مقال حول المفهوم القانوني للمصلحة العامة

بقلم: رشيد بنعياش

مقدمة

يرتبط مفهوم المصلحة العامة بمفهوم الدولة الذي برز وظهر بوجودها، حيث كانت الدولة تقتصر وإلى غاية القرن الثامن عشر على القيام بوظائف الأمن والجيش أي الدولة الحارسة إلا أن هذا الدور قد توسع ليشمل عدة مجالات، والتي كانت في السابق حكرا على الأفراد.
وبعد أزمة 1927 الاقتصادية اتضح على أن تدخل الدولة يجب أن يكون في حدود تسمح باستقرار اقتصادي وسياسي، وترك المجال مفتوح للمبادرة الحرة والمنافسة فيما دون ذلك.
وبتطور نشاطات الدولة فقد تطورت معها مختلف مؤسساتها الإدارية والسياسية، وكذا القوانين المنظمة لها ومن بينها القانون الإداري.

فالقانون الإداري قبل أن يكون قانونا عاما فهو قانون، أي يدخل في إطار النسق القانوني للدولة حيث وارتبط تطوره هو الآخر بتطور دور الدولة داخل المجتمع ليفرز فيما بعد أسسا موضوعية وتطبيقية جعلته يتميز عن القانون الخاص من جهة ومن باقي الفروع الأخرى للقانون العام من جهة أخرى، وهكذا نجد أن القانون الإداري هو قانون متميز خاصة على مستوى مصادره وكذا مجالات تطبيقات هاته الأخيرة التي يطرح بصددها إشكالا فقهيا ويتمثل في معيار تحديده إذ مر من مقترب القوة العمومية إلى المصلحة العامة. وفي ما يلي سنحاول الحديث عنها وإيجاد أجوبة وتفسير لجملة من الإشكالات والغموض الذي يلف هذا الموضوع، وبالتالي سنتناوله من خلال محورين أولهما نتطرق فيه للمفهوم والثاني لمجال ودور المصلحة العامة في إنشاء القانون الإداري.

المحور الأول: فكرة المصلحة العامة ومدلولاتها.

إن المصلحة العامة تبرر تجريد الفرد من إحدى ممتلكاته أو كلها، وباسمها تتمتع الإدارة بسلطات استثنائية تمكنها من التشريع في مجال جعله الدستور خاص بالسلطة التشريعية، ومن أجل المصلحة العامة تدخل الدولة في حرب ترهق المواطنين، وعلى أساس هذه المصلحة تدخل الدولة في علاقات سياسية واقتصادية ودبلوماسية بعضها ببعض، وأيضا من أجل تحقيق الصالح العام تكبل الحقوق والحريات أو تسلب كليا، ويوضع الأبرياء خلف قضبان، أيضا باسمها تتعطل الدساتير وتحصل على إجازة تطول أو تقصر. ثم أن القاضي الإداري يحكم بعدم مشروعية تصرف الإدارة لمجرد كونه غير ملائم لمقتضيات الصالح العام.
كل هذه السلطات والامتيازات التي تعطي للإدارة على أساس واحد وهو المصلحة العامة؛ يجعلنا نتساءل حول فكرة المصلحة العامة ما هي المصلحة العامة أما مضمونها ومحتواها ما هي مدلولاتها؟ لماذا يقدر القاضي وكيف يترك نفسه يقتنع بأن نشاط إداري معين أو بأن قرارا معينا يخدم المصلحة العامة؟ وهذا ما نحاول الإجابة عليه من خلال محاولة إيجاد تعريف أو معيار تابت ومحدد لهذه الفكرة أولا والتطرق إلى مصادرها ثانيا.

الفرع الأول: محاولة إيجاد تعريف أو معيار ثابت لفكرة المصلحة العامة.

في هذا الإطار يقول الدكتور “رأفت فودة «أنه لكي نتعرف على أبعاد ومعاني هذه الفكرة فإنه يجب علينا اختراق ضمير المشرع حيث يقدر وينص على تحقيق المصلحة العامة، أو الاشتراك في المداولات القضائية للتعرف على ضمير القضاة حين يقضون بوجود مصلحة عامة في نشاط إداري معين، وتحقيق كل ذلك من الصعب إن لم يكن مستحيلا»، وبالتالي فإنه من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف محدد ومكتوب لمصطلح المصلحة العامة، فبالنظر إلى جميع النصوص التي جاءت كمصدر لفكرة المصلحة العامة نجد أنها اكتفت بالنص عليها دون أن تضع تحديدا أو تعريفا لهما. وربما كان الأمر أقل تعقيدا لو وجدنا تحديدا شاملا وحصرا كاملا لكل صور المصلحة العامة من قبل المشرع العادي والدستوري، ولكن المشرع اكتفى بالنص على بعض هذه الصور على سبيل المثال لفكرة المصلحة العامة، وكذلك الأمر بالنسبة للإدارة الساهرة والقائمة على تحقيق المصلحة العامة، فقلما تبين لنا المقصود بهذه الفكرة في حال قيامها بتصرف معين بدافع هذه المصلحة.

وبالتالي فإن كلا من التشريع والعمل الإداري قد خلا من وضع تعريف لفكرة لمصلحة العامة من جهة، وعدم وضع معيار ثابت ومحدد لهذه الفكرة من جهة أخرى، ولهذا فإن المصلحة العامة لا تعرف ولكن تلاحظ فقط. وفي الوقت الذي لم يتعرض المشرع والقاضي الإداري لتعريف هذه الفكرة الجوهرية؛ يلجأ كل منهما إلى النص عليها وترديدها في مناسبات متعددة؛ حتى أصبحت تمثل روح القانون وعامل أساسي في تحديد نطاق تطبيقه، وفي وصف القانون الإداري بصفة خاصة بأنه قانون المصلحة العامة حيث تعد هذه الفكرة المعيار الأصلي لتطبيق النظام الإداري، وهي القاسم المشترك لكل نظريات القانون الإداري، فكل نشاط وكل عملية وكل موقف تتخذه الإدارة يوحي بدوافعه؛ أي فكرة المصلحة العامة، ويمتلك في ثناياه معالم النظام القانوني الواجب التطبيق، وهو نظام القانون العام.

إن ما يهم القضاء الإداري هو النظر إلى وظيفة المصلحة العامة، ولا يعير أي اهتمام لتعريفها وتحديد مضمونها؛ فهو يستخدمها دون أن يعرفها، ولهذا يقال أنها تلاحظ ولا تعرف؛ خصوصا حينما يقول القاضي الإداري مثلا «إن هدف الإدارة من هذا النشاط كان غريبا عن المصلحة العامة» أو أن «الوزير لم يذكر إحدى اعتبارات المصلحة العامة والتي تبرر اتخاذه لهذا القرار». فالرقابة الإدارية تنحو إلى تحديد اعتبارات المصلحة العامة دون تحديد لمضمون هذه المصلحة، لأن هذا المضمون متغير وتصيبه الاحتمالية سواء من موضوع إلى آخر أو من وقت لآخر ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت المصلحة العامة التقليدية تتمثل في حسن إدارة المواقف العامة في الحفاظ على النظام العام بمدلولاته المحدودة، وخصوصا على تحسين الصحة العامة، الأمور البيئية…
ومع تغير دور الدولة واتساع المجالات التي تتدخل فيها، بقيت هذه المصالح العامة قائمة وتطورت في معانيها ومقتضياتها، لتواكب العصر الحديث وظهرت مصالح عامة جديدة، أقرها القضاء والتي يمكن تجميعها في محاور ثلاث:

1.المصلحة العامة الاجتماعية.
2.المصلحة العامة الاقتصادية.
3.المصالح البيئية.

ونهاية هذا المطلب نجد أنه من الضروري إلقاء الضوء على بعض المحاولات التي قام بها بعض الفقهاء لإعطاءنا مفهوما معينا لفكرة المصلحة العامة أمثال “جورج فيدل” حيث يقول “أن المصلحة العامة ذات مفهوم سياسي وقانوني في آن واحد، فمن الناحية السياسية يرى أنه لتعرف المقصود بالمصلحة العامة يجب تجنب الوقوع في أحد الخطئين التاليين:

أولهما: إنه لخطأ فادح أن يسود الاعتقاد بأن المصلحة العامة تعني مجموع مصالح الأفراد، وإلا كانت المصلحة العامة تشتمل على مصالح منتجي الكحوليات وضحايا هذه المنتجات ويمكن أن نقيس عليها مصلحة عناصر الإرهاب ومصالح ضحاياه.

ثانيهما: عدم الاعتقاد بأن المصلحة العامة تمت بصلة لمصلحة أفراد الجماعات المكونة للأمة. فلا يمكن اعتبار مصلحة معينة مصلحة عامة دون أن يكون لها أدنى أثر بالنسبة للأفراد الموجودين والذين سيوجدون في المستقبل. فالمصلحة العامة حسب هذا المفهوم ليست إلا حكما بين مختلف المصالح الفردية، فتارة تكون المصلحة العامة هي مصلحة الغالبية كما في نزع الملكية للمنفعة العامة وتارة لا يؤخذ في الاعتبار عدد المستفيدين منها، وإنما يجب التركيز على نوع الخدمة العامة المزمنة والمقدمة رغم قلة عدد المستفيدين.

أما من الناحية القانونية يتحدد المفهوم بناء على تدخل جهة معينة والاعتراف بها والتأكيد عليها، فأحيانا يكون الدستور هو المحدد لها والمقرر لوجودها، وأحيانا أخرى يكون المشرع العادي أو الإدارة في المجالات التي يتدخل فيها البرلمان.
وقد عرف الفقيه الفرنسي “جاك شوفلي” المصلحة العامة بأنها واقع اجتماعي ومؤسساتي، وهي تشمل مختلف الأنشطة الخاضعة للتبعية المباشرة أو غير المباشرة للجماعات العمومية؛ لأنها تنتمي إلى الحقل العمومي ومصدرها هو الدولة.
ونحن من جانبنا لا ندعي بوجود تعريف محدد لفكرة المصلحة العامة فهي فكرة مطاطية، ومحاولة إيجاد تعريف ثابت لها يكون من الخطأ الفادح الذي يقع فيه الباحث القانوني إذ يمكن الوعي بها في ضمير كل فرد وكل جماعة والاقتناع بها دون إمكان صياغتها في عبارات منظومة محددة، ويجب ترك هذا المجال لوظائفها المتعددة والتي يبررها القاضي الإداري في رقابته للمشروعية الإدارية.

الفرع الثاني: قاعدة المصلحة العامة ومصادرها

إن الجهاز الإداري في الدولة شأنه شأن أي تنظيم اجتماعي آخر، لا يمكن له أن يعمل بصورة مستمرة دون أن يتبنى إيديولوجية معينة؛ تلتف حولها وبصورة تلقائية الجماهير والمرتفقين، وتحد في نفس الوقت من استخدامه الإجباري؛ فطالما خلى الأمر من ضرورة ملحة لا تقبل المناقشة تؤسس وتبرر وجود التنظيمات الاجتماعية والأجهزة الإدارية في الدولة، فهذه الأخيرة تلجأ إلى وسائل تربوية مختلفة تقنع من خلالها الأفراد والجماعات المتعاملين معها بوجود قيم ومثل ومبادئ كانت وراء نشأتها ووجودها والدولة بهيئاتها ومؤسساتها لا تخرج عن هذه القاعدة. وبالتالي كانت فكرة المصلحة العامة هي التي تحقق وبنجاح شروط هذه الإيديولوجية؛ فهي تتصف بالعمومية للدرجة التي تجعل كل المتعاملين مع الإدارة تحت غطائها وتحتوي على مثل وقيم متنوعة ومتعددة لا تخضع لحصر، بحيث يجد فيها كل محتاج وكل ذي حاجة ما يشبع حاجته ويحقق طموحاته؛

إذ تتبلور فيها مجموع الآمال والرغبات المتباينة والمتنوعة؛ فالمصلحة العامة تأبى الظلم؛ ولذلك نجد ضمنها فكرة المساواة حيث تحضر تباين المعاملة لسبب الجنس أو الدين أو اللون أو المحسوبية فهي فكرة توأم مع العدالة والمصلحة العامة تتجاوب ومساعدة المحتاجين وتحسين أوضاعهم؛ فهي والتضامن الاجتماعي سواء؛ لأنها تحتوي على كل القيم الأخرى من نظام عام بمدلولاته الواسعة من أمن وصحة وسكينة، وتجمع أنصارها ومؤيدها تحت لواء الوحدة والاتحاد في لقمة العيش المشترك ووحدة الأرض، ومن أجل ذلك فالسلطة التي تجعل من سياستهما ومن تصرفاتها غاية المصلحة العامة تجد التأييد وتحوز القبول القانع والخضوع الواعي الإداري من قبل المتعاملين معها والمحكومين بها. وكما سبقت الإشارة ففكرة المصلحة العامة لا يمكن تحجيمها، تحديدها أو حصرها في معنى معين دون آخر.

فهي فضفاضة مرنة ومتميزة ومفردتها لا تقع تحت الحصر والنص على بعض صورها لا يمكن أن يكون سببا غير جامع لباقي الصور الأخرى. ومن تم فإن مصادر المصلحة العامة لا يمكن أن تكون في نص رسمي، حكم قضائي، في وثيقة، ميثاق، إعلان حكومي أو غير حكومي فكل هذه المصادر هي من نتائج المصلحة العامة أو أحد إفرازاتها، ولذلك عند الحديث عن مصادر المصلحة العامة لم نقصد أن نتقدم بدراسة للقانون الطبيعي والمثل والقيم العليا ولكن أردنا التأكيد على وجود مصادر رسمية تؤكد على وجود المصلحة العامة، وضرورة التزام الإدارة بتحقيقها عند قيامها بتصرف ما. ولتنوع معاني ومترادفات المصلحة العامة حيث أن استخدامها في حكم أو في نص معين إنما كان لظرف معين ولإشباع خاصية معينة. ولذلك لا يمكن ذكر كل النصوص القانونية وكل الأحكام التي تتحدث عن فكرة المصلحة العامة فهي فكرة متغيرة وغير ثابتة.

وبعد إلقاء الضوء على فكرة المصلحة العامة ومدلولاتها ننتقل لنتعرف على المصلحة العامة كأساس جديد للقانون الإداري وذلك في المحور الثاني.

المحور الثاني: المصلحة العامة كأساس جديد للقانون الإداري

لقد تطور مفهوم المصلحة العامة على الساحة القانونية محافظا بذلك على توازن ومفهوم القانون الإداري، فمن جهة يعتمد بشكل واضح على الغايات الاجتماعية للنشاط الإداري الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة الأفراد، حيث أن القانون الإداري لم يعد قانون امتيازات الإدارة، ولكن مجال مسؤوليات جديدة، ومن جهة أخرى فمحتواه يتغير لأن فكرة المصلحة تعرف تضاربات جديدة للإدارة وللقوانين الجديدة للمرتفق، ومن تم فالمصلحة العامة تسمح بإعادة توحيد القانون الإداري. غير أن الحديث هنا عن المصلحة العامة سيتأرجح بنا للحديث عن المصلحة العامة كنشاط وليس كهدف؛ مقتبسين في ذلك من الشرح والتفسير الاصطلاحي لكلمة مصلحة عامة بالفرنسية حيث تقابلها Service public وليس Intérêt public.

الفرع الأول: المصلحة العامة أساس الدول

أولا: في النظام الدولتي
لقد فشل تقنين المصلحة العامة في مجال بناء نظرية متكاملة للدولة من خلال فكرة المصلحة المجردة من كل توجيه إلى القوة؛ “فالمصلحة العامة يمكن اعتبارها إحدى الركائز الأساسية في الهندسة الدولتية حسب رأي “الفقيه جاك شوفلي” حافظت على مكانة متميزة في مجال تمثيل الدولة وكذا القانون الذي ينظمها، وهي تمثل الحلقة الأساسية للتكوين الدولتي.
وعلى العموم فالمصلحة العامة لا تصل بعدها الحقيقي إلا في العلاقة الجدلية التي تجمعها بمبدأ القوة، لأن نظرية الدولة ترتكز على مبدأين، قوة ثم مصلحة؛ حيث تحيلها كل واحدة على الأخرى؛ وتبدو المصلحة العامة كأنها أحد مفاهيم الدولة.
فالمصلحة العامة أصبحت إحدى مفاصل النظام الدولتي، وضمان لحسن استعمال القوة متجاوزة بذلك البعد الرمزي؛ أي التأثير الفعلي في سلوكيات الأفراد فيما بينهم من خلال ممثلي الدولة على المستوى المحلي والعمل على خدمتهم، ومن الناحية الإيديولوجية ساعد ظهور المصلحة العامة على إعادة تشكيل صورة الدولة عند الأفراد؛ حيث لم تعد تلك السلطة البعيدة والعالم المجهول والمخيف، بل أصبحت تهتم وتسهر على راحة المواطنين وخدمتهم.
فالمصلحة العامة هي نظريا مبدأ لحدود موضوعية للسلطة الإدارية، فهي موجودة ليس لتسود ولكن للخدمة، والسلطات التي تتوفر عليها تستمد شرعيتها من خلال إرضاءها وتلبيتها لرغبات الأفراد.

