مقالة قانونية هامة عن العته الموجب للحجر

أحمد نشأت
رئيس مجلس مصر الحسبي

مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة الرابعة – أكتوبر سنة 1923

العته الموجب للحجر

إن الكثيرين يعتقدون أن العته هو الجنون أو أخف قليلاً من الجنون أو الجنون الهادئ الذي لا يلحق صاحبه أذى بالناس، ولا يعدون الشخص معتوهًا إلا إذا كان ذاهب العقل، إذا سُئل عن اليوم لم يعرفه، وعن أولاده فلا يميز بينهم أو لا يذكر أسماءهم، لا يفرق بين ما حصل له في يومه وفي أمسه.
ولهم بعض العذر في ذلك لمعنى العته لغةً وحسب المتداول بين الناس مع ملاحظة أن المعنى اللغوي ليس قاصرًا على الجنون فقط أو فقد العقل من غير مس جنون بل قيل نقص العقل أيضًا (راجع مختار الصحاح ولسان العرب وأقرب الموارد وشرح القاموس المسمى تاج العروس).
ويجب طبعًا أن لا نتأثر بالمعنى اللغوي أو المتداول بين الناس، وكثيرًا ما يختلف المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لألفاظ كثيرة بل يجب الالتفات فقط إلى المعنى الاصطلاحي الذي تسهل معرفته من أحكام الشيء.
وقد يظهر للبعض أن المعنى اللغوي والعرفي قد أثرا حتى على كبار العلماء في وضع التعريف الاصطلاحي للمعتوه، فاختلفوا كثيرًا في تعريفه وأخيرًا قالوا إن أحسن ما قيل فيه هو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم (راجع ابن عابدين جزء (5) صفحة (93) والفتاوى الهندية جزء (5) صفحة (54)) وقد يبدو أيضًا أن هذا التعريف أكثر من اللازم وأشد من الحقيقة إذا عرفنا أحكام المعتوه ولكن إذا صرفنا ذلك إلى المعاملات فقط كما يجب لأن الحجر لم يشرع إلا للمحافظة على المال، لم نجد لذلك التأثير قوة تذكر.

وعلى أي حال فإنه من السهل جدًا استنباط الحقيقة ناصعة لا غبار عليها من أحكام المعتوه ومن مثل هذا المصدر دائمًا يؤخذ التعريف الاصطلاحي، وسنرى من هذه الأحكام حسب آراء فقهاء الشريعة الإسلامية التي تعززها أبحاث شراح القانون الفرنسي ويعززها القانون الألماني أيضًا وتعليقاته أن المعتوه بعيد عن المجنون، وإنما ينقصه الفهم الكافي لإدارة أعماله وتقدير معاملاته لعجز طبيعي فيه أو لضعف طرأ عليه بسبب التقدم في السن، وقد يكون هذا النقص في الفهم ضعيفًا إلى درجة يأذن له القاضي معها بالعمل، بحيث إذا أقر بكسب أو إرث صح، وليس من الضروري أن تتناول قلة الفهم سائر المسائل العامة البسيطة كمعرفة الأيام والأبناء والأقارب والأمور المنزلية اليومية.

جاء في ابن عابدين جزء (5) صفحة (93) (وحكمه كمميز أي حكم المعتوه كالصبي العاقل) وجاء في صفحتي (113) و(114) في الهامش (وتصرف الصبي والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء وهذه العبارة صفة لكل من الصبي والمعتوه إن كان نافعًا محضًا كالإسلام والاتهاب صح بلا إذن وإن ضارًا كالطلاق والصدقة والقرض لا وإن أذن به وليهما، وما تردد من العقود بين نفع وضرر كالبيع والشراء يوقف على الإذن) ثم قال (فإن أذن لهما الولي فهما في شراء وبيع كعبد مأذون في كل أحكامه والشرط لصحة الإذن أن يعقلا البيع سالبًا للملك والشراء جالبًا له- زاد الزيلعي وإن يقصد الربح ويعرف الغبن اليسير في الفاحش) وجاء في صفحة (115) والهامش ولو أقر الإنسان أي الصبي والمعتوه المأذونان بما معهما من كسب أو إرث صح، وعن أبي حنيفة لا يصح في الإرث وجاء في المبسوط جزء (25) صفحة (26) (والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصبي ولكنه يعقل التصرف وفي اعتبار عقله توفير المنفعة عليه، ويصح الإذن له في التجارة من الولي أو القاضي راجع صفحة (40) أيضًا) وجاء في الفتاوى الهندية جزء (5) صفحة (54) أن المعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته، وجاء في بدائع الصنائع جزء (7) صفحة (171) (وأما عندهما فحكمه وحكم الصبي العاقل والبالغ المعتوه سواء) وجاء في الفتاوى الأنقروية جزء ()2 صفحة (338) (المعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي) وجاء في صفحة (341) تصرف الصبي المأذون يصح وإن كان فيه غبن، وقال الزيلعي جزء (5) صفحة (191) فالمعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته، ولم يقف الأمر عند ذلك بل قال في صفحة (220) وكذا للصبي أو المعتوه أن يأذن لعبده في التجارة.

وجاء في الفتاوى الحامدية جزء (2) صفحة (168) أن المعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته وإنما تارة يتكلم كلام العقلاء وتارة كلام المجانين ولم يذكر غيره هذه العبارة الأخيرة التي لا تتفق مع الأحكام المتقدمة ولا التصرفات التي قد يسمح للمعتوه بها.

