مفاهيم في النظام العام
د. عبد اللطيف القرني
يكاد شراح القانون يجمعون على أن فكرة النظام العام هي مرنة غير محددة، بمعنى أنها فكرة نسبية تتغير وفقا للمكان والزمان كما تختلف من مجتمع إلى آخر، بل داخل المجتمع الواحد تختلف من زمان لآخر، ولذلك وجدوا صعوبة في تعريفه تعريفا دقيقا، إلى أن اكتفوا بتقريب معناه إلى الأذهان بقولهم:

إن النظام العام هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي يسود المجتمع في وقت من الأوقات، بحيث لا يتصور بقاء مجتمع سليما من دون استقرار هذا الأساس فينهار المجتمع بمخالفة المقومات التي تدخل ضمن هذا الأساس. وقرروا تبعا لذلك: أن القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام آمرة لا تجوز مخالفتها، لأنها تمس كيان الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي.

ورأوا أن التعبير الأخلاقي في النظام العام هو مصطلح الآداب العامة، التي هي مجموعة من القواعد الخلقية الأساسية والضرورية لقيام وبقاء المجتمع سليما من الانحلال، أو هي كذلك قدر من المبادئ التي تنبع من التقاليد والمعتقدات الدينية والأخلاق التي يتكون منها الحد الأدنى للقيم والأخلاقيات التي يعد الخروج عليها انحرافا وتحللا يدينه المجتمع. لذلك قرروا أيضا أن الآداب العامة لما كانت كذلك، فإن القواعد القانونية التي تتصل بها آمرة يمتنع على الأفراد مخالفتها؛ لأن في مخالفتها انهيارا للكيان الأخلاقي للمجتمع. والآداب العامة بهذا المفهوم تكون جزءا من النظام العام. والنظام العام في مفاهيم الدين الإسلامي أساسه عقيدة روحية تضمن حفظه ورعايته.

فالقواعد التي تنظم النظام العام في المجتمع المسلم منها ما هو ثابت لا يقبل التغيير والتبديل، مهما امتدت العصور وتغيرت البيئات، ومنها ما هو متغير يقبل الاجتهاد والتأويل، وذلك تبعا للثابت والمتغير في حياة الإنسان. فالثابت منه، كالعقيدة والعبادات وأصول الحلال والحرام في المعاملات وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وقد أورد فيها الشرع الحكيم أحكاما تفصيلية قطعية لا مجال فيها للاجتهاد، وكل ذلك محاط بسياج من القواعد الأخلاقية الثابتة التي لا تتغير بتغير الأزمان والبيئات بينما أرشد الشارع إلى الاجتهاد لاستنباط أحكام مناسبة، تحقق مصالح الناس حسب البيئات والأزمان، في المتغير من فروع المعاملات وإجراءات تطبيقها.

والسلطة فيه قائمة على البيعة الشرعية والشورى، لجمع الشمل ورأب الصدع ومنع الفعل الضار بالأمن العام وإقامة القانون العقابي، وصيانة الأعراض, فالبناء الاجتماعي للنظام العام يرتكز على مبادئ الإخاء والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية لكل من يعيش في ديار المسلمين، ونبذ العنصرية والعصبية بجميع أشكالها كالقومية والقبلية، أو التمييز بسبب العرق أو اللغة، وجعل الاستقامة في السلوك والأخلاق معيارا للتفاضل بين الناس، واعتبار التكافل الاجتماعي واجبا شرعيا. ومن الأمور المهمة في تأسيس فكرة النظام العام في المجتمع المسلم منع التحزبات التي تناقض فكرة مبادئ النظام العام. ومن جميل ما سمعت ما أورده د. محمد العيسى وزير العدل في برنامجه الإذاعي “الوسيط في التفسير”

حيث قال: (ومن المهم ألا تشعر الناس وهم في ديار الإسلام بأنهم فئة منفصلة عنهم شعوريا، وكأنهم ليسوا إخوانا لهم، بحيث يشعرونهم بأن هناك حزبا أو فئة إسلامية تقابلها فئة أخرى غير إسلامية، بينما كلهم يدين بدين الإسلام؛ بل يجب أن يعلموا أن الجميع إخوانهم، لكن يوجد في بعضهم العصاة، وتبقى فطرة الإسلام في كل منهم موجودة، وعلى الدعاة تحريكها من خلال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومتى لم يلتزم الدعاة هذا الأمر، وسلكوا مسلك التنظيم تحت اسم آخر غير اسم الإسلام، وتحت رمزية أخرى غير ولاية أمرهم العامة التي تشمل جميع مواطني الدولة، فلا يلوموا عندئذ الناس إذا قالوا عنهم إنهم طلاب سلطة، وأيضا هناك أمر آخر مهم وهو أن يحذر الدعاة من التساهل في التكفير وسوء الظن بإخوانهم والسخرية من الناس وتحقيرهم، وعليهم الصبر على الناس وتحملهم والإحسان إليهم: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…)، وما أتى العنف إلا بعنف مضاد، وما أتت مواجهة الناس من إخوانهم المسلمين بشدة إلا وقوبلت بشدة مثلها أو أشد أيضا، إلا ما كان من جهة السلطة في تأديب المخالف فهذا شأن ثان) أ.هـ وهذا الكلام هو تقعيد وتأصيل لمفاهيم الوحدة في النظام العام داخل المجتمع المسلم، حيث إن الكل يجب أن ينضوي تحت مظلة السلطة الواحدة والانتماء المشترك، فالنظام العام أوسع من آراء الأشخاص وتصرفاتهم، ولا يقف على حدود الطابع الحزبي، بل له ديمومته، ورحم الله الأديب أحمد حسن الزيات عندما قال: (ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الناس).

إن مفاهيم النظام العام التي انطلقت من البعثة المحمدية متجددة بما يتفق مع النهضة والإصلاح وفي ذلك يقول الزيات: (لا يمكن أن تكون ثورة إلا إذا سبقتها نهضة، ولا يمكن أن تكون نهضة إلا إذا بشرت بها دعوة، والدعوة إما بعثة نبي أو رسالة مصلح) ولكن من يفقد المفاهيم العامة في نفسه، ويسعى لتقسيم المجتمع في التصنيفات، فلن يرى استقرار النظام العام في المحيط الخارجي مهما تغنى به؛ لأن النظام العام في المجتمع الإسلامي هو انعكاس لتصرفات الذات من الداخل، يقول الزيات: (سلائل الطين لا تستضيء بصائرهم وسرائرهم بغير الدين، فإذا أطفأوه في قلوبهم تنفسوا الظلام، فإذا الدنيا ضلال وجهل وإذا العالم دمار وهلاك)، ولذلك نشاهد النظام العام يعزز الجانب الأخلاقي؛ لأنه الجانب الروحي في تهدئة الناس من الضجيج اليومي الذي يتعايشونه أثناء اطرادهم النمطي اليومي مع الحياة العامة، ولولا هذه الجرعات الروحية لشاهدنا مزيدا من التناحر، ويأتي النظام العام في دوره الأخلاقي ليساهم في العلاج الوقائي لكل آفات المجتمع، يقول الزيات رحمه الله واصفاً حال المجتمعات التي تعاني الفقر الروحي: (ربما اقتتل الوحش والوحش أو الطير والطير في سبيل القوت أو الأنثى ولكنه اقتتال الساعة لا يسبقه تدبير ولا يصحبه حقد ولا تلحقه جريرة)، ولذلك نصل إلى النتيجة العملية، وهي أن تمسك الأفراد بتعاليم الدين الإسلامي السمحة هو زاد روحي لديمومة تدفق النظام العام بكل أشكاله، واختم أدبيات الزيات بقوله: (علمت حين تعلمت أن وطننا يفيض بالخير وديننا يأمر بالإحسان، فأيقنت أن فقر الناس ناشئ من فقر الإحساس).

إعادة نشر بواسطة محاماة نت