تأنيا: دور المصلحة العامة في تأسيس القانون الإداري.

لقد تأسس القانون الإداري هو الآخر وعلى غرار الدولة على مبدأين أساسين: القوة والمصلحة وهذا التوافق بين بنية القانون الإداري والإيديولوجية التي ترتكز عليها الدولة هو الذي يعطي لنظرية الدولة بشكل خاص انسجاما وفاعلية ملحوظة. وتلعب المصلحة العامة دورا مهما في التعريف بالقانون الإداري واحتواء الخلافات الإدارية.

إن أهمية هذا الدور واجهته صعوبات فقهية تمثلت في اختلاف الفقهاء القانونين في فرنسا، حيث أن فريقا منهم بزعامة الفقيه Georges Vedel اعتبر أن القانون الإداري ما هو إلا مجموعة قواعد منبثقة عن القوة العمومية. والإدارة تخضع لهذه القواعد ماعدا عندما تتمثل فيها شروط القانون الخاص؛ فإنها تخرج عن مجال القانون الإداري ويصبح نشاطها كنشاط الأشخاص الذاتيين.
التيار الآخر يرى على أن مفهوم المصلحة العامة يؤدي إلى تطبيق القانون الإداري، غير أن التفرقة المعتمدة بين كل من مفهوم المصلحة العامة والقوة العمومية سنة 1921م بفرنسا لم تؤد إلى الإسهام في تكوين القانون الإداري. فخضوع الإدارة للقواعد يعتمد بالأساس على الوسائل التي تستعملها لتنفيذ نشاطها.

وهكذا فالقانون الإداري هو قانون القوة وقانون المصلحة في ذات الوقت؛ أي قانون امتيازات وفي نفس الوقت فهو قانون التزامات، هذا الدور الرائد الذي يلعبه مفهوم المصلحة العامة بالنسبة للقانون الإداري ينبثق أصلا من نسبية وعدم تدقيق المفاهيم، فاندثار التفرقة بين الشخص العام والمصلحة العامة يلزمنا الرجوع إلى التعريف المادي أو الوظيفي للمصلحة العامة؛ حيث لا يخلو الاعتماد على احدهما من صعوبة تؤدي بنا على رؤية مزدوجة من خلال تبني المقترب العضوي، فأنشطة الأشخاص العامة تعتبر كمصلحة عامة حيث تنعكس مواصفات المصلحة العامة سلبا عندما تقصي عددا من الأنشطة العامة خارج حقل المصلحة العامة، غير أن هذه الفرضيات تبقى في نظر الاجتهاد القضائي استثنائية.

الفرع الثاني: مجال المصلحة العامة

أولا: الحدود القانونية
عندما تقدر السلطة العامة أن حاجة بلغت من الأهمية مبلغا يقتضي تدخلها لتأمينها للأفراد تنشئ له مرفقا عاما لأجل تغطية المصلحة العامة.
فهذا التدخل إذن يدخل في اختصاص السلطة التقديرية للدولة، ويمكن أن يكون له انعكاس سلبي على حياة الأفراد؛ كالتضييق على المبادرة الخاصة أو تحديد بعض حريات العمل التجارية والصناعية وكذا العجز المالي الذي قد يحصل للمصلحة أثناء استغلالها. هذه الأهمية هي التي جعلت بعض الفقهاء الفرنسيين وعلى رأسهم Gaston Jèze يقول بأن إنشاء مصلحة عامة يجب أن يدخل في اختصاص البرلمان هو ما نستشفه من دستور 1958م لفرنسا الفصل 34؛ حيث حدد مجال القانون على سبيل الحصر، واعتبر الحكومة مشرعا عاديا على أن الأمور غير الواردة في مجال القانون تبقى من اختصاص السلطة التنظيمية. وبالنسبة للمغرب فإن الفصل 45 من الدستور الحالي حدد بدوره ووسع مجال السلطة التنظيمية بمقتضى الفصل 46، الأمر الذي ينبغي معه التصريح بأن إنشاء المصالح العامة يدخل في اختصاص السلطة التنظيمية ولا يمت للمجال القانوني بصلة.
ونورد هنا تصريح للغرفة الدستورية حيث جاء فيه:

“حيث إن مقتضيات هذه الظهائر الأربعة تقتصر على تأسيس أجهزة إدارية قصد إبداء رأيها للحكومة أو قصد تنسيق أعمال أجهزة إدارية أخرى. وحيث إنه يتجلى بعد استقرار الفصول المشار إليها أعلاه من الدستور، المحددة على سبيل الحصر لمجال القانون، إن مضمون مقتضيات الظهائر الشريفة المستفتى في شأنها لا يندرج في مجال القانون ومن تم يجب اعتباره ذا طبيعة تنظيمية”.

