ماهية القضاء الاداري

يرى جميع الفقه الاداري أن القانون الاداري هو قانون قضائي في عمومه وأن القضاء هو المصدر الرئيسي والرسمي لقواعد هذا القانون. كما يرسم هذا الفقه حدا فاصلا بين دور القاضي المدني والقاضي الاداري، وذلك على أساس أن القاضي الاداري لاتتوقف مهمته عند تطبيق القواعد المقننة وإنما تمتد الى حد إنشاء القواعد القانونية على نقيض الدور الموكول الى القاضي المدني”16. بل أن المذكرة الأيضاحية لقانون تنظيم مجلس الدولة المصري لسنة 1955 قد أبرزت بوضوح هذا الدور المناط بالقاضي الاداري المصري بقولها (( أن القانون الاداري يفترق عن القوانين الاخرى كالقانون المدني والتجاري في أنه قانون غير مقنن وأنه مازال في مقتبل نشأته ومازالت طرقه وعرة وغير معبدة لذلك يتميز القضاء الاداري بأنه ليس مجرد قضاء تطبيقي كالقضاء المدني بل هو في الغالب قضاء إنشائي يبتدع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ بين الادارة في تسييرها للمرافق العامة وبين الافراد وهي روابط تختلف بطبيعتها عن روابط القانون الخاص ومن ثم أبتدع القضاء الاداري نظرياته التي إستقل بها في هذا الشأن))”17″.

وأستنادا الى ذلك الدور الموكول الى القاضي الاداري الفرنسي نشأت أغلب نظريات ومبادئ القانون الاداري على يد ألقضاء الاداري الفرنسي، بل يمكن أن نعتبر أن هذا القانون هو الأبن الشرعي لهذا القضاء .ومع ذلك نجد بعض الفقه يبالغ الى حد القول بأن تلك النظريات والمبادئ التي نشأت في ظل أروقة القضاء الفرنسي لايمكن حصرها في حدود الدولة الفرنسية وإنما هي من العلم القانوني الذي لايعترف بالحدود ، ومن ثم يصبح إستخدامها وتطبيقها في جميع الدول أمرا مقبولا”18″. وبذلك يكون هذا الفقه قد تناسى بأن مثل هذا التعميم لهذا القانون ذي الصبغة القضائية والنشأة الفرنسية سيؤدي الى أن يصبح القضاء الوطني أداة لتطبيق نظريات وأفكار القضاء الاداري الاجنبي وهو ما يشكل خطرا على السيادة الوطنية وعلى النظام القانوني الوطني خصوصا في تلك البلدان الفتيّة التي لم يترسخ فيها بعد نظام قانوني متكامل يتوافق مع مستلزمات تطورها في جميع الجوانب “19”.

يمكن الأتفاق على ان الطابع القضائي يغلب على قواعد القانون الاداري ، غير ان السؤال الهام في هذا المجال يتمثل في أنه لماذا وبماذا يبرر الفقه الاداري ذلك الدور الأنشائي للقاضي الاداري ؟

في الواقع أن دراسة أراء الفقه الاداري في هذا المجال تبين لنا أن ذات التبريرات التي طرحت بشأن تبرير عدم تقنين القانون الاداري قد إستند اليها هؤلاء في تبرير سلطة القاضي الاداري في إنشاء القواعد القانونية ، كما برر هذا الفقه هذه السلطة إستنادا إلى سببين ، سبب تاريخي يتمثل في أن ” القانون الاداري نشأ بواسطة القاضي الذي ساهم فيه الى جوار المشرع ، إلا أن دوره يغلب على دور المشرع ومن ثم إعتاد القاضي المساهمة في إعداد وتهيئة القاعدة القانونية “. اما السبب الآخر فيتمثل بمتطلبات وظيفة القاضي الاداري ، هذه المتطلبات – كما يصرح هذا الفقه – تستلزم ” إظهار إستقلاله في مواجهة النص المكتوب” وأن هذا القاضي ” يعلم تماما مضمون وماهية عملية التشريع كما لاتكون القاعدة المكتوبة ذات خصيصة شبه دينية يتعين عليه أن يمتثل ويخضع لها خضوعا مطلقا على غرار القاضي العادي “02”. وهكذا يجعل هذا الفقه سلطة القاضي في التشريع حقا تاريخيا له لايمكن ولايجوز ألمساس به، كما أنه بالأستناد الى متطلبات الوظيفة يدعوا هذا الفقه الى ” تحريض القاضي على الخروج السافر عن طاعة التشريع القائم والقيام بنفسه بدور المشرع ” 21″ . ان الغريب في الأمر ان يتبنى الفقه الاداري العربي مثل هذه الدعوة دون ان يرى ان ” هنالك فرقا واضحا بين دور القاضي المعروف في تفسير القانون ، تمهيدا لتطبيقه ، تفسيرا يتسع في كثير من الاحيان لمواجهة ظروف الواقع وبين هذه الدعوة الى إسقاط القانون القائم كلية …..تمهيدا لأن يضع القاضي بنفسه ماشاء من قواعد مستندا الى فهمه الشخصي وتقديره للمصلحة التي ينبغي تفضيلها “22”.

أن نزعة الفقه الاداري في إعطاء القاضي الاداري دورا أكبرمن القانون أو تحريره من سلطان التشريع بحجة ضعف التشريعات الادارية كميا ونوعيا أو بحجة ان هذا القاضي له إدراك متميز وخاص للعملية التشريعية ومضمونها “23”، لايمكن عزلها عن تيارات الفقه القانوني المعاصر في الدول الرأسمالية التي ترى أسبقيّة الحق على القانون ( التشريع) والاستعاضة عن التقنين بالممارسة القضائية وبصنع القاضي للحق أو تزويد القاضي بسلطات واسعة تجعل من عمله القضائي محوّر الحق وتطوه اللاحق “24” . إذ أن هذه التيارات المعاصرة قد إستبدلت تلك العلاقة المتبادلة بين القانون والمحكمة الى علاقة متنافرة تقوم على ألأختيار بين القانون أو المحكمة ، وهي في هذا المجال شككت في سلطة القانون وعلقت آمالها ، كما يقول الفقيه تومانوف، على دور المحكمة الخلاق وعلى حق القاضي في صنع القانون “25”.

من المفيد ان نذكر أن هذه التيارات الداعية الى حرية القاضي في التقدير ودور القاضي في صنع القانون قد برزت مع الأزمة العامة للنظام الرأسمالي وإنتقال الدولة الى دولة الأحتكار ، ففي مطلع القرن الماضي نشأت ” حركة القانون الحر ” التي نادت بتوسيع سلطة القاضي في مجال التفسير ، ثم توالت النزعات الفقهية “26” التي تطالب بصنع القانون القضائي ورفع الحكم القضائي الى مافوق القانون ( التشريع )، لهذا أصبحت نزعة تحرير القاضي من سلطان التشريع سمة مشتركة لأغلب نظريات القانون في العالم الرأسمالي وليست سمة خاصة بالقانون الاداري. وفي هذا الصدد يقول فقيه الماني أنه (( لم يعد القاضي ذاك ” الموظف ” العامل في خدمة سلطة الدولة .. الذي ” يقرع ” القانون آليا بحالات نوعية كي يستخلص منها أحكاما ، وإنما هو يعطي أكثر فأكثر إستقلالا موسعا تجاه النصوص ومسئولية أكبر ودورا أكثر نشاطا واحتراما . والمذاهب المعاصرة ، وقد أغراها الطراز الانكليزي ، ” القاضي يصنع القانون ” تسير كلها تقريبا في هذا الطريق متحاشية مع ذلك تجاوزات بعض رواد مطلع القرن العشرين وقلة براعتهم ، لكن الممارسة تسلك هذا السبيل جيدا في محاكم المانيا والنمسا ….فهل يعني هذا شيئا غير ان الحق يتخلص ، امام أبصارنا ، من ديكتاتورية تشريع تجريدي خانقة ، واننا نميل الى الأعتراف بالعلاقة المباشرة التي تربط نظام الأشياء الطبيعي المتحرك بالقاضي الذي ينطق بالحق))”27″ . وبنفس المعنى يؤكد الفقيه الاميركي فريدمان حيث يقول (( أن مذهب بلاكستون حول الوظيفة الأعلانية للمحاكم الذي يقول بأن من واجب المحكمة ليس ” إصدار قانون جديد بل إبقاء وتفسير القانون القديم قد أمسى أكثر بقليل من شبح منذ أمد بعيد ….فالحقوقيون المعاصرون ، منذ هومز وجيني حتى باوند وكردوزو ، يعترفون ويستعينون على نحو متزايد أبدا بوظائف المحاكم لصنع الحق …لفقد حان الوقت إذن للتخلي عن جدال عقيم حول مسألة معرفة ما إذا كان القضاة يصنعون الحق والانتقال الى مناقشة مسألة أشد تعقدا وتناقضا هي مسألة حدود صنع القضاء للحق ))”28″.

بناء على ماتقدم فأن فكرة القانون الاداري القضائي وتبريرات الفقه الاداري لسلطة التشريع التي يمارسها القاضي الاداري ليست سوى جزءا من هذه التيارات القانونية المعاصرة التي برزت في العالم الغربي والتي تشكل في مضمونها مدرسة حقوقية واحدة تدعوا الى إحلال القاضي محل المشرع أو على الاقل توسيع سلطانه التشريعي. وهي بذلك تعكس بقدر كبير السياق الجاري في البنيّة السياسية – الحقوقية للمجتمع الرأسمالي المعاصر. وكما يؤكد الفقيه تومانوف ويشير بحق الى أن (( عملية تكييف القانون مع حاجات الرأسمالية الاحتكارية اولا ومن ثم مع حاجات الرأسمالية الاحتكارية الحكومية تجري قبل أي شئ عن طريق الممارسة القضائية والادارية ، ثم أن حتمية تقديم تنازلات تشريعية الى الشغيلة قد رفعت من جديد أهمية المحكمة في نظر الطبقات الحاكمة….وأن حرية القاضي الاستنسابية تسمح للرأسمال الكبير بأن يشل التشريع الديمقراطي وأن يكيّف ، حسب الاوضاع الجديدة ، هذه المؤسسة الحقوقية أو تلك دون تعديل رسمي للتشريع ))”29″.

,واستنادا الى ذلك أصبح الدور التشريعي للقاضي الاداري يشكل وسيلة هامة لبلوغ الاهداف السياسية والاقتصادية للطبقات والاوساط الحاكمة في فرنسا. وقد خلق الفقه الاداري الفرنسي الأساس الأيدولوجي اللازم الذي يزوّد هذا القضاء بقاعدة نظرية تمكنه من مواجهة الاحوال التي يضطر فيها المشرع واجهزة الدولة الاخرى الى تقديم تنازلات الى الحركة الديمقراطية بسبب أوضاع الصراع السياسي الحسية ، كما ساعد هذا القضاء في دوره الأنشائي تلك القواعد القانونية المرنة والفضفاضة والمقاييس المجردة وكافة الأشكال التي يظهر فيها القانون بمظهر من عدم الوضوح المقصود والمفاهيم النسبية التي يتضمنها والتي لم نجد لها تحديدا قانونيا دقيقا كنظريات المرفق العام والنفع العام والسلطة العامة وغيرها.

لذلك كله نؤكد على أن علاقة القاضي الاداري بالقانون ليس مردها الى تلك الحجج التي أطلقها الفقه الاداري الفرنسي والتي ساندها الفقه الاداري العربي ، وانما تكتسب هذه العلاقة شكلا أيدولوجيا معقدا يتشابك مع مجموعة مسائل تتصل بالنهضة الحديثة والمعاصرة للقانون الطبيعي ، ويتوطد مع مركزة الرأسمال الاحتكاري في فرنسا. لذلك يتطلب من الفكر القانوني العربي والفقه العراقي التدقيق في خلفية مثل هذه التيارات التي ارى انها تشكل خطورة على النظام القانوني الوطني اذا تمت مسايرتها ونقلها دون فحص جذورها واثارها المستقبلية .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت