عودة المجرم على محل الجريمة
المؤلف : سلطان الشاوي
الكتاب أو المصدر : اصول التحقيق الاجرامي

لوحظ من التجارب التحقيقية الطويلة ان بعض المجرمين وخاصة المجرمين لأول مرة فإنهم بعد ارتكابهم لجرائمهم والتي على درجة معينة من الجسامة كالقتل مثلا يعودوا الى محل ارتكاب الجريمة بعد يوم او يومين او اكثر بقليل وغالبا – ما يسير المجرم وراء جنازة ضحيته وربما يكون من أبرز مشيعيها.

ويفسر العلماء في مجال علم النفس الجنائي هذه الظاهرة النفسية : بأن الإنسان يعيش أحياناً صراعا داخل نفسه وقد ينتهي هذا الصراع ويحل بأن يرتكب تصرفات غير اجتماعية (عدوانية) تنطوي في معظمها تحت مفهوم الجريمة بمفهومها القانوني وذلك عندما تكون القوى الدافعة (الغريزية – العدوانية) أشد وأعنف من القوى الكاتبة (الاخلاقية – الاجتماعية) وينجم في كثير من الأحيان لهذه الجريمة شعورا بالذنب (الإثم) قد يؤدي الى الانتحار او يسلم نفسه الى الشرطة معترفا بارتكابه للجريمة او يدفعه الى ان يعود الى محل ارتكاب الجريمة وكأنه يفرض على ذاته الشعورية عقابا لا شعورياً باقترابه من المصيدة وقبضة العدالة. وعندما يحضر المجرم الى محل ارتكاب الجريمة يلاحظ بأن تصرفاته تكون مصحوبة بدوافع لا شعورية كان يقوم بحركات جسمانية معينة اذ تطرأ عليه اضطرابات نفسية متميزة او لفتات لسان واضحة … إلخ، ويستطيع المحقق القوي الملاحظة ان يستفيد من هذه الأمور في حل لغز الجريمة ومعرفة المجرم الحقيقي (1).

وخير من صور هذه الحالة النفسية اللاشعورية الكاتب الروسي المعروف (دوستويفيسكي) في روايته الشهيرة الجريمة والعقاب فإن بطل الرواية (راسكولنيكوف) بعد ان يقتل العجوز المربية (اليوناايفانوفنا) ضاربا اياها بالفأس على رأسها ويسرق نقودها ويقتل أختها أيضاً نجده بعد يومين من ارتكاب الجريمة يمشي على غير هدى وفجأة شعر كأنما يهمس بعضهم في أذنه.

ولما رفع رأسه وجد انه قد بلغ ذلك (البناء) ووقف تماما أمام الباب ! كان يتحاشى منذ تلك (الليلة العتيدة) المرور بذلك المكان غير ان رغبة لا تقاوم يصعب تفسيرها استبدلت به فدخل البناء .. كان الظلام حالكا والسلم ضيقا يصعب سلوكه.. شعر بتردد لون من الخوف : كان باب المسكن مفتوحا على مصراعيه وكانت أصوات تنبعث من الداخل فتأكد من وجود أشخاص فيه : الأمر الذي لم يكن يتوقعه، لم يتردد طويلا بل دخل المسكن بقدم ثابتة .. كان في المسكن عاملان يشتغلان .. حدجه أكبر العاملين بنظرة وسأله :
– ماذا تبحث هنا؟ لم يجب (راسكولنيكوف).
– لكن ماذا تريد؟ من أنت؟
– عاد (راسكولينكوف) الى الغرفة الداخلية وهو يقول :
– انا أبحث عن مسكن أقطنه وقد جئت أعاين هذا.
– لا يزور الناس المساكن الخالية ليلا ! ثم انه كان عليك ان تصحب معك البواب.
سأل (راسكولينكوف) وهو يتجاهل ملاحظة العامل :
– لقد نظفوا الارض كما يبدو. هو سيدهنوها؟ ألا توجد آثار دماء؟
– أية دماء.
– لكن العجوز وأختها قتلتا وكانت هنا بحيرة من الدم.
– أي نوع من الناس أنت؟
– أريد ان تعرف أي نوع من الرجال أنا؟ لنذهب الى دائرة الشرطة وسأعلمك هناك.
نظر العاملان الى بعضهما بخوف فقال الأكبر سنا :
-هيا لقد أزف وقت رحيلنا ..
فقال (راسكولينكوف) بلا مبالاة.
– حسنا لنذهب ..
وخرج أولا وراح يهبط السلم ببطء فلم بلغ الباب الخارجي هتف مناديا البواب – هه! (فورفيك). كان عدد من الأشخاص من بينهم البوابان واحدى الفلاحات واحد الصناع بتوب منزلي، واقفين امام الباب يتأملون المارة. قصد (راسكولينكوف) إليهم فساله احد البوابين..؟
-ماذا تريد..؟
لم يجب (راسكولينكوف) بل لبث واقفا بين الجماعة ساهم الفكر بينهما قال اكبر العاملين سنا :
– لقد جاء يتفقد المسكن الذي نشتغل فيه.
– أي مسكن ..؟
-ذلك الذي نشتغل فيه وكان يسأل : غسلوا الدم؟ لقد وقعت جريمة قتل هنا وقد جئت استأجر هذا المسكن، ثم راح يقرع الجرس حتى كاد ان يقطع حبل الجرس، ثم طلب الينا ان نذهب معه الى دائرة البوليس ليتحدث بكل شيء! شعر البواب بشيء من القلق ثم قال :
– من أنت؟.
– انا (روديون رومانيتش راسكولينكوف) طالب سابق وأقطن في دار – (سشيل) بالقرب من هنا في الزقاق المجاور رقم (14).
– وماذا جئت تعمل هنا؟
– أردت ان أراه…
وماذا فيه حتى تهتم برؤيته؟
وهنا تدخل الصانع ذي الثوب المغربي وقال :
– ماذا لو استقاه الى مركز البوليس.
-نظر إليه (راسكولينكوف) نظرة متعالية وتأمله برهة باهتمام ثم قال بهدوء :
– هيا بنا!
– بينما عاد الرجل يقول مؤكدا.
– ينبغي ان نذهب به الى هناك طالما انه جاء (لهذا السبب) ينبغي ان تكون في رأسه فكرة ما.
– وعاد البواب يسال وقد علا وجهه بالغضب.
– ماذا تريد على الضبط، لماذا جئت تزعجنا؟
– فأجاب (راسكولينكوف) بسخرية :
– انك ترتعد خوفا من الذهاب الى دائرة البوليس.
– ولم أرتعد من الخوف؟ لم جئت تزعجنا؟
– وصاحت القروية.
– انه نشال حقير.
بينما قال البواب الآخر وكان رجلا ضخم الجثة يحمل في يده حلقة مفاتيح كبيرة.
إنه متسكع حتما فلم تتناقش؟ هيا غادرنا .. (انقلع).
وأمسك بكتف (راسكولينكوف) ثم دفعه الى الشارع فكاد ان يسقط على الارض لكنه تحامل على نفسه ونظر بإمعان الى أولئك الذين كانوا مجتمعين وابتعد.
راح (راسكولينكوف) يناجي نفسه (أأذهب ام لا أذهب؟) وكان واقفا على الرصيف عند المنعطف ينظر حوله وكأنه ينتظر الجواب من أحد (2).
______________________
1-انظر عبد الستار الجميلي ومحمد عزيز، مسرح الجريمة، ص87 – 89، مطبعة دار السلام، بغداد 1976م.
2-انظر فيدور دوستويفسكي الجريمة والعقاب، الترجمة الكاملة، منشورات دار اليقظة العربية، دمشق دوار مكتبة الحياة، بيروت، ص 300 – 306 سنة 1966.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت