنبي،فتشغل حيّزاً غيرضئيل من فكرة حقوق الإنسان،مثلما الحال في قضايا حق تقرير المصير والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية،إضافةً إلى قضايا حقوق المرأة والعنصرية والتطرف وحقوق الأقليات،تقابلها المشاركة والإنتخابات،دون إهمال لحرمة المنازل وسرّية المراسلة والهاتف والإتصالات،والحقوق الفردية الأخرى…

وإذا كانت تلك المفردات قد وجدت طريقها إلى التقنين الدولي في إطار حقوق الإنسان؛فإن العالم العربي مازال يعاني الكثير من النقص والقصور في تناول هذه المشكلات،بما يتناغم مع التطور الدولي،الذي حصل في هذا الميدان؛بسبب مفاهيم مختلفة وأطروحات عتيقة منعته من السير في طريق تعزيز إحترام حقوق الإنسان والإلتحام والتفاعل مع الحركة العالمية في هذا الميدان.

وإذا كان هذا النقص فادحاً وكبيراً من الناحية النظرية والتشريعية والدستورية؛فإننا نستطيع تلمس مدى الضرر الكبير في هذا المضمار على الصعيد العملي والممارسة الفعلية.وإذا كانت حركة حقوق الإنسان قد تقدمت كثيراً على المستوى الدولي؛فإن هذه الحركة ماتزال بعيدة عن معيار الحد الأدنى النظري على أقل تقدير،ناهيكم عن الطموح المنشود في البلدان العربية،فرغم مضيّ مايزيد عن ثلاثة عقود ونيف على صدور العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛

فإن ثلاث عشرة دولة عربية فقط إنضمت إليه،وإثنتي عشرة دولة عربية فقط إنضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية،وكذا الحال مع المواثيق والمعاهدات الدولية الأخرى؛فإتفاقية منع التعذيب،مثلاً،لم تنضم إليها سوى سبع دول عربية،بل لم تصادق إثنتان منهما عليها!أمّا إتفاقية منع التمييز ضد المرأة فلم تنضم إليها سوى خمس دول عربية،ولم تصادق إحداها عليها لحد الآن!هذا في الوقت الذي يعد إقرار مبدأ حقوق الإنسان كمبدأ أمراً ملزماً من مباديء القانون الدولي،

الذي سلّط الأضواء على إنتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية،لاسيما الحقوق الفردية؛فالإتحاد السوفياتي كان يتشبّث بالحقوق الجماعية،وخاصة الحقوق الإقتصادية والإجتماعية،وعقب إنهيار المعسكر الإشتراكي وتكريس النظام العالمي الجديد ضمن ترتيباته الراهنة للولايات المتحدة زعيمة بلامنازع؛فقد أخذ موضوع حقوق الإنسان يُطرَح من زاوية جديدة وضمن أطر جديدة مختلفة،خصوصاً بإنتهاء عهد الحرب الباردة،

ومعها نظام القطبية الثنائية؛ففي(مؤتمر باريس)المنعقد في تشرين الثاني1990وضعت آليات جديدة لمراقبة إنتهاكات حقوق الإنسان منها:إيجاد مكتب أوربي خاص للإشراف على شرعية الإنتخابات وتحديد معالم النظام الديمقراطي التعددي لإحترام حقوق الإنسان.وفي(إتفاقية برلين)الموقعة في حزيران1991 جرى إقرار المباديء الجديدة،في إطار ميزان جديد للقوى الدولية،حيث تم هدم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية،الذي سبق وأن أقرّه ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية،حين أكد المؤتمر على” أحقية الدول الأعضاء في التدخل لوضع حد لإنتهاكات حقوق الإنسان والقوانين الدولية”بل وذهبت الإتفاقية إلى أبعد من ذلك؛

حيث أكدت على أهمية وضرورة وضع خطة طواريء لمنع حدوث الصدام المسلح،متجاوزة على مبدأ السيادة التقليدي،الذي نظمته المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة. ثمة اليوم قاسم مشترك أصبح أكثر وثوقاً وأشد صرامة،رغم تناقض المفاهيم وإختلال موازين القوى،ألا وهو إزدياد الحاجة والشعور؛لتأكيد إحترام حقوق الإنسان وإتساع نطاق العاملين في هذا الميدان والمهتمين به.

ورغم المرارات والإحباطات وإستمرار المعايير المزدوجة،وخاصة بحق الشعوب والبلدان النامية؛فإن حركة حقوق الإنسان قد أخذت في التطور،وإنعكس ذلك في إهتمام الحكومات بتشريعات حقوق الإنسان والسعي لإمتصاص النقمة وتخفيف بعض الإجراءات التعسفية،والإعلان عن إصلاحات دستورية.ولقد تجسّد ذلك في أربعة مؤتمرات دولية تمهيدية للمؤتمر العالمي،الذي إنعقد في(فيينا)هادفاً إلى الحوار بخصوص حقوق الإسان،

فإبتداءً:تحديد المفاهيم وتعميق التوجهات،ثم إنه ليس بنزوة عابرة،وإنما هو حاجة وضرورة ماسة،وتزداد هذه الحاجة في البلدان العربية؛حيث مازال البعض حتى الآن يعتقد أن حركة حقوق الإنسان هي بدعة غربية وإختراع مشبوه؛لتحقيق مآرب سياسية.وللأسف الشديد يتناسى هؤلاء أن مفاهيم حقوق الإنسان،التي تعمقت على مر العصور،هي نتاج تطور الفكر البشري،الذي لايقتصر على قارة أو أمة أو شعب أو جماعة محدودة،بل هي مزيج من التفاعل الحضاري،ثم إن الإسلام كان قد بشّر ببعض المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان،وقد كانت مفاهيم متقدمة،في حين كانت أوربا يسودها عصر الإقطاع والظلام.

وفي مقابل مفهوم العالمية،هنلك من يحاول التعكّز على الخصوصية القومية والثقافية كذريعة للتحفظ على بعض الإلتزامات الدولية بخصوص حقوق الإنسان.

وإذا كانت الخصوصية مسألة ينبغي مراعاتها،لكنها لاينبغي أن تسير بإتجاه تقويض المباديء العامة لحقوق الإنسان بدعوى الخصوصية،وإنما بالعكس من ذلك؛ينبغي أن تدعم الخصوصية المعايير العالمية،لا أن تنتقص منها،خصوصاً في القضايا الأكثر إلحاحاً وراهنية؛لأن الخصوصية تؤكد التنوع الإجتماعي والثقافي والديني والمذهبي والسياسي،في العقلية والتقاليد بين شعوب بلدان العالم وثقافاتها المختلفة،لكنها لاينبغي أن تكون عقبة في طريق المعايير العالمية،أو أن تستخدم حجة للتملص من الإلتزامات الدولية،التي يفرضها ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقواعد الآمرة/الملزمة في القانون الدولي المعاصر،وبالقدر الذي تجد فيه