أثر الدين في القانون الدولي الإنساني
*************************

يمكن تعريف (قانون الحرب) أو (القانون الدولي الإنساني) بأنه: “مجموعة القواعد القانونية التي تحدد حقوق وواجبات الدول المتحاربة في حالة نشوب الأعمال العدائية, وتفرض قيوداً على المتحاربين في وسائل استخدام القوة العسكرية وقصرها على المتقاتلين دون غيرهم, وتحمي حقوق ضحايا النزاعات المسلحة وخاصة القتلى والجرحى والمرضى والأسرى في المعارك البرية والبحرية والجوية, فضلاً عن المدنيين المحميين من سكان المناطق المحتلة”.

وهذا القانون يتكون من فرعين أساسيين:
# قانون لاهاي: ويحدد القواعد التي تحكم تصرف المتحاربين في الحرب.
# قانون جنيف: ويحدد المبادئ والقواعد التي تحمي الشخصية الإنسانية في حالة الحرب.

وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا المجال وهو: من أين تنبع قواعد القانون الدولي الإنساني , أو بالأحرى ما هي مصادرها؟ بالإجابة على هذا السؤال يجب أن نميز بين (المصادر الشكلية) من جهة, و(المصادر الشرعية) من جهة ثانية.

وهكذا إذا جاز لنا أن نعتبر (الاتفاقيات الدولية ) التي تتعلق بالموضوع, وخاصة اتفاقيات جنيف ولاهاي, والأعراف الحربية, والأوامر الميدانية التي تعطيها القادرة في الحروب الدولية , وقرارات المحاكم العسكرية الدولية …إذا جاز لنا أن نعتبر هذا كله من قبيل (المصادر الشكلية) لقواعد القانون الدولي الإنساني , فإن (المصادر الموضوعية) لهذا القانون نجدها في منظومات أخرى, وخاصة في كل من (الثقافة) و(الأخلاق) و(الدين) , وهذا ما يحتاج لشيء من التبسيط والشرح:

أولاً) أثر الثقافة في القانون الدولي الإنساني

إذا عدنا إلى تعريف الثقافة في القواميس والمعاجم نجد أن لها عدة تعاريف, لذا سنختار من بينها تعريفاً إجرائياً وهو الذي يقول: “هي جملة المعارف المكتسبة التي تسمح بتطوير الحس النقدي والذوق وملكة المحاكمة عند الإنسان” (1).

وهكذا فالثقافة هي جملة معارف مكتسبة, وهذه المعارف المكتسبة يتلقاها المرء منذ لحظة ولادته حتى لحظة وفاته. ولكن كون الثقافة مكتسب لا يعني أنها فردية أو شخصية بحتة, لأنه إذا كان الفرد يبدأ ثقافته من مستوى الصفر عند ولادته, فإنه توجد في كل مجتمع درجة معينة من التراكم الثقافي على شكل عادات وتقاليد وقيم يمكن أن نطلق عليها أسم (العقلية الاجتماعية),

ويتلقاها كل فرد أثناء طفولته عبر عملية (التنشئة الاجتماعية) في نطاق الأسرة والمدرسة والحي, ثم يتابع تلقيها والتأثر بها بعدئذ في نطاق المؤسسات الاجتماعية الأخرى (النادي, المعمل, الحزب, الجمعية, الدائرة الوظيفية… الخ). وكل ذلك يدخل في مكونات ثقافته الفردية بالإضافة إلى مكونات شخصية أخرى مثل (السفر, القراءة, التجربة, الاختلاط بالآخرين …).

ومن الطبيعي أن تتأثر قواعد القانون الدولي الإنساني بالجانب الفردي والجانب المجتمعي من الثقافة.

1) ففي مجال الثقافة الفردية: نجد الجنود المثقفين والمتعلمين قادرين على تفهم العدو ومعاملة جنده ومواطنيه بروح أكثر إنسانية من الجنود الأميين.

هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن إمكانية الاطلاع على القواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني هي أمر متيسر للجنود المثقفين والمتعلمين, ولكنها غير متيسرة لغيرهم. وقد أدركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف أهمية إدخال أحكام القانون الدولي الإنساني في الثقافة العامة الوطنية على مستوى الجامعات والمدارس الثانوية العسكرية والعامة,

فضمنت اتفاقيات جنيف الأربع مادة تقضي بذلك, كما أنها أخذت تصدر مجلة دورية بعدة لغات تحمل عنواناً معبراً يدل تماماً على الهدف منها وهو (النشر) وذلك بغية نشر الثقافة الدولية الإنسانية على أوسع مدى ممكن, قبل الحرب وأثناءها, وخاصة لدى من تضعهم وظائفهم أو ظروفهم في تماس مباشر مع العدو, وما مقالنا هذا اليوم إلا نوع من محاولة نشر الثقافة المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني بين القراء الكرام.

2) وفي مجال الثقافة المجتمعية: نجد أن بعض المجتمعات أكثر مسالمة من غيرها, وبعضها الآخر أكثر عدوانية بالمقابل, وذلك حسب العقلية الاجتماعية للأمة.

ويمكن في هذا المجال أن نذكر مثلا أن المجتمع الصيني قد اخترع البارود منذ القرن السابع للميلاد, لكنه اقتصر في استخدامه على الأسهم والألعاب النارية, ولم يستخدمه كسلاح متفجر أبداً, لأن الثقافة الصينية المتأثرة بمبادئ الكونفوشيوسية كانت تمنع اللجوء إلى القتل, وظل الأمر كذلك إلى أن انتقل سر البارود إلى أوروبا, عن طريق الرحالة الإيطالي المعروف ماركو بولو, حيث تم استخدام البارود كسلاح متفجر في المدافع والبنادق منذ أوائل القرن الرابع عشر.

وإذا انتقلنا إلى مجال الحضارة والثقافة الإسلامية فإننا نجد منظومات ثقافية رائعة تكرس قواعد القانون الدولي الإنساني قبل أن يكرسها القانون الوضعي بمئات السنين, ومن ذلك احترام إنسانية الإنسان , ومنع الغدر , والوفاء بالعهد والرفق بالأسرى ….

وقد فطنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أخيراً إلى هذا المصدر الثري من مصادر القانون الدولي الإنساني فأصدرت منشوراً مصوراً بعنوان ” من ذاكرة التاريخ العربي الإسلامي ” ضمنته أقوالاً وأحداثاً عربية مشهورة في مجال تطبيق التعاليم الإنسانية في السلم والحرب, مع ما يقابل ذلك من قواعد القانون الدولي الإنساني المعاصر.

كما كرست تقويم هذا العام 1994 لاثنتي عشرة منظومة عربية تشكل بعض أهم معطيات القانون الدولي الإنساني , وصاغت هذه المنظومات في أشكال وخطوط عربية رائعة, وها هي عشر من هذه المنظومات الشعرية والنثرية حسب تسلسل ووردها في التقويم:

1) أغث من استغاث بك (لمحي الدين بن عربي)
2) لا عذر في عذر (لأبي حيان التوحيدي)
3) هم أساري مناياهم فما لهم إذا أتاهم أسير لا يفكونه (لأبي العلاء المعري)
4) الصلح من ذي قدرة أصلح (للشيخ الشبراوي)
5) إذا دان العِدَى وجب الأمان ( لولي الدين يكن)
6) فهلا تركنا النبت ما كان أخضرا (لحنظلة بن عرادة)
7) لا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً و لا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى (لعلي بن أبي طالب)
8) من يكن له كرم تكرم بساحته للأسرى (لأبى العلاء المعري)
9) عالج عدوك كما تعالج حبيبك ( للطبيب علي بن رضوان)
10) إني أمنتكم على أنفسكم وأموالكم وكنائسكم وبيعكم وسور مدينتكم (لحبيب بن مسلمة الفهري).

ويمكن أن نضيف إلى ذلك أقوالاً عربية أخرى شهيرة من خارج التقويم المذكور كقول معاوية بن أبي سفيان: ” وفاء بغدر خير من غدر بغدر”, وقول الإمام فخر الدين الرازي: ” النفس الإنسانية أشرف النفوس في هذا العالم, والبدن الإنساني أشرف الأجسام في هذا العالم”.

ثم لماذا نذهب بعيداً؟ هل عرف التاريخ على مر العصور أبلغ وأوجز من الخليفة أبي بكر عندما صاغ أهم مبادئ القانون الإنساني المعاصر في وصيته التي وجهها إلى قائده أسامة بن زيد حين قال مخاطباً إياه وجنده : ” أيها الناس قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني” لا تخونوا, وتغلوا, ولا تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة, ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه, ولا تقطعوا شجرة مثمرة, ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكل, وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له, وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان من الطعام, فإذا أكلتم منها فاذكروا اسم الله عليه”.

والسؤال الذي نطرحه هنا هو التالي”: هل كان بوسع الخليفة أبي بكر أن ينظم رائعته الإنسانية هذه لو لم تكن روحه مشربة بثقافة إنسانية تأمر بذلك ؟ وهل كان قادة جيشه وجنده يتقيدون بمثل هذه المبادئ لو لم يكونوا قد عاشوها قبلاً وتربوا عليها؟ (2).

ثانياً) أثر الأخلاق في القانون الدولي الإنساني

يمكن تعريف الأخلاق بأنها ” العلم الذي يبحث في قواعد سلوك البشر, بعضهم تجاه بعض”, وهكذا فالأخلاق أمر مقصور على بني الإنسان. وقد تقودهم إلى القيام بتصرفات تخالف تلك التي تدفعهم إليها غرائزهم, على عكس الحيوانات التي تتصرف دوماً حسب غرائزها حتى إذا بدت لنا تصرفاتها ذات هدف خيري أو إيجابي أو أخلاقي بالمقياس البشري.

والمبادئ الأخلاقية يمكن اعتبارها أمهات لكثير من القواعد القانونية وخاصة في مجال القانون الدولي الإنساني , ومن ذلك مثلا عدم الاعتداء, إعطاء الأمان لمن يطلبه, احترام الوعد, منع النهب , منع الاغتصاب … إلخ.

ومن يراجع التشريعات الشرقية القديمة مثل قانون ” أورنامو السومري”, وقانون :حمورابي البابلي”, وكذلك التشريعات الهندية والصينية القديمة, يجد أنها ليست أكثر من ثبت للمبادئ الأخلاقية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات, وعلى سبيل المثال نجد قانون ” مانو”, الذي كان سائداً في الهند حوالي العام 1000 ق.م. قد أوجب ” على المحارب أن لا يقتل عدواً استسلم, ولا أسير حرب, ولا عدواً نائماً أو أعزل, ولا شخصاً مُسالماً غير مُحارب, ولا عدواً مشتبكاً مع خصم آخر” (3).

وإذا تأملنا في هذه النواحي نجد أنها تعبر عن حس أخلاقي سام يتمثل في منع الغدر, ووجوب التمييز بين المحاربين وغير المحاربين, والمقاتلين وغير المقاتلين, وهي أهم أسس القانون الدولي الإنساني حالياً.

وإذا انتقلنا إلى الحضارة العربية الإسلامية نجد أن الأخلاق الحميدة كانت نبراساً يتقيد به الخلفاء والقادة العرب المسلمون في حروبهم ضد الآخرين, حيث شكلت مبادئ (الفضيلة) و(العدالة) و(الوفاء بالعهد) الثالوث المقدس في تصرفات العرب المسلمين بين بعضهم البعض أو في علاقاتهم مع الشعوب الأخرى, سواء كان ذلك في زمن السلم, أو في زمن الحرب.

ويظهر ذلك بشكل خاص في إفشاء السلام بتحية (السلام عليكم) بين المسلمين بعضهم بعضاً , وفي أسلوب (الأمان) الذي يمنحه المسلمون لأبناء بقية الشعوب إذا جاؤوهم في تجارة أو زيارة أو سفارة.

وليس من قبيل التعصب القومي أو الديني أن نؤكد أن العرب المسلمين هم الأمة الأولى التي رفعت المبادئ الأخلاقية إلى مستوى القواعد الشرعية الإلزامية في مجال معاملة الشعوب الأخرى, سواء كان ذلك في حالة السلم أو الحرب. وهذه القواعد الأخلاقية ظلت نبراساً يهدي المسلمين في سلوكهم تجاه العدو وعلى مر العصور, وخاصة في معاركهم مع الروم والأوروبيين خلال أحداث فتح الأندلس والحروب الصليبيية.

