الرقابة على شرعية النظم واللوائح في السعودية
محمد عبد العزيز السنيدي

تخضع السلطات التي تتألف منها الدول بصفة عامة لنظام قانوني تتدرج قوته في مراتب متفاوتة يعلوها الدستور ثم تليه القوانين أواللوائح ثم تأتي القرارات الإدارية الفردية في أسفل قاعدة هذا التدرج الهرمي. ووفقا لهذا التدرج يكون للدستور الهيمنة الكاملة على أعمال السلطات كافة من تشريعية وتنفيذية وقضائية، بحيث لا يجوز الخروج على أوامره ونواهيه وإلا فقد القائم عليها مقومات صلاحيته وسند ولايته. وفي مجال سيادة أحكام الدستور على أعمال السلطة التشريعية، أنه يتعين على تلك السلطة عند ممارستها ولايتها في سن القوانين واللوائح مراعاة نصوص الدستور سواءً في صريح عبارتها أو في فحواها عند ممارستها ولايتها في سن القوانين واللوائح، بحيث إن خالفتها كان عملها غير دستوري وأضحى مستهدفاً بالطعن عليه بعيب عدم الدستورية. أما عن السلطة القضائية، فهي الحارسة لتطبيقات مبدأ دستورية القوانين واللوائح والرقيبة على احترام سيادة أحكام الدستور، وتتم تلك الرقابة بإحدى الوسائل الآتية:

الوسيلة الأولى: الرقابة بوسيلة الامتناع عن تطبيق النص المخالف دون إلغائه وفيها أنه إذا وجد القاضي وهو بصدد قضية ينظرها أن النص القانوني الواجب التطبيق على النزاع سواء أكان نصاً إجرائيا أم موضوعيا مخالفاً للدستور في صريح عبارته أو في فحواه، فعندئذ يقتصر دور هذا القاضي على مجرد الامتناع عن تطبيق هذا النص دون إلغائه.

ووجه القصور في هذه الوسيلة أنها تترك مسألة الدستورية معلقة على نظر كل قاض على حدة حسب قناعاته الشخصية أو مذهبه العقدي أو الفقهي وهو ما قد يضطرب معه مبدأ المساواة بين المتقاضين ولكن مما قد يخفف من غلواء هذا الأسلوب أن باب الطعن أمام المحاكم العليا مفتوح لمعاودة النظر في هذا الشأن، ونسوق تطبيقا لذلك ما نصت عليه المادة الحادية عشرة من نظام القضاء بالمملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/ 78 وتاريخ 19/9/1428هـ من أنه من مهام واختصاصات المحكمة العليا مراقبة سلامة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمه لا تتعارض معها في القضايا التي تدخل ضمن ولاية القضاء العام (انتهى)، وكذلك ما نصت عليه المادة الحادية عشرة من نظام ديوان المظالم من أنه (تختص المحكمة الإدارية العليا بالنظر في الاعتراضات على الأحكام التي تصدرها محاكم الاستئناف الإدارية إذا كان محل الاعتراض على الحكم ”مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة التي لا تتعارض معها”. انتهى لكن ذلك لا يكفي لبلوغ الهدف من تلك الرقابة على الوجه الأكمل وذلك على ما سوف نعرض له لاحقا.

الوسيلة الثانية: الرقابة بوسيلة الدفع الفرعي: ووفقاً لهذه الوسيلة أنه في الحالة التي يجدُ فيها أحد الخصوم أن النص القانوني الذي يحتج به خصمه مخالف للدستور، فيكون من حقه في هذه الحالة أن يبدي أمام القاضي دفعاً بعدم دستورية هذا النص ويطلب إيقاف القضية وإحالتها إلى المحكمة الخاصة بمراقبة دستورية القوانين واللوائح للنظر والبت في مدى دستورية النص موضوع النزاع وفي هذه الحالة إذا وجد القاضي الناظر للنزاع أن هذا الدفع يتسم بالجدية بحيث يُرجّحُ معه الحكم بعدم الدستورية, كان عليه أن يقرر وقف السير في الدعوى وإحالة الدفع بعدم الدستورية إلى المحكمة الدستورية العليا للبت في هذه المسألة, بحيث إذا ما تبين لهذه المحكمة أن النص مخالف للدستور حكمت بإلغائه ويتعين على محكمة الموضوع أن تحكم في القضية بمعزل عن النص المحكوم بعدم دستوريته, ويتم نشر حكم المحكمة الدستورية في هذه الحالة بالجريدة الرسمية ويعتبر حجة على الكافة وتلزم به جميع المحاكم في القضايا المماثلة.

الوسيلة الثالثة: الرقابة بوسيلة الدعوى الأصلية: وبهذه الوسيلة إذا تبين للقاضي أن الدفع بعدم الدستورية يتسم بالجدية ويقوم على أسس يرجح معها الحكم بعدم دستورية النص محل النزاع, فبدلاً من أن يقوم هو بإحالة القضية إلى المحكمة الدستورية العليا, يضرب أجلاً للخصم بأن يتولى بنفسه إقامة دعوى مستقلة أمام المحكمة الدستورية العليا وعندئذ تقرر المحكمة الناظرة للموضوع وقف السير في الدعوى لحين البت في مسألة الدستورية ويكون للحكم الذي تصدره المحكمة الدستورية العليا في هذه الحالة ذات قوة وأثر الحكم الذي تصدره في حالة الرقابة بطريق الدفع الفرعي. ما تقدم هو مبدأ وأسلوب الرقابة على دستورية القوانين واللوائح في الدول الآخذة بهذا المبدأ. وهنا يثور التساؤل عما إذا كان ثمة تطبيقات لمثل هذا المبدأ في النظم المعمول بها في المملكة العربية السعودية، نجيب عن ذلك بأن المملكة قد أخذت فعلاً بهذا المبدأ تحت ما يمكن تسميته ”مراقبة شرعية النظم واللوائح”.

ويتبدى ذلك في النصوص الآتية: 1 ـــ المادة (7) من النظام الأساسي للحكم بالمملكة وتنص على أن (يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة. 2 ـــ المادة (46) وتنص على أن (القضاء سلطة مستقلة ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية). 3 ـــ المادة (48) وتنص على أن (تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة).

وبتلك النصوص فقد تحدد السياج العام للحكم في المملكة العربية السعودية وهو سياج من قواعد وأحكام الشريعة الإسلامية مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم. وفي داخل هذا السياج تستمد سلطات الدولة الثلاث من تنظيمية (تشريعية) وتنفيذية وقضائية ولاياتها حسبما نصت على ذلك المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم بقولها إن الشريعة الإسلامية مستفادة من كتاب الله وسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وهي مصدر السلطات في المملكة وهي الحاكم لجميع أنظمة الدولة, ويحمل هذا النص في عباراته وفي فحواه خطاباً عاماً ملزماً لجمع السلطات بمراعاة التوافق التام وعدم التعارض مع كتاب الله وسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وذلك هو الإطار العام الذي ترتسم بداخله الولايات والصلاحيات المنوطة بأجهزة الدولة كافة.

وإذا انتقلنا من العموم إلى التخصيص نجد أن المادتين 46، 48 من النظام الأساسي للحكم بالمملكة قد اختصتا السلطة القضائية بولاية النظر في مراقبة شرعية النظم واللوائح وأضافت المادة (48) في عجزها حكماً خاصاً توجهت به إلى ولي الأمر بمراعاة أحكام الكتاب والسنة فيما يصدره من أنظمة، حيث قالت في ذلك ”وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة”. وبذلك, فلا مراء في القول إن النظام الأساسي للحكم بالمملكة قد أخذ بمبدأ مراقبة شرعية النظم واللوائح وهو المبدأ المقابل تماماً لمبدأ دستورية القوانين واللوائح التي تأخذ به الدول الأخرى. أما عن وسيلة تطبيق هذا المبدأ في المملكة العربية السعودية فقد سكتت الأنظمة عن التصريح بأسلوبٍ محدد لبلوغ ذلك الهدف وبالتالي فليس أمام القاضي سوى اتباع أسلوب الامتناع عن تطبيق النص الذي يراه مخالفاً لكتاب الله أو لسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ مستنداً في ذلك إلى ما نصت عليه المادة (46) من النظام الأساسي للحكم بقولها إنه (لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية), وما نصت عليه المادة (48) بقولها (تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية وفقا لما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة).

والقاضي السعودي وهو يمارس صلاحية مراقبة شرعية النظم واللوائح بأسلوب الامتناع عن تطبيق النص النظامي أو اللائحي الذي يراه مخالفاً للكتاب أو للسنة المطهرة، إنما يمارس تلك الصلاحية تحت رقابة المحكمة العليا وذلك حسبما نصت على ذلك المادة الحادية عشرة من نظام القضاء وتقابلها المادة الحادية عشرة من نظام ديوان المظالم واللتان أشرنا إليهما آنفا لكن تلك الرقابة غير كافية حسبما يأتي لاحقاً. ومن السوابق التي توفقنا في الإحاطة بها في هذا الصدد أنه بتاريخ 11/9/1420هـ أصدرت الدائرة التجارية الخامسة بديوان المظالم حكماً برقم 103/ د/تج/5 لعام 1420هـ في القضية رقم 1211/1/ق لعام 1420هـ ضد وزارة التجارة بشأن تسجيل علامة تجارية لوضعها على خدمات إنتاج الأفلام السينمائية وإنتاج أفلام الفيديو وإنتاج البرامج الإذاعية والتلفزيون المرخص بالفئة (41)، إذ بعد أن استعرضت الدائرة وقائع النزاع الذي كان يدور حول مدى مشروعية النظام الذي صدر على أساسه القرار المطعون فيه بشأن أحد المسلسلات التلفزيونية واستظهرت نصوص المواد (7), (46), (48) من النظام الأساسي للحكم قضت بإلغاء ذلك القرار وقالت في الأسباب (إنه إذا رأى القاضي حسب اجتهاده أن ذلك النظام أو إحدى مواده المطلوب تطبيقها على القضية المعروضة يتعارض مع الكتاب والسنة, فله أن يمتنع عن تطبيقه وهو ما يتفق مع ما اتفق عليه الإجماع الذي هو أحد مصادر التشريع الإسلامي من أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بخلاف ما يعتقد).

ويبدو أن ثمة سوابق أخرى عديدة في هذا الاتجاه، لكن لم نتوصل إلى الإحاطة بها بسبب عدم نشر الأحكام التي تصدر عن ديوان المظالم خلافاً لما كان عليه الحال في السابق وإن كان الديوان حالياً قد أصدر عدة أحكام ومبادئ في القضايا الإدارية. وفي تقديرنا، أنه رغم أن ذلك الحكم مما يحسب للقضاء السعودي ـــ وأحكامه على هذا الطريق أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تستظهر, إلا أن الأمر ما زال في حاجةٍ إلى تدخل من جانب ولي الأمر، حفظه الله، لإتمام الحلقة الناقصة في سلسلة الرقابة على شرعية النظم واللوائح بالمملكة, ذلك أن تعليق الأمر في هذه المسألة الخطيرة على مجرد اجتهاد القاضي حسبما تمليه عليه عقيدته أو مذهبه الفقهي إذا كان مقلداً, من شأنه اختلاف وجهات النظر حول مدى شرعية النص النظامي الواحد وهو ما يأباه مبدأ عمومية النص وتجريده ووحدة انطباقه على جميع الحالات المماثلة وهو ما دفع بالمشرعين في الدول الأخرى إلى تطوير الرقابة على دستورية القوانين واللوائح من أسلوب الامتناع عن تطبيق النص المخالف إلى أسلوب الإلغاء في حالة ثبوت المخالفة وذلك بإنشاء محكمة خاصة أطلق عليها المحكمة الدستورية العليا تتولى النظر والحكم في مسألة الدستورية وذلك على ما تقدم شرحه. وعليه فإنني أهيب بالمنظم في المملكة أن يتدخل لتطوير هذه الرقابة وذلك بإسنادها إلى محكمة خاصة نقترح لها مسمى (المحكمة العليا لمراقبة شرعية النظم واللوائح)، تكون مرتبطة مباشرة بولي الأمر (خادم الحرمين الشريفين) يصدر بتشكيلها وتحديد اختصاصها نظام خاص يلزم الجهات القضائية التي تثور لديها شبهة مخالفة النص الواجب التطبيق لكتاب الله أو سنة رسوله ـــ صلى الله وعليه وسلم ـــ بأن توقف نظر القضية وتحيل النص النظامي أو اللائحي الذي تراه مخالفاً لكتاب الله أو لسنة رسوله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ إلى تلك المحكمة الخاصة للنظر والبت في تلك المخالفة ويكون الحكم الذي تصدره في هذا الشأن حجة على جميع السلطات ويتم نشره في الجريدة الرسمية (أم القرى) وبذلك يتحقق الهدف من تلك الرقابة وتسود الشرعية كافة سلطات الدولة، والله من وراء القصد.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت