للمحكمة سلطة واسعة في تقدير الوقائع والاعتماد عليها واتخاذها أساساً لاستنباط القرائن القضائية منها، ولها ان تستند على وقائع متصلة بالخصمين او بأحدهما بل وحتى بوقائع خارجة عن نطاق النزاع، ما دامت الأوراق المتعلقة بها قد ضمت الى اضبارة الدعوى وكانت لها علاقة بالوقائع المطلوب اثباتها، وتستطيع المحكمة عن طريق الاستنباط العقلي ان تستدل بها على الواقعة المطلوب اثباتها (1). فاستنباط القرينة القضائية متروك الى حكمة القاضي وتقديره لعدم حصرها، نظراً لاختلاف الوقائع وظروف الدعوى (2). ولا مانع من استعمال المستندات الخارجية عن القضية او عناصر المعلومات التي لم تناقش بصورة وجاهية او من ملف الدعوى ولو من تحقيقات باطلة لعيب في الشكل بل قد يختارها من أوراق خارج الدعوى كتحقيق اداري او من محاضرات اجراءات جزئية ولو تقرر بشأنها ان لا محل لا قامة لدعوى (3). فالقاضي لا يقدم دليلاً جديداً في الدعوى بل يقدر فقط الادلة المعروضة عليه (4).

ولا تلتزم المحكمة ببيان الاسباب التي حملتها على ترجيح احدى القرينتين واطراح عدة قرائن اخرى، او شهادات الشهود المناقضة لها، او في تقديرها واتخاذها اساساً للحكم وليس لمحكمة التمييز رقابة عليها في ذلك (5). وقد انعقد اجماع الفقه على ان القاضي لا يتقيد بعدد القرائن ولا بتطابقها، فقد يجزئ قرينة واحدة متى توفرت على قوة الاقناع (6). وليست هناك قاعدة معينة لاختيار المحكمة للواقعة التي تجعلها اساسا لاستنباط القرينة فالباب مفتوح لها على مصراعيه، ولها سلطة مطلقة في استنباط القرينة من أية واقعة تحظى بقناعتها، ولا تتقيد الا بأن تكون الواقعة مما يجوز اثباتها بالقرائن، وان يكون استنباطها سليما وسائغا ومسببا تسببا كافيا ومنطبقاً على المحسوس والمعقول ومؤديا الى النتيجة التي انتهت إليها (7).

واذا استنبط المحكمة القرينة من واقعة غير مباشرة، توجب عليها ان تلتزم جانب الحيطة والحذر، لكي لا تقع في خطأ الاستنباط من ان تكون الواقعة التي تستند عليها القرينة القضائية وهمية او واهية، وخاصة اذا جاءت عن طريق الشهادة (8) وقضت محكمة التمييز (وجد ان شراء المميزة وهي زوجة المدين المحتجز عليه اثاثا وأدوات المقهى ووجود الاثاث والأدوات المذكورة بمحلها قبل البيع لدليل على صورية التصرف الذي تتمسك به المدعية واذ انها زوجة المحتجز عليه فهي لابد عالمة بأنه مدين للحاجز وفقا للمادة 264 مدني) (9). وقضت (ان البيع تم في 3 / 8 / 1960 فيكون قد مضى أكثر من خمس سنوات على رفع الدعوى، فسكوت المشتري المدعي هذه المدة الطويلة، قرينة قضائية على استلامه المبيع) (10) وقضت في واقعة تسلم المؤجر لبدلات الايجار تعد قرينة قضائية على ان المؤجر اسقط حقه في طلب التخلية (11).

وقضت محكمة استئناف منطقة بغداد بصفتها التمييزية، ان قبض المؤجر بدلات الإيجار المودعة باسمه لدى الكاتب العدل لا يعتبر اسقاطاً لدعوى التخلية المقامة ما دامت مؤسسة على الضرورة الملجئة وليس على التخلف عن تسديد الاجرة (12). مما يستفاد منه انه اذا كانت الدعوى المقامة مؤسسة على التخلف عن تسديد بدل الايجار لكانت المحكمة اعتبرت قبض المؤجر لبدلات الايجار قرينة قضائية على اسقاط المؤجر لطلب التخلية. ونحن لا نتفق مع اتجاه القضاء العراقي في اعتبار الواقعة المذكورة قرينة قضائية، ذلك انه لا علاقة بين طلب التخلية المستند الى عدم تسديد المستأجر لبدل الايجار مخالفا بذلك أحكام قانون ايجار العقار رقم 87 لسنة 1979 (م 17 / 1) وبين قبضه لبدلات الايجار المودعة لدى الكاتب العدل والتي هي حق من حقوقه. وقضت محكة التمييز بأن يجوز استنباط القرينة القضائية من مركز الشخص الأدبي وامتهانه لمهنة الطب واسبق تعامله مع شركات تأمين متعددة، على صدق الخصم في ادعائه بشأن الاشياء المسروقة بالذات وتقدير قيمتها والتي بلغ عنها وقت وقوع الحادث(13).