ويمكننا أن نخرج من ذلك بأنه من المتفق عليه بين الفقهاء أن المعتوه كالصبي العاقل المميز قد يعقل البيع والشراء، يعقل البيع سالبًا للملك والشراء جالبًا له بقصد الربح، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش، يصح أن يأنس فيه القاضي رشدًا يكاد يكون كاملاً فيأذن له بالعمل حتى إذا أقر بكسب أو إرث أو بكسب فقط على رأي أبي حنيفة صح حتى لقد قيل إنه يستطيع أن يأذن لعبده في التجارة.

قد اختلف أيضًا شراح القانون الفرنسي في تعريف العته، فخلط بعضهم بينه وبين الجنون الهادئ، وقال بعضهم إنه ضعف الفهم أو اضطرابه بحيث لا يستطيع المرء القيام بأعماله أو ملاحظتها، وقيل أيضًا إنه ضعف الفهم الذي يسبب فقد قوة الفكر أو ذهابها بعد ترك بعض الآثار وقالوا أيضًا إن الحجر شرع لحماية الأشخاص الذين ليس عندهم الفهم الكافي لتقدير أعمالهم خشية أن يقعوا مع أشخاص ليس لهم ضمير (وكثيرًا ما هم الآن) فيبتزون أموالهم، ولكن يكاد يكون من المتفق عليه أن الأمر الذي يجب البحث فيه هل يمكن للشخص أن يدير أمواله بنفسه أم لا، فإذا كان لا يمكنه ذلك وجب الحجر وإذا لم تضعف عند المرء قوة الفهم وضعفت عنده قوة الإرادة فقط عين له مستشار أو مساعد قضائي، وكذلك في حالة الشيخوخة التي تمنع من مراقبة حفظ الثروة مراقبة كافية، وإنما إذا كانت الشيخوخة سببًا في أن لا تكون عند المرء قوة الفهم الكافية التي تسيره في حياته المدنية وجب الحجر (راجع بونت وماركاديه طبعة سابعة جزء (2) صفحة (314) و(334) وكابيتان طبعة 1921 جزء أول صفحة (571) و(585) و(601) و(603) وزكاريا المترجم عن الطبعة الخامسة الألمانية جزء أول صفحة (463) رقم (233) وصفحة (486) رقم (248) وبلانيول جزء أول طبعة 1906 رقم (2038) و(2039) و(2040) و(2041) و(2110) و(2111) وبودري المطول أحوال شخصية طبعة 1905 جزء (4) رقم (778) الفقرة الأخيرة وراجع أيضًا المادة (499) قانون فرنسي).

أما القانون المدني الألماني الذي صدر في 18 أغسطس سنة 1896 وعمل به من أول يناير سنة 1990 فقد بسط الأمر كثيرًا وجاء في المادة (6) أنه يحجر على الشخص إذا كان بسبب مرض عقلي أو ضعف في الفهم أو الذكاء أو الكفاءة لا يستطيع القيام بأعماله

prendre soin de ses affaires.

وجاء في التعليق على هذه المادة أن القانون ترك للقاضي مطلق الحرية في التقدير ولم يضع حدًا أو ضابطًا ما واشترط فقط أن يكون الشخص في حالة لا يمكنه معها تأدية أعماله (راجع القانون المدني الألماني المشار إليه الذي طبعته مع تعليقاته لجنة التشريع الأجنبي المؤلفة في وزارة الحقانية الفرنسية بالاشتراك مع جمعية التشريع المقارن).

ينتج مما تقدم مثلاً أن الشخص الذي لا يستطيع أن يعرف مقدار ثروته بالضبط أو التقريب ولا كذلك قدر غلتها ولا يثبت على قول في خبر عن تصرفات حصلت في بعض أملاكه ولا يمكنه أن يطرح أو يجمع أعدادًا بسيطة إلا بصعوبة أو يميز بين أوراق النقود ويقوم له بعض أقاربه أو أصهاره بأعماله الواسعة دون أن يفهمها أو أن يستطيع فهمها إذا أراد يجب الحجر عليه لأنه ليس عنده القدر الكافي من الفهم والكفاءة لإدارة أعماله وإذا وثق بقريب أو صهر فلا يمكنه أن يراقب أعماله ولو في أزمان متباعدة وفي الغالب تكون ثقته في مثل هذا الشخص في غير محلها إذ يسهل التأثير عليه ويمكنك أن تطبق عليه التعريف الشرعي المتقدم الذكر من جهة المعاملات قلة الفهم واختلاط الكلام وعدم إمكان تدبير الأمور لا تدبيرًا صالحًا ولا فاسدًا، ومثل هذا الشخص كثير بين الشيوخ المتقدمين في السن الذين قد يجعلهم ذلك كالصبيان الذين لا تستطيع عقولهم في أغلب الأحوال إلا ضبط المسائل البسيطة والمشاهدة كمعرفة الأيام والأقارب والمسائل المنزلية اليومية.

ويا حبذا لو وُجد عندنا نظام يبيح تعيين مستشار أو مساعد قضائي كتعيين الثقة في الوقف لملافاة حالات قلة الفهم التي يصعب على البعض اعتبارها عتهًا، ولو أن فقهاء الشرع الشريف في بيانهم لأحكام المعتوه قد وضحوا ذلك أحسن إيضاح وأباحوا الإذن بالتصرفات في بعض الأحوال ولكن وقع الحجر شديد على النفس والتفريق بين حالات المعتوه دقيق وأقل خطأ في استعمال هذا الحق قد يسبب لمثل هذا الشخص مضارًا عظيمة نفسية وقد تكون مالية أيضًا.