ثانيا: توسيع مجال المصلحة العامة.

إن حديثنا عن توسيع مجال المصلحة العامة سيكون من خلال توسيع مجال الدولة؛ نظرا للعلاقة الجدلية التي تجمع بينها، فالعوامل التي تتحكم في تدخل الدولة تختلف باختلاف المكان والزمان؛ فبعضها سياسي، اقتصادي، اجتماعي أو ثقافي، والباحث في وظائف الدولة لابد وان يراعي مجموع هذه الاعتبارات، فإذا كان للمذاهب السياسية والاقتصادية الفضل في تغيير جانب من وظائف الدولة، فإن الأحداث الاقتصادية والاجتماعية؛ خاصة الأزمة الاقتصادية والحربين العالميتين لعبت دورا حاسما في هذا التغيير بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو الدور الذي لعبته أحداث الاستعمار وموجة التحرير المتوالية في اغلب البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، وكانت كلها تنادي بوجوب تدخل الدول وجعلها المحرك الأساسي في الميدانين الصناعية والتجارية، ولما بات تدخل الدول أمرا ضروريا لتصحيح الأوضاع الاقتصادية المتردية وانتظام توازن الإنتاج وتحقيق كل ما تقتضيه تنمية المجتمع، فإن تدخل الدولة جاء تدريجيا من التوجيه إلى التدخل. فالتوجيه أو ما كان يسمى بالاقتصاد الموجه هو عملية ظرفية يمكن تطبيقها في الدول اللبرالية.

أما التدخلية فهي نظام له طابع تنظيمي يتميز بالديمومة والاستقرار ويشمل مجموعة الحياة الاجتماعية، وفيه يقع دمج السياسة بالاقتصاد، وتستطيع الدولة أن تمثل جزء أو كل وسائل الإنتاج.

خلاصة

إن الهيئات العامة لا تمارس أعمالها لأغراض ذاتية لحسابها؛ وإنما بقصد تحقيق هدف أساسي هو الصالح العام، ومن تم كان من عناصر شرعية الهيئات العامة أن تتجه هذه الأعمال دائما إلى تحقيق المصالح العامة وألا تنحرف عنها فإذا هي جاوزت هذا الغرض ولم يكن الباعث على تصرفاتها ابتغاء مصلحة عامة، فإنه يشوب تصرفاتها عيب الانحراف بالسلطة مما يجعلها عرضة للإلغاء.
إن مشروعية أعمال الإدارة هي حبيسة السياج الحصين والمتمثل في فكرة المصلحة العامة سواء بصورتها المطلقة أو النسبية، فالقرار الإداري الذي يتخذ لغاية أخرى غير الصالح العام يعتبر قرارا غير مشروع حتى ولو توفرت فيه سائر العناصر الأخرى ويكون لهذا السبب جدير بالإلغاء.

فالمصلحة العامة تشكل مهمة الإدارة الأساسية ولذلك كان على الإدارة عند مزاولة كافة اختصاصاتها أن تستهدف الصالح العام دون غيره، ومشروعية أعمال الإدارة تدور في فلكه وتتنوع بتنوع تقسيماته وما يطرأ عليه من تغيير وما يطرأ عليها من تغير.
وهكذا ومن خلال ما تناولناه فإن المصلحة العامة هي الركيزة الثانية للدولة بعد السلطة، ولا يمكن للدولة التخلي عنها لأنها تستمد منها شرعية وجودها، ومهما تراجع أو زاد تدخل الدولة فذلك لا يعني إلغائها أو تدخلها بشكل تام لأن التاريخ أبان عن مدى فشل الدولة في الاعتماد على أحد المفهومين، لهذا فمفهوم المصلحة العامة يأت من قبيل مفهوم الدولة.