مبادئ و سلوك القتال وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني

المحامية: منال داود العكيدي
كان القانون الدولي التقليدي يسلم بحق الدولة المطلق في شن الحرب يقوم على أساس إن الضرورة العسكرية ترجح قواعد الحرب, لكن تطور أساليب القتال ,أقتضى ضرورة تقييد حرية المتحاربين في اختيار وسائل إلحاق الأذى , بالخصم عن طريق وضع قيود عديدة على سلوك أطراف النزاع أثناء العمليات القتالية , من أجل تخفيف المعاناة والآلام التي تخلفها النزاعات المسلحة سواء أكانت دولية أم غير دولية , التي يعاني منها المدنيون والعسكريون على حدٍ سواء .

وتعد اتفاقيتا لاهاي لعامي 1899 و1907 , هما أول محاولة لوضع قانون ملزم يقيد حرية أطراف النزاع المسلح في اختيار وسائل القتال وأساليبه , فقد ورد في المادة 22 من اتفاقية لاهاي لعام 1907 المبدأ الذي يقيد حرية المحاربين في اختيار وسائل الأضرار بالخصم حيث تنص على انه (ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو), كما ورد هذا المبدأ ايضا في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 في المادة 35 / الفقرة 1 منه.

وتشكل هذه القواعد بمجموعها سواء كانت عرفية أم اتفاقية , المبادئ الأساسية التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني , وهي في الحقيقة نتاج تسويةَ بين مبدأين متعارضين وهما مبدأ الإنسانية ومبدأ الضرورة العسكرية , ويحكم هذين المبدأين مبدأ ثالث يعمل على التوفيق بين تلك الاعتبارات الإنسانية والضرورة العسكرية وهو مبدأ التناسب , فمبدأ الإنسانية يقتضي توفير حماية خاصة للإنسان , فيلزم إطراف النزاع المسلح بالكف عن كل ما هو دون الضرورة العسكرية , ويدعو إلى تجنب أعمال القسوة والوحشية في القتال , خصوصا إذا كان استعمال هذه الأساليب لا يجدي في تحقيق الهدف من الحرب وهو تحقيق النصر وهزيمة العدو , فقتل الجرحى أو الأسرى أو الاعتداء على النساء والأطفال أو على المدنيين غير المشاركين في الأعمال القتالية بوجه عام كلها أمور تخرج عن إطار أهداف الحرب , ومن ثم تعد أعمال غير إنسانية .

وقد قامت اتفاقيات جنيف لعام 1949على أساس الالتزام بتوفير المعاملة الإنسانية للأشخاص المحميين , وأوجبت أن يحكم هذا المبدأ أطراف النزاع المسلح بوصف ذلك حداً أدنى من جهة سلوك القتال والوسائل المستخدمة فيه , وهذا ما أخذ به البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

اما المبدأ الثاني فهو مبدأ الضرورة العسكرية ويعد من أهم المبادئ الأساسية التي قام عليها القانون الدولي الإنساني , ويقصد به هو التزام أطراف النزاع المسلح باستخدام القوة الضرورية لتحقيق هدف القتال الذي يتمثل بشل قوة الخصم والانتصار عليه , ومن ثم فإن كل استخدام للقوة المسلحة يتجاوز تحقيق الهدف من القتال يصبح من دون مسوغ من مسوغات الضرورة العسكرية , ومن ثم يعد عملا غير مشروع , فهذا المبدأ يدور في إطار فكرة تتمثل في إن استخدام أساليب القوة والعنف والخداع في الحرب , تقف عند قهر العدو وتحقيق الهدف من الحرب وهو الانتصار على العدو, ولا يجوز للطرف المنتصر الاستمرار والتمادي في مواصلة الأعمال العدائية ضد الطرف الأخر .

وقد وضع القانون الدولي الإنساني حدوداً لهذا المبدأ, إذ لم يُجز الدفع بوجود ضرورة عسكرية لتسويغ القيام بفعل محظور , كتدمير الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين أو مهاجمة الأهداف التي تحتوي على قوى خطرة حتى إذا كانت هدفاً عسكرياً في بعض الأحيان ، ومما لا شك فيه إن تجاوز حالة الضرورة العسكرية يشكل انتهاكاً لهذا القانون , فإذا كان عمل القادة العسكريين في الميدان يقتصر بشكل أساسي على هزيمة العدو والانتصار عليه , إلا إن هذا العمل مقيد بعدم تجاوز الحدود التي لا يقرها القانون الدولي الإنساني ومن ثم فهم ملزمون باتخاذ الاحتياطات اللازمة لحصر الخسائر والإضرار التي تلحق بالمدنيين والأعيان المدنية في أضيق نطاق ممكن.

وينبغي ان يلاحظ ان هذه الضرورة يجب أن تقدر بقدرها فلا يجوز أن تتخذ ذريعةً لخرق قوانين الحرب و أعرافها , ففي هذه الحالة تنتفي الغاية من وجودها وتخرج من إطار الأعمال المشروعة وتصبح عملا محظوراً .

وقد أخذت اتفاقيات جنيف لعام 1949 بفكرة الضرورة العسكرية التي قد تمليها ظروف القتال وجعلت منها مسوغاً لبعض الانتهاكات الجسيمة لأحكامها , فقد أشارت هذه الاتفاقيات إلى أن تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع يُعد انتهاكا جسيما لهذه الاتفاقيات ما لم تبرره الضرورات الحربية ، كما أخذ قانون النزاعات المسلحة غير الدولية بمبدأ الضرورة العسكرية , فقد أشارت المادة 15 من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977, إلى حظر مهاجمة المنشآت المحتوية على قوى خطرة حتى لو كانت أهدافاً عسكرية , إذا كان من شأن ذلك أن يلحق خسائر فادحة بالسكان المدنيين , كما حظرت المادة (17) من البروتوكول ذاته الترحيل القسري للمدنيين , ما لم تبرره الضرورات العسكرية الملحة.

ويعد مبدأ التناسب , أحد المبادئ الجوهرية التي يجب تطبيقها أثناء النزاعات المسلحة سواء كانت دولية أم غير دولية , لأنه يهدف إلى الحد أو التقليل من الخسائر و أوجه المعاناة المترتبة على العمليات العسكرية سواء بالنسبة للأشخاص أو الأشياء ، ويعد هذا المبدأ من المسائل الدقيقة التي يصعب تحقيقها في بعض الأحيان أثناء القتال وإدارة العمليات الحربية ,إذ يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات غير المتناسبة من أجل إنقاذ المدنيين والأعيان المدنية من آثار الحرب بقدر الإمكان ، ويقصد بالهجوم غير المتناسب , بأنه (الهجوم الذي يتوقع منه أن يسبب خسائر في أرواح المدنيين أو أصابتهم , أو يلحق أضرارا بالأعيان المدنية, أو أن يجمع بين هذه الخسائر والأضرار بشكل يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة).
ويعتمد مبدأ التناسب على تحقيق التوازن بين أمرين جوهريين , هما الميزة العسكرية المتوقعة من أعمال القتال من جانب , والخسائر التي تلحقها هذه العمليات بالمدنيين والأعيان المدنية من جانب أخر, ويشترط في الميزة العسكرية أن تكون متوقعة , وتتحقق عادة من خلال السيطرة على جزء من الإقليم أو تدمير القوات العسكرية للعدو أو أضعافها , كما يشترط فيها أن تكون ملموسة ومباشرة وقد أشار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998, إلى هذه الشروط بنصه (.. بالقياس إلى مجمل الميزات العسكرية المتوقعة والملموسة والمباشرة) ,بمعنى أن تكون هذه الميزة كبيرة ومباشرة نسبياً , ولا يجوز أن تكون محتملة الوقوع في المدى البعيد , وبخلاف ذلك نكون أمام مشكلة عدم التناسب بين الخسائر والأضرار المدنية الواقعة من جانب والميزة العسكرية المتوقعة من جانب آخر, وهو ما يشكل انتهاكاً صارخا لمبدأ أساس من مبادئ القانون الدولي الإنساني .

ومن الجدير بالذكر أن مبدأ التناسب لم يرد في الأحكام المنظمة للنزاعات المسلحة غير الدولية بشكل صريح , لا في المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949, ولا في البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977وانما ورد بشكل ضمني , غير انه تم دمجه في نصوص أخرى تنطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية , إذ ورد المبدأ المذكور في الفقرة (8) من الإعلان المتعلقة بتسيير الإعمال العدائية في النزاعات المسلحة غير الدولية الصادر عام 1990 ، كما أخذ به النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية , الذي عد إن تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء ما تحتمه ضرورات الحرب , في ضمن الانتهاكات الجسيمة التي تعد من جرائم الحرب , إذ يشير هذا النص إلى مفهوم الضرورة العسكرية والى مبدأ التناسب التي لا يجوز الخروج عليها في النزاعات المسلحة غير الدولية