مبدأ الفصل بين السلطات و تطبيقه في الدستور العراقي

منال داود العكيدي
يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات مظهرا من مظاهر الديمقراطية واحد اهم الركائز التي تقوم عليها الانظمة السياسية الحديثة وهو الفلسفة التي تتبناها الدولة في ادارتها لمؤسساتها حيث يشير هذا المبدأ الى توزيع سلطات الدولة على هيئات تستقل كل واحدة منها عن الاخرى بحيث تظهر غالبا في ثلاث سلطات رئيسة وهي السلطة التشريعية التي تتولى وظيفة سن القوانين والسلطة التنفيذية التي تتولى مهمة تنفيذ القوانين والسلطة القضائية التي تضطلع بمهمة الفصل في النزاعات ..

وقد ظهر مبدأ الفصل بين السلطات بصورته البدائية في اليونان القديمة ومنها انتشر تطبيقه في الامبراطورية الرومانية و اصبح جزءا من دستورها وقد تطور هذا المبدأ كثيرا على يد الفيلسوف مونتسيكيو في كتابه ( روح القوانين ) في نهاية القرن الثامن عشر ، والذي اشار الى “ضرورة تبني مبدأ الفصل بين السلطات في ظل الليبرالية السياسية وان سلامة الفرد في المجتمع لا يمكن تامينها عندما تتجمع كل السلطات بيد واحدة “ وطبقا لذلك فان الابتعاد عن هذا المبدأ او تطبيقه بصورة مشوهة او الالتفاف عليه يولد حالة من عدم الاستقرار في الانظمة السياسية بالاضافة الى ترسيخ النزعة الديكتاتورية ، لذلك فان من ابرز مظاهر الدولة الديمقراطية هو تبني هذا المبدأ والنص عليه في دستورها .

ويقوم مبدأ الفصل بين السلطات على اسس تقوم على عدم تركيز وظائف الدولة في هيئة أو جهة واحدة. تقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث وظائف أساسية هي : الوظيفة التشريعية ، والوظيفة التنفيذية ، والوظيفة القضائية .

ويبدو ان الدول التي تتبنى هذا المبدأ تنتهج اما التفسير التقليدي للمبدا والذي يقوم على الفصل الشديد بين هيئات الدولة الثلاث وذلك لضمان استقلال البرلمان عن الحكومة استقلالا تاما فتقوم الدولة على اساس تقسيم الوظائف بين هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية يحكمها المساواة والاستقلال والتخصص فالمساواة تعني عدم انفراد اية سلطة من هذه السلطات بسيادة الدولة و انما يجري التقاسم فيما بينها حيث لا يجوز تغليب سلطة على اخرى .

اما الاستقلال أي ان لا يكون لاية سلطة من سلطات الدولة أي تاثير على السلطات الاخرى ولا يحق لاي منها ان تشارك السلطة الاخرى في اداء واجباتها و لأي سبب كان فلا يحق مثلا للقاضي ان يكون عضوا في البرلمان او وزيرا في ذات الوقت و ايضا لا يكون للحكومة حل البرلمان ولا يحق للاخير سحب الثقة من الحكومة .

كما ان هذا الاسلوب يقوم على اساس التخصص الوظيفي فكل سلطة تقوم بمهمتها وحسب ما يقرره الدستور فالتشريع من اختصاص البرلمان وتنفيذ القوانين من اختصاص الحكومة والقضاء من نصيب السلطة القضائية التي تتولى سلطة فض المنازعات وقد طبق هذا المبدا على شدته في اول دساتير الثورة الفرنسية الصادر في عام 1791 اذ جعل كل سلطة في استقلال تام عن بقية السلطات وقد حذا حذوه دستور السنة الثالثة الصادر عام 1795 وقد كان من ابرز مظاهرها هو تعيين الوزراء وعزلهم بمعرفة رئيس السلطة التنفيذية وحده والذي يقوم باختيارهم من غير اعضاء البرلمان كما انه ليس للسلطة التنفيذية أي سلطان على السلطة التشريعية .

و مبدأ الفصل بين السلطات بهذا المفهوم جوبه برفض في الواقع العملي لتعارضه مع وحدة السلطة في الدولة لذلك كان لابد من اضفاء شيءمن المرونة في تطبيقه وهو ذات المفهوم الذي قصده( مونتسكيو ) في نظريته حيث الفصل النسبي او المتوازن بين السلطات الثلاث مع قيام قدرا من التعاون فيما بينها لتنفيذ وظائفها بانسيابية بوجود رقابة متبادلة فيما بينها فظهر التفسير الحديث او ما يعرف بالفصل المرن حيث تكون سلطة الدولة موزعة بين هيئاتها الثلاث لكل منها وظيفة متميزة لكن هذا الفصل لا ينفي إمكانية التعاون فيما بينها .

ونجد تطبيقات فكرة الفصل المرن والنسبي في الغالبية العظمى من النظم السياسية والدستورية في العالم ومنها العراق وفق دستور عام 2005وتبدو اهمية تبني مبدأ الفصل بين السلطات وفق المفهوم المرن الحديث في حماية الحقوق والحريات وكبح استبداد شخص واحد او جهة واحدة في اساءة استعمال السلطة وانتهاك الحقوق والحريات .

اما توزيع السلطات بين هيئات الدولة يتيح فرصة ممارسة اختصاصها على وجه الاستقلال مع وجود رقابة متبادلة بينها تمنع التجاوز على حقوق وحريات الافراد ، ان تطبيق هذا المبدأ يؤدي بالضرورة الى احترام مبدأ سيادة القانون في الدولة بحيث يخضع جميع المواطنين و افراد الطبقة الحاكمة للدستور و اخيرا فان تبني هذا المبدأ يحقق اتقان كل هيئة لوظيفتها وحسن ادائها في المجالين الاداري والسياسي.

لقد اصبح مبدا الفصل بين السلطات من المبادئ الثابتة وعلى الرغم من ذلك فانه لم يسلم من النقد فقد اعتبره البعض هدفا مرحليا ظهر اساسا لمحاربة الدكتاتوريات المطلقة في القرن الثامن عشر وقد تحقق هذا الهدف ، كما وصفه البعض بانه يؤدي الى تفتيت وحدة الدولة ووحدة ادارتها لانه يخلق سلطات تعمل بصورة مستقلة وبمعزل عن رقابة اداء لاي منها لاسيما انه يفضي الى تجزئة المسؤولية بين هيئات الدولة ومن ثم صعوبة تحديدها ..

لقد اثبت الواقع العملي في الكثير من الدول التي اعتنقت هذا المبدأ انه لا بد من ان تعلو احدى السلطات على السلطتين الاخريين وذلك ينال من هذا المبدأ ويؤدي الى الاخلال بالتوازن فيما بين هيئات سلطة الدولة . ورغم ما وجه من انتقادات حاولت النيل من اهمية المبدأ الا انه اصبح من المبادئ الدستورية المسلم بها في كل دساتير العالم وكذلك فقد اصبح من المبادئ الاساسية لمختلف نظم الحكم السياسي فقد نص الدستور العراقي لسنة 2005 في المادة ( 47 ) منه على ((ان السلطات الاتحادية تتكون من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تمارس اختصاصاتها ومهماتها على اساس مبدأ الفصل بين السلطات)).

فعلى الرغم من ان الدستور العراقي قد تبنى مبدأ توزيع السلطة من خلال اقراره لمبدأ الفصل بين السلطات النسبي او المرن الا انه لم ينجح في تحقيق التوازن والمساواة فيما بينها عندما قام بتوزيع الاختصاصات عليها الامر الذي القى بظلاله ايضا على جوانب التعاون المتبادل المفترض حصوله بينها على الاقل فيما يتعلق بالاختصاصات المشتركة ونفس الامر ينسحب على اليات الرقابة المتبادلة لذلك كان اختلال عناصر التوازن والمساواة والتعاون بين هيئات الدولة الاتحادية نسبيا لصالح الهيئة التشريعية الامر الذي ادى الى عدم تطبيق احد اهم اركان النظام النيابي الاساسية عمليا والمتجسد في المساواة والتوازن والتعاون والرقابة المتبادلة .

فالواقع العملي قد اثبت وبشكل لا يقبل التاويل وجود فجوة او طلاق بين الواقع السياسي والواقع الدستوري فغالبا ما نرى اعتراض او امتناع عن تنفيذ القرارات الصادرة من السلطة القاضية او عدم تنفيذ القوانين الصادرة من السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية خلافا لمبدا الفصل بين السلطات الذي جاء به الدستور العراقي النافذ ذلك المفهوم الذي يمثل ابرز معالم الانتماء الى العصر الحديث وهذا يظهر مدى ازدواجية مواقف البعض والذي يعود الى انعدام الثقافة القانونية والديمقراطية التي تؤهله فهم ابعاد مبدأ الفصل بين السلطات لذلك لا بد من اشاعة الثقافة القانونية والمفاهيم الديمقراطية بين مختلف الاوساط والشرائح في المجتمع وترسيخ بعض المفاهيم التي تتعلق بمبدأ الفصل بين السلطات وكيفية التعامل معه ومع دولة المؤسسات التي ارساها الدستور والتي يجد البعض صعوبة في فهمها بسبب اثار الثقافة الدكتاتورية السابقة لذا كان من الضروري ايجاد ثقافة بديلة تواكب روح العصر الحديث وتتماشى مع المبادئ الجديدة التي جاء بها الدستور العراقي النافذ.