ويذكر ان تقدم العلم ادى الى اختراع وسائل حديثة تساعد المحكمة في استنباط القرائن القضائية، وقد نصت المادة 104 من قانون الاثبات على ان (للقاضي ان يستفيد من وسائل التقدم العلمي في استنباط القرائن القضائية) فيمكن الاستعانة بأجهزة تسجيل الاصوات وتحليل الدم للتحقق من نوعه فصيلته توصلا لاثبات نسب طفل لا بيه عند الانكار (14). الا ان محكمة التمييز قضت بأن الشريط المسجل لا يعتبر من وسائل الاثبات القانونية (15). في حين ان تسجيل المحادثات بواسطة آلات التسجيل يمكن ان تتساوى مع الاقرارات الشفهية خلال الاستجواب ويمكن ان تقبل كبداية للأثبات بالكتابة ولكن هذه الوسيلة قد تسمح بالتزييف، لذا لا يمكن ان تستعمل هذه التسجيلات الا في أضيق الحدود، ومع ذلك فان محكمة باريس في حكم لها بتاريخ 9 /11/ 1966 استبعدت تسجيلا تسرية عند نظر قضية فسخ عقد عمل عن مناقشة تمت من قبل العامل في مكان العمل باعتبار ان (التسجيل) لا يمثل اي ضمان صادق، والقضاء المقارن يرفض عموما الدليل المستمد من التنصت والتسجيل الالكتروني على المحادثات الهاتفية والمكالمات بين الافراد، لما في ذلك من انتهاك للخصوصية والحرية الشخصية للأفراد (16).

____________________

1-مرقس، اصول الاثبات، فقرة 274، ص89. الصدة ص228.

2-مجموعة الأعمال التحضيرية ج3 ص431.

3-مرقس، من طرق الاثبات ج3 فقرة 274 ص78.

4-ادوار عيد، ج2 ص1-3 هامش رقم (3).

5-مرقس، اصول الاثبات، فقرة 274 ص92.

6-مجموعة الأعمال التحضيرية ج3 ص430.

7-مرقس، اصول الاثبات فقرة 274 ص88 وما بعدها. وانظر طعن رقم 249 لسنة 36 ق جلسة 15/12/1979 س21 ص1250 الموسوعة الذهبية ج5 ص477.

8-حسين المؤمن ج4 ص31.

9-القرار المرقم 2572 / ح / 1956 في 20 / 12 / 1956، مجلة القضاء، العدد الأول 1957 ص110 – 111.

10-القرار المرقم 155 / ح / 1968 في 30 / 10 / 1968، قضاء محكمة التمييز، المجلد الخامس ص453.

11-القرار المرقم 1187 / ح ع / 1970 في 4 / 11 / 1970 النشرة القضائية العدد (4) السنة الأولى ص181.

12-القرار المرقم 2399 / ح / 1979 في 5 / 12 / 1979 مجلة الوقائع العدلية، العدد (13) 1980 ص139.

13-القرار المرقم 277 / ح / 1967 في 24 / 4 / 1967 قضاء محكمة التمييز، المجلد الرابع ص353 – 354.

14-حسين المؤمن، ج4 ص33. د. قيس ص151.

15-القرار المرقم 12 / موسعة اولى / 84 – 1985 في 29 / 8 / 1984، المجلة العربية للفقه والقضاء العدد الثالث 1986 ص274 – 276 كما قضت محكمة التمييز ان (اوامر التسليم وبرقيات التلكس لا تصلح ان تكون سند الاثبات العقد) القرار المرقم 594/ م1/ 1989 في 11 / 11 / 1989. المبادئ القانونية في قضاء محكمة التمييز. قسم الاثبات، اعداد الاستاذ القاضي ابراهيم المشاهدي. بغداد 1994 ص50 التسلسل (56).

16-د. مبدر الويس، أثر التطور التكنولوجي على الحريات العامة، الاسكندرية 1983 ص45 – 46.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .