مقالة قانونية بعنوان هل يقف القانون عقبة في وجه التطور

المؤلف: عدنان برنبو
مجلة info magazine المعلوماتية – العدد (1) – شهر أذار 2006

*** *** *** *** ***

يعطي القانون لمؤلف العمل الأدبي أو الفني أو منتجه وحدَهُ الحقَّ الحَصْريَّ في نسخ وتوزيع هذا العمل. ويستطيع المؤلف إعطاء الإذن للآخرين في القيام بهاتين العمليتين. وهذا ما يجعل أي عملية نسخٍ لهذا العمل و لو مرةً واحدةٍ اعتداءً على حق المؤلف، بحيث يكون القائم بعملية النسخ مسؤولاً أمام المؤلف قانوناً بالتعويض عن الضرر الذي أصاب هذا الأخير من جراء هذا الاعتداء. ومن مشتملات مفهوم العمل الأدبي والفني التسجيلات الصوتية والمرئية أي الموسيقى والأغاني والأفلام، فضلاً عن دخول برامج وألعاب الحاسوب حديثاً ضمنه.

ومع ظهور تقانة الحاسوب أصبحت عملية نسخ الأعمال الأدبية و الفنية أمراً فائق السهولة وشديد السرعة ومنعدم التكلفة، إذ إن نسخ ملف موسيقي لن يكلف المرء أكثر من التأشير على هذا الملف، وضغط أمر نسخ ثم لصقه، فيصبح لديه نسخة ثانية من هذا الملف لا تقل جودةً البتة عن النسخة الأولى. واليوم، مع الانتشار الهائل لشبكة الانترنيت حول العالم، أصبحت عملية بيع وتبادل النسخ غير الشرعية من الأعمال الأدبية والفنية واسعة الانتشار عبر الشبكة، وخاصة فيما يتعلق بالموسيقى و الأفلام. فقد ظهرت في السنين الخمس الأخيرة عبر شبكة الإنترنت تقنية جديدة تسمح بتشارك ملفات الحاسوب، وقد سميت هذه التقنية (Peer to Peer) وأصبح يرمز لها بالرمز الشائع عالمياً (P2P).

وهذه التقنية هي نشاط يجري عبر شبكة الإنترنت، يمكِّن مستخدميه من استخدام الشبكات للقيام بمشاركة، أو البحث عن، أو تنـزيل، أو تحميل، الملفات فيما بينهم، أي إن هذه الشبكات تسمح لملايين المستخدمين بإرسال وتحميل الأغاني والأفلام من واحد لآخر مباشرةً، بكيفية تعد اعتداءً مباشراً على مالكي الحقوق فيها. وأول هذه الشبكات ظهوراً كانت شبكة نابستر (Napster)، و قد ظهر بعدها عدد من الشبكات الأخرى، و أشهرها (KaZaA) و (Grokster). تملك هذه الشبكات شركات خاصة، تروّج لاستخدام شبكاتها مجاناً لتستفيد من عوائد الإعلانات على صفحات موقعها. ووفقاً لإحدى الإحصائيات الأخيرة، فإن شبكات مشاركة الملفات هذه (P2P) أصبحت تكوّن في عام 2005 ما نسبته من 60 إلى 80 بالمئة من حجم استخدام الإنترنت حول العالم. وإن العدد الكلي للمستخدمين لهذه الشبكات في كل لحظة زمنية يبلغ قرابة عشرة ملايين شخص، يتشاركون فيما بينهم في بيانات رقمية يبلغ حجمها عشرة ملايين غيغا بايت.

كونت هذه التقانة الجديدة تهديداً هائلاً لمنتجي الموسيقى والأفلام، لأن هذا العدد الهائل من الملفات المنسوخة بطرق غير مشروعة قانوناً، والذي يجري تبادله حول العالم في كل لحظة، يحرمهم موارد ماليةٍ هائلةٍ كانوا سيحصلون عليها لو قاموا ببيع تلك الملفات بأنفسهم أو على الأقل بتأجيرها. لذلك قررت الشركات المنتجة محاربة هذه التقانات بجميع الأساليب والوسائل المتوفرة بين أيديها، سواء أكانت تقنية أو قانونية. فعلى الصعيد التقني قامت تلك الشركات بتطبيق برمجيات حماية على منتجاتها بحيث يتعذر نسخها. أما على الصعيد القانوني، فقد أقام العديد من الشركات المنتجة وفي بعض الأحيان الجمعيات الممثلة لتلك الشركات (كجمعية صناعة التسجيلات في أميركا RIAA) دعاوى قضائية على أولئك الذين يستخدمون هذه الشبكات لتبادل الملفات والتشارك فيها بصورةٍ غير مشروعة. إلا أن هذا الخيار يعتبر أمراً شديد الصعوبة، ذلك أنه يتطلب معرفة الشخص الذي يقوم بالنسخ، ومن ثم معرفة عنوانه ومقاضاته أمام محكمة الدولة التي يقيم فيها. ولا يخفى ما في هذا الأمر من صعوبة كبيرة إن لم نقل استحالة. مع ذلك، فقد أقامت جمعية (RIAA) ما يزيد عن أحد عشر ألف دعوى قضائية على أولئك المستخدمين في جميع أنحاء العالم. ولتذليل الصعوبة التي تواجه إقامة تلك الدعاوى الإفرادية، قررت الشركات المنتجة للموسيقى والأفلام مقاضاة الشركات التي توفر التقانة التي تسمح لمستخدمي شبكة الإنترنت بتلك المشاركة غير المشروعة في الملفات فيما بينهم.

المسؤولية غير المباشرة عن الاعتداء على حق المؤلف:
إن عملية مشاركة الأفراد في الملفات فيما بينهم تشكل اعتداء مباشراً على حقوق مالك العمل الذي يتضمنه الملف، ولا بد لاعتبار شخصٍ ما مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن هذا الاعتداء، من قيام هذا الشخص بنسخ هذا الملف أو توزيعه. إلا أن الأعمال التي كانت تقوم بها الشركات التي كانت تجري عملية المشاركة في الملفات عبر مواقعها على شبكة الإنترنت وباستخدام برمجياتها، لم تكن لتدخل ضمن نطاق عمليتي النسخ أو التوزيع، فهذه الشركات لا تنسخ بذاتها تلك الملفات ولا توزعها أيضاً، ولا يجري أيضاً تبادل الملفات عبر مخدماتها، وإنما تسمح برمجياتها فقط من تمكين كل واحدٍ من مستخدمي الشبكة في البحث عن الملفات التي يرغب في الحصول عليها في كافة أجهزة المستخدمين الآخرين مباشرةً، ومن ثم لا يمكن الاستناد إلى المسؤولية المباشرة عن الاعتداء على حق المؤلف لإدانة الأعمال التي كانت تقوم بها تلك الشركات.

ينص قانون حق المؤلف في بعض دول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية على ما يسمى بالمسؤولية غير المباشرة عن الاعتداء على حق المؤلف. بحيث يكون الشخص مسؤولاً مسؤولية غير مباشرةً إذا ما حصل اعتداء على حق من حقوق المؤلف، وذلك إذا كانت مساعدة هذا الشخص أساساً في عملية الاعتداء. وللنجاح في الادعاء استناداً إلى هذا النوع من المسؤولية لا بد من إثبات أن هذا الشخص كان يعلم، أو لا بد له من أن يعلم بأن عمله سيؤدي إلى وقوع اعتداء مباشر على حق المؤلف.

دعوى غروكستر (Grokster):
في عام 2003 أقامت شركة مترو جولدن ماير (MGM) المعروفة في هوليوود، وعدد من الشركات المنتجة الأخرى دعوى قضائية في أميركا على شركة غروكستر، التي كانت توفر لزبائنها عبر موقعها على الإنترنت شبكة تشارك في الملفات من أي نوعٍ كانت. استندتMGM في دعواها إلى المسؤولية غير المباشرة لغروكستر عن اعتداءات زبائنها. ردت شركة غروكستر على الدعوى طالبةً ردها بالاستناد إلى قضية سوني في عام 1984 والتي تشكل سابقةً قضائية كانت المحكمة قد قررت فيها بأن أصحاب حق المؤلف لا يملكون الحق قانوناً في تقييد ومنع التقانة التي تستخدم أو يمكن أن تستخدم بأساليب وطرق مشروعة لا تعتدي على حقوقهم.

رأي المحكمة في قضية سوني:
في عام 1976 أقامت شركة استوديوهات يونيفرسال العالمية وشركة ديزني دعوى قضائية على شركة سوني مدعين أن سوني مسؤولة مسؤوليةً غير مباشرة عن الأعمال التي يقوم بها مستخدمو جهاز تسجيل الفيديو المنزلي الذي قامت سوني بإنتاجه. فمستخدمو هذا الجهاز كانوا يقومون بتسجيل الأفلام والأغاني من التلفاز ويتبادلونها لاحقاً فيما بينهم، أي إنهم كانوا يعتدون اعتداءً مباشراً على الحقوق المملوكة ليونيفرسال و ديزني، وأن سوني ساهمت مساهمة غير مباشرة في الأعمال المذكورة، وذلك بتوفير الوسائل التي مكنتهم من القيام بأعمال الاعتداء، فضلاً عن أن إعلاناتها كانت تشجع الناس على نسخ و تسجيل البرامج والأفلام المفضلة لديهم.

انتهت المحكمة الناظرة في هذه القضية إلى أن تصنيع و بيع التقانات التي يمكن استخدامها بأساليب مشروعة لا تعتدي على حقوق الآخرين (ولو كان لها استخدامات أخرى غير مشروعة)، يجب أن يعتبر مشروعاً وفقاً لقانون حق المؤلف. ولم يتطلب الحكم الصادر في هذه القضية أن تكون جميع استخدامات التقانة والتقنيات مشروعة لكي ترفض المسؤولية غير المباشرة لمصنعها ومنتجها، وإنما يكفي أن يكون هناك استخدام واحدٌ مشروعٌ لها فقط. لأن من الممكن أن يقوم مستخدمو جهاز تسجيل الفيديو المنـزلي سوني بتسجيل البرمجيات لاستخدامهم الشخصي فقط، وليكون بإمكانهم رؤيتها لاحقاً عندما تسمح لهم أوقاتهم بذلك، فهذا يعني أن لجهاز تسجيل سوني استخدامات مشروعة، وأنه لا يمكن إذن اعتبار سوني مسؤولة عن الاعتداءات على حقوق المؤلفين التي تجري باستخدامه.

عودةٌ إلى دعوى غروكستر:
اقتنع القاضي الناظر في هذه الدعوى بدفوع شركة غروكستر، وقرر بناء عليها رد الدعوى المقامة عليها من قبل شركة MGM. استأنفت شركة MGM الحكم أمام محكمة الاستئناف للدائرة التاسعة، التي ردت هذا الاستئناف وقررت تثبيت الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية، مقررة أنه على الرغم من ثبوت مسؤولية مستخدمي شبكة غروكستر، فإنه لا يمكن اعتبار الشركة مسؤولة عن أعمالهم. طعنت شركة MGM بالحكم الصادر عن محكمة الاستئناف أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية، أعلى جهةٍ قضائية، والتي لا تقبل أن تنظر في أكثر من عدد قليلٍ من الدعاوى في العام الواحد لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. ومع ذلك قبلت المحكمة النظر في هذه الدعوى، بغية إيضاح شرعية الممارسات التي تقوم بها شركة غروكستر و مثيلاتها من عدمها، وللأهمية الكبيرة لهذه القضية على الاقتصاد الأميركي. ادعت MGM أن الأخذ بما قررته المحكمة الناظرة في دعوى سوني كان خاطئاً، لأن هناك العديد من الوقائع في هذه القضية التي تجعلها مختلفةً عن تلك، وهذه الاختلافات تحرم غروكستر من الاحتجاج بتلك القضية. فشركة غروكستر كانت عالمةً عندما قامت بتطوير برمجياتها و تقنياتها بأنه سيجري استخدامها على نطاق واسعٍ للاعتداء على حقوق مالكي الأعمال التي يجري تبادلها تبادلاً غير مشروع عبر شبكتها، وقد تأكد هذا العلم بالعدد الهائل من الوقائع الفعلية التي جرى فيها الاعتداء على حقوق MGM وغيرها من أصحاب الحقوق بعد وضع غروكستر لتقنيتها موضع الاستغلال، وهذا ما يشكل العلم الفعلي المطلوب قانوناً لقيام المسؤولية الثانوية للشخص عن الاعتداء على حقوق المؤلف، وهو علم الشخص بأن أعماله ومنتجاته ستقود الغير وتغريه إلى الاعتداء على حقوق المؤلف. فضلاً عن ذلك، ادعت MGM أنّ من الواجب اعتبار التقانة غير مشروعة، إذا كان استعمالها الرئيسي هو الاعتداء على حق المؤلف، ولو كان لها استخدامات قليلة مشروعة، أي إنه يجب أن نأخذ النسبة المئوية للاستخدامات غير المشروعة من مجمل الاستخدامات لتقرير مدى قيام مسؤولية غروكستر من عدمه. وادعت شركةMGM أيضاً أن غروكستر قد قصدت وأرادت إرادة مباشرة عندما قامت بتصميم برنامجها، أن تمكن المستهلكين من إجراء عمليات نسخ غير شرعيٍ للأفلام والأغاني، وأن هذا التصميم القصدي للتقانة يشكل أساساً لقيام المسؤولية غير المباشرة عن الاعتداء على حقوق المؤلف.

ارتقبت الأوساط الأدبية والفنية ووسائل الإعلام كافةً حكم المحكمة العليا بفارغ الصبر، وقد صدر هذا القرار أخيراً في السابع والعشرين من شهر حزيران من هذا العام. ابتدأت المحكمة قرارها بالاعتراف بضرورة إقامة التوازن بين مصالح الأطراف في هذه القضية، إذ إن التشدد في حماية الملكية الفنية، قد يكون عثرة تقف في وجه الإبداع والتطور التقاني. ولكن مع ذلك قررت المحكمة العليا إمكان اعتبار غروكستر مسؤولةً مسؤولية ثانوية عن الاعتداء على حقوق المؤلفين نتيجة استخدام برمجياتها، وذلك إذا ما توفرت في الأعمال التي قامت بها الشروط القانونية لهذه المسؤولية. فمحكمة الاستئناف قد وسَّعت كثيراً من نطاق تطبيق قضية سوني، إلى حد يوحي باستحالة قيام المسؤولية الثانوية نهائياً. ففي هذه القضية كما ارتأت المحكمة، توفر العديد من الدلائل القوية على نية غروكستر إغراء المستهلكين وتشجيعهم على القيام بالاعتداء على حق المؤلف. وقد قام زبائنها فعلاً بعدد هائل من عمليات الاعتداء بتسهيلٍ من تقنياتها، وغروكستر كانت عالمةً بهذه العمليات يقيناً، ومع ذلك فإنها لم تقم بأي عمل يوقف هذه الاعتداءات ويحافظ على حقوق الآخرين، بل على العكس فإنها كانت تستفيد مالياً كلما ازدادت عمليات التعدي، إذ أنها كلما ازداد عدد مرتادي موقعها ومستخدميه، ازدادت مواردها من الإعلانات.

كان هذا القرار نصراً كبيراً للشركات المنتجة للأفلام السينمائية والتسجيلات الموسيقية على حساب الشركات المنتجة للتقانة. وقد انتقدت هذه الأخيرة قرار المحكمة لكونه مشجعاً للإبداع الفني على حساب التطور التقاني، ولأن اعتبارهم مسؤولين عن عمليات التحميل والنسخ غير المشروع للأغاني والأفلام وألعاب الحاسوب وبرمجياته باستخدام تقنياتهم، سيمنعهم ويقيد قدراتهم على ابتكار منتجات جديدة.

يبقى أصحاب الحقوق في رأيي، أولى بالرعاية والتشجيع، لدفعهم إلى المزيد من الإبداع عن طريق حماية حقوقهم، من حماية أولئك الذين تشكل أعمالهم وتقنياتهم أساساً يشجع على أعمال الاعتداء على الحقوق إلى حد بعيد، وهذا ماينشر في المجتمع ثقافة التآلف مع الاعتداء وهدر الحقوق وأكلها، والتعيش من وراء ذلك.