ويتعرف بهذا الفضل صراحة كثير من الكتاب والمفكرين والفقهاء الأوروبيين المعاصرين , مثل البارون دوتوب (de taube) الذي يقول في محاضرة له ألقاها في أكاديمية القانون الدولي بلاهاي عام 1926 وبالحرف الواحد: ” إن أهمية الإسلام عموماً في تطوير الحضارة ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط تجعلنا نقبل الاعتراف بأن العالم الإسلامي قد ساهم بتشكيل بعض نظم قانون الحرب وعاداته بين شعوب أوروبا, حيث أن هذه الشعوب وجدت لدى أعدائها الذين ناصبتهم العداء أثناء الحروب الصليبية قواعد جاهزة تتعلق بإعلان الحرب والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين , ومعاملة المرضى والجرحى وأسرى الحرب وتقسيم الغنائم الحربية, ومنع بعض وسائل الإضرار بالعدو …” (4).

وأوضح مثال على ذلك نجده في سلوك السلطان صلاح الدين الأيوبي في معاملته لأسرى الحرب الصليبيين حيث يروي عنه مؤرخ سيرته ابن شداد أنه كان : ” يحسن معاملة الأسرى ويخص البارزين منهم بحسن المعيشة وخلع الثياب عليهم, وعندما أحضر الناس قتلاهم بعد المعركة, وكنت حاضراً ذلك المجلس, أكرم رحمه الله المتقدمين منهم, وأخلع علي مقدمي العسكر الإفرنسي فروة خاصة , وأمر لكل واحد من الباقين بفروة خرجية لأن البرد كان شديداً.

وحين كانت المعركة أو الحصار تنتهي باستسلام الطرف الآخر كان ينفذ شروط الاستسلام بدقة, بل ينفذها وفقاً لمصلحة المستسلمين أكثر مما تتطلبه الشروط أحياناً, وحين يدفع الأسرى فدائهم يرسل من يحرسهم حتى يصلوا إلى مأمنهم.

ويعد أن فتح الله عليه بالنصر والظفر جلس السلطان صلاح الدين الأيوبي في دهليز الخيمة, فإنها لم تكن قد نصبت, والناس يتقربون إليه بالأسرى وبمن وجدوه من المقدمين, ونصبت الخيمة وجلس فرحاً مسروراً شاكراً لما أنعم الله عليه, ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط, وناول الملك جفري شربة من جلاب بثلج, فشرب منها, وكان على أشد حال من العطش. وكان من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل أو شرب من مال من أسره صار آمناً, فقصد السلطان بذلك الجري على مكارم الأخلاق ” (5).

ترى أية أخلاق أكرم من هذه, وكيف يمكن تصور معاملة أنبل من تقديم الشراب المثلج للأسير المقهور؟!
أما في الحضارة الأوروبية فنجد أن روح الفروسية التي سادت البلدان الأوروبية خلال مرحلة القرون الوسطى قد أمرت بمثل هذه المبادئ (حماية النساء, إغاثة الملهوف, عدم مهاجمة الفارس الذي يسقط عن فرسه, الكف عن مقاتلة الخصم الذي ينكسر سيفه في يده… إلخ) حتى أن بعض فقهاء القانون الدولي والباحثين فيه اعتبروا مبادئ الفروسية مصدراً رئيسياً من مصادر القانون الدولي الإنساني .

وكان لنجاح الثورتين الأمريكية 1776, والفرنسية 1789 تأثير ضخم في تطوير الأساس الأخلاقي للقانون الدولي الإنساني حيث كتب أحد القادة الفرنسيين مصوراً الأخلاقيات التي يتمتع بها جنده: , هل هناك قائد أو مقاتل لا يرغب في أن يصفق له خصمه وهو يقاتل, وأن يحترمه بعد أن ينتصر عليه؟ لقد رأيت فرنسيين يزورون أعداءهم الجرحى ويدفئونهم بمعاطفهم, وقد باركت القدر الذي منحني فرصة قيادة مثل هؤلاء الرجال “.

وفي مكان آخر نجد هذا القائد الفرنسي نفسه يقول : “كان الجنود والبرجوازيون في ستراسبورغ يعاملون الأسرى كإخوة , وكانوا يتقاسمون معهم الخبز والمؤن ويملؤون جيوبهم بالصحف الوطنية, وقد طلبوا ورقاً وحبراً وكتبوا إلى ألمانيا أن نهر الراين لم يعد له وجود أبداً ” (6).

هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن الآراء الفلسفية التي نادى بها كل من روسو ومونتسكيو في فرنسة, وايمريك فاتيل في سويسرة, وبنيامين فرانكلن في أمريكة, كان لها أثر كبير في تدعيم الأساس الأخلاقي للقانون الدولي الإنساني, وقد استلهم منها البروفيسور ليبر حتماً حين وضع مسودة التعليمات الموجهة لضباط الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الأهلية (1863) وهي التعليمات التي دخلت بعد ذلك في صلب القانون الدولي الإنساني عبر النص المُسمى (اللائحة المتعلقة بقوانين الحرب البرية وأعرافها), والذي يشكل مُلحقاً لاتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899, والرابعة لعام 1907.

وطالما نحن في مجال التحدث عن قانون لاهاي تكفينا الإشارة إلى أن لائحة الحرب البرية قد حوت في مقدمتها شرطاً يجعل من الأخلاق العامة مصدراً من مصادر القانون الدولي الإنساني, وهو الشرط المعروف باسم (شرط مارتنز), والذي ينص على أنه: (في الحالات التي لا تنظمها النصوص الموضوعية من قبل الأطراف المتعاقدة, يظل الأهالي والمحاربون تحت حماية وسلطان مبادئ القانون الدولي التي يقررها العرف المستقر بين الشعوب المتمدنة, وقوانين الإنسانية وما يوحي به الضمير العام الإنساني”.

هذا فيما يتعلق بالأساس الأخلاقي لقانون لاهاي, وأما الأساس الأخلاقي لقانون جنيف فهو واضح لا يحتاج لإثبات, لأن هذا القانون يقوم على مبدأ الإنسانية, ومبدأ الإنسانية يقوم على أساس الأخلاق العامة للمجتمع الدولية (7), بل إن فكرة قانون الصليب الأحمر بكاملها, ليست أكثر من تكريس لمبدأ احترام الفرد الإنساني وكرامته الشخصية, وهو مبدأ من أهم المبادئ الأخلاقية على الإطلاق. وتأتي أهمية المبادئ الأخلاقية من حيث انه يمكن أن نستلهم منها الحل للمسائل التي لا ينص عليها القانون الوضعي بشكل صريح (8).

ثالثاً) أثر الدين في القانون الدولي الإنساني

يمكن تعريف الدين بشكل عام بأنه ” مجموعة من الشعائر المتصلة بعقيدة معينة في مجال تحديد صلة الإنسان الروحية بالله”. ويتميز الدين الإسلامي عن غيره في هذا المجال بأنه لا يكتفي بتحديد صلة الإنسان بخالقه, بل يتعدى ذلك إلى تحديد صلته بأمثاله, بل حتى صلته بنفسه وبالحيوانات والأشياء أيضاً.

والأديان المعروفة اليوم هي إما سماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام), وإما فلسفية إصلاحية كالبراهمانية والبوذية والكونفوشيوسية والشنتوية. وجميع هذه الديانات تقريبا كانت مصدراً غنياً لقواعد القانون الدولي الإنساني المعروفة اليوم, إما بنصوصها المباشرة, كما هي الحال في بعض آيات القران الكريم مثل (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (9), وإما بشكل غير مباشر عن طريق التصرفات المثالية والأخلاقية التي تأمر بها هذه الديانات (قاعدة الكف عن قتل من يلوذ بالمعابد) (10).

ويمكننا أن نذكر في هذا المجال مثلا دور كل من الديانة الرومانية والمسيحية والإسلام في إرساء بعض قواعد القانون الدولي الإنساني :

1) ففي مجال الديانة الرومانية مثلا يمكن أن نذكر دور الكهنة الذين يسمون (Fetiali) في نشوء بعض القواعد المتعلقة بقانون الحرب, والتي كان على القادة والجنود الرومان التقيد بها, وخاصة القاعدة التي تقضي بعدم شن الحرب على شعب آخر قبل إنذاره بذلك. وهذه هي بذرة أسلوب (الإنذار النهائي) الذي يجب توجيهه قبل بدء العمليات العدائية فعلاً في القانون المعاصر.

2) وفي مجال المسيحية نجد أن أول من نادي بالتمييز بين (الحرب العادلة) وغير العادلة كان راهبا تونسيا هو القديس أوغستينوس الذي يقول في كتاب له تحت عنوان: ” في مدينة اله” إن أحكام القانون لا تطبق على الأفراد فقط, وإنما يجب تطبيقها على الممالك ايضاً, كما طالب باحترام المعاهدات وأعراف الحرب. وبعد القديس أوغستنيونس بعدة قرون أتى القديس توما الأكويني فبحث في القانون الطبيعي والقانون الإنساني, وبين أنهما لا يتعارضان مع القانون الإلهي, وطور أبحاث القديس أوغستنيوس في تعريف (الحرب العادلة) و(الحروب غير العادلة).

هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن الرواد الأوائل للقانون الدولي الوضعي في أوروبا كانوا م الرهبان مثل (دوفيتوريا) و (سواريز) .. الخ.

ومما يلفت النظر أيضاً أن أول من نادى بحماية المدنيين من ويلات الحروب في أوروبا كان رجل دين أيضاً, وهو الكاردينال بيلارمان (1542 – 1621) , حيث يقول في كتاب باللاتينية صدر له عام 1619 تحت عنوان ( في المبادئ الطبيعية للدين المسيحي) ما معناه : ” إن غير القادرين على الحرب, كالقاصرين والنساء والشيوخ والعجزة الآخرين يجب عدم المساس بهم, لأن الدوافع الإنسانية تدعونا لعدم قتل أولئك الذين لا يستطيعون القتال , وإن رجال الدين والأجانب والتجار والفلاحين الذين يزرعون أراضيهم, يجب عدم أسرهم تمشياً مع أعراف جميع الأمم”.

وإذا انتقلنا من مجال الآراء الفقهية إلى مجال المؤسسات القانونية نجد أن المسيحية زودت أوروبا في نهاية القرون الوسطى بمؤسستين كان لهما أثر كبير في مجال (قانون الحد من الحروب) وهما : (سلم الرب) و (هدنة الرب).

1) فعن طريق (سلم الرب) الذي أقر في مجمع لاتران عام 1095, تمت حماية زمرة من الأشخاص )هم الرهبان والشيوخ والنساء والأطفال), والأعيان (المعابد , المدارس ,أملاك الكنيسة), والأشياء (حيوانات الجر, الأدوات والمحاصيل الزراعية) وذلك بإبقائها بمعزل عن الحرب وآثارها.

2) أما (هدنة الرب) التي أقرها مجمع كليرمون عام 1096, فتوصي بمنع الحرب في الفترة الكائنة من مساء الجمعة وصباح الاثنين من كل أسبوع, وخلال فترة الصيام التي تسبق عيد الميلاد ,وفترة الصيام التي تسبق عيد الفصح, وهي مؤسسة شبيهة بنظام (الأشهر الحرم) في الإسلام.

3) الإسلام والقانون الدولي الإنساني : يختلف الإسلام عن بقية الأديان بأنه ليس ديناً فقط, وإنما هو دين وشريعة أيضاً , وهذه الشريعة كاملة تتضمن جميع نشاطات الحياة بما فيها معاملة أبناء الشعوب الأخرى في السلم والحرب. ومن المعلوم أنه هناك ثلاثة مصادر أساسية للشريعة الإسلامية وهي: القرآن الكريم , والسنة المطهرة,

والاجتهاد, وهذه المصادر الثلاثة هي مصادر (شريعة الحرب في الإسلام ) التي ساهمت في تكوين ما يسمى اليوم (القانون الدولي الإنساني) : فالقرآن الكريم مثلاً نص على كثير من القواعد التي تعلق بمعاملة أبناء الشعوب الأخرى في السلم والحرب فكان ذلك بمثابة “الدستور” , وجاء الحديث الشريف مفسراً ومكملاً لما ورد في القرآن فكان ذلك بمثابة “القواعد القانونية” ثم جاء الاجتهاد الفقهي – ومنه وصايا الخلفاء الراشدين – فشكل ما يمكن تسميته (آداب الحرب عند العرب المسلمين).

ويمكننا أن نقسم القانون الدولي الإنساني في الإسلام – إذا جازت التسمية _ إلى أربعة جوانب:
1) حالات مشروعية الحرب في الإسلام
2) أسلوب إعلان الحرب في الإسلام
3) سلوك المجاهدين السلمين في الحرب
4) أحكام معاملة الأسرى والغنائم في الإسلام.
ومن الطبيعي أنه يستحيل علينا, في كلمة مثل هذه, أن نوفى هذه الجوانب الأربعة جميعها حقها من البحث, لذا سنكتفي بمعالجة الجانب الثالث منها, أي سلوك المحاربين المسلمين, وباختصار شديد, ونحيل من يرغب بالتوسع في هذا إلى كتابين سبق لنا إصدارهما في هذا المجال وهما (الإسلام والقانون الدولي) (12), و(أحكام الحرب والسلام في دولة الإسلام) (13).

سلوك المجاهدين المسلمين في الحرب: إن القواعد التي كان المجاهدون المسلمون يتقيدون بها في حروبه ضد أبناء الشعوب والأمم الأخرى لم تكن مجرد مبادئ أخلاقية عامة, أو وصايا تلقوها عن قادتهم وأمرائهم, وإنما كانت واجبات شرعية منصوص عليها غالباً في القرآن والسنة ويعاقب مخالفوها ليس من قبل رؤسائهم فقط, وإنما يتعرضون للعقاب في الحياة الأخرى لأنهم خالفوا نصوصاً شرعية قطعية واردة في القرآن أو السنة أو في كليهما معاً.

وأهم القواعد الشرعية التي كانت تحكم سلوك المجاهدين المسلمين في هذا المجال هي التالية:
1) قصر الحرب على رجال العدو والمحاربين فقط : حيث يروى عن الرسول (ص) أنه قال موصياً زيداً بن حارثة لما أنفذه إلى مؤتة: “لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا كبيراً ولا فانيا ولا منعزلاً بصومعة” (14).

كما أوصى الرسول بعدم استخدام الجرحى في الحروب: “لا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه”, وكذلك بعدم التعرض بالأذى لعمالة الزراعة والأطفال وذلك بقوله: “لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً” , علماً بأن الذرية هم الأولاد, والعسيف هو العامل الذي يفلح الأرض ويزرعها. وأما بالنسبة للنساء فقد أمر الرسول بعدم التعرض لهن إلا إذا حملن السلاح في وجه المسلمين, حيث أن الرسول عندما رأى جثة لامرأة قتيل من المشركين قال لائماً من قتلها أو أذن بقتلها: ” ما كانت هذه لتقاتل”.

2) خوض المعارك بروح إنسانية: حيث لا يجوز القتل إلا لسبب شرعي كما هو ثابت من نص الآية الكرمية ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون” (15). ويجب أن يكون القتل الشرعي ضمن أفضل الطرق وأكثرها إنسانية نزولا عند حكم الحديث الشريف” ” إذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة”, وعلى هذا يمنع التعذيب حتماً : ” أنا نبي الملحمة وأنا نبي المرحمة”, وكذلك التمثيل بالجثث وذلك احتراماً لقدسية الميت وإنسانية الإنسان حيث يروى عن الرسول (ص) أنه قال :” إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور”.

والمعتقد أيضاً في رأي أغلبية الفقهاء أن إحراق الجثث بالنار أمر يتنافى مع الإسلام, لأنه تقليد من تقاليد الوثنية, ولا يستثنى من ذلك إلا الحالة التي تستوجب المصلحة العامة هذا العمل, كما في حالة الخوف من تفشي مرض الطاعون مثلاً. وعموماً يجب احترام إنسانية الإنسان وكرامته تنفيذاً لنص الآية : “ولقد كرمنا بني آدم …” (16) حيث يقول الإمام الفخر الرازي في شرح هذه الآية : “النفس الإنسانية أشرف النفوس في هذا العالم, والبدن الإنساني اشرف الأجسام في هذا العالم” (17).

3) منع النهب الذي كان يسود حروب الجاهلية ” نهي الرسول (ص) عن النهبة أيضاً, حيث روي عن رجل من الأنصار أنه قال : “خرجنا مع رسول الله في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد, فأصابوا غنماً فانتهبوها, فإن قدورنا لتلغي إذ جاء رسول الله يمشي فأكفأ – أي قلب – القدور بقوسـه, ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ويقول ” إن النهبة ليست بأحل من الميتة” (18). ويجب أن نميز هنا بين “النهب” و”الغنائم” , إذ أن الأخيرة مشروعة ومحللة حسب نص قرآني.
ومن الجدير بالذكر أن القانون الدولي الإنساني لا زال يجيز حتى الآن الاستيلاء على الغنائم الحربية (Butin de guerre).

4) منع الخيانة والغدر: حتى في حالة الشك بسوء نية العدو, فقد ورد في الآية الكريمة: ” وإما تخافُن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين” (19).

وفي مجال الحديث النبوي نجد وصية للرسول تمنع الخيانة والغدر حيث يقول:” سيروا باسم الله في سبيل الله وقاتلوا أعداء الله. لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً”.

5) منع التدمير وإتلاف الأموال: كما أن القانون الدولي الإنساني المعاصر يمنع ما يسمى (التدمير المنهجي) تمنع شريعة الحرب في الإسلام مثل هذا التدمير أيضاً. ولذلك يمنع في الإسلام قطع الأشجار المثمرة , وإحراق النخيل وذبح شياه العدو وبقره وبعيره, إلا إذا كان ذلك مراعاة لضرورة حربية لإضعاف العدو وانتزاع الظفر به (20) وذلك استناداً لرأي الإمام الأوزاعي رحمه الله.

6) إعطاء الأمان لمن يطلبه : إذا كانت الحروب الأوروبية لم تعرف حتى أوائل القرن العشرين وجوب احترام (طلب الأمان) الذي يمكن أن يطلبه بعض جند العدو , بحيث اضطر المتفاوضون في لاهاي عام 1899 لتضمين (لائحة الحرب البرية) نصاً يشجب لجوء قادة الجيوش المتحاربة للإعلان عن عدم قبول طلب الأمان, فإن الإسلام اعترف بهذا الحق وطبقه منذ ظهوره وذلك عملا بنص الآية الكريمة : ” وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه, ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” (21).

7) الانقطاع عن القتال إذا انقطع عنه العدو: إن الحرب في نظر الإسلام ليست غاية في حد ذاتها, وإنما هي سبيل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل, ولذا يجب عدم الإصرار على مواصلة القتال إذا انقطع العدو عنه, وهذا نزولا عند حكم الآية الكريمة: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم” (22).

ولكن فقهاء المسلمين أجازوا للأمير قتال جند العدو سواء كانوا مقبلين أم مدبرين حيث من الجائز أن يتظاهر العدو بالانسحاب كجزء من خطة عسكرية, وليس تسليماً منه وطلباً للصلح. كما أن الاستجابة للصلح مشروطة بإزالة العدو للأسباب التي دعت للحرب أصلاً, أو باستعداد لإزالتها على الأقل, وإلا أصبحت الاستجابة لطلب الصلح خضوعاً لإرادة العدو واعترافاً بالأمر الواقع.

وبعد, فهذه هي أهم القواعد التي تحكم سلوك المجاهدين المسلمين في الحرب التي يمكن أن يشنوها ضد العدو . وهذا يبين بشكل ليس فيه مساهمة الإسلام في نشوء القانون الدولي الإنساني. ويعترف بذلك صراحة كثير من الكتاب والمفكرين والفقهاء المعاصرين من الأوروبيين وغيرهم.